سلام السادات طريق ترامب لولاية رئاسية جديدة - مختار الدبابي

mainThumb

18-07-2018 03:39 PM

 لم تكن قمة هلسنكي، وما تخللها وما سبقها، من خطاب للرئيس الأميركي دونالد ترامب سوى صورة أخرى لمشهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي قرر أن يزور إسرائيل ويكسر العداء التاريخي معها بجرة قلم ملغيا بذلك عقودا من العداء وصراع الوجود.

 
الرئيس الأميركي جدد الاثنين، نفس خطاب السادات عن “مخاطرة سياسية من أجل السلام” مع روسيا التي مثلت لأكثر من نصف قرن العدو الاستراتيجي للولايات المتحدة، ووصف سنوات التيقظ الاستخباراتي الأميركي خلال الحرب الباردة بأنها “أعوام من الغباء”. وقال ترامب “باعتباري رئيسا، فإنه لا يمكنني اتخاذ قرارات لإرضاء المنتقدين من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) أو الإعلام، فالحوار البناء يفتح طرقا جديدة للسلام”.
 
وقوبل خطاب “التذلل” و”التنازلات” الذي قدمه ترامب لنظيره الروسي فلاديمير بوتين بغضب أميركي واسع خاصة من أعضاء الكونغرس سواء أكانوا ديمقراطيين أم جمهوريين، وعلى رأس هؤلاء كان جون ماكين الذي وصف خطاب ترامب بأنه “إحدى أسوأ اللحظات” في تاريخ الرئاسة الأميركية، وأن قمة هلسنكي بين الرئيسين كانت “خطأ مأساويا”.
 
وقال ماكين إن “المؤتمر الصحافي في هلسنكي كان أحد أسوأ الأداءات المخزية لرئيس أميركي في التاريخ”، وإن “الضرر الذي أحدثه ترامب بسذاجته وغروره ومساواته الزائفة (بين موسكو والأجهزة الأميركية) وتعاطفه مع حكام متسلطين أمر يصعب تقديره”.
 
وموجة الغضب هذه قد تستمر لأسابيع وقد تقطع طريق الرئيس الشعبوي إلى ولاية رئاسية جديدة مثلما أعلن عن ذلك منذ أيام. وربما يجد الرئيس الذي قطع خطوة باتجاه “الخيانة” و”الخزي” نفسه ملاحقا بدعاوى قضائية متعددة تهدف إلى عزله ومنعه من إنهاء مدته الرئاسية الحالية.
 
ومن الواضح أن “المغامرة” لم تكن رغبة شخصية من الرئيس ترامب، وأنها تعبر عن توجه داخل البيت الأبيض من المستشارين الذين عينهم ويثق بهم، وأغلبهم ممثلون عن لوبي المال ورجال الأعمال والشركات التي وقفت وراء حملته الانتخابية بقوة لتحقيق مصالحها وفق استراتيجية جديدة تقوم على جذب الاستثمارات والتمويلات الكبرى والضغط على المنافسين وإجبارهم على إعطاء الأولوية دائما للقيادة الأميركية تجاريا واقتصاديا.
 
من الواضح أن التهدئة مع روسيا هي جزء من استراتيجية أميركية بدأت مع الرئيس السابق باراك أوباما وتستمر مع ترامب بالرغم من الصخب الذي ظهر عن وجود استراتيجية مغايرة للإدارة الحالية تجاه روسيا وإعادة تمركزها في الشرق الأوسط.
 
وقوام هذه الاستراتيجية، في ظاهرها التهدئة مع روسيا، والقبول بعودتها القوية إلى مواقع نفوذها التقليدية في الشرق الأوسط، بعد استيعاب مخلفات صدمة البروسترويكا وتفتيت الاتحاد السوفييتي السابق. لكن محور الاستراتيجية الأميركية، التي لا يرسيها الرئيس في الغالب، بل مراكز صنع القرار، هو مراجعة التدخل العسكري كأداة لتثبيت السيطرة الأميركية في العالم، والبحث عن توليفة جديدة توظف التفوق العسكري كجزء من عناصر قوة الولايات المتحدة وريادتها للعالم.
 
لم تكن هذه المراجعة استجابة لرغبة في تنويع أساليب السيطرة فقط على عالم يشهد ظهور قوى صاعدة باستمرار قد تهدد نفوذ واشنطن ومصالحها مرحليا، وإنما هي نتاج تقييم لفشل استراتيجية سابقة تقوم على الاكتفاء بالقوة العسكرية لتعبيد الطريق أمام الهيمنة الاقتصادية الاستخباراتية وتوفير الريادة والاستباق للشركات الأميركية التي كان لها دائما تأثير في تصعيد الرئيس واختيار فريقه الحكومي الذي كان في العقود الأخيرة من فصيلة “الصقور”.
 
لقد استنفد خيار القوة العسكرية مبررات احتكار مقولة التسيد الأميركي في العالم، والمفارقة أن ما قاد إلى تراجع هذا التسيد ليست قوة عسكرية متقاربة من حيث عناصر القوة والتطور التكنولوجي العسكري ولا التقدم الاستخباراتي مثل روسيا أو الصين، وإنما في ميادين صراع تقليدية مثل أفغانستان والعراق.
 
وكان خبراء عسكريون واستراتيجيون أميركيون حثوا على تقييم تجربة التدخل العسكري في أفغانستان والعراق والبحث عن الأسباب التي قادت إلى فشل واشنطن في الخروج السريع من الحرب وفرض حلفاء محليين في البلدين.
 
ومن الواضح أن التقييم قد اهتدى إلى نتيجة رئيسية، وهي أن التدخل العسكري المباشر لم يعد مأمون النتائج على المستوى البعيد، وأنه لا يكفي إطلاق المئات من الصواريخ المتطورة لتحقيق أكثر ما يمكن الدمار، أو تصفية الخصوم عبر طائرات دون طيار، لخلق بيئة صديقة.
 
وظهرت مقاومات محلية بأفكار ووسائل تقليدية، مثل حركة طالبان، استطاعت بمرور الوقت أن تربك الوجود الأميركي وجنود حلفائه وتفرض عليهم البقاء لفترات أطول مع ما يتبع ذلك من خسائر بشرية ومالية كبيرة دون أن تحقق الاستقرار بمقاسات أميركية.
 
والولايات المتحدة تكافح الآن لاستدراج طالبان إلى حوار سياسي ينتهي إلى تشريكها في السلطة بأفغانستان ويجبرها على إلقاء السلاح بعد أن كانت توصف أميركيا بأنها حركة إرهابية.
 
وفي العراق، لعبت واشنطن على توظيف ورقة إيران والأحزاب الدينية الموالية لها في غزو العراق على أمل أن تتولى لاحقا تحييدها وإجبارها على القبول بدور اللاعب الثاني، لكن إيران تمكّنت من الالتفاف بعد أن سيطرت الميليشيات التابعة لها على الدولة وصارت تضغط لإخراج الولايات المتحدة من العراق.
 
ومثّل هذا التطور أحد التحولات المساعدة على مراجعة البيت الأبيض للأداء الأميركي في الشرق الأوسط في عهد أوباما الذي سعى لاحتواء إيران بإغرائها بلعب دور إقليمي محدود مقابل التخلي عن برنامجها النووي، لكن المقاربة يتم التراجع عنها كليا حاليا بسبب قصور أدائها ونجاح إيران في استثمارها بشكل فعال.
 
وتتجه إدارة ترامب إلى التشدد التام لإجبار طهران على التخلي عن فكرة التسيد الإقليمي الذي تؤسس له مقولة “تصدير الثورة” التي تعني منافسة نفوذ الولايات المتحدة وخلق عداء طائفي لها ولحلفائها في المنطقة.
 
حضور روسيا في الشرق الأوسط
تجد استراتيجية تبريد الخلاف مع موسكو في الشرق الأوسط مشروعية لها كونها تفترض أن يحصل توافق أميركي روسي يتم بمقتضاه الاعتراف بدور الكرملين في سوريا مقابل أن يتولى بوتين شخصيا التعهد بأن تقوم بلاده بكبح نفوذ القوى الإقليمية التي سعت لتحدي النفوذ الأميركي في المنطقة مثل إيران وتركيا ومنعهما من اقتطاع مناطق نفوذ في سوريا.
 
ويخشى أعضاء بارزون في الكونغرس أن يقدم ترامب سلسلة من التنازلات من جانب واحد لرجل الكرملين القوي. لكن العديد من الدبلوماسيين والمحللين يقولون إن نفوذ روسيا في الشرق الأوسط لم يعد بحاجة إلى تنازل أميركي، ذلك أن بوتين نجح في فرض بقاء الرئيس السوري بشار الأسد بالسلطة، ويتم تمكينه من بسط سيطرته على كل الأراضي السورية بدعم إقليمي ودولي وفرض ذلك على المعارضات المختلفة بما في ذلك الموجودة في إدلب.
 
ويحافظ الوجود الروسي القوي في الشرق الأوسط على الخطوط الحمراء للمؤسسات الأميركية المتشددة من ذلك حماية أمن إسرائيل وتشكيل المشهد السوري بما يلائم مزاجها، فقد أبدت روسيا تفهما كاملا للاختراق الإسرائيلي للأجواء السورية وتنفيذ عمليات مستمرة ضد أهداف سورية رسمية أو أهداف لإيران وحزب الله اللبناني، وهو وضع تحول إلى أمر واقع حتى بالنسبة إلى إيران التي باتت مثلها مثل الأسد وأمين عام حزب الله حسن نصرالله تلوّح بالرد القاسي في الوقت الملائم.
 
وربما يعمد بوتين إلى مكافئة ترامب على مغامرة السلام بدعوة إيران إلى سحب مستشاريها والميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية واللبنانية التي جلبتها تحت ستار حماية المراقد بهدف إلحاق سوريا بحالة العراق وفتح طريق بري من طهران إلى بيروت.
 
ورغم أن الأمر قد يبدو غريبا، لكن قوة دولية بحجم روسيا لا يمكن أن تربط مصيرها بمصير إيران، خاصة أنها لم تعد تحتاج إلى مساعدتها في ضبط الوضع العسكري والأمني بسوريا، مع أن “طرد” إيران من سوريا لن يتم بشكل عاجل، وربما يحصل في سياق تفاهمات سرية تبرر الخروج الإيراني من سوريا بانتهاء القضاء على الإرهاب وضمان بقاء الأسد وتأمين المراقد الشيعية، وكل المسوغات الفضفاضة التي رفعها الإعلام الإيراني لتبرير التدخل المباشر في سوريا.
 
ويعتقد الخبراء أن وجودا روسيا قويا في الشرق الأوسط لن يهدد نفوذ الولايات المتحدة، خاصة مصالحها في دول الخليج وفي المياه الإقليمية، وإن كانت روسيا ستبحث عن مراكمة منافع جديدة من التحوّلات التي تلت تدخلها في سوريا مثل زيادة التعاون العسكري والاقتصادي مع دول الخليج في ضوء توجه من زعامات هذه الدول لتنويع الشركاء وكسر الاحتكار الأميركي الذي اهتزت شروطه بعد تقارب إدارة أوباما مع إيران وإلى الآن لا يزال يراوح مكانه في ضوء الضبابية التي تحيط بمواقف واشنطن في اليمن.
 
وفي كل الأحوال لم تعد الولايات المتحدة قادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فروسيا استفادت من ارتباك استراتيجية المراقبة عن بعد للوضع في سوريا، التي اعتمدها أوباما، وفرضت واقعا عسكريا واستراتيجيا جديدا ليس بوسع واشنطن التأثير فيه، ومن ثمة يصبح التطبيع معه بأخف الأضرار استراتيجية في حد ذاتها للتفرغ للمعركة الأهم التي يبدو أن ترامب قد جاء للرئاسة من أجلها، وهي معركة الهيمنة على الاقتصاد العالمي بمواجهة التنين الصيني بدرجة أولى ثم الاتحاد الأوروبي بدرجة ثانية.
 
استراتيجية التسلل الناعم
 
تقول الحكومة الصينية إن ترامب بدأ أكبر حرب تجارية في تاريخ الاقتصاد العالمي عبر فرض رسوم مجحفة، وتؤكّد أنها مضطرة للرد على الخطوات الأميركية لحماية مصالح الشعب الصيني. وبحسب معطيات مكتب التعداد الأميركي، بلغت قيمة ما تستورده الولايات المتحدة من الصين حوالي 505 مليارات دولار في 2017، فيما بلغت قيمة صادرت واشنطن إلى بكين 130 مليار دولار.
 
ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن انزعاج واشنطن يكمن في استراتيجية التسلل الناعم التي تعتمدها بكين لغزو الأسواق الصغيرة في الدول النامية، ما يتيح لها ليس فقط مزاحمة المنتجات الأميركية، ولكن تشجيع الاقتصاديات المحلية على خلق بدائل خاصة ترتبط مباشرة بالدعم الصيني، فضلا عن اشتغالها على الفراغ الذي تتركه واشنطن والناجم عن التعاطي مع الدول النامية على أنها دول تابعة لا تحتاج سوى إلى استهلاك المنتجات الأميركية.
 
وقد تبادر الصين إلى تحدي المزاج الأميركي المتشدد ضد إيران من خلال كسر العقوبات التي تبدأ خلال أشهر قليلة، ما يضع إدارة ترامب في إحراج شديد خاصة أنها تمسكت برفض أي إعفاءات للأوروبيين. وهو ما أشارت إليه وول ستريت جورنال التي نقلت عن مصدر قوله إن واشنطن تتوقع شراء الصين المزيد من النفط الإيراني بعد العقوبات.
 
لكن السؤال الأهم في كل هذا: كم من الوقت ستستمر فترة التبريد مع روسيا خاصة أن وضعها الجديد قد يساعدها على أن تتحول سريعا إلى قوة اقتصادية مؤثرة تتولى بدورها تحصيل نصيبها من نفوذ واشنطن الذي بدأ بالانكماش؟ وهل ستقدر واشنطن على حسم الحرب التجارية بالشكل الذي تخرج فيه إلى وضع أفضل خاصة أنها تضع الصين والاتحاد الأوروبي معا في مرتبة الأعداء؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد