الشتاء العربي والتنبؤات المكذوبة - إميل أمين

mainThumb

13-11-2018 03:33 PM

لماذا يحاول البعض العودة بالتاريخ إلى الوراء مرة أخرى وهم يعلمون تمام العلم ما قاله كارل ماركس من قبل: «التاريخ لا يعيد نفسه، لأنه لو فعلها لأصبح في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة»؟

أما العودة غير المحمودة التي نتحدث عنها فتتصل بمنطقتنا العربية التي ما فتئت تتخلص من السموم التي خلفها ما أطلق عليه «زمن الربيع العربي». وعليه؛ فإن استطاعت دول عربية بعينها أن تطرده ومنظومته الهدامة من الباب، فها هو يتخفى ويحاول العودة من الشباك مرة جديدة، وتحت أعذار ومبررات منحولة.
 
كثير من الظواهر والمظاهر تكاد تنبئنا بأن هناك محاولات جادة تجري في المنطقة الشرق أوسطية لتكرار سيناريو يناير (كانون الثاني) 2011 وما استتبعه من خراب مبين. وكتابات شتى تجرى على الصحف يمكن تصنيفها دون تهوين أو تهويل في باب «التنبؤات الكاذبة» التي تحاول تحقيق ذاتها بذاتها، رغم إدراك أصحابها مدى خداعها، لكنها السياسة ومؤامرتها، والصراعات وأدواتها، ما بين خطط شريرة تحاك في الظلام، وصراعات على الأرض تمارس في الزحام.
 
«الشتاء العربي آتٍ»، هكذا عنونت مجلة «أتلانتيك» الأميركية في الأيام القليلة الماضية مقالاً طويلاً عريضاً تحاول من خلاله الترويج لشهوة قلب البعض في دوائر سياسية بعينها حول العالم، تتطلع إلى إطاحة استقرار ما تبقى من دول المنطقة.
أولى أدوات وكلمات الإثارة المستخدمة عمداً في المقال تعبير «المعسكر المضاد للثورات»، وكأننا أمام تقسيم حقيقي لا وهمي بين جماعتين في داخل كل دولة عربية، وفي العالم العربي برمته... بين صناع الثورات ورافضيها، وهو تقسيم يكاد يكون مانوياً كالقول: «الذين معنا والذين علينا»، أو «جماعتي الأخيار والأشرار».
 
لكن ليسمح لنا الكاتب بأن نسائله عن أي ثورات يتحدث، هل عن الثورات التاريخية أم نظيرتها الديمقراطية؟ التقسيم هنا في واقع الأمر ليس من عندياتنا، ولكنه مستعار من ثعلب السياسة الأميركية العجوز هنري كيسنجر الذي لا يزال ينطق، وعنده أن الثورات الديمقراطية هي التي تحدث تغييرات إيجابية خلاقة تنعكس على حياة المواطنين سخاء رخاء، وتصبغ حياتهم بالصفاء والنقاء، وتدفعهم إلى معارج المجد وتسلق سلم الفضيلة، في حين أن الثورات التاريخية لا تستجلب إلا النار والمرار، وتترك النفوس حزينة، والأجسام هامدة، والقلوب منكسرة، والعقول مسطحة. ومن أسف؛ فقد صنف كيسنجر ما أطلق عليه «ثورات زمن الربيع العربي» في خانة هذه الثورات، فهل هذا هو ما يتطلع إليه كاتب مقال «أتلانتيك» ومن لفّ لفّه؟
 
التلاعب بالألفاظ والمتناقضات ليس من شيمة كبار النفوس، لكنه في حالة السياسة والسياسيين يبقى أفضل الأدوات المحركة لنوازعهم، وآية ذلك النظرة إلى بعض القادة العرب الذين خلصوا بلادهم ومنطقتهم من ظلام الأصوليات الفتاكة التي أرادت اختطاف البشر والحجر، على أنهم من قبيل الحكام «الأوتوقراطيين»، وكأن المطلوب منهم أن يتركوا بلادهم نهباً للسارقين والطامعين من لصوص الأوطان وقطاع طرق الأزمان؛ إن جاز التعبير.
 
وحين يحاول قادة بعض الدول العربية التي سلمت من الموجة الأولى الكاذبة المدعوة «الربيع العربي»، شدّ البنيان وإعادة اللحمة لدولهم وللإقليم برمته، يضحى وصفهم، بحسب كاتب «أتلانتيك»، «الحكام السلطويين»، وعليه تمضي السطور مشجعة ومحفزة من تسميهم «منافسيهم الداخليين»، في دعوة لا تنكرها العين للتمرد عما قريب والاحتراب الأهلي والطائفي في الزمن المنظور لإدراك الشتاء سيئ السمعة والذكر الذي يتطلعون إليه.
 
مثير جداً شأن الدائرة التي تقوم على هذا النوع من التفكير، وما هذا المقال إلا نوع من أصوات بوق القرن يسبق الهجومات التي تعِد بليل بهيم، والإثارة هنا منشؤها ومنبعها الحديث من جديد عن قوى الإسلام السياسي، وكيف أن تغييبها لا يقيم ديمقراطية حقيقية. وللقارئ أن يقارب بين ازدواجية خطاب يمنع مواطنين من دول إسلامية من الدخول إلى بلاد تتمترس وراء محيطين بحجة أنهم خطر على أمن البلاد والعباد، وبين المناداة بحتمية إشراك تلك الجماعات في الحكم حتى تستقيم الأحوال.
 
ولعل الإثارة تزول حين نستمع إلى أصوات من هذا التيار الظلامي تسكن بعض دول أوروبا بشكل تقليدي وتستعمل من قبل الأنظمة هناك خنجراً في الخاصرة العربية... أصوات تقول إن الشتاء قادم، وإن الدورة الثانية من الفوضى آتية لا محالة، في تطابق يؤكد أن الصانع واحد؛ وإن كانت صناعته كارثية وبضاعته تخريبية.
 
أول ما يقوم به أصحاب حديث الشتاء محاولة شق النسيج الوطني العربي الداخلي إلى جماعات؛ إذ يصفون البعض بأنهم مؤيدون للاستبداد؛ ومنهم، على حد وصفهم، النخب والقوميون والعلمانيون والناس العاديون الذين يخشون الحروب، وعلى ناحية مضادة يتحدثون عن المتشددين والمتطرفين ويستنكرون أن يقبعوا داخل السجون أو يعيشوا في المنفى.
 
أصحاب المقال المشار إليه لم يلتفتوا ولو بطرفة عين إلى مشروعات التنمية ورؤى الانطلاق التي بدأت تؤتي أكلها على الأرض وتسعى ليكون العقد المقبل أوان الحصاد، وهم في مكرهم يتناسون تجارب تاريخية لدول أوروبية مثل ألمانيا كان نصيب الفرد فيها بعد الحرب العالمية الثانية لا يتجاوز حبة البطاطا يومياً، إلى أن قدر لهم بناء دولة تعد قاطرة الاقتصاد والسياسة في أوروبا اليوم.
 
وهم أنفسهم الذين يضعون العصا في دواليب دول عربية معروفة للقاصي والداني بقدرتها على التصدي والتحدي للأصوليات التي ضربت المنطقة منذ أربعة عقود، وبسطت أجنحة الهوس الديني، وغيبت الحوار والجوار، وأزمنة التلاقي والود الإنساني، وذهبت بعيداً بالفلسفة القرآنية «لتعارفوا».
 
أسلوب المقال تحريضي قاتل؛ إذ يصطنع صيغاً تكاد تكون إجبارية للتصالح المغشوش مع أعداء الجماهير، وإلا فإن الحرب الأهلية على غرار سوريا آتية؛ يقول كاتب سطور الموضوع الملتبس هذا.
 
نقطة انتباه مطلوبة ومرغوبة هنا لا تتصل بما يكتبون أو يفعلون، بل بمدى التوعية والتعبئة الجماهيرية، فمواجهة هذه الموجة المقبلة أمر واجب الوجود... لا يهم ماذا يظن الآخرون بنا؛ الأهم ما نحن عليه وما نخطط له لتلافي تحقيق تنبؤات مكذوبة في الحال والاستقبال.
 
الشرق الاوسط


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد