ذات إضراب .. ظن الشعب وخاب ظنه!

mainThumb

17-06-2018 10:35 AM

ذات إضراب، خرج الناس كما لم يحدث من قبل إلى الشارع، دون خوف أو وجل، حيث لم تنفع المطالبات أو الشكاوى، ولا المناشدات والخطابات، ولا حتى النكت أو التعليقات، أو الشعر والمقالات، في لجم الحكومات عن نهش جسد الوطن والمواطن، لذا خرج الشعب يهتف بصوت عميق عريق، أنا الشعب صاحب الإرادة ومصدر السلطات، لن أصبر ولن أتردد، فقد فاض الوعاء بما فيه، ولن يستمر الخلل أو الجرح نازفا، بل يجب أن يُدرك العلاج بأي ثمن ولو باجتراح المعجزات.
 
قفز الشعب عن حواجز الخوف والتردد، وأصر على لعبة أشبه ما تكون بشد الحبل  مع الحكومة، ومارس الضغط عليها، وصولا إلى نقطة المساومة، التي تجبرها على العض على النواجذ، في ذات الوقت، راعى قواعد الإضراب الحق تماما، فلا عصبية، ولا تشنج، ولا خسائر، ولا تدمير أو تخريب، لم يلعن أو يشتم، ولو فعل لأغضب الجميع من حوله، وخسر قضيته، وبعدت منه مطالبه، لكنه بذكاء مقدّر، كسب الرأي العام المحلي والعالمي، وأدرك أن اللعبة يخسرها من يعض اصبعه أولا، أو من يطلق (اه) اولاً، توقف عن العمل، وحاصر الحكومة في دوارها الرابع، وبقي يفترش الدوار والشارع أياما، دون كلل أو ملل، أصر على الفوز، وقدر أن تعطيل العمل لبضعة أيام يعتبر ثمنا مقبولا ضريبة الديمقراطية بشقيها السياسي والاقتصادي.
تجنّب-الشعب- الصدام مع السلطات، بل احتضن رجال الأمن، واعتبرهم جزءً من حراكه، حيث أن رجل الأمن يعاني الامرّين، فهو مواطن يعاني مثل غيره، وبنفس الوقت هو جزءٌ من السلطة، التي تضعه في أصعب الظروف، كما أن رجال الأمن بدورهم كسبوا الصيت الحسن بحرفيتهم وتعاونهم.
 
كان الإضراب أشبه ما يكون بالصراع الأخلاقي بين الطرفين، أصر كل طرف أن يسجل هدفا في مرمى الأخر، ولم تتراجع الحكومة، فبقيت تراوغ وتتحدى من أجل البقاء، دون أي تنازل أو انكفاء، عندها كان لا بد من حلٍ ُينزل الطرفين عن الشجرة، فكان الحسم من الملك، الذي أقال الحكومة، باعتباره مسئولا عن توازن السلطات، وانتصارا للشعب الذي هو مصدر كل السلطات، وإن بدا معظم الوقت أنه منزوع عنه كل شيء.
 
خسرت الحكومة، وأعلن عن رئيس جديد من الطاقم نفسه، وللغرابة، أن الناس رحبت به فورا، تبعا لما اظهره من حسن إدارة في وزارته، لكننا لم نعرف عنه، مثلا، أنه نصح أو انتقد الحكومة، خاصة في سياساتها المالية والضرائبية، باعتبار أن الحكومة متكافلة ومتضامنة، ويفترض أن أعضاءها في مركب واحد يعملون على إنقاذه.
 
 تفاءل الناس بالرئيس الجديد، فهو من خارج نادي الرؤساء، ويحظى بثقة الناس لحسن إدارته في وزارة التعليم، عُرف عنه التواضع، وأُعتبر أبنُ مناضلٍ قديم، وما بقي الا أن يتغنى الناس بصفاته الشخصية، فقد يكون أحس بغبن الشعب، لذا انتظر منه الناس أن يأتي بما لم تأتي به الاوائل، فالحكومة ذهبت بهبة شعبية، والشعب نفسه رضيه عنوانَ اصلاحٍ لمرحلة جديدة.
 
أعلن الملك أن الوزراء من أهل هذا البلد، وليسوا غرباء، وأن قليلا منهم كان يعمل، وأكثرهم كانوا نياما، وأوحى للشعب والرئيس أن دماءً جديدة يجب أن تُضخ في دورتنا الدموية، ودعا إلى اختيار حكومة شبابية رشيقة، وأعطى الرئيس فرصة التفكير، والتمهل بالاختيار، وبرزت أخبار أن هناك ضغوطاً على الرئيس، لكنه يرفضها بحزم، أوحى ذلك كله لنا أننا على موعد مبين مع الجديد.
 
 ما أن أعلن الرئيس عن حكومته، حتى بدا أن الشعب تلقى الخيبات بالجملة، وبدا أن قصة القديم بعينه ما زالت تلاحقنا، أي ليس أكثر من تبديل طواقي، تماما مثلما جسّد ذلك مسرح دريد وحسني قبل نحو أربعة عقود، أي أن الشعب صحا على الواقع المرير إياه، وأن قواعد اللعبة لم تتزحزح قيد انملة، وتندر الناس بأن لحية الرئيس ربما كانت هي الفرق الجوهري عن سلفه، وعاد الينا الكثير من النوّم، لكن صائد الحط أو حارس المرمى قد ذهب.
 
بعد انتظار، وعلى أحر من الجمر هذه المرة، أعلن الرئيس عن تشكيلة الحكومة، لنجد أن الوجوه القديمة هي التي تبتسم لنا في التكليف الجديد، وأنها تتكون من 29 وزيرا، يا لها من رشاقة! بل أين الشباب وأين الدماء الجديدة؟! وللعلم فإن أمريكا لديها 14 وزيرا، وفي بريطانيا 23، ومعظم المكلفين من كبار السن، بل أن المحسوبية والشللية والزمالة تصدرت المشهد بامتياز.
 
حقق الإضراب في واقع الحال مكسبا للبلد معنويا وماديا، وهذه بلا شك نادرة، فمن الناحية المعنوية؛ أدرك العالم أن إضراب الأردن سلميا نقيا، بمطالب حياتية محددة، في ظل عين مفتوحة على إصلاح أشمل، وأخرى تسهر على أمنه واستقراره، وبالتالي بقي الجميع يراقب ما يحدث، لكن ضمن سقف معروف سلفا، أمّا من الناحية المادية؛ فقد تداعى الأشقاء لتقديم يد العون لبلد يقدرون تماما إنه يمثل خطا أماميا لهم في أكثر من جبهة وقضية، وربما دق ناقوس الخطر لديهم؛ ماذا لو حصل عندنا ما كان عندهم؟! أمّا الجديد لدينا فقد صرنا أهل نكتة وابتسامة في أحلك الظروف، فقد كانت أيام الإضراب أشبه ما تكون بمهرجان للإبداع، ومن فعالياته صنع الابتسامة على وجوه الناس.
 
في ظل ما سبق، لا أعرف إن كان هناك فرصة للأمل، أو تستحق الحكومة فسحة للحكم عليها، فقد توقّع الناس من الرئيس المكلف أن يصارح الشعب، ويتحدث بصورة علنية عن الولاية العامة، ويصر عليها، وأن يأتي بوجوه جديدة تُعرف بالنزاهة ونظافة اليد، ومعروف عنها نزعتها لمحاربة الفساد، فالرئيس جاء بتأييد ملكي وشعبي، وكان عليه أن يستثمر ذلك، بأن يُشعر الناس أنه اذا ما تعرض للضغوط إياها، أو وُضعت في وجهه العقبات، فلن يقبل، حد التنازل، وعندها سيحظى بثقة واحترام الجميع، أكثر من كونه موظفا في الدائري الرابع.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد