الأزمات الاقتصادية في الأردن: مابين قِصَر النظر و تعدّد المرجعيات.

mainThumb

18-10-2018 10:06 AM

 الليبرالية النسبية:

 
الاقتصاد الرأسمالي الحر (و بحكم طبيعته وآليات عمله و نزعته ذاتية التصحيح و تلقائية الاستجابة الحرّة المُفترضة فيه) فإنه يتراوح بين حالتي الركود و الانتعاش، وهنا لا يُنسب العيب إلى متخذ القرار في آلية التسيير الاقتصادي بمقدار ما هو آيل إلى عيب النظرية الاقتصادية ذاتها والتي تأخذ من محاذير التطرف ما بين (تحرر تام و إحكام مركزية التوجيه). قد يبدو ظاهريًا بأن الهيكل العام للاقتصاد الأردني هو اقتصاد رأسمالي، لكنه ليس حرًا؛ حيث أن تدخل الدولة التأريخي عبر أدواتها و مؤسساتها المتنوعة يجعل وصف الحرية ممتنعًا بفضل تعقيد المضامين و التفاعلات الداخلية لمؤشرات الاقتصاد الكلي و الجزئي معًا؛ فممارسة الدولة (أي دولة) لأدواتها السيادية الناعمة في فرض القوة القاهرة للقانون في الجوانب الاقتصادية هو ما يجعل تصنيف (الحرية الاقتصادية) نسبيًا و مقارناتيًا، ولذلك نجد دومًا في التصنيفات العالمية وضوح ( التنازلية أو التصاعدية) في تراتبية المؤشرات المرجعية و المعيارية للدول.
 
الحقيقة الثابتة و الواقع المتحرك:
عند خصوصية الحديث عن الأردن و اقتصادياته، فإن جانبين من (الوصف الموضوعي) هما ما يجعلان الصورة أكثر وضوحًا و تجعل القارئ و المتابع على بينة من الأمر، الشق الأول يتناول حقائق الجيوبوليتيكس و طبيعة الموارد، أما الشق الآخر فيتناول الممارسات على الواقع و ما يشوبها من سوء إدارة و فساد. جدية الرغبة في الخروج من المأزق تقع في مقاربات عملانية ذات تداخلات استراتيجية، في جانب منها تتصف بالسياسية و في الجانب الآخر اقتصادية بَحت.
 
الحقيقة تقول بأن ما يهب الله بلدًا من موارد هو ما يضع كثيرًا من العقبات جانبًا، و لكن الواقع يقضي بقدرة الإنسان على توليد الفرص و تطوير الخيارات و تعظيم المكاسب. الدليل قائم في دول مثل: سنغافورة و كوريا و الهند وليس على سبيل الحَصر. وأقل ما يتطلبه النهوض بمؤشرات الدولة الاقتصادية هو استراتيجات عملانية و واقعية و صارمة من شأنها الأخذ بمؤشرات البلدان للأمام، بدءًا بالتعليم فالرعاية الصحية و منظومة العدالة والأمن فبناء القدرات الذاتية وصولا للتنمية و النمو، هذا كله يقع تحت مظلة سياسية تُقرر و توجه الموارد و الأولويات، و تبتدئ المشروع الوطني بانفراجات سياسية تُعزز التمكين و الرقابة الشعبية و كافة قيم و متطلبات الديمقراطية (المستدامة بالمتانة المؤسسية) لأطر الدولة المدنية.
 
الإدارة الاقتصادية أم المالية:
منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1989 كانت خطيئة استبدال (الإدارة الاقتصادية) بعقلية (إدارة الأزمات بالتمويل) حيث وقع كامل الطاقم الاقتصادي في فخ (فقه الأولويات الطارئة) على حساب (المنظور الكلي المستدام) المَعنيّ بحل جذور الأزمة، لا الاكتفاء بمعالجات أعراضها، فكانت النشأة الأولى لنهج (الجباية) بدلًا عن نهج (التحفيز) و دخل الأردن في سلسلة لا تكاد تنفك من المعالجات المُشتَتة و غير المتواترة من خطط تصحيح لم تنجح في تصحيح شئ على أرض الواقع، فالحكومات المتتالية و فرقها الاقتصادية نشأت على فكرة متداولة تسمى محليًا (المشمشية) حيث الاستغراق في (قِصَر النظر) و استرطاب شخصنة التقرير و مردوداته الذاتية، و الاستسلام أمام استحالة الاستمرارية للخطط و الاستراتيجيات المُقرَرة بسبب فقدان عامل الديمومة والاستقرار لطاقم المتابعة و التنفيذ الذي يَرْحَل مع كل إقالة و تكليف حكومي.
 
الفرص و التحديات:
 
قد يبدو في باب الحقيقة افتقار الأردن لموارد الطاقة كالنفط، و مؤكدٌ بأن شُح المياه يُشكل معضلة رئيسية، و لا نكران لتأثير الاضطرابات السياسية و الأمنية في (فلسطين و العراق و سوريا) على النشاط التجاري و تبعات اللجوء، وليس أكثر وضوحًا من صِغَر حجم السوق المحلي و قدرته الاستيعابية، كل هذا يقع في خانة العذر المستند للحقيقة، لكن في الجانب الآخر من الرواية قصة أخرى؛  فالأردن منجم عملاق للطاقة من (خام اليورانيوم) و الصخر الزيتي و مزارع الشمس في جنوبه، و حق الأردن في مياه (نهري اليرموك و الأردن و حوض الديسي و الآبار الجوفية المستدامة) فيه ما يسد العطش، أما الأوضاع السلبية التي سادت لبضع سنين في المحيط العربي فقد تغيرت باتجاه الاستقرار و إعادة الإعمار و فتح المعابر البرية للتجارة والتنقل و باتت فرصة لا مشكلة، أما حجم السوق فما كان ليبقى كذلك لو تم إدارة اتفاقيات التجارة الحرة مع (دول الخليج و الولايات المتحدة و تركيا و فلسطين و العراق و سوريا) بشكلٍ شمولي و مدروس و نفعي المنطلق.
 
سوء الإدارة و تعدّدية المرجع:
 
وقف العمل باتفاقية (التجارة الحرة مع تركيا 2018) شكل مثالًا صارخًا على حجم و مستوى التخبط و سوء الإدارة العامة؛ فكيف يتم الدخول في اتفاقيات بدون الاجتهاد في استشعار و تقييم و تنبؤ الفرص و التهديدات مسبقًا؟! و ما هي الإضافة المتوقعة من إلغاء الاتفاقية أو المطالبة بتعديلها؟! يبدو أن ثمة ضبابية عميقة في هيكلية القرار و توازنات الداخل و تضاربات مصالح الداخل مع الخارج. 
 
في جانب آخر يجدر التساؤل حول مدى الانتفاعية و استدامتها في (اتفاقية التجارة مع الولايات المتحدة) و إلى أي مدى جرى العمل على توطين الوظائف ذات العلاقة، و كيف يمكن تعظيم المكاسب استراتيجيًا منها؟. كذلك ينبغي العمل بجدية على (ملف إعادة الإعمار في سوريا و العراق) والذي يبدو أنه فرصة تاريخية ما كان ينبغي تفويتها لجهات إقليمية و دولية أخرى.
 
فرص اقتصادية واعدة:
 
الأردن يمتلك من القدرات الاقتصادية الكامنة الكثير، و في حال جرى العمل على تعظيم مسالك الفرص وحسن استثمارها و إدارتها استراتيجيًا، فإنه من الممكن خلق حالة اقتصادية جديدة بالكلية. محليًا يوجد بضعة قطاعات واعدة اقتصاديًا و تتسم بالاستدامة، الصحة و التعليم و السياحة و الطاقة الشمسية و تعدين (البوتاس و الفوسفات و اليورانيوم و الصخر الزيتي). 
 
إن الاستمرار بالطريقة المتبعة حاليًا في إدارة الموارد و الإمكانات لا  تُبشّر بالكثير نظرًا لتعددية المرجعيات في القرار و تشتت المصالح و تباين القراءات. الدولة الأردنية اليوم أما خيارات آخذه بالتَضيُّق، ولم يعد في باب (ترف الوقت) التفكير في الحلول، فالدولة، كل الدولة، مَعنيَّةٌ اليوم في تأطير حالة وطنية شمولية تأخذ الاقتصاد لآفاق أكثر رحابة، و البداية تكون في تغييرٍ جذري لهياكل التعليم و توطين المعرفة و استقطاب الاستثمار في المشاريع الكبرى (آنفة الذكر) و صيانة البنى التحتية المتهالكة، و الأهم من ذلك بناء حالة جاذبة و مُثبِّة للاستثمار، وكل ذلك يتطلب البدء بالتفكير خارج الصندوق، و خارج النمط التقليدي للقرار، ولعل تطوير آليات و هيكلية السلطة و القرار تعتبر الخطوة الأسبق في كل ذلك.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد