رؤية أكاديمية لربط التعليم والتعليم العالي بمسارات التنمية ودولة الإنتاج

mainThumb

11-04-2019 08:32 AM

المؤسسات التعليمية بدءا من المدرسة الى الجامعة هي البيئة الحاضنة لقدرات الشباب وتنميتها وتوظيفها، وكذلك دورها في إعداد القيادات القادرة على تحمل المسؤوليات في كافة المجالات، ضمن إطار قيمي صادق يتميز بالرأي الموضوعي الذي يعتمد المنهجية العلمية والرؤية الواعية في التفكير كأساس لنهضة المجتمع القادر على مواجهة مواقف الحياة بتحدياتها وإرهاصاتها المختلفة بمهنية عالية وثقة كبيرة، لتكون هذه الصروح قادرة على ترجمة طموح جلالة سيد البلاد وموضع ثقته في تنمية القدرات البشرية وتأهيلها علميا وإنتماء صادقا، وأن تكون نظرة تفاؤل بمستقبل هذا الوطن، وقدرة أبنائه ونضوج تجربتهم لتجاوز الصعاب والعقبات، ولتتابع مسيرتها للنهوض بالوطن ومقدراته، ولترفد مسيرة مجتمعنا تقدما ونهضة.
والدور المناط بالجامعات والمؤسسات التعليمية وأساتذتها تجاه المجتمع، يعتبر من صلب عمل ومسؤوليات وأخلاقيات العمل الأكاديمي، لتحقيق التنمية بمفهومها الشمولي ومنها التنمية الفكرية، وترسيخ المجتمع العلمي، والقدرة على التفكير الشمولي في حلول المشكلات والأزمات، والقدرة العقلية على التحليل، وتنمية الدافعية لدى الطلبة وتحفيزهم على الإبداع.
 
ومهمة الأستاذ الجامعي، هي مهمة تربوية تسعى لإضفاء المسحة الثقافية، وترسيخ مفهوم الوعاء الثقافي الشمولي لدى طلبة الجامعات الذي يعدّ ركناً أساسياً وداعماً حقيقياً لبرامج التنمية. ممّا يتطلب أن يكون الأستاذ الجامعي مؤهلاً تربوياً إلى جانب تأهيله المعرفي والأكاديمي، ويمتلك القدرة في التأثير إيجابيا على سلوك الطلبة وعاداتهم وطرق تفكيرهم، وبناء عقلية الإبداع والإبتكار وتوجيهها في مسارات هادفة نوعا وكمّا، وتعظيم قيمة العمل والعطاء الذي يرسّخ مفهوم الإنتاج وينعكس على تنمية المجتمع.
 
كما أن قيام الجامعات بمسؤولياتها وتنفيذ إستراتيجياتها العامة بمنهجية وخطط مدروسة واضحة المعالم، لتأدية دورها التنموي الفاعل فإن ذلك ودون أدنى شك سينعكس إيجابيا على المجتمع وتقدمه الذي هو في أمس الحاجة إلى الخريجين المؤهلين الذين ستلقى عليهم مسؤولية التوجيه والقيادة لمسارات المجتمع والوصول بها إلى دروب التنمية بمختلف صورها وأبعادها، مما يعزّز الثقة في هذه الصروح العلمية التي تسهم في تنمية القدرات البشرية، وإطلاق طاقات الشباب الكامنة وتوظيفها بأسلوب علمي رصين.
 
إن جامعاتنا ومنابرنا التعليمية، هي حاضنات وعي وفكر وتقدم ورفعة الأمر الذي يتطلب توجيه مسيرة الجامعات نحو الاهتمام بالمحور النوعي في التعليم الذي يرافقه تفكير منهجي وإدارة تعليمية تنهض بالمؤسسة التعليمية برمتها، لإحداث النقلة النوعية التي أشار إليها جلالة الملك عبد الله الثاني أعزه الله في أكثر من مناسبة لتنعكس آثارها على مفاصل الحياة في مجتمعنا وللنهوض بمكانة الأردن إقليميا ودوليا.
نعم، إن التعليم العالي بحاجة إلى نقلة نوعية حقيقية وعملية، وقرارات جريئة لا تخضع لسياسة الإسترضاء التي يعاني منها قطاع التعليم، وأن القادرين على إحداث هذه النقلة هم المؤهلون والمؤمنون بالعمل المؤسسي وترسيخ مفاهيمه في الوسط الأكاديمي رؤية ومتابعة وواقعا وتنفيذا، والذين لا يسعون إلى شعبية زائفة، ويسمّون الأمور بمسمياتها بوضوح وصدق، والمنزهون عن عمل البزنس والتجارة في التعليم على حساب مسارات التنمية.
ولتحقيق مفهوم التنمية الشمولي وللوصول إلى دولة الإنتاج، فإن البناء الحقيقي لمنظومتنا التعليمية والتربوية والاجتماعية يجب أن يكون على قائمة الأولويات وذلك بصياغة نهج تربوي وتعليمي أردني القالب والمضمون هوية وانتماء، وعربي الرسالة وعالمي المدارك والمعرفة يكون قادرا على وضع نفسه بقوة على خريطة العالم المعرفية يؤثر ويتأثر فيها بكل إيجابية. 
وهنا لا بد من متابعة عدة أمور ووضعها في ميزان مصلحة مجتمعنا الأردني لتنعكس الرسالة التي تحملها الجامعات على التنمية والانتاج والتي أرى أنها تتمثل فيما يلي: 
.1 تنمية مفهوم العمل والضمير المؤسسي في مجتمع المدرسة والجامعة الذي يهدف إلى إحترام العمل وإتقانه وإنجازه بأفضل صورة، ليصبح ذلك نهجا يمارسه الطالب والموظف والأستاذ في المدرسة والجامعة.
 
 .2إن صياغة مرحلة جديدة من مراحل البناء والتنمية الشاملة يبدأ بالتعليم بمختلف مراحله وضمان جودته للحصول على مخرجات تعليمية متميزة الأمر الذي يتطلب صياغة الأهداف التعليمية القابلة للتطبيق من أجل مواكبة عصر المعلومات وثورة التكنولوجيا التي تسير بتسارع كبير في وقت لا يرحم الكسالى أو المترهلين. 
 . 3إعادة الهيبة لمنظومتنا التعليمية والتربوية والحلول كثيرة ضمن إستراتيجية عمل وبناء تراكمي مستمر، وتطبيق التعليمات وإحترام منظومة العمل، وعدم الإستقواء على المؤسسة، ووضع حلول عملية بعيدا عن التنظير والتسويف.
وهذا يتطلب تعزيز مكانة المعلم والاستاذ الجامعي في المجتمع كاصحاب رسالة، حيث أن معظم دول العالم المتقدم تضع مهنة التعليم على قائمة اؤلوياتها لتستمر الريادة والتقدم، فهذه المانيا وغيرها من الدول المتقدمة إختارت المعلم المتفوق والمؤهل تعليما وتدريبا ووضعته في مقدمة الصفوف ليكون قادرا على بناء الانسان في مختلف مناحي الحياة ومجالاتها. كما يتطلب ذلك مراجعة التشريعات الخاصة بالتعليم في جميع المراحل تعزز من مكانة المعلم والاستاذ الجامعي وهيبته الاعتبارية يرافق ذلك توجيه كافة المؤسسات من اعلام ومؤسسات مجتمع مدني وتفعيل دور المدرسة الموازية (دور الأهل) لدعم المعلم والاستاذ الجامعي لأنهم الأمناء على مصلحة أبنائنا الطلبة.
 .4من الأهمية بمكان كبعد تنموي وإقتصادي، ترسيخ مفهوم ثقافة الإنتاج في عقول الشباب واقصاء ثقافة الاستهلاك والسلوكيات غير المبررة لينعكس ذلك عل مستويات المعيشة وتحسين نمط الحياة.
. 5 الإستثمار الحقيقي يكون في الإنسان المؤهل، وتدريب الكفاءات البشرية في مجال التعليم مع مراعاة أن يتم تعيين المتميزين علما وسلوكا في مجال التعليم الجامعي، وضرورة تأهليهم تربويا ليتحقق الهدف الشمولي في مجالي التربية والتعليم على حد سواء.
6. القيام بدراسة شاملة ودقيقة لواقع الدراسات العليا ومراكز البحث العلمي إلى أين تتجه بوصلتها؟ وعلى ماذا تقف لتنعكس على مسيرة التنمية والإنتاج؟ وهذا بحاجة إلى وقفة موضوعية وإجابات جريئة من أصحاب القرار الذين يرسمون سياسة التعليم العالي، ومن الأكاديميين العاملين في المجال، لأن ذلك يشكل إنطلاقة حقيقية للنهوض بمسيرة البناء والتنمية، إضافة إلى فتح القنوات مع المؤسسات العلمية والبحثية العلمية والإفادة من تجاربها.  
 
. 7 إيلاء التعليم التقني والتدريب المهني الإبتدائي (حملة شهادات دون الثانوية العامة) والمتوسط (دبلوم سنتين ما بعد التوجيهي) والعالي (حملة الشهادات الجامعية) كل إهتمام ومتابعة الذي يركز على التأهيل والتدريب التطبيقي في قطاعات واسعة تخدم مسيرة البناء والعمل، حيث أن التعليم التقني والتدريب المهني الشامل غاب لأكثر من ثلاثة عقود، ولم يكن من الأولويات، فأختل التوازن وزادت البطالة بشكل مضطرد لدى الشباب في ظل عدم السيطرة على ضبط مخرجات سوق العمل، حيث أن إحصائيات ديوان الخدمة تشير إلى مايزيد على ربع مليون طلب للتوظيف من حملة الشهادات العلمية من مختلف الدرجات العلمية وهي في معظمها تخصصات راكدة. ناهيك عن وجود عدد مماثل من الذين لم يتكمنوا من النجاح في الثانوية العامة خلال السنوات الماضية. مما يشكّل هاجسا وتحديّا للدولة وفي مختلف المجالات، لإيجاد حلول ناجعة لهذه الاعداد من أبنائنا وبناتنا الذين يصارعون الفراغ ويقضون أوقاتهم سدى بسبب غياب البرامج الهادفة، فتضيع الجهود الشابة وتترسخ ثقافة الإستهلاك لديهم دونما إنتاج يذكر، فينعكس ذلك سلبا على تنمية موارد الدولة الاردنية. 
 
 لذا، فان مراجعة ودراسة ملف التعليم التقني والتدريب المهني بشمولية بأبعاده المتعددة، وتصحيح الخلل وإعادة هذا الملف إلى سكة التنمية والإنتاج التي ننشد، ممّا يسهم في حل مشكلة البطالة، وسد النقص الحاد في هذه المهن التي في اغلبها تعتمد على العمالة الوافدة، كما يوفر مبالغ من العملة الصعبة التي تذهب خارج المملكة، وأذكر هنا مثالا لا الحصر، حيث أن العاملين في قطاع الإنشاءات وحده يحّولون ما يقارب المليار ومائتي مليون دينار سنويا إلى بلدانهم، وبلغة الأرقام أن هذا المبلغ الكبير لو تم إنفاقه داخل المملكة سيكون مضاعفا، وله قيمة مضافة تسهم في رفد حركة الاقتصاد وتوفير فرص عمل للشباب الاردني الذي يبحث عن العمل.
 
وللأمانة، فان معالجة الخلل الذي رافق التعليم العام والتعليم العالي على حد سواء لا يتم بين عشية وضحاها ولا بامتلاك عصا سحرية، الأمر الذي يستدعي مراجعة شاملة ثابتة الخطى تقييما وتقويما تنفذ بمنهجية واضحة وإدارة حكيمة وإرادة قوية تمتلك الرؤية الثاقبة لمستقبل الأجيال ومستقبل أردننا الغالي، لاننا ندرك أهمية محور التعليم الأساسي والتعليم العالي والبحث العلمي التطبيقي المرتبط بالتميز والتطوير والإبداع، وربط ذلك مع قطاعات الصناعة في القطاعين العام والخاص يعتبر الأكثر دقة لتحقيق التنمية، يقود ذلك نخبة واعية قادرة على حمل قناديل المعرفة والتقدم، لأنها القادرة على صنع الحضارة والنهوض بالمجتمع، وهم الثروة الحقيقية للوطن في ظل دولة الانتاج.
 
أضع هذه الرؤية الأكاديمية أمام معالي وزير التربية والتعليم ووزير التعليم العالي والبحث العلمي وأمام دولة رئيس الوزراء لأن الإستثمار الحقيقي هو في التعليم الذي يتضمن مدخلات قوية ثم التعليم ثم التعليم الذي يراعي البعد البنائي للمجتمع، وليكن ذلك على مراحل، وأن كان ذلك مكلفا لأن النتيجة ستؤتي أكلها خلال عقد أوعقدين من الزمن، ولنبدأ نحث الخطى وبدون تأجيل في معالجة الخلل الذي يكمن في تراجع مفاهيم التربية والتعليم، لتعود كما كانت وأفضل بالسير على السكة الصحيحة، فهل نبدأ في هذا المشروع الوطني الحقيقي وعلى مراحل الذي يخدم مستقبل وطننا وابنائنا، لأنه يؤسس لمرحلة بناء حقيقية لمنظومتنا التعليمية والتربوية وحمايتها من التصدع وبعض الامراض التي أخذت تغزو نظامنا التعليمي، وهي بحاجة الى جراحة ناجحة بأيد ماهرة مخلصة وأمينة، لينعكس ذلك إيجابيا على مسارات التنمية في مجتمعنا الأردني، فهل نحن فاعلون؟  والله خيرحافظ لأردننا، ودمتم ودام الوطن، ودام جلالة مليكنا المفدى يقود مسيرة البناء والعطاء قائدا وسيدا، وحفظ الله سمو ولي عهده الأمين.  
 
* كاتب واستاذ جامعي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
عميد كلية الصيدلة سابقا في جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية وجامعة اليرموك
رئيس جمعية أعضاء هيئة التدريس سابقا.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد