انتصار الحبّ في رواية (أعـشَـقُـنـي) - سناء شعلان

mainThumb

06-04-2019 01:22 AM

 القدس عاصمة فلسطين -تعد رواية (أعْشَقُني) من الروايات التي أثارت إهتمام النقاد والباحثين، لما تحمله من أفكار ورؤى جديدة  وجريئة، ولإرتباطها بالخيال العلمي، ومعالجتها لافرازات التقدم العلمي والتكنلوجي، وقد حقق الحبّ في الرواية انتصارا على الحقد والكراهية المطبوعة على قلب بطل الرواية فانقلب بفضل الحبّ والإيمان الى ذات وديعة داعية الى السلام والمحبة، ومن هنا استقر عنوان البحث على( انتصار الحبّ في رواية أعشَقُني)، وقد جاءت الدراسة ضمن تمهيد ومبحثين وخاتمة بأبرز النتائج، تناول التمهيد: وصفاً لمحتوى الرواية وأهم محاورها الرئيسة، أما المبحث الأول: فكان عن عنوانها الاستفزازي والمثير للإنتباه، وعن زمن الرواية ومكانها وشخصياتها ومنهج الكاتبة في روايتها( رؤية الكاتبة )، في حين تناول المبحث الثاني: ثيمة الرواية وفكرتها الرئيسة وصولا الى غاية الكاتبة وهو انتصار الحبّ على الكراهية والحقد، والإيمان على الكفر والإلحاد، فكان الحبّ عاملا من عوامل التغيير نحو الأفضل والأحسن. وقد توصلت القراءة النقدية للرواية الى أن الرواية كانت دعوة للرجل للاحساس بالمرأة ومشاعرها وآلامها، وأن الكاتبة كانت جريئة في حديثها عن الحبّ والجنس، فالرواية ثرية بالدلالات والمعاني والصور الغريبة.                                                         

 
المقدمة
 
  الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، أما بعدُ:
 
   فعندما وصلتني رواية(أعشَقُني)[1]، للأديبة الأردنية سناء شعلان في طبعتها الأولى الصادرة من دار الوراق إهداءً سعدت بها كثيراً، ولكن استفزني عنوانها وأثار اهتمامي، إذ للعنوان أهمية  كبيرة وإن اختياره بهذا الشكل يترجم قصدية الكاتبة في الابلاغ، وإن لفظة( أعشَقُني) تحمل بعداً رمزياً موحياً بنرجسية مفرطة، وينم هذا العنوان عن اعلان صريح وواضح عن عشق وحب الذات المبني على التفكير والتدبير والقناعة الذاتية بعيداً عن كل كوابح الارتهانات الحياتية[2]، لذلك أسرعت أتصفح صفحات الرواية على عجل لعلي أقف على النقطة التي ترشدني وتبرر هذا العنوان الصادم، إلا أنني ما أن وصلت الى الصفحات الأخيرة إلا وأنا مقتنع بأن هذا العنوان جاء مقياسا دقيقا لمحتوى الرواية ومضمونها، وأن الكاتبة كانت موفقة في اختياره بهذا الشكل ومهما أُطلقت على هذه الرواية من أسماء لايمكنها أن تحلّ محل أعشَقُني، كما وجدت للروائية سناء شعلان أفكار جريئة لم أعهده عند المرأة العربية والشرقية وذلك للظروف المفروضة عليها اجتماعيا ودينيا، فضلا عن صعوبة الحديث عن الجنس والعلاقات الحميمية.                                                                       
 
   وقد نالت هذه الرواية اهتمام الباحثين والدارسين فكثرت الدراسات حولها، فأردت أن أدرس جانبا من جوانب الابداع فيها، فوجدت الكاتبة ترى أن الحب هو اكسير الحياة، وأن الحب قادر على تغير الكثير من ظواهر ومظاهر حياة الانسان، إذ تقول:( الحبّ وحده من تتغير به حقائق الأشياء وقوانين الطبيعة)[3] وقد حقق الحبّ في الرواية انتصارا على الحقد والكراهية المطبوعة على قلب بطل الرواية فانقلب بفضل الحبّ والإيمان الى ذات وديعة داعية الى السلام والمحبة، ومن هنا استقر عنوان البحث على( انتصار الحبّ في رواية أعشَقُني).                                                 
 
   وقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في تمهيد ومبحثين وخاتمة بأبرز النتائج، تناول التمهيد ووصفا لمحتوى الرواية وأهم محاورها الرئيسة، أما المبحث الأول: فكان عن عنوان الرواية وزمنها  ومكانها وشخصياتها ومنهج الكاتبة في روايتها ( رؤية الكاتبة)، في حين تناول المبحث الثاني ثيمة الرواية وفكرتها الرئيسة وصولا الى غاية الكاتبة وهدفها وهو انتصار الحبّ على الكراهية والحقد، والإيمان على الكفر والالحاد.                                                                    
 
  وقد حاولت هذه القراءة النقدية أن توجز القيمة الفنية والموضوعية للرواية ضمن منهج يتكيء على قراءة النص السردي وتحليله  للوصول الى طبيعة العمل وغايته، متمنيا أن تكون أضافة جديدة الى الدراسات التي تناولت رواية أعشقُني بالبحث والدراسة، والله ولي التوفيق.
 
 
 
                                      التمهيد
 
     تتكون الرواية من (217) صفحة من الحجم المتوسط، في ثمانية فصول على شكل أبعاد، جاء الفصل الأول  بعنوان: البعد الأول: الطول: وفيه تبدأ الكاتبة بسرد الأحداث المتداخلة بين الواقع واللاواقع نسجته من خيالها المجنح في أسلوب أجادته بمهارة  واقتدار، إذ تدور أحداث البعد الأول حول مشهد في غرفة للعمليات الجراحية في كوكب غير كوكبنا الأرضي، وأبرز ما ورد من حديث في هذا الفصل هو الحديث عن بطلة الرواية( شمس) التي قُتلت بسبب انتمائها الى حزب الحياة المعارض، ولكونها زعيمة وطنية مرموقة، وكاتبة مشهورة، وأنها بعد قتلها لم تترك لترتاح وإنما سُلب جسدها لأن فيه فائدة لأصحاب السلطة الطغاة، والثاني الزمن: وفيه يلتحم هذا الجسد الأنثوي برأس طاغوت طالما عذب هذا الجسد وأهانه، وعلى الرغم من أن هذا الجسد كان سببا في نجاته من الموت إلا أنه يعبر عن اشمئزازه منه، إذ يقول: (أنا أكره هذا الجسد أريد أن أخرج منه، أريد جسدي، لا أريد غير جسدي، أنا أكرهه وأكرهها، وأكرهكم، أخرجوني منه...ــه...ــه...ـه)[4] إنه نفور وقطيعة بين جسد وجسد التحما على قدر، والثالث: الارتفاع: وفيه يستمر استنكار باسل المُهري دخوله هذا الجسد الأنثوي، مستهجناً هذا التحول الغريب، وجاء العرض بعدا رابعا: فكان هذا البعد أقرب مسافة نحو الألم في حياة باسل المهري، وفيه يأخذ الصراع مرحلة متطورة يحاول فيه باسل المهري تعذيب جسد المرأة، ذلك الجسد الذي أصبح جسده، (ويفصح في هذا البعد عن نظرته الدونية الى المرأة بوصفها جسدا مستبدلا بآخر كان ذكوريا)[5]، وإنه كان يلبس ملابس الرجال وهو بجسد المرأة إكرما للماضي ونكاية بالحاضر وتماشيا  مع وقع نفسه الداخلية، وتتنامى الأحداث في البعد الخامس الحب: الذي بنت عليه الكاتبة روايتها بوصفه الأساس لبنيتها السردية، وهو الأهم والأكثر تأثيرا في الحياة، فالحب عند سناء شعلان هو البعد الكوني الخامس، فهو اكسير الحياة وله القدرة على تغيير الكثير من مظاهر حياة الانسان، وهو الكفيل بإحياء هذا الموات وبعث الجمال في هذا الخراب الألكتروني البشع، فالحبّ وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض القلب، وفي مكان آخر تقول د. سناء:( أؤمن بشكل قاطع بأن أزمة البشرية هي أزمة حبّ، وهذا الحب يتجاوز علاقة الرجل بالمرأة، فالحب هو الحل الحقيقي لمشاكل البشرية، فالله هو الحب والشيطان هو الكره، والمعركة مستمرة بين الحب والكره حتى آخر لحظة من تاريخ البشرية)[6] وجاءت الفصول الثلاث الأخيرة في خدمة الفصل الخامس ومكملة لها، ويمكننا القول أن الفصل الأول الى الرابع كان الحديث فيه عن العلاقة  بين الجسد والذات، والفصل الرابع الى السابع عن علاقة الجسد بالحب، وتختم سناء شعلان روايتها بالفصل الثامن( انطلاق الطاقة) ليكون أكثر الفصول واقعية، إذ يكون الحديث فيه عن علاقة الانسان بالله وعلاقة الانسان بالانسان، تندرج الرواية ضمن روايات الخيال العلمي، إذ تعالج افرازات التقدم العلمي والتقني الذي فاق التصور في عصرنا الحاضر حتى بات أثره واضحا على الحياة الفكرية والروحية للانسان.
 
المبحث الأول
 
عنوان الرواية
 
   تحمل الرواية عنوانا يتكون من جملة فعلية (أعشَقُني) والعنوان له دلالته الخاصة إذ( يعد العنوان نصاً مركزا ووسيلة كاشفة عن أعماق النص الدفينة ودواخله ومكنوناته الأخرى، إنه أول لقاء بين القاريء والنص، وهو رأس العتبات النصية)[7]، عرَّفه ليو هوك، بقوله: ( إن العنوان مجموعة العلامات السانية من كلمات وجمل وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه وتشير الى محتواه الكلي، لتجذب الجمهور المستهدف)[8]، وتعرفه الدكتورة بشرى البستاني بأنه:      ( رسالة لغوية تحدد مضمون النص وتجذب القاريء إليه وهو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه)[9] إنه عنوان تكفل بتسمية عمل الدكتورة سناء الشعلان، وهو عنوان  اسفزازي وجذاب، إذ القراءة الأولى للعنوان تظهر لنا شخصا عاشقا لنفسه، وهذا مرض نفسي يطلق عليه علماء النفس (النرجسية) في حين القراءة العميقة والمتأنية للرواية تظهر أن هذا غير مقصود من هذا العنوان.
 
زمن الرواية:
 
    تدور أحداث الرواية في عام (3010م) إنها رواية مستقبلية للواقع المتصور في العصر القابل عصر التكنلوجيا التي تغلغلت في كل مفاصل الحياة.
 
 مكان الروية:
 
 لقد اختارت الكاتبة (مجرّة درب التبانة) مكانا لروايتها حتى تبرر الوقائع الخيالية الواردة فيها.
 
شخصيات الرواية:
 
باسل المُهري: رجل مخابرات عسكري، مفرط في تفانيه في خدمة حكومة مستبدة، وهو رمز لدولة القمع والعنف والاستبداد، فقد جسده في حادث ارهابي بسبب تفانيه المفرط في عمله، إلا أن رأسه بقي سليما نابضا بالحياة، نصحه الأطباء- أطباء مجرة التبانة- بإجراء عملية جراحية، ينقل فيها رأسه السليم الى جسد امرأة توفيت تواً وإن لم يجرِ هذه العملية سيموت، وأمام رغبة الحياة والفرار من الموت يقبل بإجراء العملية ليتحول الى رجل خنثي فاقد للرجولة، وعلى الرغم من ندمه على إجراء العملية يبرر فعلته بقوله:( لكنّني جبان ضعيف أمام رغبتي المتشبثة بالحياة، لا زال طعم الحياة الحلو ينخر إرادة الرّفض والاستعلاء على الضعف في نفسي ويلحّ عليّ بإصرار لعين لأتشبّث بالحياة ولو في جسد آخر، ولو كان جسداً مسروقاً من امرأة)[10]
 
شمس: المرأة المتمردة والثائرة على القوانين، والمثقفة التي تسعى الى تغير الواقع المزري، إذ حملت لواء الدفاع عن حقوق الناس وحرياتهم ووقفت ضد الظلم واستبداد أنظمة الحكم القائمة على القهر ومصادرة الحريات الفردية، وهي زعيمة وطنية مرموقة في حزب الحياة الممنوع والمعارض، وأديبة وكاتبة مشهورة، وهي حبيبة خالد رامي، فتاة قتلت من قبل أجهزة المخابرات، لأنها مناضلة سياسية ومعارضة للسلطة.                                                                             
 
خالد رامي: حبيب شمس وعشيقها الذي وجد فيها الحلم الجميل الذي سينقذه من براثن الحياة الجامدة، إذ يقول: (هل تعلمين لماذا أكرر كلمة أحبك ألف مرة، لأنها تختزل تجربة الإنسانية كلّها في ممارسة الحب والجنس، أنا مستعد كي أملأها باسمك وحدك... يا شمس أشتهيك كما اشتهى الفلاسفة نهاياتهم... أحبّك وأحبّ أن أقبلك بشفاهي وأصابعي وجسدي)[11]، وعلى هذه الشاكلة قد جرى بينه وبين شمس عشرات الرسائل الغرامية التي تصف العشق الملتهب بينهما.              
 
ورد: الجنين الذي تحمله شمس من حبيبها خالد، مازال حياً في رحم القتيلة شمس، ينتقل مع جسد أمه الى أحشاء الرجل العسكري باسل المُهري، وهذا الاسم اختاره خالد، إذ تقول شمس: (اسمكِ سيكون ورد، هذا الاسم اختاره لكِ خالد، منذ الآن أكاد أشمّ رائحتك الوردية تنبض في أمومتي الوليدة...الورد يا حبيبتي الصغيرة هو جمع وردة، والوردة نبات جميل له روائح زكية، وملمس مخملي، وألوان جميلة... والورد كذلك اسم لحيوان منقرض ينتمي الى زمن ما قبل الألفية الثالثة، اسمه الأسد أيضا، وهو حيوان مفترس ومتوحش وقوي، ونبيل كذلك، يعيش بكبرياء، ويرفض الجيف، ويعتز بقوته، ولذلك أسميناك ورداً لتكوني منذورة للجمال والقوة ولحبّنا.)[12]                         
 
منهج الروية( رؤية الكاتبة)
 
   تبدأ الرواية بكلام امرأة عاشقة اسمها شمس، من مجرة درب التبانة، تقول فيه: (وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بعد خامس ينظم هذا الكون العملاق، وهو الحب، وإن الحب هو البعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا، وحده الحب هو الكفيل بإحياء هذا الموات)[13]    
 
   إنها قصة تكامل بين الرجل والمرأة، كتبت وفق الطروحات النسوية،  ويشير مصطلح النسوية الى (الفكر الذي يعتقد أن مكانة المرأة أدنى من تلك التي يتمتع بها الرجل في المجتمعات التي تضع كلا الجنسين ضمن تصنيفات اقتصادية أو ثقافية مختلفة... فالرجل يتسم بالقوة والمرأة بالضعف والرجل بالعقلانية والمرأة بالعاطفة، والرجل بالفعل والمرأة بالسلبية وما الى ذلك... فالنسوية حركة تعمل على تغيير هذه الأوضاع لتحقيق تلك المساواة الغائبة... وتصر النسوية على أن هذا الاستغلال من قبل الرجل ليس أمرا ثابتا أو حتميا، وأن المرأة تستطيع أن تغير النظام الاجتماعيي والاقتصادي والسياسي عبر العمل الجماعي وبالتالي فإن المساعي النسوية تعمل على تحسين وضع المرأة في المجتمع)[14]،  فالنسوية مشروع آيديولوجي يعطى الأولية لتفكيك الأفكار والصور الرمزية والاستيهامات التي صارت بدهيات وحقائق في الثقافة الذكورية، إنها توظف كل معطياتها لمحاربة كل مظاهر القمع التي خضعت لها المرأة في مختلف الثقافات والمجتمعات، إنها حركة تعمل على تغيير أوضاع المرأة، تحاول تحرير المرأة من القيود المفروضة... فأعلنت بذلك عن وجودها نداً فكرياً ومنافساً فاعلاً يمسك بزمام الأدب والثقافة والمعرفة والسياسة جنبا الى جنب الرجل، ولكي يكون أدب المرأة نسويا عليه أن يسهم في دك معاقل الثقافة الذكورية، إن النسوية وجهة تحتم على متجهها أن يحمل على عاتقه اشاعة روح التمرد والثورة على كل الفرضيات القديمة التي أمعنت في اذلال المرأة واقصاء دورها فكريا وسياسيا، فأرادت الروائية سناء الشعلان أن ترد على الثقافة الذكورية التي ترى أن السياسة حكرا على الرجل، استشهادا بقول سقراط (للرجال السياسة وللنساء البيت)[15].
 
إن رواية أعشقني دعوة الى مناصرة المرأة في ظل سياسة ذكورية ترى العالم من منظور أحادي الجانب[16]، فالكاتبة سناء الشعلان  حانقة وغاضبة  لما تجده من ظلم وقتل في كل مكان، لذلك تقول: ( إن رواية أعشقني ولدت عندي في حالة غضب وانزعاج، إذ كنت غاضبة بحق من البشرية التي تتصارع دون توقف، من البشر القساة اللامبالين، من حمام الدم المشروع في كل مكان، من سلطة الفاسدين ومن قهر المستلبين، كنتُ حانقة على المتخمين كلّهم، وثائرة باسم الجائعين والمحرومين والمنكدين جميعهم كنتُ في حرب ضدّ الحرب، وفي صرخة ضدّ جعجعات الكاذبين، كنتُ أريد أن أقول لا حتى ولو كلّفتني أن أنجز عملاً روائيّاً يعدم نفسه عند أوّل مفترق كتابة، كنتُ أدرك تماماً وأيقن في لحظة إيمان لا تعترف بالشّك، أنّني أقامر على طاولة الفنتازيا بكلّ ألآمي ومعاناتي، وأنّني أراهن على الاستشراف العلميّ لرسم مستقبل ممكن في طور بناء عالمي يوتوبيّ يخلص للحظّة الحبّ التي أؤمن بها خلاصاً للبشريّة في ظلّ أزمة البشرية الكبرى، وهي غياب الحبّ، فالبشريّة في حالة إفلاس روحيّ وشعوريّ، ولذلك فهي تبتدع حرف الموت والكره وتتنافس في الفحش والإيذاء وتتذرّع بشتّى الذّرائع لتكسو نفسها بالسّلاح والبطش والتسّلط، وماهي في الحقيقة إلاّ منكوبة في قلوبها العاصية التي لم تتعلّم أن تحبّ،البشر في حاجة لدرس إنسانيّ في الحبّ، وهو خيارهم الأخير قبل أن يبدؤا وينتهوا)[17].
 
    إن لغة الرواية الأنثوية منفتحة على ذات المرأة ومعبرة عن همومها أصدق تعبير[18]، ويبدو هذا الأمر من حبكة الكاتبة والتي هي من صميم دعوات النسوية لاعادة الهيمنة المسلوبة الى جسد المرأة وذاتها من قبل السلطة الذكورية، لقد عمدت الكاتبة لتعرية الذكورة ودك معاقل الاستعلاء المزعومة بأن جعلت البطل الرئيس للرواية رجلا، وأنطقته لكشف خفايا تفكيره المتعالي ونظرته الدونية تجاه المرأة، وجعلت المرأة مركز القوة والفعل بوجودها الجسدي الحاضر والفاعل وإن غابت الروح، وجردت الرجل من أبرز الخصائص التي كان يفتخر بها وهو (عضوه الذكري) وكانت هذه ضربة ماحقة أفقدت باسل المُهري توازنه، لأنه لم يعد يمتلك حسب ثقافته الذكورية ما يدعوه للافتخار...فالشعور بالاستعلاء جسديا مقابل دونية الجنس الآخر ما هي إلا من تراكمات الثقافة الذكورية المتسلطة، تلك النظرة التي ما برحت المرأة تحاربها وتدعو الى الانقلاب على مبدئها اللاعادل[19]، لقد اقتصرت الكاتبة النساء بشخصية (شمس) إنه اسم على مسمّى، حيث الإحالة على معنى الحياة والنماء والدفء، فلولا الشمس لما كانت الحياة، فلا حياة بلا شمس، فلا حياة بدون الأنثى، فالأنثى يكمن فيها معنى الخصب والنماء والمشاعر الانسانية، وأظهرت كيف أن المرأة تكون مناضلة وسياسية ووطنية، وأن هذه الأمور ليست مقتصرة على الرجل، إنها دعوت الى الرجل للاحساس بالمرأة ومشاعرها حيث جعلت الرجل بذهنه يحتوي جسد شمس، ذلك الجسد الذي بدا غريبا على باسل المُهيري، وإنه بدأ يفكر كيف يتخلص من هذا الجسد في سياق استرجاع ذاته الذكورية المستلبة، وإن التغيرات الفسيولوجية التي بدت تظهر على جسد باسل المهري جعلته يزدري بنفسه، وإنه لم يعجبه ذلك، إنه متقزز من ذلك، وكان يرى أن البروزات في الثديين والبطن هي محركات لبؤسه[20]، وهذه رسالة تريد الكاتبة أن توجهها للثقافة الذكورية الرجعية التي تختصر المرأة  في جسد مثير، فالكاتبة جعلت شمس شخصية نسوية سياسية مناضلة وثائرة تتبنى موقفا سياسيا مخالفا لسياسة حكم المجرة، وهذا ماتحاول الرواية النسوية تبنيه لتصحيح النظرة الى المرأة والى دورها عبر موقفها[21]، ومن هنا تظهر لنا شخصية الروائية سناء شعلان في روايتها(أعشَقُني)، إنها شخصية ثلاثية الأبعاد تجمع بين العقل( باسل المُهري) والعاطفة ( شمس) والرؤية( سناء شعلان)
 
المبحث الثاني
 
ثيمة الرواية وفكرتها
 
   أن ثيمة الرواية وفكرتها تكمن في نقل رأس باسل المُهري بطل الرواية الى جسد امرأة هي ( شمس) نقل عقل رجل فاعل ومؤثر في دعم السلطة الى جسد امرأة مناضلة سياسية وقفت ضد الفساد في بلدها مما حدا بالمخابرات العسكرية الامساك بها ورميها في السجن ثم قتلها بعد أن فشلوا من أخذ أي اعتراف منها، ويشاء القدر أن يتعرض( باسل المُهري) لحادث اغتيال في نفس اليوم، أدى به الى أن يفقد جسده كله إلا الرأس، وفي الوقت نفسه فقدت (شمس) رأسها وبقي جسدها ساليما نابضا بالحياة، فاجتمع الأطباء( وأكدوا له إن هذا الجسد الأنثوي المنسرح في أحضان الموت بإبتسامة قرمزية مترعة بالسلام والرضا هو الجسد الوحيد الملائم جينيا وأنسجة وخلايا لجسده... لذلك عليه أن يقبل أن يدسّ روحه ودماغه في هذا الجسد الصغير على كره أو رضا حتى ينجو بحياته، وإلا سيموت، وعليه أن يقرر وبسرعة فالتأخير ليس في صالحه)[22] رغبة في النجاة من الموت يقبل بإجراء العملية، وقد أجرى الأطباء العملية بنجاح، وتم نقل رأس الرجل الى جسد المرأة المناضلة شمس، إننا أمام تجربة نقل عقل سليم بجسم معطوب لجسم سليم وبعقل معطوب، رجل في جسد امرأة، أو جسد امرأة بعقل رجل، وهنا يتقابل الموت والحياة، فالموت وجه آخر للحياة، يجتمع القاتل والمقتول وجها لوجه إجتماع أنانية ومصلحة، وبذلك استطاعت الكاتبة سناء الشعلان من خلال خيالها أن تأخذ القاريء الى فضاء رحب فيه عنصر الاثارة والتشويق من جانب، واحتقار وسخرية من رموز السلطة الطغاة من جانب آخر. واستطاعت أن تصور مشاعر الرجل النفسية وهو يعاني التغيير البايولوجي في جسده[23]، إذ إن أول شيء فعله باسل المُهري بعد إجراء العملية، هو مدّ يده الى عضوه( القضيب) لكن مفاجأة غريبة كانت في انتظاره لقد اختفى وترك مكانه تجويفا.... وعندما نظر الى بطنه وجد بروزا حاول بشتى الوسائل أن يقلص حجمه الكبير إلا أنه فشل، وقد سأل الأطباء هل هذا مرض خطير، فقالوا له إنه ليس مرضا ولكنه حالة طارئة لها ظروفها وشروطها ومظاهرها ويمكن معالجته بالعملية، ولكن باسل المهري ما أن سمع  بلفظة العملية حتى استنكر الأمر وقال أخشى أن تنقلوا دماغي هذه المرة الى جسد انسان آلي أو حيوان منقرض، وإذا فعلتوا ذلك فأنقلوا رأسي الى جسد حمار لأنني في غبائي وانقيادي لكم دون أدنى تفكير أوتمهل أشبهه،  ولابد من الاشارة الى أن باسل المهري كان يشعر بالخجل وهو يكشف جسده للأطباء.
 
    لقد اختلط الأمر على باسل المهري( فهو لم يعلم إن كان هو هي أم هي هو أم كلاهما هما)[24]، لقد بات ( يشعر بالوحدة فقد تخلى عنه الجميع حتى زوجته التي نفرت منه واستحوذت على جميع ممتلكاته المالية وابتعدت عنه بعد أن تحول اعجابها به الى نوع من الاستهزاء والبغض، فلم يعد بالنسبة إليها الزوج صاحب النفوذ، بل مجرد مخنث لا قيمة له)[25] إذ إن تجربة نقل الدماغ الى جسد شمس المتوفية/ القتيلة وما ترافقها وتتبعها من تداعيات نفسية وروحية يمثل الاغتراب الوجودي في أوج أشكاله وتساؤلاته، إذ لا تغيب هوية الفرد فحسب بل حتى تحديد جنسه، لذلك فكر في الانتحار، إلا أنه لم يجد الشجاعة الكافية لينفذ هذا الانتحار[26].                                              
 
   إنه يشعر بالاهانة والهزيمة جراء هذا الجسد الذي قرر أن يعذبه ويعاقبه، فكان يشعر بألم في بطنه ولكنه لم يعلم الأطباء بذلك لعله يترك الجسد يتعذب وإن كان هو بنفسه يتعذب أيضا.إنه كان ساديا يتلذذ بتعذيب الآخرين، والآن أصبح ماشوسيا مازوخيا يتلذذ بتعذيب النفس، إنه سلوك هادم للذات[27]،  إنها مخاصمة بين جزأين نصفه الشرس لنصفه الوديع، إنه يفكر كيف يتخلص من هذا الجسد في سياق استرجاع ذاته الذكورية المستلبة، لذلك كان يسعى لمعرفة المزيد عن صاحبة الجسد وعن هويتها بكل الطرق المتاحة، فوجد أن أفضل طريقة للهرب منها هو إليها ولو لبعض الزمن ليصالحها ثم يوفاوضها ثم يخلعها عن نفسه في نهاية المطاف[28].                                 
 
انتصار الحبّ في الرواية
 
  وبعد محاولات جادة حصل باسل المهري على حزمة ضوئية فيها معلومات عن شمس في إطار يوميات كتبتها الى حبيبها خالد والى جنينها ( ورد)، مع مجموعة من رسائل الحب التي بعثها لها خالد، وإن الرسائل التي كتبت على لسان شمس وخالد تنم عن حب حقيقي، إذ وجد باسل المهري في أول صفحة فقرة واحدة فقط مكتوب فيها( وحدهم أصحاب القلوب العاشقة يدركون حقيقة وجود بعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق)[29]،  وفي رسالة يقول خالد لشمس: ( هل تعلمين لماذا أكرر كلمة أحبك ألف مرة لأنها تختزل الانسانية كلها في ممارسة الحب، أحبك وأشتهيك)[30].                 
 
   إن لجوء باسل المهري الى قراءة مذكرات شمس في رحلة التعرف قد أوقعته في مطب وجداني لم يكن يتوقعه، لقد قلبت كل قراراته وتوعداته بالانتقام منها ومن جسدها، إنها لحظة المكاشفة، لحظة الإعتراف بوجود الآخر، فبعد أن عرف باسل المهري حقيقة هذا الحب بينهما شعر بشيء من تأنيب الضمير فقال: ( كم كنت صغيرا في تلك اللحظات! ولصاً أيضاً!.....{ويقول للجنين}: كم كنتَ محظوظا لأنك تملك أُما بهذا الجمال وكل هذا الحب)[31]، فالجنين الذي يحمله جسدها أو جسده هو ثمرة حبّ فريدة من نوعها اقترفها خالد وشمس في مخالفة قانونية لقوانين المجرة.                 
 
    ومن هنا تتغير حالته فيتحول من مجرم لايعرف غير القتل والتعذيب الى انسان مؤمن بأفكار خالد وشمس، فيقرر الإحتفاظ بالجنين( ورد )، فيقول باسل المهيري بعد مخاض طويل:( أعتقد أن الأقدار تضافرت جميعها ولعبت أغرب لعبة وراهنت عليَّ بالتحديد من أجل أن يصل هذا الجنين إليَّ، وأنا لن أخذل أقداري المحتملة، فأنا منذ هذه اللحظة أبوه وأمه ومعلمه...أنا الآن مؤمن بهذا الجسد الأنثوي، ويا لجمال قدري الذي يقودني الى أن أعشقها، أقصد أعشق جسدها بل أعشق روحها وذاتها، فأنا أعشق امرأة هي أنا في واقع الحقيقة الملموس، وأنا إياها في سياق المنطق نفسه، ولكن الحقيقة إنني رجل يعشق امرأة في ظروف عجيبة، إذ أنا ماديا  مفقود وهي روحيا مفقودة، ولكن كلينا في هذه اللحظة في ذات واحدة هي إياها وإياي، فأنا أعشقني، لذلك أنا أعشقها)[32].     
 
   وبذلك يولد العشق بين القاتل والمقتول( القتيلة)، فبعد أن وجد البطل نفسه في جسد اغتاله يقع في عشق جسده الذي كان يوما هو جسد المرأة التي اغتالها، بعد أن تعرف عليها من خلال دفتر يومياتها، فيؤمن مثلها بالعشق، فيعشق بعمق وصدق ويقرر أن يبدأ حياة جديدة بجسده الأنثوي الذي يضم رجولته العاشقة لتلك المرأة التي تركت جنينا في جسدها، فينتصر خيار العشق والحياة على الموت والفناء، فيتحول باسل المهري الى مناضل ومؤيد للثوار بعد أن كان يدا قمعية بيد حكومة المجرة تبطش بالثائرين على علمانيتها وعلى قوانينها الوضعية المضللة، فيؤمن باسل المهري بأن الحب هو الطريق لخلاص البشرية من الشقاء الذي تعانيه[33]، فيقول:( لكي يكون هناك خالد، يجب أن تكون هناك شمس، ولكي يكون هناك معنى لوجود شمس يجب أن يكون هناك خالد هذه هي المعادلة السهلة الصعبة، هما بلا شك البعد الخامس للأشياء، ثم الحب هو البعد الخامس للوجود ومفتاح كل طاقاته وأسرار وجوده ونمائه وفنائه)[34]، ومن هنا قرر باسل المهري أن يتصالح مع ذاته، بأن يكون جسد شمس فضاءه الأخير الذي سَيُسْجَنُ فيه باختياره، في إشارة نسوية الى هزيمة الخطاب الذكوري واندحاره[35]، فيتحول باسل المُهري من الالحاد الى الإيمان، ويصبح مستعداً للمخاطرة بحياته من أجل أن ينجب الجنين(ورد)، وبذلك ينتصر خيار الحبّ والعشق في نهاية الرواية، مبشرا بولادة جيل جديد آخر من البشرية يحمل لواء المحبة والإخاء والعدل والمساواة بعيدا عن الظلم والتعسف.                                                                             
 
    فجاء آخر سطر في القصة على لسان باسل المهري الذي يقول: إن جسدها جسدي وهذا الطفل هو ابني، ويخاطب ورد قائلا: لابدّ أنّ هذه القضية أكبر من فهمكِ الصّغير يا ورد، يوماً ما ستكبر، وتفهم معنى ما يحدث، وستفهم دون غيركَ من البشر معنى  كلمة أَعْشَقُني، أنا يا وردي أَعْشَقُني، أتعرف معنى ذلك؟معناه أنّني أعشق أمّكَ شمس بامتداد لا يعرف نهاية، فهل تغضب؟تستطيع أن تركلني بقدر ما تشاء إن كنتَ حانقاً علي، ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أنّني أَ…عْ…شَ…قُ..نِ…ي..[36]                                                                   
 
   وتشير الكاتبة في ختام روايتها الى أن الانغماس في ملذات الحياة على حساب حب الله والآخرين هي التي تعيق حصولنا على معرفة أعمق بذات الله  وذواتنا، فيقول باسل المهري أخيرا: ( لا إله إلا الله هو ربي وأنا عبده وإليه المآل... أدركت سرّ الضياع الذي تعيشه الانسانية المعاصرة وارثة كل إلحاد)[37] ، وأكدت الكاتبة أن سرّ رخاء البشرية يكمن في الحب والايمان بالخالق وعدم الخروج على طاعته وتعاليمه.
 
 
 
النتائج
 
- كانت الرواية دعوة للرجل للإحساس أكثر بالمرأة وبمشاعرها وآلامها، والكاتبة كانت جريئة في الحديث عن الحب والجنس.
 
-إنها تضع الرجل في جسد المرأة ليكون كائنا خنثيا، وذلك سخرية به، واستطاعت أن تصور مشاعر الرجل النفسية وهو يعاني التغيير البايولوجي في جسده.
 
- لقد استطاعت الكاتبة من خلال خيالها أن تنير فكر القاريء، وأن تأخذه الى فضاء رحب من خلال ثراء روايتها بالدلالات والمعاني والصور الكثيفة والغريبة أحياناً.
 
- أكدت الكاتبة أن سرّ سعادة البشرية يكمن في الإيمان ورضى الخالق وعدم الخروج عن طاعته وأوامر.
 
- يشكل الحبّ عاملا من عوامل التغيير نحو الأفضل، وما صارع الحبّ شيئا إلا انتصر عليه، وفي هذه الرواية ينتصر الحبّ على الكره العداوة، وينقل ذاتا انسانية مجرمة قاتلة الى ذات فاعلة متعاونة طيبة.
 
- كشفت الرواية عن اغتراب الانسان في عالم التكنلوجيا، وتدعو الى عودة القيم الروحية للانسان وتحرره من هيمنة الآلة الصماء.
 
- شاركت الكاتبة سناء شعلان كشخصية خامسة في الرواية، إذ كانت شاهدة ومشاركة في أحداث الرواية تقترب وتبتعد حسب متطلبات القص والسرد.
 
- تضمنت الرواية نقدا لقيم المجتمع السائدة بالقرن الواحد والثلاثين، حيث ازدياد القهر والطغيان ومصادرة الحقوق الى درجة تجرد الانسان من انسانيته ومن مشاعره تجاه أقرب الناس إليه.
 
- يبقى هذا العمل متميزا  ينضاف الى واقع مكتبة الروايات العربية في هذا الجنس السردي.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد