«وصية سياسية» لألبرتو مورافيا: هل بدأ العقل صراعه ضد الإنسان؟ - ابراهيم العريس

mainThumb

02-10-2018 01:37 PM

 نعرف جميعاً الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا من خلال رواياته الواقفة عند نقطة شديدة الرهافة بين الأدب النخبوي، والأدب الشعبي بل الجماهيري. ولئن عُرف مورافيا أيضاً بين الحين والآخر بخوضه في أدب الرحلات، لا سيما من خلال نصوص سبق لهذه الزاوية أن استعرضتها تحدث فيها عن رحلات قام بها إلى الهند وإلى ما كان يسمّى حينذاك «الاتحاد السوفياتي»، فإن ما كان لافتاً في تلك النصوص مواقفه السياسية التي بدت سائرة عكس التيار، وأدنى إلى السياسة منها إلى أدب الرحلات. ولسوف يبدو هذا فاقعاً أكثر في واحد من آخر النصوص التي أصدرها في هذا المجال ويعلق كما سنرى بعد سطور برحلة قام بها إلى اليابان، مكنته من أن يكتب ما يعتبر اليوم وصية سياسية.

 
 
> ونعرف أن ألبرتو مورافيا المولود عام 1907، لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره حين اشتهر من طريق روايته الأولى «اللامبالون» التي رسمت صورة قاسية لأسياد المجتمع في روما، ما جعلها ضحية لرقابة الفاشيين في ذلك الحين، إنما من دون أن يحبطه ذلك أو يدفعه إلى التوقف. ومع هذا، لا بد أن نذكّر بأن مورافيا لم ينشر أعماله الكبيرة إلا بعد الحرب العالمية الثانية وزوال الحكم الفاشي الذي سيبقى من مناهضيه الكبار، كما من فاضحي تأثيراته وأبعاده السيكولوجية، كما يتجلى في رائعته «الممتثل» التي حولها برناردو برتولوتشي فيلماً كبيراً بالعنوان ذاته. ونعرف أن أعمال مورافيا الروائية هي التي أكسبته شهرة عالمية ومنها إلى جانب «الممتثل»، «آغوستينو» و «العصيان» و «الاحتقار» و «الرومانية الحسناء». وكذلك حال مجموعته القصصية «حكايات رومانية».
 
> مهما يكن من أمر، فلا يمكن اعتبار مورافيا روائياً كبيراً وحسب، بل كان كذلك وكما أشرنا، جوالاً مناضلاً لا يكل ولا يمل، ومفكراً يعمل في سبيل الأخلاق. وإلى هذا كله كان كاتباً متنبهاً لكل الفخاخ التي تهدد الإنسان، لهذا كان يتخذ موقفاً، وموقفاً صلباً في أغلب الأحيان، في كل مرة يتبدى له فيها أن الجوهر في خطر: سواء أكان ذلك لمناسبة محاكمة النازيين في نورنبورغ، أو بصدد محاكمة أدولف إيخمان، أو بصدد الثورة الثقافية في الصين أو الإرهاب الذي تمارسه الألوية الحمر.
 
> وفي واحدة من سنوات الثمانين، قام مورافيا بتلك الرحلة إلى اليابان التي جعلته يدرك فجأة وبصورة حادة، معنى الخطر الذي يشكله التسلح النووي، كل يوم أكثر وأكثر، على الإنسانية. وهكذا في مجال متابعته تأملات كان قد شرع بها في دراسة وضعها عام 1965 بعنوان «العقل ضد الإنسان»، رأى مورافيا، في انتصار السلاح النووي وازدهاره، دلالة تناقضية تشير إلى أن الذكاء البشري يحمل في ذاته دماره الذاتي. وأن «تطوّر العقل قد أدى إلى صنع أدوات خيالية التطور والتعقيد، ليس لها من مصير آخر سوى الوصول بالجنس البشري إلى الفناء». وفي مواجهة هذا المنطق الجهنمي راح ألبرتو مورافيا، روائي الخيبة والسأم، يشدد على بعض العبارات التنبؤية في محاولة منه لسحق اللامبالاة الظاهرة التي يبديها معاصروه، لا سيما في نص طويل عنوانه «العقل والمعيار» اعتُبر استكمالاً لـ «العقل ضد الإنسان» ليصبح أشبه بوصية للكاتب الكبير بعد رحيله في عام 1990.
 
> ولقد أوضح مورافيا أن تلك الأفكار خطرت له حين كان مدعواً للقيام برحلة «ثقافية» عبر اليابان من مؤسسة «جابان فونديشن» الرسمية جداً، حيث «انتهزت الفرصة لكي أجري تحقيقاً حول موقف اليابانيين إزاء خطر اندلاع حرب نووية أو حرب يُستخدم السلاح النووي فيها (وهو خطر سبق لهم أن عاشوه)». والحال أن هذا التحقيق كان قد تكوّن لديه كمشروع مُذ لاحظ أن بؤر الصراع التي تتزايد، هنا وهناك على كوكب الأرض، والأزمة الاقتصادية العالمية، كلها تنحو لجعل التفكير بالخطر «النووي» في المقام الثاني. هناك فجأة وفيما كان واقفاً أمام النصب الذي شُيّد لذكرى المئتي ألف قتيل في هيروشيما، وجد نفسه في خضمّ هزة عاطفية. و «وعيت حقيقة القنبلة، وحقيقة انشغالنا جميعاً عن إدراك حجم الكارثة التي من شأن هذه القنبلة أن تضرب كل البشرية بها». وبدا الأمر بالنسبة إليه على شكل إدراك جلي للخطر الوجودي الذي يمثله حضور السلاح النووي بالنسبة إلى النوع البشري ككل.
 
> وهو في الوقت ذاته أدرك أن الإنسانية «مسؤولة كل المسؤولية أمام هذا الخطر الشامل. واكتشفت وأنا أقرأ الكتابة الغريبة المرسومة على ذلك النصب، أن الشعب الياباني، وهو الشعب الوحيد الذي عاش أهوال القنبلة النووية، هو الشعب الوحيد الذي يواجه الآن هذه المسؤولية الجماعية، فالكتابة على نصب هيروشيما تقول: ارقدوا بأمان، لأننا لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى». ويفيدنا مورافيا هنا بأننا لدى قراءتنا الأولى لهذه الكتابة سيتبدى لنا الأمر كأنه اعتراف بغلطة تاريخية ارتكبتها النزعة القومية الفاشية أيام اليابان الإمبراطورية.
 
> وأدرك مورافيا هنا، أن وجود السلاح النووي يكشف عن «أكثر تناقضات العقل البشري غموضاً». فمن جهة يعتقد الناس أنفسهم خالدين، أو هم يتصرفون كأنهم خالدون، ومن جهة أخرى نراهم يتكالبون، وفي شكل غير واع، لكي يجعلوا من الموت الفردي قاعدة صيرورة الجنس البشري كله. وفي مواجهة احتمال الوصول، إلى هذا الدمار الشامل، نجد أن وعي الموت الفردي يعطي أهمية تفوق الأهمية المعطاة لمفهوم الفناء الشامل. فالأفراد نادراً ما يفكرون في الموت الحقيقي. كل الناس يعلمون أننا نموت أفراداً، لكننا جميعاً نعيش كأننا خالدون. والذي لا ريب فيه، كما يضيف مورافيا، أن «الغلطة» الوارد ذكرها في كلام النصب الياباني هي التي تعني تلك الفكرة المخطئة عن المحور الحيوي للمسألة. وفي «العقل والمعيار» كما في «العقل ضد الإنسان»، يبدو أن الكاتب يموضع منطق التدمير الذاتي ضمن خط سيرورة المعرفة ذاتها، حيث يقول أن هناك ما يشبه حتمية وصول العقل إلى الانهيار...
 
> وهو يجيب عن أسئلة طرحت عليه حول هذا الأمر، قائلاً: «الحقيقة أنني طرحت على نفسي مسألة حتمية الدمار الذاتي الذي يمارسه الإنسان. وتساءلت عما إذا لم تكن «القنبلة» قادرة على أن تضع مغزى تطور البشرية كله، على بساط البحث وفي شكل عميق. ترى، أفلم يقُدنا منطق المعرفة إلى وضع لا رادّ عنه يقوم الجنس البشري فيه بتدمير نفسه بنفسه؟ أنا لا أعتقد اعتقاداً جازماً بأن للتاريخ معنى يمكن تحديده في شكل واضح. ومهما يكن، فإن المعنى الحقيقي للتاريخ إن وجد لا يتطابق بالضرورة مع ذلك المعنى الذي يقترحه مجموع المعايير التي تكتفي عادة بتبرير منطق القوة. إن العقل هو الذي يقف في أساس كل الأنظمة الشمولية الممنهجة من نازية وستالينية. والعقل كذلك هو الذي يقود المنهج الراهن للقدرات العسكرية – الصناعية».
 
> وينطلق مورافيا من هنا ليشير إلى أن كل الثورات التي أُنجزت ضمن إطار عبادة العقل، إنما تحولت إلى جنون قاتل وإلى مذابح. فليس غياب العقل هو وحده القادر على ولادة الوحوش، بل إن الإفراط في العقلانية يفعل الشيء ذاته. بالتالي، فإن تصاعد الحمى النووية، بالنظر إلى أنه يتولد من منطق معين ومن عقلانية حربجية واضحة، هو الذي يجبر الكاتب على وضع استخدام هذا العقل موضع الشك، متسائلاً: كيف يمكننا مثلاً أن نفسر تزايد وحشية الصراعات المسلحة من دون الإلمام بالهيمنة المتزايدة للعلم ولتطبيقاته التكنولوجية؟
 
> وهنا يخلص الكاتب إلى أن اختراع الجنس البشري السلاحَ النووي، أحدث تجديداً يدعو إلى القلق. فالقنبلة من هذا المنظور، تأتي لتكذب القول المأثور أن «لا جديد تحت الشمس» وهي «تأتي لتضع حداً لكل تسلسل التجربة البشرية ولتقاليد الحكمة كلها. مع هذا، فإن السلاح النووي هو نهاية ما توصلت إليه سيرورة عقلانية تلتقي مع سيرورة تدمير للطبيعة. فانشطار الذرة من طريق النيوترون هو الاختراع الجهنمي الذي توصل إليه العقل، هو اختراع يقف ضد العقل ملتفاً عليه ولا يمكن العقل أن يواصل سيطرته عليه والانشطار يتطابق مع نموذج تحرك لا يمكنه إلا أن يستغل واحداً من أسرار الأرض الأكثر رعباً.
 
> وها هنا بالتالي، يكمن تناقض المعرفة الأكثر مدعاة للقلق: فهي تتوصل، بفعل إفراط في العقلانية، إلى إطلاق قوى تشكل أقوى رفض للمعرفة. والعلم الذي يهدف أصلاً إلى السيطرة على الطبيعة، ينتهي به الأمر إلى خلق الاستلاب. «ويا لسخرية القدر! إذ إن الإنسان سيضطر يوماً لإيجاد جواب على ميتافيزيقية الكارثة الرهيبة هذه» يختم الكاتب حول هذه الجزئية من موضوعه، أو وصيته!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد