تقرير «موند أفريك»… ظاهره تونس وباطنه ليبيا - أمين بن مسعود

mainThumb

13-06-2018 01:26 PM

 ليس أكثر برهانا على حالة الهوان والضعف التي يعيشها المشهد السياسي والإعلامي التونسي من شبه التصديق الكلي الذي ناله تقرير موقع “موند أفريك” من الفاعلين ضمن المجال العام المحليّ. فالتقرير على أهميته القصوى حيث أنه يتحدث عن سيناريو انقلاب يقوده وزير الداخلية المعزول لطفي براهم بإيعاز من قوى إقليمية، لم يحرّك في الإعلاميين والصحافيين باعتبارهم حراس البوابة الإخبارية سجية القيام بالحد الأدنى من التثبت في المعطيات والتحري في البيانات الواردة في التقرير الخطير.

 
المفارقة أن جل المشتغلين في الفضاء العام التونسي انخرطوا في حالة من التفاعل المتسرع، بعضه أيديولوجي يخفي صراع الإسلاميين مع وزارة الداخلية، وبعضه ثمار تقاطع الداخل مع الخارج، دون أن يتقصّوا مصداقية التقرير أو أن يمنحوا للمتهم -إعلاميا- الحق في الرد وتقديم روايته حيال القصة الإخبارية الواردة ضده.
 
صحيح أن الصحافة الفرنسية متقدمة على نظيرتها التونسية بأشواط كبيرة في مستوى الحرية الإعلامية وفي التجربة الصحافية ولا سيما تلك المتعلقة بالهياكل التعديلية، ولكن الصحيح أيضا أنّ الصحافة الفرنسية لا تمتلك إرثا استقصائيا كبيرا يجعلها مرجعا في مستوى صحافة التحقيق والعمق، والذي تمثل الصحافة الأميركية درّة تاجه، ذلك أن المدونة الإعلامية الفرنسية معروفة بصحافة الرأي والتحليل أكثر من أي منظومة إعلامية أخرى.
 
ولو استثنينا المجهود الإعلامي للصحافي الفرنسي المخضرم إيديو بلونيل وموقعه المحترم ميديا بارت في الاستقصاء، فإن الإعلام الفرنسي لا يزال يتلمس خطواته البكر في التحقيقات الكبرى مقارنة بالتجربة الأميركية وبدرجة أقل البريطانية وحتى الأسكندينافية.
 
بمعنى أن حالة الإجماع والتوافق على مصداقية التقرير، دون تثبت في المعطيات والمعلومات الواردة فيه غير مفهوم وغير منطقي، إلا إذا ارتبطت بالأجندات السياسية لأرباب المؤسسات الإعلامية وبالانحياز الأيديولوجي لبعض الإعلاميين، وفي كل الحالات فهو أمر مناقض لأخلاقيات العمل الصحافي ولمقتضيات المهنة.
 
ولأننا لا نمتلك منظومات إثبات المعلومات الواردة في التقرير لتتحول الأخيرة إلى حقائق، ولأننا أيضا في المقابل لا نكتسب تقنيات نفيها بروايات مناقضة فتتحول المعلومات إلى إشاعات وأكاذيب، فيجب هنا على صاحب الرأي والتحليل على الأقل أن يقف عند أهم المؤشرات الواضحة من خضم الجدل الحاصل اليوم.
 
لعل أول المؤشرات أن إسلاميي تونس لم يتحرروا بعد من عقدتين، الأولى عقدة وزارة الداخلية والثانية الرهاب من الانقلاب.
 
أمّا عقدة وزارة الداخلية فمن الواضح أن سنوات المكاسرة المفتوحة بين النظام السابق وبينهم لا تزال تحفر عميقا في ذاكرتهم الجمعية وتمثل واحدة من أهم سرديات المظلومية في خطابهم السياسي، وعلى الرغم من كافة مجهوداتهم في وقت سابق للسيطرة على مقاليدها إلا أنها لا تزال تمثل استعصاء وصداعا وكابوس يقظة، ألم يقل راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة للسلفيين إن “الأمن والجيش” غير مؤتمنين بعدُ.
 
أما الرهاب المرضي من مؤامرات الانقلاب، فيتغذى أساسا من السيناريو المصري في 2013 والسيناريو التركي في 2016، على الرغم من الاختلاف البين بين السياقات التونسية والمصرية والتركية، كما أنه يكبر ويتجذر في أذهان الإخوان من عدم ثقتهم في الكثير من الفاعلين السياسيين، الحلفاء منهم قبل الخصوم.
 
المؤشر الثاني أن التقرير ماثلَ الحاضر بالماضي وبالمستقبل، فصار لطفي براهم امتدادا لزين العابدين بن علي، والباجي قائد السبسي عوضا عن الحبيب بورقيبة، ومحمد الناصر مكان فؤاد المبزّع، وكمال مرجان مكان الهادي البكوش، والأصل أن التاريخ لا يتكرر منسوخا في مستوى الشخوص والشخصيات، فهو ليس مشهدا مسرحيا يُجتر مع تصفيق الجمهور بل يلعب لعبته مرة واحدة ويتحول إلى ذكرى وعبرة بمقتضى منطقه الداخلي التفسيري وليس حسب محددات الفاعلين والمفعولين بهم اسما ورسما.
 
أما المؤشر الثالث أن التقرير جاء مصادفا لأهداف النهضة بالضبط، سواء في مستوى إقصاء براهم من حقيبة الداخلية أو تحويل يوسف الشاهد إلى حصانها الرابح من خلال استبدال شرعية محاربة الفساد بمشروعية الدفاع عن الديمقراطية الناشئة، والأهم من كل ذلك تأمين تحالف “السبسي – الغنوشي” من خلال تخويف الأول من سيناريو يطبخ في الخفاء للإطاحة به وإحالته إلى “الحبس الطوعي”.
 
وعندما يكون تقريرا صحافيا، بمثل هذه المحايثة التاريخية والتماهي في المآرب السياسية، يكون أقرب ما يكون إلى الوهم المتلبس ببعض الحقائق. ولئن كان التقرير في ظاهره بعيدا نسبيا عن الحقيقة والواقع، فإن في باطنه نقلا لرواية أخرى نعتبر أنها هي القصة الحقيقية والتي على أساسها جاء النص الصحافي.
 
فهناك 4 مصطلحات أساسية وردت في التقرير تمثل الشفرة السرية للتقرير، الأولى جزيرة جربة، والثانية الاستخبارات الفرنسية، والثالثة الإمارات، والرابعة مؤتمر باريس برئاسة إيمانويل ماكرون، وكل هذه العبارات تجمع بينها كلمة واحدة وهي ليبيا.
 
فجزيرة جربة كانت محل كافة اجتماعات الكبار والصغار حول الوضع في ليبيا، والاستخبارات الفرنسية تخوض حروبا كبرى في جنوب ليبيا وفي منطقة الساحل الإفريقي، ومؤتمر ماكرون كان الهدف منه تغيير الفاعلين الأصليين المدعومين من الإمارات، بفاعلين جدد من حلفاء باريس والدوحة وأنقرة.
 
بعبارة أدقّ، فإن التقرير في جزء من أجزائه وبعد من أبعاده يرمي إلى استنزاف الإمارات عبر فتح جبهة سياسية وإعلامية جدّ خطيرة مع تونس تضاف إلى أزمة الطيران السابقة، وبالتالي يضعف ثقل اليد الإماراتية في المشهد الليبي وتربح فرنسا هامشا للتحرك والمبادرة.
 
فكلّما ازداد البون التونسي الإماراتي، كلما خسرت أبوظبي نافذة للتأثير على المشهد الليبي، وهو ما يدركه جيدا الإيليزيه، وهو ما ليس بخاف على الإمارات.
 
وفي تقديرنا فإنّ الأجندا الفرنسية التي وضعت خارطـة طـريق مفصلة لـلأزمة الليبية، تريد الاستفراد بالفاعلين الليبيين وعلى رأسهم المشير خليفة حفتر وعقيلة صالح، وفرض رؤيتها وهذا لن يتأتى إلا بإزاحة جزئية للاعب الإماراتي أو التشويش على دوره، وهو ما يؤمنه نسبيـا هذا التقرير.
 
بعد انكفاء إيطاليا إلى حدودها القومية وهويتها الشوفينية مع وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في روما، وانغماس المملكة العربية السعودية في المشهد اليمني والخليجي، وأميركا في الملعب الآسيوي المتاخم للصين، وروسيا في المستنقع السوري، بات اللاعب الفرنسي متخيلا بأنه قادر لوحده على فرض قواعد اللعبة في ليبيا، ولكن كم من لاعب غرق في الرمال المتحركة الليبية وكم من فاعل توهم أنه مدرك مياه الصحراء في حين أنّها السراب الطويل والقاتل أيضا.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد