الهجرة النبوية الشريفة وخارطة الطريق

mainThumb

01-09-2019 09:02 AM

يستذكر المسلمون مع بداية كل عام هجري ذكرى الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة التي حدثت قبل 1441 سنة، وإن الأصل الذي ينبغي أن يستفيده المسلمون من هذه الذكرى هي الدروس والعبر التي تحمل الدلالات والمعاني التي تنعكس على واقع المسلمين المعاصر، لا أن تكون ذكرى الهجرة النبوية الشريفة مجرد حدث تاريخي توقف بمرور عصره.
 
وإن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة متعددة، تصلح لأن تكون أصولًا ومرتكزات ترسم خارطة الطريق لنهوض الأمة وخلاصها من هذا الواقع الأليم وتمكنها من تحرير مقدساتها، فهذه الخارطة الإلهية بقيادة محمدية، عملية مكنت المسلمين من النهوض من ضعفهم وتهجيرهم من وطنهم وأرضهم  في مكة المكرمة إلى العودة والفتح والتحرير بزمن  قياسي بعد ثمان سنوات.
 
ومن أبرز هذه الدروس المستفادة:
 
1- الصبر مع شدة المعاناة والظروف الصعبة التي تمر بالأمة، ففي الوقت الذي كان يعذب فيه المسلمون في مكة المكرمة من قبل كفار العرب كما فعلوا مع الصحابي الجليل بلال بن رباح وعمار بن ياسر لمّا أسلم  ياسر وسمية وعمار, وأخوه عبد الله بن ياسر، غضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا، وصبوا عليهم العذاب صبًّا، قال ابن هشام في السيرة النبوية: " وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة ( الرمل الحار من شدة حرارة الشمس )، فيمر بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: ( صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدَكم الجنة )، فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام. فمات ياسر ـ رضي الله عنه ـ من شدة العذاب، وسميّة ـ رضي الله عنها _ طعنها أبو جهل فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام.
 
2- التفاؤل والأمل وعدم اليأس والقنوط: فقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة في مكة المكرمة على التفاؤل والأمل بالنصر والتمكين وهم في رحم المعاناة ليعزز فيهم قيمة عدم الاستسلام والتثاقل عن العزيمة، قال الله تبارك وتعالى:"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (سورة البقرة:214 ) . وروى الإمام البخاري رحمه الله: عن خبَّابِ بن الأرتِّ قال: "شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: «كان الرجلُ في من قبلكم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسِه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِه من عَظْم أو عصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، والله ليُتمنَّ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون".
 
3- التخطيط السليم والمحكم: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط للخروج من هذا الواقع ولم يقف مكتوف الأيدي فقد أمر أصحابه _ رضي الله  عنهم_ بالهجرة من مكة المكرمة حيث يضطهدون إلى أرض الحبشة حفاظا على دينهم وحياتهم فهاجرو على مرحلتين وكان صلى الله عليه وسلم  يعرض نفسه على الوفود التي تأتي إلى مكة يدعوهم إلى الإسلام فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية من أهل المدينة المنورة لتكون مستعدة لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به ليبدأ ببناء دولة العدل فكان له ذلك فهاجر إليها.
 
4- الأخذ بالأسباب المادية المساعدة في نشر دعوة الإسلام فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد فقط على المغيبات والمعجزات الإلهية ويهمل الاسباب المادية، فلما أراد الهجرة اختار الوقت المناسب والدليل في الطريق الذي يرشده إلى طريق  آمن يوصله  إلى المدينة المنورة ولما لحق به المشركون لجأ إلى الغار ليختفي عن الأنظار.
 
5- الاعتماد والتوكل على الله تعالى الذي نصره وحفظه في الغار كما جاء ذلك في قوله تعالى:" إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم"ٌ (التوبة:40)
 
6- التضحية والفداء بالنفس والمال إذا دعت الحاجة في سبيل إقامة الحق والعدل والتحرير والدعوة لدين الله تعالى كما ضحى ياسر وزوجته سميه، وغيرهم كثير من الشهداء، بأنفسهم، وكما ضحى صهيب بماله يوم خرج متخفياً من مكة قاصداً المدينة في إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من المهاجرين، فلحقه كفار قريش واستطاعوا أن يصلوا إليه وقالوا: "جئتنا صعلوكاً حقيراً لا مال لك وتخرج من بيننا وقد كثر مالك والله لا يكون ذلك"، وكان صهيب رامياً وكانت كنانته مليئة بالأسهم فقال: "والله لن تصلوا إلي حتى لا يكون سهم من كنانتي إلا في واحد منكم، فهل لكم في شيء خير"؟ قالوا: "وما هو"، قال: "أرأيتم إن تركت لكم مالي أكنتم تاركي؟" قالوا: "نعم"فدلهم على موضع ماله كله الذي ادخره في حياته فأطلقوا سراحه وأخذوا ماله.
 
7- المؤخاة بين المسلمين، المتمثل بمؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فأصبحوا أخوة مثل الجسد الواحد كما قال الله تبارك وتعالى:" إنما المؤمنون إخوة" "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (سورة ال عمران:103).
 
8- هجر المعاصي والذنوب، والعمل على تربية الأمة للعودة والرجوع إلى تعاليم الإسلام وقيمه السمحة، قال صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»،وروى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال؟ فقال: «طول القيام»، ثم سُئل عن أفضل الصدقة؟ فقال: «جهد المقل»، ثم سُئل عن أفضل الهجرة؟ فقال: «من هاجر ما حرم الله عليه".
 
9- المساجد ودورها في وحدة الأمة وتربية المسلمين التربية الإسلامية الصافية النقية من الانحرافات الفكرية والأخلاقية،  وتعظيم شأن المساجد في نفوس المسلمين وتلبية نداء حي على الصلاة حي على الفلاح، فمن أوائل الأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة المنورة بناء المسجد.
 
إن هذه الدروس والمرتكزات المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة لما تحققت في حياة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-  نهضوا من ضعفهم وواقعهم الأليم في مكة المكرمة وانتقلوا إلى مرحلة الفتح والتحرير فوصلوا إلى المرتكز العاشر وهو فتح مكة وتحريرها من المتكبرين الذين أخرجوهم منها وهجروهم فعادوا إليها فاتحين منصورين فكانت البشارة برؤية وسورة الفتح التي قال الله تبارك وتعالى فيها " لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (سورة الفتح:27). فإذا أراد المسلمون في هذا الزمان أن ينهضوا من سباتهم وضعفهم وأن يتمكنوا من تحرير مقدساتهم وأن تعود إليهم عزتهم فعليهم بتحقيق هذه القيم والمرتكزات التي ترسم لهم خارطة الطريق الإلهية والنبوية في واقعهم، وأن لا يعتمدوا كثيرا  على مبادرة اللجنة الرباعية الدولية التي رسمة خارطة الطريق لتحقيق السلام في المنطقة والاعتراف بدولة ولو على حدود جزئية لإقامة دولة من الأرض الفلسطينية المحتلة من قبل الكيان الصهيوني الغاصب فقد ثبت فشلها.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد