ترييف مصر من الشارع إلى المشرّع - سعد القرش

mainThumb

18-12-2018 03:23 PM

 بسبب القلق على مستقبل مصر انصرف النقاد عن الأدب، وانشغل باحثو علم الاجتماع اللغوي عن دراسات مقارنة للقاموس اللفظي بين القرى والمدن. فالبساطة الريفية تكفيها حصيلة لغوية محدودة، ولا تكفّ المدن عن الإضافة إلى قاموس أكثر ثراء ولا يتوقف عن التجدد. وحين لا يسعف القاموس الفقير أصحابه، فإنهم يصبحون أكثر اعتدادا بالرأي، وميلا إلى التشدد ورفع الصوت والتلصص على ما لدى الآخرين، ولكن الفضاء المديني الذي يحترم الخصوصية لن يتيح معرفة جيدة بهؤلاء الآخرين فيختفي الفضول، ويكون لكل مقيم أو عابر شأن يغنيه. وإذا كانت علاقات القرى تحددها أعراف أهلها فإن المدينة محكومة بالقانون.

 
لكل قاعدة استثناء يؤكدها، والحالة المصرية تمثل هذا الاستثناء، باستعارة القرى لمظاهر العولمة (البلو جينز) والاستهلاك المفرط لأحدث وسائل التكنولوجيا، وبترييف المدن والعقول والعلاقات وأداء مؤسسات عليا، ومنها برلمان تبدو بعض نقاشاته واهتماماته أقرب إلى مجلس أهلي قروي يثور لسفاسف الأمور، وينتفض إذا ما نقصت قبضة يد من فستان امرأة في مهرجان سينمائي، ويتجاهل اقتطاع جزيرتين من البلد، أو يسهم في هذا الاقتطاع.
 
في الخليج جرى حرق للمراحل قفزا إلى طور مديني يجسّده القانون، وهو العاصم من قواصم الردة المصرية إلى الترييف العمومي. ومن التلخيص المخلّ والمتعالي أن يُفسر صعود الخليج بالوفرة المالية وحدها، وتكفي جولة في المدينة ليتأكد لك حضور القانون أو غيابه، من الشارع إلى المطار، وبعدها لن تسأل عن تشوّه صورة البلد في الخارج، وتلتمس عذرا لمن نتودد إليهم بإعادة الرحلات السياحية، منذ تحطم الطائرة الروسية فوق سيناء في أكتوبر 2015.
 
في شوارع أي بلد مديني لا ترى شرطيا كبير المقام يقبض بيد على دفتر المخالفات المرورية، وباليد الأخرى يشير في حركة دائرية إلى قائدي السيارات بأن يسرعوا. مشهد بائس لا يخلو منه شارع في القاهرة، وتغني إشارة ضوئية عن هذا الجهد البشري المرتبط غالبا بالضجر وفساد الأداء. ومن فوضى الشارع إلى صرامة المطار، أتذكر أنني خضعت لتفتيش ذاتي بمطار عمّان الذي كان نقطة عبور في رجوعي من البصرة، وتم تمرير الجاكيت في جهاز الأشعة مثل أي مسافر قادم من خارج المطار، وظننت موظفي الأمن ساهين عن نزولي من طائرة أردنية وتوجهي إلى أخرى أردنية أيضا، فقالوا إن ركاب الترانزيت لا يُعفون من التفتيش مثل غيرهم.
 
وحدث بعد ذلك أنني سافرت في رحلة داخل مصر، ولاحظت تساهل موظفي الأمن بمطار القاهرة في مسألة الجاكيت، فسألت أحدهم: لماذا لا تطالب الركاب بخلعه؟ فأجاب “لو عايز فأنت حر، تفضل اخلعه”. تكرر المشهد نفسه قبل الصعود إلى الطائرة، فأعدت السؤال على موظف مسؤول عن جهاز الأشعة وهنا تحول الحياد السابق إلى ابتسامة، وأخبرني أنه هو نفسه الموظف الذي خيّرني عند البوابة الأولى في خلع الجاكيت إذا كنت أريد. وقلت إن من حق الروس وغير الروس أن يقلقوا، فهذا أمر لا يتهاون فيه الآن أي مطار.
 
في مطارات الخليج وغير الخليج تستقبلك مواطنة شابة، أو مواطن مدني شاب، ينهي بمفرده إجراءات الدخول، بسرعة وكفاءة خالية من الاستعراض والتعقيد؛ فكل البيانات مسجلة. وفي مطار القاهرة تبدأ أولى خطواتك برؤية من يرفعون لافتات كتبت عليها أسماء قادمين، وإذا لم يستدلّ حاملو اللافتات على الضيوف، نادوا أسماءهم بما لا يليق بمطار دولي. كل هذا قبل الوصول إلى ضابط شرطة كبير السن، أنفق سنوات في التعليم والتدريب والعمل لكي يقوم بما يؤديه شاب في سن ابنه بمطارات الخليج، ولا يعطيك جواز السفر إلا بعد أن يمرره إلى موظفة تعيد فحصه، فحص الجواز منعا لأي لبس، ثم يسلمه إليك لكي يتلقفه شرطي آخر على بعد خطوات، ليتأكد من الأختام.
 
معيار النجاح في بناء “الدولة” هو الاحتكام إلى فتوّة المدينة، ليس بمعنى الاستئساد على أهلها، وإنما باحترام قوانين ملزمة للجميع، وتحظى بالثقة الشعبية، وتلك عقدة مزمنة وثغرة تمرّ منها كافة الشرور، لأن المواطن المصري لا يثق في نزاهة غالبية العاملين في جهاز الشرطة، وفي أجهزة الحكم المحلي، ومع فقدان الثقة يستحيل الرهان على جدوى قانون أو دقة تنفيذه، ثم نتغنى بسلوك مجتمعات يلعنها المتشددون، ويتمنون الفرار إليها نجاة من جحيم بلادنا.
 
في أكبر المدن المصرية أفتقد “المدينة” وهي تئنّ، ولا تحتمل العشوائية المعمارية، والعدوان على الفضاء العام، والترييف المذلّ لصحافيين ومثقفين يسوّلون للحاكم سوء عمله فيراه حسنا، فيكتب مرسي عطاالله الرئيس السابق لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام، في الأهرام 11 ديسمبر 2018، مقالا عنوانه “نحن لا نعبد الدستور!”. نشر المقال بعد خمسة أيام من بث وكالة الأنباء الحكومية خبرا عن انزعاج “عدد من المواطنين” من المادة الدستورية الخاصة بفترتي انتخاب الرئيس، لأنها قيد “مجحف بالشعب المصري العظيم”، ناسين أن هذا الشعب ارتضى هذا الدستور. واستكمالا للملهاة فسوف تنظر محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، الأحد 23 ديسمبر 2018، في القضية التي “يطالبون فيها بالحكم بإلزام مجلس النواب بإجراء تعديل يسمح بإطلاق مدد إعادة انتخاب الرئيس″.
 
ترييف العقول ينتهي بتحويل حاكم منتخب لفترة زمنية حددها الدستور، إلى رب أسرة، شيخ قبيلة، كبير عشيرة. في الدول المدنية تنتهي المدة الرئاسية فيغادر الرئيس باحترامه، ولكن أعراف العشائر لا تعترف بتبادل السلطات، فكرسي “الكبير” هو الكرسي الحرام على غيره، ومن يفكر في الصعود فهو عاق، يشق عصا الطاعة. ولا وجود لمصطلح العقوق في الدساتير.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد