جامعة اليرموك رحلة من رحلات الندوي الإيمانية - د. احمد الجوارنه‎

mainThumb

13-11-2018 08:27 AM

وأنا أقلب الانتاج العلمي للعلامة الهندي الكبير "ابو الحسن علي الحسني الندوي" رحمه الله ، وهو في الحقيقة انتاج علمي غزير جدا ، فقد الف الندوي ما يزيد على مائة مؤلف باللغة العربية والانجليزية والأوردية والهندية ، ساهم من خلاله في تنشيط حركة الدعوة الاسلامية ، ونشر الوعي الديني عند المسلمين في الهند وفي الوطن العربي والعالم ، وكلنا يعرف أحد أبرز مؤلفاته الذي حمل عنوان:" ماذا خسر العالم بأنحطاط المسلمين" ، الذي ادعوا كل طالب ومثقف الى قراءته وتأمله ، وأنا اقلب تلك المؤلفات العلمية العظيمة والتي جاءت جميعها في حقل نشر الدعوة الاسلامية في الخافقين ، عثرت على كتاب او كتيب من كتب الندوي" وهو بعنوان :" رحلة الإيمان من صنعاء الى عمان"من منشورات المجمع الإسلامي العلمي(ندوة العلماء) لكهنو الهند ، 1404هـ/1984م ، وتوقفت عند عنوان الكتاب ، وتساءلت لماذا استحضر الندوي مدينة عمان بعناون كتابه ، وجعل زيارته اليها من الزيارات الإيمانية ؟ الأمر الذي اضطرني الى تقليب صفحات الكتاب وقراءة عناوينه ، الى ان حطني شوق التطواف والترحال الى العنوان الهام :" الشخصية الإسلامية ووجوب المحافظة عليها " واذا بها لما قرأتها عبارة عن محاضرة القاها العلامة الندوي على طلبة جامعة اليرموك سنة 1404هـ/1984م .
 
يا الله .. ويا لله ، الندوي يحاضر في حرم جامعة اليرموك سنة 1984 ، انه لخبر عظيم ومفرح ، وانه لشرف كبير ان تستقبل مدينة اربد وجامعتها العريقة (اليرموك) علما من أعلام الأمة الاسلامية عبر تاريخها كله ، ومع ان لي خدمة طويلة في جامعة اليرموك ، فأنني لم أسمع من أحد المدرسين أنه استمع لمحاضرة الشيخ الندوي ، او انه سمع بها ، وهذا الذي أثار استغرابي وجعلني اتفاجأ بتلك المحاضرة القيمة والتي تشكل رسالة حضارية لأمة وشباب الإسلام في الأردن والعالم العربي والاسلامي ، بل والعالم كله .
 
  كان العلامة "ابو الحسن الندوي" قد ألقى اثناء زيارته الى الأردن محاضرة في مسجد سيدنا عمر بن الخطاب في مدينة الزرقاء، في 27 رجب 1404هـ، بعنوان:" من معاني الإسراء والمعراج" ، ومحاضرته في جامعة اليرموك جاءت في نهاية شهر رجب سنة 1404هـ، والتي حملت عنوانا قيما :" الشخصية الاسلامية ووجوب المحافظة عليها" ، فبعدما حمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال:"
 
 
" أما بعد ، إخواني وأخواتي ، يُسعدني ويشرفني أن أتحدث اليوم في قاعة جامعة اليرموك ، الجامعة التي أقترن أسمها بأسم أكبر معركة في تاريخ الخلافة الراشدة ، المعركة الحاسمة الفاصلة في التاريخ ، التي نستطيع أن نقول أنها غيرت مجرى التاريخ ، لإنه يلذ لي ويشرفني أن أتحدث في هذا الجامعة العزيزة المنسوبة الى اليرموك ، الجامعات كثيرة في العالم ، وبلادي(يقصد الهند) التي انتمي اليها هي مليئة بالجامعات ، ولكن هذه الجامعة بأنتسابها الى اليرموك حبيبة الى نفوسنا ، فلها صلة عميقة متغلغلة في أحشاء المسلمين ، مالكة عليهم المشاعر والعواطف ".
 
 
 فلليرموك موقع عشق أزلي في وجدان العلامة الهندي ابو الحسن الندوي ، ووجدان كل المسلمين في الهند ، فجميعهم يفاخرون الدنيا بتلك الملحمة البطولية التاريخية الفريدة في التاريخ ، والتي كان لها من الشئون والنتائج ، والمقدمات والمخرجات ما كان في صالح الإسلام والمسلمين ، بل جعل الندوي ذكر اسم اليرموك محركا للعواطف ، ومثارة للمشاعر والوجدان ، عنده وعند أغلب المسلمين في شبه القارة الهندية ، لا سيما العلماء منهم ، العلماء الذين درسوا جيدا وبعمق تاريخ بطولات العرب المسلمين في القادسية واليرموك وغيرها من ساحات الوغى ، وقد قصّ العلامة الندوي علينا قصة في محاضرته تدل على عمق الإنتماء والولاء لحضارة الإسلام وأمجاده وتاريخه ، حيث قال:
 
 " أذكر أنه كان من الأعراف الشائعة ومن العادات المنتشرة في أسرتنا ، أنه اذا وقع هناك حادث مُفجع ، مثل موت بعض أعضاء الأسرة – حماكم الله وبارك في حياتكم وحياة الجميع- كان الطريق الوحيد للتسلية ، والتغلب على الاحزان الشخصية والعائلية ، قراءة  الملحمة الإسلامية التي نظمها أحد أفراد أسرتنا ، وهو عم والدي رحمه الله تعالى(السيد عبدالرزاق الحسني الندوي) ، فقد نقل كتاب "فتوح الشام" للواقدي  الى الشعر الأردي نظما ، فتضمنت الملحمة خمسة وعشرين ألف بيت (25000)، وكله حماس إسلامي كأنها نار متأججة من الحماسة الإسلامية والشعر الإسلامي والغيرة الإسلامية ، وكنت طفلا صغيرا ، وكنت أتردد الى هذه المجالس للسيدات وفيها أمي ، فأرى الدموع تنهمر من العيون ، والإيمان يتجلى في وجوههن المشرقة وفي قلوبهن الرقيقة ، وكنت لا أفهم هذا المعنى لأنني في الرابعة او الخامسة او السادسة ، كُنّ يسمعن أخبار الغزاة في معركة اليرموك وفيهم السيدة خولة بنت الأزور رضي الله عنها ، كُنّ ينسين حزنهن وكن يشتركن في هذه المعركة حماسا إسلاميا ولإيمانيا ، كُنّ يستحضرن فداء المسليمن في سبيل الإيمان ، وفي سبيل الدين ، فكُنّ يستقللن ما أصاب العائلة من حزن ومن كآبة " .
 
لقد فهمنا من محاضرة العلامة الندوي ، انه وعلماء الهند ، بل وسكانها من المسلمين كانوا يجددون إيمانهم وعزائمهم وشعورهم القومي الإسلامي من خلال تدارسهم لسير أبطال اليرموك ، الذين سطروا بدمائهم ورجولتهم وإيمانهم وعزيمتهم ملحمة تاريخية بكل ما تحمل الملحمة التاريخية من معنى ، معتبرا ان لمعركة اليرموك فضائل كبيرة على صمود المسلمين الهنود في معاركهم الدعوية في نشر الإسلام والمحافظة على الهوية من خلال المعارك الثقافية والحضارية التي يخوضها أخواننا المسلمين في الهند ، فملحمة اليرموك ساهمت ، كما أكد الندوي في أكثر من موضع في محاضرته ، على احتفاظ الهنود المسلمين بشخصيتهم وهويتهم الاسلامية ، يستمدون منها الإيمان العميق والعواطف الجياشة ، والحماسة والثقة العميقة الشاملة ، حتى ساقنا الندوي الى إبراز مظاهر المواجهة والصراع بين المسلمين وبين  أكبر وأرقى حضارتين في التاريخ البشري يومذاك ، الحضارة الرومانية والحضارة الساسانية الإيرانية ، ليقول:
 
 " لكن عبقرية الصحابة رضي الله عنهم قد تجلت بأروع شكل وفي أجلى مظهر في المعركة المعنوية التي قامت في ذلك الحين بين الصحابة رضي الله عنهم وبين الحضارة الرومانية والحضارة الساسانية الإيرانية ، الحضاراتان اللتان قد ضربتا الرقم القياسي في الأناقة وفي الرقة وفي الخيال ، واجه الصحابة رضي الله عنهم وهم نشأوا في صحراء العرب القاحلة الجدبة بشكل عام ، نشأوا نشأة صحراوية في الأخبية والخيام ، وعلى متون الخيل وظهور الأبل ، لم يجرب هذه الحضارة الراقية إلا بعض من دخل بلاد الروم وبلاد فارس ، إنهم نشأوا نشأة محدودة قاصرة ، يلتفون الأرض ، ويقتاتون بلحوم الإبل ويسكنون في الخيام ، إنها كانت محنة عظيمة أيها الأخوان ، إنهم لما خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله ، وليخرجوا الناس على حد تعبير أحدهم وهو سيدنا "ربعي بن عامر" رضي الله عنه ، "ليخرجوا الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد وحده ، ومن ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام" ، لما خرجوا بهذه الرسالة واجهوا حضارتين معقدتين راقيتين من أرقى الحضارات البشرية التي عرفها التاريخ ، وقد كتب لهاتين الحضارتين عدة قرون لتتقدما في مضمار الرقي ومضمار الآداب والشعر والخيال والصناعة ، ...، وتتطيعون أن تعرفوا مدى ما وصلت اليه المدنية الفارسية ، أن يزدجرد آخر ملوك فارس ، لما أضطر الى أن يُغادر بلاده فارا بحياته ، أخذ معه ألف طاه ، وألف مغن ، وألف مرب للصقور ، وكان يستقل هذا ، ويقول يا ويلتاه ، يا حسرتاه ، أحمل هذه القلة من الطهاة ومن المغنيين ومن مربي الصقور ، كيف أعيش؟".
 
 لقد أفلح العلامة الندوي حينما شخص لنا صورة الشخصية الإسلامية وكيف ولدت ونشأت وتكونت ، وكيف حافظت على نسقها وطبيعتها صافية نقية برغم انغماس العرب المسلمين بحضارات راقية في فنونها وآدابها وعلومها ومعارفها وعمارتها ، كانت المعركة معركة حضارية بكل المقاييس ، فبرغم ما كانوا عليه مجتمع الصحابة رضي الله عنهم من بدائية ، وانهم – كما وصفهم الندوي – كأنهم في طفولة من الحضارة ومن المدارك العقلية ، الا أنهم استطاعوا ان يحتفظوا بشخصيتهم الإسلامية القوية إزاء هذه الحضارات ، وفي هذه المعارك الدقيقة وما فقدوا شيئا من عاداتهم الإسلامية العربية وما ذابوا وما انصهروا في بوتقة المدنية القوية التي أصهرت عناصر كثيرة ، ولم يحتفظوا بشخصيتهم الإسلامية العربية فحسب ، بل استطاعوا أن يحتفظوا بمدنيتهم العربية ، وبحضارتهم الإسلامية .
 
 
  
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد