خلاص تونس في تخليص ليبيا - الحبيب مباركي

mainThumb

14-10-2018 03:26 PM

 تتجذّر الأزمة الليبية راهنا في خيار الصراع المفتوح على جميع الجبهات بين قوى الخارج وقيادات الداخل على حد سواء. صراع بدا معلنا في مضامينه وخفيا في ملابساته بين قوى خارجية دافعة إلى تأجيل الانتخابات وقوى داخلية تأبى الإجماع على صف واحد موحد للرؤى والمواقف بما يخدم جهود التواصل إلى حل سلمي.

 
هذا التحليل يجد مسوّغا له في الأخبار التي تتناقلها الصحف العالمية أبرزها “ذا الصن” التي كشفت مؤخرا عن صراع خفي بين روسيا وبريطانيا حول ليبيا، حذرت بمقتضاه الاستخبارات البريطانية من سعي روسيا لتثبيت موطئ قدم لها في ليبيا، وقالت إن موسكو نقلت جنودا وصواريخ إلى شرق البلاد لتحقيق هذا الهدف.
 
الواقف على ملف الأزمة الليبية يلحظ أن جملة المقاربات السياسوية الضيقة والحلول المبتورة التي قادتها وتقودها الدول الغربية (أبرزها إيطاليا وفرنسا) تعري سعيها المحموم للمحافظة على موقفها البراغماتي النفعي، الذي بدَت هويته مدفونة في التكالب على تقسيم ثروة البلاد، وإطناب أدواته في مزيد النبش في الجرح الغائر لليبيين بمختلف أطيافهم وفق معادلة لا تقبل الجمع بقدر ما تروم العزل والتشتيت. فيما يقف الجيران، خصوصا تونس والجزائر، على ربوة المتابعين للأحداث رغم إدراكهم للحجم الاقتصادي والاجتماعي الوازن الذي تمثله هذه الخاصرة العليلة، إن تعافت وعادت إلى سالف توهجها.
 
ربما يبدو طرح السؤال من منطلق عكسي الأقرَب لفهم هذا الملف الشائك الذي استعصى عن الحل: ماذا تمثل ليبيا بالنسبة إلى جيرانها والأقربين لها في مستوى نسيجها الاجتماعي والاقتصادي المكون؟ أي دور لهؤلاء في تخليص ليبيا من أحوال الاقتتال الذي طال أمده والحرب التي تأبى التوقف والعناصر الوافدة التي تغلغلت في عمق الدولة وأنهكت مواردها بلا اقتدار؟
 
مطلوب بدءا توضيح السيرورة التي أوصلت إلى هذه الرؤية الضبابية قبل البتّ في أمور الخلاص أو تخليص ليبيا من هذا الكابوس المرهق الذي جثم على الأرواح وأذهب العقول دون الثبات على قاعدة أو حل منصف يراعي هموم هذا ويرمّم أحوال ذاك.
 
في المقاربات الجمعية للشعوب، الخلاص فعل “احترازي” يفيد التحرر. الشعوب طمعت في يوم ما إلى التحرر من ذواتها ومن الآخر. هبّة “الربيع العربي” وضعت الجميع في خندق واحد. سارع الكل إلى تصديق “خرافة” الثورة وبنى عليها أحلامه. تونس أولا ثم جاءت مصر تلتهما ليبيا، فاليمن وسوريا والمشهد محفور في الذاكرة. الكل يعلمه.
 
الكل حلم باقتلاع النظام من جذوره. كان لافتا أن هذه البلدان لم تتهيّأ بما يكفي لطوفان كهذا. تناسى الكل الوهم الجارف وحقول الألغام المدفونة في الجغرافيا الواسعة للدولة. أبانت الثورات عن عيوب الأنظمة وفساد إدارتها وسياسييها. رغم أنه فساد لا يقهر لكنه لا يرقى إلى مستوى التغلغل الإسلامي الذي ضرب أركان الدولة في تونس وطمس معالمها ومازال مفعوله ساريا إلى الآن على وقع الأدلة المكشوفة والسرّية.
 
في ليبيا نفس المسار اتخذ تقريبا لكنه بيافطة أخرى جلبت الإسلاميين يتنازعون على السلطة إلى الآن ولا أحد منهم فكّر بالدولة وبسبل إنقاذها. القول إن الدولة غابت في ليبيا أو هي مغيّبة أصلا زمن ما اعتبر بنظام الدكتاتورية، قول وجيه. لكن المعالجة واجبة! نعم المعالجة واجبة في ظرف كهذا اختفت فيه مقدرات الليبيين وذهبت سدى تتناثرها فوهات البنادق وعصابات المافيا المأجورة يمينا وشمالا. فيما جيرانها والأقربون غاصّون بأحجار المناوشات حول الكراسي والمناصب وسجال التحوير من حكومة إلى أخرى وتونس تعطي المثال على ذلك.
 
ماذا في مدونة الرؤساء والخارجيات النشيطة عربيا ليقدموه إلى الملف الليبي؟ أين دور الجامعة العربية من هذا الملف المرهق للإقليم والدولة التي تختنق يوما بعد آخر؟ لماذا يتغافل الكل عن مصير ليبيا؟ لماذا هذا التخندق من الجارة تونس التي تعي جيّدا أن خلاصها في ليبيا طال الزمن أم قصر؟
 
أنست الثورات قادتها والواقفين على معالم الدولة، خصوصا في تونس، لملمة جراح شعوبها المكتوية بمرارة الفقد لدرجة باتت ترى في الأمس المغيّم بدكتاتورية النظام وآلته القمعية ملاذا أكثر آمنا من الحاصر. يذهب البعض إلى تفسير ذلك بمرجعية الحكم إبان فترة ما بعد “الفوضى” التي عمّت البلدين وأتت بالإسلاميين خيارا مرّا لا تزال حركة النهضة في تونس تمعن في أنه طوق نجاة، فيما نغّص إسلاميو ليبيا على الدولة إعادة لملمة جراحها ومنحها النور لكشف طريق خلاصها.
 
ليزول هذا الواقع في كلا البلدين، مطلوب من سياسيي تونس النظر بعمق إلى مكمن أزمتهم وكشف طريق خلاصهم من أين بدايته. الحقيقة عجز الدولة عن إدارة ملفاتها المستعصية، من فساد إلى أزمة العملة إلى اقتصاد عليل ومنهك، وغيرها من المطبات، عمّقته أهوال المشهد السياسي المأزوم الذي كشف عيوب الطبقة السياسية المترهلة والأنانية. في ليبيا نفس الشيء تقريبا عدا أن الدولة تشتغل في تونس رغم الأزمات، لكنها في ليبيا لا تكاد تكون موجودة.
 
ليبيا خاصرة تونس العليلة وجَب إزالة الركام عنها ومداواتها لتعود إلى سالف دفقها. حال تونس لا يتغير إلا بمعرفة سياسييها أي طريق يريدون أن يسلكوا؟ هل نغير مبادئ قيام الدولة أم نغيّر عقلية السياسيين؟ هذا جوهر الموضوع وعمقه! أما في ليبيا فمطلوب عمل شاق لا ينتهي إلا بتخليص الدولة من “زمرة” الواقفين على الأسلحة في كل الاتجاهات وفرض مصالحة حقيقية بين الشعب بمختلف أطيافه ومكوناته، والأهم من ذلك كله زرع ثقافة الإصغاء إلى الجميع من قبائل ومكونات متجذرة في عمق الدولة يجب أن يراعى نصيبها هي الأخرى في الحوار وتشريكها. كل هذا لن يكون إلا بمباركة خطة طموحة تشرك الجميع بلا استثناء من أجل دعم الحوار الليبي والذهاب به إلى مسارات أرقى وأرفع.. هذا دليل لكشف محنة الشعوب ونفض غبار الحرب عن الدول.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد