تونس: من العلمانية الجزئية إلى الشاملة - أمين بن مسعود

mainThumb

18-08-2018 02:31 PM

 دفع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الحوار إلى أقصاه عبر خطابه الأخير والذي طرح خلاله ولأول مرة تمثلا جديدا للدولة التونسية بمقتضاه وضع عبارة “المدنية” ضمن التناقض الفكري والحضاري والمعرفي مع عبارة “الإسلام”، فلأول مرة تقريبا يتجاوز السبسي المقولة التاريخية بأن تونس دولة دينها الإسلام ولغتها العربية، وهي المقولة التي جسدت الخيط الناظم لكافة المدونة الدستورية والتشريعية والسياسية لتونس طيلة نصف قرن على الأقلّ.

 
من الواضح أنّ السبسي حوّل النقاش لا فقط من مسألة الميراث إلى قضية مدنية الدولة، بل ونزّله ضمن مفهوم التجاوز من “العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة” وفق عبارة المفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري.
 
ذلك أنّ السبسي اختار نموذج “العلمانية الشاملة” باعتبارها منظومة الدولة المدنية القافزة فوق المرجعيات الدينية، لتعريف الدولة التونسية، فيما كان النقاش محدودا صلب تخوم “العلمانية الجزئية” بما هي فصل السياسي عن الديني.
 
هنا يطرح سؤال عميق، هل أن السبسي أراد تسويغ المساواة في الميراث من بوابة ذرائعية مدنية الدولة، فتصبح الثانية مجرد علة حجاجية للأولى، أم أنه يريد فعلا بناء دولة مدنية منفصلة تماما عن الدين يبدأ، أي البناء، من خلال التشريع للمساواة في الميراث؟ أم أنّ الأمر متعلّق بنفخ الروح في خزانه الانتخابي المتكون من النساء الحداثيات وبالتالي التسخين لحملة انتخابية يكون شعارها الدعائيّ “المرأة شرط المدنية”؟
 
وأيا كانت الفرضية الراجحة، فإنّ إشكالية السبسي أنه لا يمتلك شروط تكريس برنامجه.
 
فالشرط التشريعي مستعص في ظل تمسك النهضة بموقفها الرافض للمصادقة على تقرير الحريات الفردية والمساواة، والشرط التوافقي المجتمعي منقوص وسط انقسام اجتماعي واضح حيال مضامين التقرير، والأهم من ذلك غياب الشرط الديني بمعنى توفر أساس من داخل العائلة الدينية التونسية الزيتونية لشرعنة هذا المسار.
 
ذلك أن العلمانية الفرنسية تأسست لا فقط بإرادة المفكرين وتراثهم المعرفي، بل بدفع من الأب سانت أوغستان الذي ساهم بشكل كبير ضمن  دعوته إلى “الدين المدني” في تشريع العلمانية من داخل الكنيسة، الأمر الذي حوّل العلمانية الشاملة مطلبية جامعة من صلب التفكير الكهنوتي ومن خارجه.
 
هذا الشرط غائب على الحالة العربية عامة والحالة التونسية خاصة، فالتجربة الأخيرة أثبتت أنّ المدرسة الزيتونية لا توافق السبسي لا في مقولة “المساواة في الإرث” ولا في “دولة العلمانية الشاملة”.
 
صحيح أنّ هناك بعض الأصوات الاستثنائية التي وافقت وتقاطعت مع برنامج السبسي، ولكنها تبقى أصواتا دون المدرسة التي بالإمكان البناء عليها ضمن المشاريع المجتمعية الكبرى. أمام هذا الاستعصاء، تنبثق 3 مخاطر كبرى على الفاعلين السياسيين والتشريعيين في تونس الالتفات إليها بشكل جديّ.
 
الخطر الأول هو أن تدفعنا مشروطية “الدولة المدنية النائية عن الدين” إلى الانتقال من مقولة تغيير القانون وفق الدستور إلى تحوير الدستور وفق مشروع القانون، حيث أنّ عبارتي “دينها الإسلام” و”الدولة راعية للدين”، لا بد من تطويعهما لمشروع لجنة الحريات الخاصة والمساواة.
 
هكذا يصبح التقرير مرجعية للدستور بل قل “دستور الدستور”، وهو ما يضعنا في سياق إهدار وقت طويل من الجدل حول هوية الدولة ومكانة الدين في الفضاء العمومي وفي مؤسساته.
 
الخطر الثاني سببه الأول، ذلك أنّ الانقسام المجتمعي سيطل برأسه من جديد والتباين على أساس هوية الدولة ومكانة الدين، سيفرز تناقضا أيديولوجيا خطيرا توهمنا أننا تجاوزناه في 2014.
 
الخطر الثالث أن التجربة السياسية تعلّم أنه كلما ترك ملعب الدين فارغا وفضاء الهوية شاغرا، إلا وملأه أصحاب الرؤى الانغلاقية والسلفية الذين سيجدون في مقولة العلمانية الشاملة خبزا سياسيا ودعائيا وحطبا لإشعال شعارات “الإسلام في خطر” و”الدولة المارقة” ولاستدرار عناوين استجلاب الخلافة الراشدة.
 
في مثل هذه الوضعية لن تتردد حركة النهضة في الاستثمار السياسي والأيديولوجي لهذه الوضعية حيث أنّها ستقدم نفسها بديلة لمدنية دون دين ولتديّن دون مدنية، وهو ما تريده سيما وأنّ لعابها السياسي سائل لا فقط على البرلمان وإنما على الرئاسة أيضا.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد