صحيفة السوسنة الأردنية

الحلقة العاشرة  

اتفاقية حدد بن بدد والفرعون رعمسيس الثاني لرعي الأدوميين في ارض مصر

قلنا ان الأدوميين كانوا يربون الماشية بأنواعها بقطعان واعداد كبيرة جدا وهو ما وصفه القران الكريم عن مدين وكانت  جزءا من ادوم , من انهم يتجمعون على الماء ليسقوا مواشيهم الكثيرة (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) سورة القصص .

    وان كلمة امة من الناس تبين الاعداد الكبيرة للرعاة ومساعديهم في الاسقاء وهو يعني كثرة الماشية بحيث لا يستطيع الراعي وحدده القيام بمهمة الاسقاء لما يرعاه من قطيع لكثرة القطيع، وانما يحتاج الى مساعدته من اهل الماشية. كما ان كلمة الرِّعَاءُ تبين كثرة الرعاة والمواشي كليهما على حد سواء، ولم تبين الأية الكريمة فيما إذا كانت المواشي اغناما او بقرا او ابلا او بغلا او حميرا، وهو ما يعني وجود جميع أصناف المواشي الاليفة وان تباينت الاعداد بين الأنواع. ولكننا نرى انها كانت في غالبها من الأغنام والماعز، لان الإبل كانت تذهب في نجعات طويلة وبعيدة ولا يكون معها الا الرجال ان كانت بعيدة عن المضارب، وهي لا ترد الا في الأسبوعين مرة واحدة في الصيف ونادرا ما ترد في الشتاء.

   وإذا ما صار الماء عزيزا او قليلا بسبب الجفاف والطقس الحار، من جهة، وبسبب كثرة اعداد المواشي بسبب المواليد على المتوفر من الماء، من جهة أخرى، رحلوا في نجعات طويلة الى حيث الماء والكلأ والامن في وادي النيل وكانوا يدخلون بإذن من الفرعون وباتفاق بين الفرعون والملك حدد بن بدد ومن سبقهما. وكانت الاتفاقية بين البلدين هي التي تشكل الامن والحماية للناس ومواشيهم فيصبحون في مأمن من القتل والسجن والكرد، وتصبح موشيهم في مأمن من المصادرة والنهب والسلب لان الفرعون وافق على الاتفاقية لدخول هذه المواشي.

  وكان الفراعنة يستفيدون من وجود هذه المواشي في ديارهم لأنها تؤمن لهم انتاجا ولحوما واوبارا وشعرا وصوفا رخيص الثمن , لحاجة المصريين الى هذه المواد  في استخدامهم وصناعاتهم , ولان اكثر مواشي وادي النيل الأليفة كانت من بقر الجاموس , لذا فان الملك الريان بن الوليد ملك يوسف عليه السلام (قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) سورة يوسف , ولم يرى جمالا او ماعزا او خيلا تأكل بعضها  , وكذلك في موضوع بني إسرائيل بقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) وكانوا يقتنون البقر بعد خروجهم من مصر لان البقر كان اكثر مواشيهم الأليفة . كما ان الله سبحانه جعل من السور الطوال كل من وسرتي البقرة والانعام.

  كما ان الرعي لم يكن مجانا للآدوميين في الديار المصرية بل مقابل أجور معقولة مقبولة، يدفها الادميون للمصريين، وكان ذلك مفيدا للمصريين، كما ان روث وسماد هذه المواشي كان يستخدم في تسميد المزروعات، هذا فضلا عن شراء المصريين لما يحتاجونه من الخيل والبغال والمواشي لاستخدامها في أغراض متعددة 

  وقد كان وجود هذه الثروة الحيوانية التي أدت الى تبادل المصالح سببا من أسباب التحاف بين حدد والفرعون وليس السبب كله، وكانت تمر ظروف على ادوم  يكون الماء فيها شحيحا عندما يكون مصدر سقيا المواشي موردا واحدا كما الحال في ماء مدين الذي وردنه بنات شعيب الحفيد , حيث يصف القران الكريم  تجمع الرعاة (  وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) واستحال عليهن سقيا مواشيهن الا بعد ان يكتفي الرعاء ويصدرون فسقى لهما موسى وكانت بداية عمله مع شعيب الحفيد وما تلاها من قصة ذكرها القران الكريم ودخلت التاريخ. 

 وقد دون القران الكريم هذه الحالة التي تبين ان الماء كان يشح في نهاية الصيف، حيث الحاجة لمزيد من الماء بسبب الحرارة وانخفاض المنسوب الجوفي للماء، وحيث كثرة المواشي بسبب ان موسم المواليد قد سبق في الربيع ومطلع الصيف، كما انه من المعتاد ان كثيرا من موارد الماء تجف او تخف في الصيف، وهذا برهان على ان سيدنا موسى عليه السلام ورد ماء مدين في نهاية الصيف في شهر اب او أيلول او ما بينهما والله اعلم، حيث يكون جفاف كثير من الموارد والينابيع في هذا الفصل/ الوقت من السنة 

قال تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) سورة القصص.

ومن هذه الأية الكريمة يتبين ان الأيام التي سار بها موسى من مصر الى مدين الأردنية كانت في وقت يكون النهار فيه طويلا وهو شهر اب او شهر أيلول او بينهما، مما يجعل أيام المسير قليلة مقارنة بالمسير وقت الشتاء حيث الأيام قصيرة 

وكانت الاتفاقية بخصوص السماح للمواشي الأدومية والتبادل التجاري والعلاقات الاجتماعية الودية بين العشائر الأردنية والمصرية، قد تمت زمن الملك الأدومي حشام سلف الملك حدد بن بدد من جهة، وفرعون مصر رمسيس الثاني من جهة أخرى، ثم عززها الملك حدد بن بدد مع كل من رمسيس الثاني وولده فرعون الخروج الملك مرنبتاح. ورغم الخلاف بين العلماء والفقهاء حول هوية فرعون الخروج ان كان رمسيس الثاني او ابنه مرنبتاح. الا ان علم التشريح اثبت انه مرنبتاح بن رمسيس الثاني ويسمى فرعون الخروج لخروج بني إسرائيل من مصر في زمنه وقيادته.   بينما يسمى والده رمسيس الثاني فرعون التسخير لأنه استعبد بني إسرائيل وسخرهم للعمل عبيدا عنده، أي العمل بالسخرة.

    الا ان هناك شبه اجماع قائم على علم التشريح وفحص المومياوات ان مرنبتاح هو فرعون الخروج وان رمسيس الثاني مات في أواخر سني دعوة موسى لفرعون ان يؤمن بالله وان يسمح لبني إسرائيل بالخروج مع موسى الى ارض كنعان التي كان جنوبها تحت السيطرة المشتركة الفرعونية والادومية( إدارة مشتركة )  , وان كانت الأرض أصلا  جزءا من المملكة الأدومية الأردنية ثم بعد الغرق ضمها الملك  حدد بن بدد كلها برمتها الى الام وهي ادوم بدون إدارة مشتركة ,  وكما قلنا كانت ادوم مرتبطة مع الفرعون في تحالف حيث اتفاق بين ملوك ادوم والفراعنة ان تكون للفرعون قلاع وحاميات في جنوب ارض كنعان داخل المملكة الادمية التي كانت ممتدة الى البحر الأبيض المتوسط. واما بقية ارض كنعان في الشمال فكانت خاضعة للفرعون.  

   وكانت هذه القلاع والحاميات مشتركة من قوات المملكتين الأدومية والفرعونية، وتدافع عن الدولتين لان أيا منهما لا يستطيع لوحده صد الأعداء القادمين من البحر او الشمال.  وبالتالي كان يهم الفرعون بقاء بني إسرائيل تحت يده وبصره وليس خروجهم عن سيطرته وتخريب جزء من مملكته التي يسيطر عليها وهي فلسطين. وكان حدد بن بدد حليف رديف للفرعون الاب والابن لان مصالحهما كانت تقتضي ذلك وكان يكره بني إسرائيل ويعتبرهم الخطر الحقيقي على بلاده وشعبه وهويته مثلما كان امر الفرعون ينظر الى بني إسرائيل أيضا، أي مشاركة بنظرة واحدة لعدو مشترك. 

  نعود ونقول : هناك دليل اخر يستند إليه أصحاب نظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )) هو ما يشير إليه عالم الآثار (( سايس )) إذ يقول إن الآثار المصرية تحصر حادثة الخروج في حكم الفرعون مرنبتاح ولدينا من بين الأوراق البردية المحفوظة في المتحف البريطاني وثيقة تعرف بورقة ((أنسطاسي السادسة )) وتشمل خطاباً من كاتب الملك مرنبتاح كتبه لرئيسه يقول فيه: إن بعض بدو (( شاسو )) – أدوم – قد سُمح لهم حسب التعليمات التي لديه أن يجتازوا الحصن الذي في إقليم سكوث ( تل المسخوطة ) في وادي طميلات ليُتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من بتوم. واما شاسو فتعني الواسع أي الشاسع أي الذين جاءوا من البلاد الشاسعة أي البادية أي من الديار الأردنية، وهي الكلمة التي أطلقت على الهكسوس الذين جاءوا من الأردن 

   ونص الخطاب الذي وجهه كاتب الفرعون مرنبتاح الى الفرعون مباشرة على ما يلي: (أمر آخر يا سيدي، لقد انتهينا من ملاحظة مرور قبائل ((شاسو)). التابعين ((لأدوم)) من حصن ((مرنبتاح حتب حرماعت)) له الحياة والفلاح والصحة في ((سكوث)) نحو برك ((بتوم)) لأجل أن يطعموهم ويطعموا قطعانهم في ضياع الفرعون له الحياة والفلاح والصحة وهو الشمس الطيبة لكل أرض مصر). (مصر القديمة، سليم حسن، جـ6 ص588).

  وتدل وثائق مصرية فرعونية أخرى على أن الحراسة في هذا وادي الطميلات كانت شديدة إلى حد بعيد، كذلك كانت المراقبة عظيمة على الطريق الرئيسية إلى آسيا في قلعة ((سيلة)) (تل أبو صيفة الحالي) إذ وصل إلينا أجزاء من يوميات موظف في إحدى المدن الواقعة على حدود بلاد كنعان في عهد مرنبتاح دوَّن فيها أسماء المبعوثين والأعمال التي كُلِّفوا أداءها ممن يجتازون هذا الحصن في طريقهم إلى بلاد كنعان، وكان المرور منه محرّماً في عهد رمسيس الثاني إلا لمن كان لديه تصريح بالخروج. ويمر وقت آخر قبل أن يدرس الفرعون الموضوع مع مستشاريه والتحقق من أن هؤلاء الرعاة ليسوا جواسيس أو أعوانا لدولة أجنبية تخطط لغزو مصر.( وللحديث بقية بإذن الله تعالى )