آخر يوم في حياتي

mainThumb

25-12-2018 03:07 PM

 لم يكن يومي عادياً كباقي الأيام , مزدحماً مثقلاً خاملاً , بل كان رشيقاً , أضفى عليه هدوء الصباح وطُهره وعذرية شمسه الكثير من الجمال , تناولت كعادتي الفاكهة بديلاً عن وجبة الإفطار , ثم أعددت فنجان قهوتي قليل السكر وجلست في الشرفة لأتناولها وأستمتع بصوت العصافير على شرفة منزل جاري الذي صادفته أيضاً على شرفة منزله وألقى علي تحية الصباح لأول مرة منذ عشرة سنوات , ابتسمت له ورددت عليه التحية ولا أعلم لماذا هذا اليوم بالذات أحسست به طيباً ودوداً واستغفرت ربي على سوء ظني السابق به بأنه غير ذلك , كان صوت جارتي انتصار جميلاً وهي توقظ اطفالها بكلمات حب للتوجه إلى مدارسهم على غير عادتها في ايقاظهم كل يوم والذي تبدأه بالسباب والشتم وندب حظها العاثر , أصوات زوامير حافلات طلاب المدارس وباعة الغاز وسيارات الموظفين وبائعي الخردة أقل حدة وضجيجاً على غير ما أشعر بها دائماً .

 
أخذت حمامي الدافئ اليومي على عجل وحلقت ذقني وارتديت ملابس خفيفة وإنتعلت حذاء رياضياً , على باب منزلي وضعت العِطر على جميع أجزاء جسمي وعلى مكان نبض قلبي في رقبتي وأغلقت باب منزلي بعد ان استودعت والدتي وعائلتي ونفسي الله وعنده لا تضيع الودائع , لم أستعمل المصعد لأنني لم أعد أشعر بأنين مفاصلي وألامها من مرض النقرس اللعين لأستخدم درج العمارة والتي تقع بها شقتي في الطابق الثاني منها , أجريت اتصالاً هاتفياً مع والدتي وكعادتها أمطرتني بدعواتها والتي أشعر معها وكأنها حِصن المنيع الذي يرد عني مفاجأت القدر وما يخبئه لي , ثم اتصلت بأشقائي وشقيقاتي وبعض أقاربي ومعارفي وكانت غايتي بالإتصال بهم فقط لأخبرهم أنني أحبهم وأخاف عليهم .
 
انجزت بعض أعمالي وسددت ديون بسيطة كانت بذمتي لصاحب السوبر ماركت ولمحل مستلزمات التدخين والأركيلة ولا أعلم للآن ما هو هذا الشعور الذي لازمني بعدها بأن وددت لو أنني أستطيع أن أحضن كل من يقابلني وحتى إن كنت لا أعرفه من قبل لأقول له : سامحني .
 
عدت إلى منزلي واجتمعت بأسرتي , تناولنا طعام الغداء , نمت قليلاً لأستيقظ وأتوجه بعدها لبيت ثقافي يجمعنا وبعض الأصدقاء , تناقشنا كثيراً بالثقافة وآخر ما صدر من الكتب الجيدة وحتى الرديئة , ثم عدت إلى منزلي مرة اخرى لأجلس مع اسرتي حيث ضحكنا كثيراً وحضنت ابنتاي وزوجتي قبل أن يتوجهوا إلى النوم , بعدها دخلت إلى غرفتي الخاصة التي أمارس بها الكتابة والقراءة والعبادة والخلوة مع النفس والوقت كان قد تجاوزت الثانية عشرة ليلاً .
 
غرفتي مرتبة ونظيفة جداً , فيها مكتبتي واللاب توب وبعض السيديهات وأوسمتي وشهادات التقدير والدروع التذكارية التي حصلت عليها في عملي ومن بعض الجمعيات والنوادي التي عملت بها تطوعاً , كان كل شيء هادئاً ولطيفاً وعلى غير العادة لم يجلس أبناء جيراني على باب العمارة في الشارع الذي تطل عليه غرفتي .
 
استلقيت على أريكة مريحة لأمارس هوايتي اليومية بالقراءة , لأجد نفسي وحدي مع الملائكة , لأتأكد بعدها أن حياتي وصلت إلى النهاية ولم يبقى لي شيء في هذه الدنيا , حاولت الصراخ ولم أستطيع توسلت إليهم ورجوتهم أن يتركوني من أجل والدتي التي ستبكي علي كثيراً وسيصبح قلبها فارغاً إلا مني , ومن أجل زوجتي التي عانت معي حتى أعوضها عمَ سببته لها , من أجل ابنتاي واللاتي لا يوجد لهن أحد غيري ولكن كل توسلاتي ورجائي وذلي لهم لم ينفع أبداً .
 
الآن لي ثلاثة عشر عاماً ميت ومن قبري أستطيع أن أشاهد افراد عائلتي وأشقائي وأمي بشكل مشوش قليلاً وبصورة غير واضحة من خلال لقائي بهم في الأحلام , زوجتي أراها جميلة جداً وقد احتصلت على راتبي التقاعدي وغيرت الأثاث لأجمل وأرقى من الذي كان على زمني , وتبرعت بجزء من ملابسي وأحرقت الباقي , إبنتاي تزوجتا ورزقتا بالأطفال وأصبحت لهن حياتهن الخاصة مع ازواجهن وكأني لم أكن يوماً لهن ولم تكونا كل حياتي , أشقائي وشقيقاتي إنصرفوا إلى عائلاتهم ومشاكلهم وتابعوا الحياة بدوني , فقط كانت هناك إمرأة شاهدتها بحلمي ولم أستطيع تمييزها , كانت نحيلة جداَ وملامحها غير واضحة تبكي الدمع والدم وتصرخ باشتياق وصمت , لم أعرفها وسألت عنها الملائكة من تكون ؟ فأجاب أحدهم أنها أمك تبكي عليك منذ أن فارقتها , فبكيت كثيراً لبكائها وتمنيت العودة إلى الحياة وتعبها من اجلها فقط .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد