سجال المسكوت عنه بين الاتحاد والحكومة في تونس - الحبيب مباركي

mainThumb

05-03-2018 01:27 PM

 يؤشّر سجال التصعيد بين الحكومة التونسية والاتحاد العام التونسي للشغل على قلق كبير. ظهرت ملامح هذا التصعيد منذ فترة طويلة لكنه لم يطف على السطح، وبالحدة الراهنة، إلا مؤخرا. العلاقة المأزومة بين الكيانين لا يمكن إنكار حيثياتها والمرور على إرهاصاتها الثقيلة التي سبّبت تصدعا كبيرا للحكومات المتعاقبة بعد ثورة 14 يناير وما خلفته من تركة ثقيلة تزداد معها في كل مرة المطلبية النقابية تعنّتا وإحراجا، فيما يقر البعض بأن الدور آت الآن على حكومة الوحدة الوطنية بقيادة يوسف الشاهد لدفع فاتورتها هي الأخرى، لتتأكد بذلك جدلية التناقض بين ما هو معلن وما هو مسكوت عنه، خصوصا من جانب الاتحاد العام التونسي للشغل.

 
القائمون على المنظمة النقابية يتمسكون برؤية قوامها أن تدخلهم في عمل الحكومة لا يكون إلا في الأوقات الحالكة وفي كل منعرج تظهر فيه إخلالات وارتباك وعدم إيفاء بالوعود. عمليا تبدو هذه الرؤية منطقية لجهة انخراط الكل (الأطراف الراعية لوثيقة قرطاج)، رغم تناقص عددهم، في وثيقة قرطاج التي تستمد منها الحكومة الحالية بقيادة الشاهد روحها رغم الإطباق عليها إسهابا في المنغصّات لا عملا بمنطق الحوار والسعي وراء إيجاد الحلول.
 
لكنّ المنطق أحيانا يظهر عكس ما تطفح به هذه الرؤية، أين يرى البعض أن المنظمة النقابية تتحيّن الضوائق وتختار المحن لتوغل في الضغط على الجرح الغائر ما يزيد في تعميقه لا المساعدة في تنظيفه ليندمل. وهي رؤية من زاوية ضيقة تكررت تقريبا مع كل الحكومات تقريبا، فيما الأهم وراء تحريك النقابات وتأليبها في كل مرحلة يسقط كل مصداقية تتحدث بها ألسن البعض من المنتسبين لهذا الهيكل النقابي من بحث عن حلول للوضع المتأزم الذي تمر به تونس.
 
سلاح “النقابات المنفلتة” الذي يكرر الاتحاد استخدامه، ربما دون إدراك منه، قد يأتي يوم تنفد فيه رصاصاته لجهة الإمعان في الطلقات الموجهة للحكومة بلا هدف واضح ومعلن مسبقا، فيما يقر متابعون بأن الأهم هو أن تعمل هياكل هذه المنظمة وتركز اهتمامها على معاضدة الجهود الرامية لكشف شبكات الفساد والفاسدين.
 
اتحاد بعد الثورة ليس هو نفسه اتحاد ما قبلها. صورة العمل النقابي تكاد تفقد صفاتها المعهودة وطغى عليها السياسي في الكثير من الأحوال. يتساءل البعض هل نزع الاتحاد ثوبه النقابي؟، ربما! الكثير من الأمور تغيرت وهذا باد للعديد من المتابعين للمشهد السياسي في تونس. سجال كبير من المسكوت عنه في طبيعة العلاقة التي تجمع بين أكبر منظمة نقابية والحكومة مع كل مرحلة حرجة تمر بها تونس.
 
هذا المسكوت عنه، مثلما يمس جوهر الاتحاد يمس أيضا طبيعة عمل الحكومات التي تتالت بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. عديدة هي الأسئلة التي تطرح هنا حول هذه النقطة: بماذا يفسر ضغط نقابات التعليم والصحة والأمن وغيرها من القطاعات الحيوية في آن واحد؟ ما الغاية وراء إرباك عمل الحكومة وتأليب النقابات ضدها؟ هل يعي القائمون على النقابة العمالية حقا حدود موقعهم وكيفية تموضعهم داخل الخارطة السياسية للمشهد السياسي في تونس؟
 
تختلف الآراء وتتباعد، لكنها تجمع على أن الهدف المعلن من وراء كل ذلك هو شل أجهزة الدولة وإضعافها توازيا مع تعنّتها وخروجها للعلن وإفصاحها عن أنه لا يمكن السماح بالتدخل في العمل الحكومي لأي كان ومهما كان حتى الاتحاد نفسه.
 
عمليا، تبدو هذه الأسئلة وغيرها مما يطرح اليوم من استفسارات في الشارع التونسي جاهدة وراء البحث عن حلول لما يحدث للجسم السياسي في تونس اليوم. لكن تفسير البعض يربط المقاربة بأنها أحيانا تكون أكثر تماهيا لدى النقابيين في رؤيتهم وتصورهم للأشياء والمسائل وكيفية تقديم الحلول حتى أنهم قد يتناسون أحيانا أنهم نقابيون. هذه الصورة بدأت ملامحها تتشكل الآن في المشهد السياسي التونسي الذي يكاد يتماهى فيه ما هو سياسي مع ما هو نقابي.
 
المرحلة الفعلية لتوغل الاتحاد وخروجه عن النص جدت منذ دخوله على خط الأزمة في تونس بعد اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد. فيما يعيب البعض على حركة النهضة الحاكمة حينها سماحها بذلك. صحيح أن “الحوار الوطني” الذي قاده الاتحاد باركه العالم وجنّب البلاد الكثير من المطبات، لكنه في المقابل فتح الباب على مصراعيه أمام تغوّل المنظمة النقابية في المشهد السياسي لتتضح معالم الصورة أكثر بدخول بعض القيادات السابقة في الجسم النقابي وإعلانها عن استعدادها لتحمل حقائب وزارية وكان لها ذلك في ما بعد.
 
من مفارقة السياسة في تونس أن تجد عينا زائغة للنقابي وأخرى ذابلة، متعبة وأحيانا مرهقة للسياسي. أهواء السياسة أخذت الاثنين في بحور من التشظي، من الاختلاف وأحيانا من الخلاف. هو حال تونس اليوم بما تعيشه عقب ثورة أهدت انفلاتا نقابيا لم يسبق له مثيل. ربما يكون الحديث مبالغا بعض الشيء، لكن ملامح الطفرة النقابية توحي بذلك. الأهم من ذلك كله أن عين السياسي ليست هي عين النقابي مهما كانت التصورات والحلول والمقترحات المقدمة وطريقة موازنة الأشياء.
 
تفكيك الظاهرة وكشف ملامحها للعيان وإخراج بواطن الأشياء يتطلب رجوعا إلى سجل التاريخ النقابي في تونس بما يمكّن من الوقوف على المراحل التي كان فيها العمل النقابي متماهيا مع العمل السياسي. يخدمه وقد يتعارض معه ولكن في حدود. في حدود ما تسمح به هيبة الدولة، وفي حدود ما يسمح انصهار الجسمين خدمة للمسار العام للدولة لا تهديدا وخروجا عن النص.
 
جدير بالممارسة النقابية أن تترفّع عن خوض كل ما هو سياسي، لكنها أظهرت العكس. صارت محورا يفرض نفسه ويزج بها مع كل منعرج وكل مرحلة تظهر فيها الدولة ضعفها، وهي ليست كذلك، لتبادر إلى التنديد والشجب وإعلاء الصوت. هنا زاغت عين النقابي وفقدت بوصلتها وجرفها تيار السياسة فانقادت وراءه عنوة لاهثة باحثة عن تموقع رغم التحجّج ظاهريا بأن النقابي أبدا لن يتحول إلى سياسي.
 
أمثلة عديدة لشخصيات تغالي في الانغماس في ما هو نقابي لكنها تظهر أكثر مما تبطن بأن عينها على المنصب أمر لا يمكن حجبه ونفيه حتى في أحلك الحالات إرهاصا وتطلبا للمكاتفة والمعاضدة لا عنادا مفرغا من كل معنى وحس وطني.
 
يقف الاتحاد التونسي للشغل اليوم على الربوة ويتناسى المحسوبون عليه أن الحري بهم هو تهدئة الشارع وتهيئة الظروف لاستكمال الاستحقاق الانتخابي أولا وإخراج البلاد من دائرة الأزمة ومن ثمة تقييم العمل الحكومي والحكم عليه بالسلب أو الإيجاب.
 
تستميت المنظمة النقابية في الدفع نحو فرض اختياراتها على حكومة الشاهد باتباع أسلوب المكاسرة والوقوف ندا، فيما تواصل الأخيرة سياسة “الهروب إلى الأمام” بحثا عن حلول أملا في إنقاذ الوضع المتأزم، فيما يقر البعض بأن تونس تحتاج “معجزة حقيقة” تقطع مع كل ما هو تماه بين النقابي والسياسي وترتب لمسار مواز يسير فيه المكونان دون أن يلتقيا.
 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد