قصة الملكة بلقيس في القرآن الكريم

mainThumb

25-10-2018 02:32 PM

 الحلقة الثالثة عشرة 

 
 جاء الحديث عن الملكة بلقيس، في معرض الحديث عن النبي سليمان، وما اتاه الله من معجزات، بما فيها أنه سبحانه علمه منطق الطير. وأنه عليه السلام، عندما تفقد الطير، لم يجد الهدهد بينها، فأخذ يتوعده ويهدده بما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: (فقال ماليَ لا أرى الهدهدَ أم كان من الغائبين * لأُعذِبَنَّهُ عذاباً شديداً أو لأذبَحَنَّهُ، أوْ ليأتيَنِّي بسلطان مبين)
 
 بعدها حطّ الهدهد بين يديّ سليمان عليه الصلاة والسلام عائدا، مبيناً له سبب غيابه، وأنه جاء بمعلومة يجهلها سليمان نفسه، مخبرا أنه وجد في سبأ أمراً عجيباً، امرأةً تحكمُ البلاد والعباد، وتسيطر على مقدرات الأمور , وقد بلغت مبلغا عظيما من الغنى والسلطان والنفوذ والجمال، وأما عرشها الذي تجلس عليه فهو عرش عظيم، لم أرى في الدنيا ملكاً له مثل عرشها، كله فخامةً وروعةً وجمالاً وأُبّهةً، والعجب العجيب من أمر هذه الملكة  رحمها الله ,  ومن تحكمهم، انهم يعبدون الشمس من دون الله الملك المستحق وحده , عز وجل للعبادة. 
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) , ونجد هنا النص القرآني ( فمكث غير بعيد) , التي جاءت على اطلاقها , مدة ومكانا , وبالتالي فإننا من خلال  هذا النص الكريم , نستبعد ابتداء , ان تكون بلقيس باليمن , وانما في موقع قريب ( غير بعيد),  بحيث لا يحتاج السفر منه واليه , طويل مسافة او وقتا او مشقة زائدة , وهذا ما جعل بعض المؤرخين يرون انها  في فلسطين , وهذا مستحيل , وان عدم معرفة سليمان بها , وعدم احاطته بها , يدل على انها لم تكن في فلسطين , وانها كانت في الجوف/ أدوماتو / دومة الجندل شمال جزيرة العرب  , وهو المكان غير البعيد , ولكنه غير القريب ايضا , المختفي عن الأنظار . 
 
وان النص الكريم في الحديث عن ارسال الهدهد في مهمته، في أكثر من مرة، يبرهن أن المكان غير بعيد، وكذلك سفر الملكة، ومعها علية القوم، وقادة الجيش والملأ، والحراس اذ لا يمكن ان يتيسر سفرهم لمسافات بعيدة، أي انهم لم يأتوا من اليمن، وانما من الجوف الأردنية.
قال تعالى على لسان الهدهد: قال: يا نبي الله﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾[النمل: 23، 24]، قال سليمان:﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾[النمل: 27]، فقبل سليمان عليه الصلاة والسلام اعتذار الهدهد، فكتب سليمان رسالة الى ملكة سبأ، وكلف الهدهد بحملها وقال له: أوصلها اليها , دون أن تشعر بك الملكة أو تراك , أو يراك أحد من جنودها، وتوارى عن الأنظار,  وانظر من بعيد ماذا يحدث من أمرهم، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى:
 
(قال سننظرُ أصدقتَ أمْ كنتَ من الكاذبين * اذهب بكتاب هذا فألقِهِ إليهم ثم تولَّ عنهم فانظر ماذا يرجعون)
 
حمل الهدهد الرسالة، وطار بها الى سبأ في الجوف الأردنية /دومة الجندل، التي كانت تسمى أدوماتو، وحطّ رحاله عند نافذة مخدع الملكة، وتفقد الغرفة من الداخل، وعندما لم يرى أحداً، ألقى بالكتاب فوق سرير الملكة، ثم عاد الى مكانه الى النافذة، يواري نفسه خلف ستائرها الفخمة، ليسترق السمع ويراقب ماذا سيحدث تماما، كما أمره سيده سليمان عليه الصلاة والسلام.
 
وما أن اوت الملكة الى مخدعها، وقد استعدت الى النوم، حتى فوجئت بلفافة مطروحة على سريرها، وفتحتها وقرأت ما فيها، وأخذت تتلفت يمنة ويسرة، علها تجد اجابة لسؤالها: كيف وصلت الرسالة الى سريرها. ومن الواضح ان الرسالة كانت مكتوبة بلغة تعرفها الملكة بلقيس، وأنها كانت تعرف أكثر من لغة في ان واحد، وان قومها كانوا يعرفون أكثر من لغة أيضا، لحاجتهم الى اللغات في التعامل التجاري، وان المجتمع كان متحضرا وراقيا بحيث يعرف أدأب الشعوب الأخرى.
 
     حيث يشير القران الكريم انها قرأتها مباشرة، وفهمتها دونما ترجمة او ترجمان، وفي هذا دليل على المستوى الراقي الذي وصل اليه الأردنيون في زمن الوثنية، وانهم شعب عريق ومتحضر، وصاحب فكر ومنهج سياسي، وليس قبائل مبعثرة او متناحرة او متنافرة، بل مجتمع متحضر غاية الحضارة والتقدم والرقي. كما يدل ان الأردنيين في الجوف كانت لديهم الانارة للبيوت في الليل، والا كيف رأت اللفافة لولا ان الغرفة كانت مضاءة؟ كما ان سليمان الذي لا يعرف عن هذه الملكة والمملكة شيئا، وهي تعرف عنه كل شيء، لا بد وكتب اليها بلغته، وهو يجهل لغتها، ولكنها لا تجهل لغته، وبالتالي لا بد وأنها أرسلت اليه الإجابة بلغته هو، وليس بلغتها هي.
 
    وهكذا كان من ذَهاب الهدهد ووضعه الرسالة على مخدع الملكة، وينتقل القران الكريم مباشرة إلى الملكة وسط مجلس المستشارين، وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها وقادة الجيش والامن والكهنة ورجالات الدولة والمملكة وزعماء العشائر وسائر علية القوم والمستشارين، رسالة سليمان: 
(قالت يا أيها الملأ أنى أُلقيَ اليَّ كتابٌ كريم * انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم * ألّا تعلوا عليَّ وأْتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنتُ قاطعةً أمراً حتى تشهدون * قالوا نحنُ أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديد والأمرُ اليكِ فانظري ماذا تأمرين * قالت انّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّةَ أهلها أذلّةً، وكذلك يفعلون * واني مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ فناظرةٌ بمَ يرجِعُ المرسلين) ﴾[النمل: 29 -31]، 
 
  وصفت هذا الكتاب   ولم تبين شكها في اخلاص قومها   بل قالت ألقى الي، أي الى غرفتها حيث يستطيع أحد ان يدخل مخدعها الا بأمر خارج عن قدرة البشر، قالت انه ألقى اليها دون ان تعرف كيف دخل مخدعها وكيف تم القاؤه على سريرها، ووصفته بانه كتاب كريم، وهي لا زالت كافرة، هذا هو نَص خطاب سليمان لملكة سبأ، أنه يأمرها في خطابه أن يأتوه مسلمين، كان هذا كلامًا واضحًا من لهجة الخطاب القصير المتعالية.  
 
      وهي ملكة بالمنصب والأخلاق   وهي تصف الكتاب القادم من النبي انه كتاب كريم , ولم تصفه بأية صفة مهانة,  او تقليل شان ابدا .ثم وضعت الرسالة الجوابية , في الموقع الذي وجدت فيه الرسالة الأولى , لأنها لا تدري من جاء بها ومن سيأخذها , وبعد ان وضعتها اختفت أيضا بطريقة رشيقة , وهي الطريقة ذاتها التي وصلتها بها الرسالة القادمة من سليمان عليه السلام .انها تعرف ان سليمان يحكم الجن والشياطين والطير والوحوش , ولا بد ان احد جنوده من هؤلاء , هو من حمل الرسالة اليها , وهو من سيحمل الرسالة الجوابية من عندها اليه .
   وبعد قراءة الكتاب طرحت الملكة على الملأ ( رؤساء )  قومها الرسالة: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 32]،ولكن الرسالة بلهجتها المتعالية المهينة لهم والخادشة لكبريائهم الوطني وعزتهم وانفتهم ,  أثارت غرور القوم وأحاسيسهم بالقوة واستعدادهم للتحدي والمواجهة : ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [النمل: 33]، أراد رؤساء قومها أن يقولوا: نحن على استعداد للحرب، ولكن الملكة كانت أكثر حكمة من رؤساء قومها؛ فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرَها وحكمتها ورجاحة عقلها , أكثر مما استفزَّتها للحرب. كانت رؤوسهم حامية ورأسها بارد، وفي الظروف الحالكة فان الراس البارد هو الذي يتخذ القرار الأنسب والأكثر حكمة.
 
       ثم، وفي اليوم التالي وما بعده، أوعزت باستدعاء جميع أعضاء مجلس الحكم والشورى، ورجال الدولة، وقادة الجيش، وزعماء العشائر ورجال الكهنوت، وأعضاء التشريع، وامراء الولايات (الملأ)، لعقد جلسة طارئة في منتهى الأهمية، وما أن اجتمعوا بين يديها، حتى جلست على عرشها، ثم قصّت عليهم قصة الرسالة، التي وجدتها على سريرها.
 
    ولأن الملكة وقومها يعلمون قوة سليمان عليه الصلاة والسلام ونفوذه وسلطانه وهو لا يعلم عنهم شيئا، وانه جادٌّ بتحذيره وانذاره، فقد جمعت مستشاريها، وطلبت منهم الراي والمشورة، وطلبت إليهم الاتفاق على موقف موحد فيما بينهم، فقالت لهم: يا أيها الملأ! أنى أعلم وبحكم خبرتي وتجربتي,  أنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا اعزة أهلها اذلة , وانتم اعزة مملكتي ولا اريد رؤيتكم ونفسي في المهانة والذلة , ولا اريد افساد بلدنا وتدمير منجزاتنا , من قبل سليمان وجنوده ,بل انني  لا أريد لبلدي أن يتعرض لمحنة قاسية , على أيديهم، واني سأرسل له هدية, اختبر  من خلالها حقيقة نواياه، فوافقوها رأيها , وطريقة معالجتها للأمر، ثم امرت بجمع  ما قلّ حمله وارتفع ثمنه,  من الجواهر واللآلئ والطيب , وكل شيء نفيس، وبعثت بها الى سليمان عليه الصلاة والسلام، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
 
          فكَّرت الملكة طويلاً في رسالة سليمان، قبل الافصاح عنها وقبل عرضها على الملأ , ولم يكن اسم سليمان  مجهولاً لديها، وان كانت وملكتها مجهولة لديه لحكمة ارتاها الله سبحانه وتعالى, وليكون هذا الطائر الضعيف يعرف عنها قبل ان يعرف قبل سليمان ، وان كان سليمان النبي الملك الذي يحكم الجن والريح والشياطين، لا يعلم عنها ولا عن مملكتها شيئا، رغم انه نبي وتتحدث عنه التوراة خوارق غير مقنعة، ولا تتفق مع الحقيقة، ولكن بلقيس  لم تكن تَجهَل قوَّته، وان كان هو يجهلها ويجهل قوتها . 
 
ومن الواضح ان بلقيس وأركان دولتها وشعبها كان لديهم المعلومات الكاملة عن سليمان وحكمه على الجن وانه نبي ويتعامل مع عالم الأرواح والغيب والسماء، وأنها كانت تعرف انه قوي، إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها قولا وفعلا بطعم من السماء وهو الامر الذي ينقصها ومملكتها، وتعرف انه إذا قال فعل، ويستطيع تدميرها وان يعيث فيها فسادا ويسوقها وقمها اذلاء، ليس بسبب قوته العسكرية الادمية وانما بسبب معجزاته وكراماته ودعم السماء له.
 
    ولو ان الامر اقتصر   على القنال والمعارك الأرضية أي رجل مقابل رجل، وسلاح مقابل سلاح وجيش مقابل جيش بدون هذه المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، لما تصرفت بلقيس ما تصرفت ولما قالت ما قالت. وبناء عليه فقد رجحت الحكمة في نفسها على التهور، والعقلانية على الطيش، وبعد النظر على ضيق الصدر، وبرود الراس على المزاج، وقرَّرت أن تلجأ في بداية المشوار والحوار والمطاف إلى اللين والنعومة وكما يقولون بالأردني ناعم الرجال اكل خشنها أي ان الناعم يتغلب على الخشن الفض الغليظ.
 
  وجدت ان الاجدى ان تبدا بالعادة الأردنية وهي ان  تُرسِل إلى سليمان بهدية ( تهادوا تحابوا وهو حديث شريف لكنه جزء من ثقافة العرب المحببة  ) وقرَّرت في نفسها أنه ربما يكون طامعًا بالمال ,  لما سمعه عن ثراء مملكة سبأ  , وربما دار في خلدها ان المعلومات عن بلادها جاءت بوحي من السماء وبالتالي لا تستطيع ان تخبئ الحقيقة , ، فحدَّثت نفسها بأن تُهادِنه وتلاطفه وتظهر له المودة وانها لا تريد محاربته ولا مخالفته , وانها ستحقق له ما يريد دون ان يتكلف الحرب ولا ان تدفع ثمن العصيان ولا ان ترى منجزاتها قاعا صفصفا .
 
   قررت ان تشتري السلام منه بهديَّة، وقرَّرت في نفسها أيضًا، أن إرسالها بهدية إليه يُمكِّن (بتشديد وكسر الكاف) رسلها الذين سترسلهم من دخول مملكته، وسيكونون عيونًا لها بالطريقة الأردنية التي لا زالت مثلما هي الى الان، حيث قوة الملاحظة والاستنتاج، لكي يرجعون اليها بأخبار قومه وجيشه، وامكاناته ونواياه ومخططاته تجاههم.  وفي ضوء هذه المعلومات، سيكون تقديرها للموقف الحقيقي اللازم، الذي تتطلبه الظروف والمستجدات، لكي يكون قرارها مبنيا على الخبر اليقين والمعلومة الصحيحة لان المعلومة الصحيحة تؤدي الى اتخاذ القرار الصحيح والخاطئة تؤدي الى اتخاذ القرار الخاطئ.
 
  وأقنعت رؤساء قومها بنبْذ فكرة الحرب مؤقَّتًا، او تأجيلها مع الاستعداد للمعركة، أي وقف التنفيذ بالحرب وبدء التنفيذ بالسلام، واقتنَع رجال دولتها وقومها بخطتها هذه، حين لوَّحت الملكة بما يهددهم من أخطار في ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا اعزة أهلها اذلة.
 - ثم قالت: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35].
 
      ارسلت الملكة بلقيس رجالها يحملون الهدايا الثمينة النادرة، وقد كلفتهم بمهمات استخبارية واستطلاعية أخرى، كما قلنا، وهي استطلاع المعلومات عن قوة سليمان؛ لتُقرِّر موقفها بشأنه بكل شفافية ودقة، فالمر لا يحتمل الخطأ، بل ان الخطأ في مثل هذه القرارات مساوي للخيانة.  ولكي يبين سليمان قوته، نادى في المملكة كلها أن يُحشَد الجيش من الملائكة والانس والجن والشياطين والوحوش والطيور، ويظهروا بأقوى ما يمكن ان يظهروا عليه من استعراض القوة والمنعة، امام وفد الملكة بلقيس، من باب الرعب بالإيحاء.  
     ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة من الجند المدجَّجين بالسلاح، ففوجئ الرسل بأن غناء بلدهم وثراءها، سيكون فريسة سهلة التدمير على يد سليمان وجنوده، إذا ما غزو مملكة سبأ، وان راي الملكة كان حكيما وهو الأفضل والاصح، وقد رأوا في جيشه أسودًا ونمورًا وطيورًا﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾، حيث تم استعراض الجيش بأنواعه واشكاله امام وفد الملكة، الذين أدركوا أنهم أمام جيش لا يُقاوَم.
 
       فلما انتهى استعراض الجيش، دُعي السفراء مملكة الضيوف إلى مأدُبة الغداء، على مائدة الملك سليمان، وفوجئوا بأنهم أمام أطعمة من أرجاء الأرض المختلفة، ومنها أطعمةٌ تشتهر بلادهم بإنتاجها، وكانت مائدة الطعام تَضُم طيورًا وأسماكًا ولحومًا لم يستطيعوا تمييزَها.
       نظر سليمان إلى هدية الملكة بلقيس ، وأشاح ببصره عنها ؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: 36]، وأفهم السفراء أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال، ويستطيعون شراء رضاه بشيء آخر وهو: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 31]، وعاد سليمان يتحدَّث ببطء: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37]، ثم بعد ذلك صرَف الملكُ سليمان رسلَ الملكة، بعد تهديده الذي بدا أمام أعينهم فاجعًا وحاسمًا في الوقت نفسه . 
      وعاد رسل الملكة الى سبا بعدما سمعوا ورأوا ولمسوا، واقترحوا عليها ان تقوم هي بالزيارة الى سليمان، حيث حدَّثوها عن قوته، واستحالة صد جيشه، وجهَّزت الملكة نفسها، وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان. واخبرته انها قادمة اليه، ولا شك ان هذه المراسلات اخذت أشهرا طويلة، ونحن نرى انها سافرت في فصل معتدل الطقس وهو فصل الربيع، او بدايته او نهايته، ولا يمكن ان تكون سافرت في الصيف لحره ولا في الشتاء لقرة.
 
وكان الهدهد ابلغ الملك سليمان، عن عظمة عرش الملكة بلقيس (ولها عرش عظيم)، وكانت حجرة وكرسي العرش آيتان في فن الصناعة والسبك، وكانت الحراسة لا تغفُل عنهما على مدار الساعة، لكن سليمان امر بإحضاره بين يديه قبل مجيئها، لتجلس عليه حين تجيء، يريد أن يَبهَرها بقدرته التي يستمدُّها من إسلامه؛ لتُسلِم هي الأخرى.﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]: ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ [النمل: 39] .: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]، لم يكد الذي عنده عِلم من الكتاب يقول جملتَه، حتى كان العرش مستقرًّا عند سليمان، استغرق إحضاره أقل من رمشة العين حين تُغلَق وتفتح، هذا هو العرش ماثلاً أمام سليمان، فتأملَّ تصرُّف سليمان بعد هذه المعجزة!!
 ؛﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾[النمل: 41]، وأمر أن تُصنع أرضية القصر من زجاج ثمين شديد الصلابة، وتَمَّ بناء القصر ومن نقاء الزجاج الذي صُنِعت منه أرض حجراته، لم يكن يبدو أن هناك زجاجًا.
ويتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين:
 
• موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء، وقد تركتْه وراءها وعليه الحراسة الشديدة المشددة.
 
• موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تَسبَح تحتها الأسماك:
 
﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾[النمل: 42].
 
تُصوِّر الآية موقف الحوار بين سليمان وبلقيس، نظرت بلقيس إلى عرشها تمامًا، فإذا كان عرشها فكيف سبقها إلى المجيء؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف أَمكن تقليده بهذه الدقة، قال سليمان وهو يراها تتأمَّل العرش﴿ أَهَكَذَا َعرْشُكِ ﴾، قالت بلقيس بعد حَيرة قصيرة:﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾.
قال سليمان:﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾[النمل: 42]، لقد سبَقها سليمان إلى العلم بالإسلام، بعدها صار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى.
 
هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس: أدركت أن هذا هو عرشها سبقها إلى المجيء، ونُكِّرت فيه أجزاء وغيّرت أجزاء، وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان، فأي قدرة يَملِكها هذا النبي؛ أي: سليمان؟! ثم انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصِلته بالله، ثم انبهرت بما رأته من تَقدُّمه في الصناعات والفنون والعلوم، وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وحكمته وعِلمه:﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾[النمل: 43].
 
رأت عقيدة قومها الوثنية تتهاوى هنا أمام عقيدة  سليمان التوحيدية ، وأدركتْ أن الشمس التي يعبدها قومها ليست إلا مخلوقًا، خلقه الله تعالى الذي يعبده سليمان , وسخَّرها للعباد : ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، قيل لبلقيس: ادخلي القصر، فلما نظرت لم ترَ الزجاج، ورأت المياه وحسِبت أنها ستغوص في البحر، وكشفت عن ساقيها حتى لا يتبلَّل ازارها، ونبَّهها سليمان دون أن ينظر , أن لا  تخاف على ثيابها من البلل، بأنه ليست هناك مياه، بل إنه صَرْح ممرد من قوارير؛ إنه من زجاج ناعم.
 
اختارت بلقيس هذه اللحظة لإعلان إسلامها، اعترفت بظلمها لنفسها بالكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وتَبِعها قومها على الإسلام، أدركت أنها تُواجِه أعظم ملوك الأرض أحد أنبياء الله الكرام. وقالت (مع سليمان) اعتزازا بنفسها كملكة وأنها ليست تبعا له وانما عبدا لله سبحانه كما هو سليمان عبدا لله جل ووعلا، فهي وسليمان متساويان بالعبودية لله سبحانه لكنها امنت بعده أي بسبب وعلى يديه، وهذا واضح من نص قولها في القران الكريم (واسلمت مع سليمان لله رب العالمين) فهي متساوية معه في العبودية لله ودرجة الملوكية، ولكن ايمانها جاء بعد ايمانه وعلى يديه (واسلمت مع سليمان)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد