الوعاء الثقافي ما بين الأرض والانسان

mainThumb

24-11-2019 07:58 AM

أن تعمل مؤسساتنا التعليمية والتربوية والثقافية على ترسيخ القراءة الذاتية يعتبر خطوة جادة ومخلصة تسير في الاتجاه الصحيح لتحصين الأجيال فكريا وثقافيا، في ظل المتغيرات المتسارعة في عالم العولمة  التي لم تراع وجود كوابح تخفف من سرعة التهور والطيش، مما يستوجب ان يكون لدينا فلترة واضحة تستند على أساسيات يجب مراعاتها ضمن اطار وطني شمولي يوجه بوصلة الشباب نحو ما يخدم مستقبلهم ليكونوا معاول بناء وانتاج.

ومن هنا فان موضوع الثقافة الشمولي اصبح منحسرا للأسف في تفكير الشباب وما الذي يمنع ان يوجه طالب المدرسة والجامعة وكذلك الطبيب والمهندس والمعلم والمختص بالاجتماع والتاريخ ليمتلك ثقافة زاخرة  في موضوعات متعددة في العلم والأدب والفكر والفلسفة والشعر والفن والتراث.

واذا نجحنا بذلك، فنحن  في حقيقة الأمر نؤسس لنواة فكرية وسلوك حضاري راق تنعكس اثاره على البيت  والشارع ومكان العمل ويستفيد من مخرجات ذلك كل شرائح المجتمع، كما يستفيد منها الطفل وطالب المدرسة وطالب الجامعة والمثقف وترسّخ مفهوم حب القراءة والمطالعة في الوقت الذي أصبحت فيه القراءة ليست من أولويات الأسرة، لأن متغيرات كبيرة واهتمامات أخرى كثيرة ومنها ثقافة الموبايل وغيره أخذت بالشباب بعيدا بعيدا عن  الكتاب. فقلّما نجد شخصا يطالع كتابا وهو متجه من عمان إلى العقبة مثلا، أو تجده اتخذ مكانا في المعهد والجامعة يطالع كتابا حيث يضيع الوقت هدرا، في الوقت الذي نجد فيه الكثير من شعوب الأرض  يقرأون  على جوانب الطرق بانتظار القطار أو الباص ...في البيت ... أو في وقت الاستراحة أو في المدرسة أو الجامعة أو في أية فرصة تتاح لهم، فأصبحت المطالعة سلوكا يوميا يمارسونه في حلهم وترحالهم.
 
أن مسؤولية ترسيخ القراءة ليست حصرا بوزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والجامعات  وحدها، بل هي مسؤولية البيت والمدرسة كافة المؤسسات ذات العلاقة، لأننا إن نجحنا في تعميم ذلك على شرائح المجتمع كافة نكون في ذلك قد وضعنا أساس الطريق الصحيح نحو جيل مثقف واع ليصبح متطورا بعقله وفكره، لأن المثقف متعلم وليس بالضرورة أن يكون المتعلم مثقفا. 
 
وممّا يثلج الصدر أن تجد بعض الأسر تصطحب أطفالها من وقت الى اخر إلى مهرجانات الكتب والفعاليات الثقافية الهادفة التي تشد اهتماماتهم، فما أجمل أن نغرس ذلك في نفوس أطفالنا وعقولهم مما يولّد لديهم الدافعية ويشجعهم على تأسيس مكتبة في كل بيت، لان ذلك أمر له قيمة كبيرة حيث يفتح آفاقا جديدة ويغرس سلوكيات ايجابية تنعكس على مستقبلهم ومستقبل الوطن الذي هو في أمس الحاجة إليهم ليكونوا براعم خير وعناصر بناء.
من خلال القراءة والكتاب تقوم برحلات عبر الايام التي انقضت قبل مئات السنين فتتعرف على افلاطون وجابر بن حيان... وتجتمع مع ايليا أبو ماضي من خلال شعره العميق وفلسفته الانسانية العظيمة وتردد معه:
يا أخي لا تمل وجهك عني                      ما أنا فحمة ولاأنت فرقد 
وتكون قد التقيت احمد شوقي وتردد معه:
صوني جمالك عنا اننا بشر           من التراب وهذا الحسن روحاني 
وتردد معه ايضا:
 وطني لو شغلت بالخلد عنه        نازعتني اليه بالخلد نفسي
 
وتكون يدك قد صافحت يد حافظ ابراهيم احد سدنة لغتنا العربية الذي قال فيها بحرقة وألم معاتبا:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية                     وما ضقت عن آي به وعظات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن                فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
أيهجرني قومي –عفا الله عنهم-               الى لغة  لم تتصل برواة
 
وتكون فد حلقت في عالم عرار الشاعر الذي تغنى بالأ ردن وطنا لا يماثله وطن، فتغنى  في شيحان...وتل اربد ومرتفعات السلط...ووادي الشتا ووادي السير وفي دحنون وشيح وزعتر وقيصوم المفرق ومعان وسهول حوران وكل بقعة مر بها على هذه الأرض التي أحب موصيا الأردنيات أن يكن أكفانه، وتتذكر ارتباطه بالوطن الذي أحب قائلا:
يا أردنيات إن أوديت مغتربا                        فانسجنها بأبي أنتن أكفاني
وقلن للصحب واروا بعض أعظمه                 في تل اربد أو في سفح شيحان
عسى وعل تمر بي مكحلة                           تتلو عليّ آي قرآن     
 
ويمتعك نايف أبو عبيد بشعره الشعبي التراثي الذي يرتبط بالأرض والأنسان، وتترحم على عدو النفاق سليمان عويس في ثروة شعرية مقتت النفاق والمنافقين كما تغنت مواويله بالبيدر وموسم الحصاد وربوع الوطن الخضراء، وتتذكر أيضا أديب عباسي ناسك الحصن وشيخ الأدباء الأردنيين الذي كان مجنونا بعشقه لوطنه وأمته، وغيرها من الموضوعات الكثير الكثير التي تعيش فيها نزهة جميلة وأنت تنتقل بين حقولها تقطف من بساتينها أزهارا متعددة الألوان وتفوح منها رائحة المسك والعنبر.
أوليس كل هؤلاء مبدعون؟ أوليس لهم حق علينا أن نقرأ لهم  جميعا؟ أن هؤلاء  وغيرهم من المبدعين هم الذين يحدثون الحراك في الحياة ويدفعون بعجلتها بتسارع تارة وبهدوء تارة أخرى ويجعلون لها طعما ولونا ورائحة.  
 
 نعم، أن الكتاب هو مصدر الثقافة وهو خير جليس في كل زمان ومكان، فيروي لك قصص الاباء والاجداد والحضارات والامجاد، ويغوص في علم المحيطات والانهار، ويطير بك الى عالم لم تزره من قبل، ويعرفك على عادات الشعوب التي فيها كل ما هو مستظرف او عجيب.
نعم، من الواجب تحصين ابنائنا ثقافيا وفكريا ليكونوا قادرين على عبر عباب الحياة وارهاصاتها وتحدياتها بخطى ثابتة وواثقة، والذي يحقق لهم ذلك هو امتلاكهم للوعاء الثقافي الشمولي الذي يسهم في تنمية مداركهم ؟
نعم، ان الأمة التي تقدر الكتاب هي أمة حيّة تغرس في أجيالها طرق التفكير السليم وتعزّز السلوك الحضاري عندهم وتشكّل لديهم الوعاء الثقافي الشمولي.  وويل لأمة لا تقدّر قيمة الكتاب وأقصته جانبا، فهي في ذلك حكمت على نفسها أن تبقى في ذيل القافلة وتعيش في دائرة التخلف والهوان.   
ولتبدأ مؤسساتنا التربوية والتعليمة والثقافية والاعلامية في اعطاء هذا اولوية قصوى واهمية كبيرة، لانني اعتقد كما يعتقد الكثيرون ان في ذلك ترسيخا  لنهج وطني مخلص يصب في صالح الوطن ويجعل من الناشئة جيلا يقرأ، لندحض ما يعتقد الاخرون  في أننا أمة لا تقرأ، ولنجعل من الكتاب زادا طيبا نستمتع به، وشرابا عذبا فراتا لذة للشاربين، ولنضع ذلك أولوية من أولوياتنا الوطنية على مستوى الأفراد والمؤسسات، فإذا أردت أن تزور صديقا في مناسبة ما فقدم له كتابا، وإذا أردت أن تكرم تلميذا متفوقا فأهديه كتابا، وإذا أردت تمنح أطفالك شيئا فحببهم بالقصة والكتاب، وإذا أردت أن تقيم جسورا بينك وبين الناس فأجعل للكتاب نصيبا. وأخيرا، أجعل من الكتاب أوفى صديق وخير جليس في هذا الزمان الصعب، لأننا بذلك نكون قادرين على مجابهة التحديات بمعرفة شاملة  ووعي كبير وفكر مستنير يضيء لنا دروب المستقبل بتفاؤل نحو تحقيق الأفضل دائما لوطننا ومستقبل ابنائنا.
 
دمتم ودام اردننا بالف خير، ودام جلالة مليكنا المفدى الباحث والانسان سيدا وقائدا، وحفظ الله سمو ولي العهد الأمين الذي يولي لغة الضاد كل اهتمام التي وسعت كتاب الله لفظا وغاية. 
 
كاتب واستاذ جامعي/كلية الصيدلة - جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية.
عميد كلية الصيدلة سابقا في جامعتي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا الاردنية.
رئيس جمعية اعضاء هيئة التدريس سابقا.       
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد