لا سياسة في جمهورية الفساد العراقية - د. ماجد السامرائي

mainThumb

18-12-2018 03:24 PM

 منذ أبريل عام 2003 جرى التعدي على كيان العراق ودولته حين استبيحت أرضه ببساطيل الغزاة الغادرين واغتيل جيشه الوطني بعد أن كان من أقوى جيوش المنطقة لسبب بسيط لكونه انتصر على إيران في حرب الثماني سنوات. وأهينت كرامات الناس وأصبح علية القوم في أرذل الأحوال، وأهدرت جميع القيم الأصيلة بعد تقطيع حبال التواصل بين أبناء المجتمع العراقي الواحد بالطائفية السياسية اللعينة. وتم استئصال ذاكرة العراقيين الراقية النقية بإحلال مقاطع مشوهة من التاريخ المدمي القديم حول السلطة قبل 1400 عام لكي يتم تمزيق الناس، والأخطر من ذلك كله تم تأسيس معمار مشوه للسياسة لقيادة العراقيين بأضاليل لا علاقة لها بالفكر العراقي والعروبي والإنساني، وإنما طوّعت الديناميات الديمقراطية ببدع أقرب إلى عالم المافيات التجارية منها إلى النظام السياسي الديمقراطي.

 
ارتبطت الطائفية السياسية بالفساد المنظم وفشلت محاولات تفكيك تلك العلاقة غير الشريفة لأن هدفها المركزي منع بناء بيئة سياسية نقية تنشأ من خلالها الأحزاب السياسية الوطنية غير الدينية، ووُضعت المعوقات أمام أي محاولة جادة لوضع ضوابط منع الفساد المالي والإداري في حكومات ما بعد 2003 وقبل وقت مبكر من هيمنة الإيرانيين من خلال أعوانهم على المرافق المالية والإدارية. فقد ساهم بعض الجنرالات الأميركان خلال فترة الاحتلال في صفقات مالية شابها الكثير من الفساد، خاصة في ما سمي بإعادة الإعمار في العراق. ولدى هيئة المفتش العام الأميركي الكثير من ملفات الفساد قبل تأسيس أول حكومة بعد مجلس الحكم لضباط متورطين إلى جانب عراقيين بصلات مشبوهة تعززت في أول حكومة لإياد علاوي عام 2004 في صفقات السلاح خاصة وفي بعض الوزارات الخدمية في ما بعد.
 
كان للجانب الذاتي لبعض قادة ومنتسبي الأحزاب الشيعية أثره في ضعف الحصانة أمام إغراءات المال، قد عاشوا سنوات في ظل هجرة بائسة في إيران حرموا من خلالها من أبسط الحقوق الإنسانية، مقابل القليل من الرفاه المعيشي لقادتهم خاصة حزب الدعوة والمجلس الأعلى في بلدان اللجوء في لندن أو غيرها من دول الغرب، لكن مع ذلك فغالبيتهم قد أوقعهم “الجوع القديم” في مهاوي الفساد الذي اندفعوا إليه بقوة، وكان عليهم أن يجعلوا من تلك الحالة المعيشية الصعبة درسا للتواضع وهم يدعون بأنهم حملة “دعوة دينية” تتطلب الزهد والنزاهة وإقامة مجتمع العدل والإنصاف. ولكن ما حصل أغرب من الخيال فقد خضعوا لتعاليم جمهورية الفساد الجديدة في التصرف الشخصي اليومي والسكن الفاخر في القصور، والأخطر من ذلك الدخول في دهاليز سرقة المال العام واكتساب خبراته في تحد صريح ووقح ضد القوانين التي تحرم وتحاسب من يتجاوز على الأموال والملكيات العامة.
 
ولعل من المناسب التذكير ببعض الشواهد من تاريخ الدولة العراقية التي تأسست عام 1921 حيث ذكرت معلومات وزارة المالية العراقية أن حكومة ناجي السويدي رفضت الصرف على علاج ملك العراق فيصل الأول في عام 1929، وقالت في حينها إن مخصصات الملك كافية لعلاجه من جيبه الخاص. وحين كان الملك يرغب في السفر فإنه يطلب سلفة مالية ثم يسددها بأقساط شهرية. وقالت مصادر وزارة المالية العراقية في سياق ذكرها لجدول رواتب العائلة المالكة إن راتب الأمير غازي كان تسعة دنانير فقط في الشهر، وإن الوزارة المذكورة رفضت الصرف عليه عندما كان يدرس في لندن. وهناك أمثلة كثيرة حول تعفف ونزاهة الكثير من حكام العراق قبل عام 2003 لا مجال لذكرها.
 
المهم ليس حجم الأرقام وإنما مبدأ النزاهة والعفة الشخصية الذي اختفى من مشهد السياسيين الجدد بعد عام 2003، حيث الألوف من الأمثلة الصادمة لمستوى التخلي عن مقومات ومبادئ العمل السياسي مهما كانت اتجاهاته.
 
لقد تحول غالبية قادة وكوادر الأحزاب والمنظمات الشيعية من مضطهدين ومطاردين ورافعين لشعار المظلومية إلى طغاة، إلى درجة أن خيرة كوادر حزب الدعوة هجروه وبقى فيه أصحاب من يسعون للحفاظ على امتيازات السلطة والمال. اعتقدت تلك الأحزاب أنها استفردت بالحياة السياسية بلا معارضة فالمعارضون بنظرهم إما “بعثيون وإما إرهابيون” وليسوا الوطنيين الغيارى على بلدهم.
 
وبسبب التشظي الفكري وهيمنة الإسلام السياسي تكونت كتل وأحزاب جديدة ليست على أساس الهوية الوطنية العراقية وإنما وفق الهويات الطائفية والعرقية. وأصبحت المؤسستان الدينية والعشائرية تصدّران من يطلق عليهم بالسياسيين عن طريق البرلمان.
 
السياسة في العراق ليست نتاج أحزاب تتفاعل مع الجمهور وتدافع عن حقوقه وتكشف مواقع الفساد العام وتتنافس أو تتحالف مع غيرها على الإنجاز في الخدمات العامة وإشاعة الأمن والعدالة والقانون، وإنما تعتمد على مصادر للقوة تشكلت خلال سنوات قليلة برعاية جهات إيرانية متخصصة بعسكرة المجتمع العراقي، على غرار “الحرس الثوري الإيراني”، تسعى إلى تجديد صناعة العدو وتقصي حتى شركاء العملية السياسية من غير الأحزاب الشيعية أو من داخلها، وتصرفت هذه الأحزاب مع الدولة الجديدة وكأنها ملكية مشاعة لها فأدخلت أفواج الجهلة والأميين والمنافقين والفاسدين إلى مراكز الحكومة العليا بعد طرد الكفاءات العلمية.
 
لقد تأسست في العراق بعد عام 2003 جمهورية سرّية إلى جانب الجمهورية العلنية هي جمهورية الفساد والنهب بكل كوادرها وأدوات البطش العسكرية والأمنية التي تمتلكها. لديها قدرات هائلة على النفوذ، تراقب وتتابع بعض نظيفي اليد أو المتعففين فتلاحقهم بالإغراء أو التلويح بالقوة للتسليم لمشيئة نظام الفساد وتبطش بمن يحاول الخروج عنها. لقد أشيعت مفاهيم غريبة بين مدعي السياسة مفادها أن الاستيلاء على المال العام هو “شطارة” والمتمكن هو ذلك الذكي الذي يعرف كيف يسحب الكنوز من مخابئها الحصينة داخل الدولة، وحتى ما سمي بهيئتي النزاهة الرسمية والبرلمانية تم اختراقهما للتغطية على رؤوس الفساد في هذا البلد.
 
يذكر رئيس هيئة النزاهة العراقية حسن الياسري في عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي (والذي استقال من منصبه عام 2016) لصحيفة “لو فيغارو” الفرنسية أن مهمته في محاربة الفساد بمثابة “إفراغ مياه البحر بملعقة”، وآخر رقم اعترف به على إحدى الفضائيات العراقية وكيل وزارة الداخلية الأسبق عضو قائمة نوري المالكي عدنان الأسدي  قائلا “تم تحويل 100 مليار دولار إلى الخارج نتيجة بيع العملة ولم يعد منها سوى مليار دولار فقط أي إن مجموع ما سرق هو 99 مليار دولار، وهذه العملية تمت بإشراف عشرة بنوك عراقية أصحابها من السياسيين العراقيين الذين يقودون عصابات النهب”. فكيف لهذا المناخ الموبوء أن ينتج بيئة سياسية حقيقية هدفها خدمة الناس؟
 
إن التورط بالفساد والبحث عن المزيد أوصلا أحزاب الإسلام السياسي الشيعي إلى الاحتراب حول المناصب المهمة المدرة للمال بعد أن كان شعار المذهب يوحدها. في عراق ما بعد 2003 لا سياسة تدير شؤون البلاد ولا يوجد سياسيون يعتمدون على أصول ومناهج وتقاليد محترمة، بل زعامات كل يريد التحكم بالآخر لمضاعفة المال الحرام والجاه والسلطة على حساب الناس. ورجال جمهورية الفساد متحصنون بمصادر داخلية وخارجية تحميهم، وإذا كان من حديث عن انقلاب عسكري حقيقي فهو ضد هذه الجمهورية اللعينة.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد