عازف الناي 4

mainThumb

01-02-2020 11:27 PM

(كوخ ياقوت بعد منتصف الليل. قنديل مشتعل، معلق في زاوية ما ، يُرى ياقوت جالسا على سريره، مفكرا ، مهموما، نافذة مفتوحة خلف السرير في صدر الكوخ . تطل مزدان من النافذة)
مزدان : ألا زلت مؤرقا؟
ياقوت : يا مجيب الدعاء  (يلتفت إليها متبرما) عدت ثانية؟!
مزدان : أشفقت عليك ، رأيتك كئيبا ، والحيرة قد غلبتك ، فعدت.
ياقوت : إرحلي عني ، أتوسل إليك ... عودي غدا لو شئت، أما الليلة فدعيني وحدي.
مزدان : لماذا؟ ... وقد جئت للتسرية عنك .
ياقوت : لا وقت للتسرية عندي الليلة. عودي في وقت آخر ...
مزدان : عجيب أمركم أيها البشر، تركضون وراء نسائكم مع أنهن تافهات قياسا لما نحن عليه من جمال ، وذكاء،وبراعة ...
ياقوت : إرحميني واذهبي.
مزدان :(لا مبالية) لقد ضمرت في نفسي أن أهبك حبي ، ولا فائدة ترجى فيك ... مع أنك لو فكرت بعقلك أخترتني دون إبطاء أو تردد.
ياقوت : (مفتعلا الهدوء) حسنا... إذهبي الليلة ، وعودي غدا نتفاهم، فقط دعيني الآن وحدي.
مزدان : لماذا نرجيء تفاهمنا إلى الغد ، ما دمت متفقا معي بضرورة التفاهم ؟
ياقوت :(بنفاد صبر) يا ربي ... ماذا أقول لها ؟
مزدان : الحقيقة .
ياقوت :(متمالكا، ومتكلفا اللطف) علي أن أحل لغزا ، والفجر قد اقترب ، وأنت لا تتركين لي مجالا للتفكير...
مزدان : إعرض لغزك فأفكر معك .
ياقوت : (منفعلا) مستحيل ... هذا غير معقول.
مزدان : لماذا؟
ياقوت )متمالكا) علي أن أفكر وحدي .
مزدان :(بلهجة مثيرة) الله قد أرسلني إليك لكي أساعدك في محنتك فترفض؟ أي ناكر للجميل أنت ؟!
(ياقوت ينظر إليها حائرا)
مزدان : فيم حيرتك؟ قطعت قلبي ، تكلم .
ياقوت : علي أن أختار شيئا من ثلاثة ... أراني عاجزا عن الاختيار ، وأنت السبب.
مزدان : تختار ماذا؟ أصدقني القول ، قد أدلك على الحل .
ياقوت :(يائسا) على رأيك... ما دمت عاجزا عن الحل  ، فلم لا أشرك أحدا معي ...؟
( تقفز من النافذة إلى الداخل جذلة ، بينما يباغت ياقوت بحركتها هذه، ويهب واقفا مبتعدا عن سريره، ثم يبتسم ببلاهة)
مزدان : ما الفرق... كنت أتحدث اليك من خلف النافذة ، فلم لا أفعل هذا أمامها؟
(يضحك باستهتار، ثم يكف عن الضحك ويطرق بوجوم، مزدان تنظر إليه نظرات فاحصة ثم تجلس على السرير بخفة وبساطة)
مزدان :ها ... قل لي ما يشغلك إذن؟(لحظة) أتوق لمساعدتك، صدقني.
ياقوت : علي أن أختار ما بين(يتناول الناي عن السرير ويحتضنها) : العزلة ... أو... (يلقي الناي على السرير بإهمال) أو غير العزلة    .(يحتضن الناي مرة أخرى) أو الرحيل...؟!
مزدان : (بحماس) إذن اخترت الرحيل .
ياقوت : مجنونة أنت ... أأرحل عن بلدي؟
مزدان : وماذا  يعنيك منها ما دامت تتنكر لك؟
ياقوت : لم يتنكر لي أحد.
مزدان :(ساخرة) أين أصحابك إذن ليحلوا لك مشكلتك؟
ياقوت :(يجلس على السرير) لم أشركهم بها ... لو كنت صارحتهم بما حدث لما تخلوا عني أبدا.
مزدان : وحبيبة قلبك ... فتاتك التي رأيتها معك.
ياقوت : هي أيضا لا تعلم شيئا.
مزدان : هذا يخيل لك فقط. لقد رأوا بأعينهم كل شيء... لكنهم خائفون.
ياقوت : كانوا ينتظرونني فعدت . فرحوا بلقائي واستبشروا خيرا. (تنظر إليه بشك ، يتابع مضطربا) لم أكشف لهم ما جرى بيني وبين شيخ اليلد.
مزدان : كانت هيأتك كافية لتفضح ما تخفيه في قلبك، لكنهم تغاضوا عنك.
ياقوت ):غاضبا) أنت تحاولين تشويه صورة أصدقائي أمامي  ، وأنا لا أسمح لك بهذا أبدا.
مزدان :أنتم معشر البشر ترفضون سماع الحقيقة عندما تكون مجردة ... دون غش أو تزوير، ترفضون قسوتها فتتغاضون  ، وتتغابون، وتنتحلون الأعذار   .
ياقوت :(يقف ثائرا) كفى ... أخرجي من بيتي أيتها الجنية.
مزدان : (تضحك بسرور) أخيرا... أخيرا أرحتني ، وعلمت من أكون!
ياقوت : (مندهشا) ماذا؟ هل أنت حقا جنية يا هذه؟
مزدان : تصور ...؟ واسمي مزدان.
ياقوت :(يردد ببلاهة) مزدان ...مزدان ...(يضحك باستهتار) مزدان جنية، لم لا ؟
(يجلس قربها دون تحفظ)
مزدان : أترى الفرق بيني وبين صحبك جميعا؟ (تقترب منه) أنا هجرت موطني وأتيت إليك في محنتك (لحظة) نساؤكم لا يفعلن هذا. ها هي حبيبتك قد تخلت عنك.
ياقوت :(يقف منفعلا) لا تتحدثي عنها هكذا ... هي أشرف من أن تتناوليها بحديثك.
(مزدان تنظر إليه بغضب ثم تتمالك)
مزدان : حسنا، أنت لا تفهم شيئا الآن، ولكن سوف تتكشف لك الأمور مع مرور الأيام.
ياقوت : اتفقنا ، فارقيني إذن  برحيلك، ريثما تتكشف لي الأمور ، فأختار .(يجلس معرضا عنها)
مزدان : (بعتاب لطيف) أنت أهنتني منذ قليل ولكني سكت مراعاة لشعورك المضطرب ... وها أنا أرفض فراقك لنفس السبب ، فافعل ما بدا لك.
(تتربع على السرير)
ياقوت : (يقف ثائرا من جديد) سوف أحملك بيدي هاتين ، وأرميك خارج الكوخ)
مزدان ):بتحد ولطف) سأعود في نفس اللحظة لأتربع فوق هذا السرير.
(ينظر إليها بدهشة، بينما تنظر إليه نظرة خاصة، يهدأ، تشير إليه بالجلوس، يجلس)
ياقوت : ماذا تريدين مني ؟
مزدان : ترحل معي.
(يحتضن الناي بذعر)
ياقوت : أأترك بلدي؟
مزدان :(تشير للناي) تصحبها معك.
ياقوت : ومن سيستمع إلى عزفي عندكم ؟!
مزدان : (بحماس) كلنا ... نحن نعشق الفن ، ونحب الفنانين . ألم تسمع بشياطين الشعر ؟ سوف تراهم بعينيك هاتين.
(يضع الناي على السرير مأخوذا بحديثها)
ياقوت : شياطين الشعر؟ هل ... هل عندكم شياطين إناثا للشعر أيضا؟
مزدان : بكل تأكيد... وعندنا جنيات للملحنين ، والعازفين... ها أنا على سبيل المثال ، مستعدة أن أكون شيطانك، الجنية التي تلهمك الألحان.
ياقوت :(منبهرا) عالمكم عجيب ...عجيب .
مزدان : أنت عازف عظيم ، وهنا لا يقدرونك حق قدرك ، أمّا لو رحلت معي ، تنهل من الحب والفن والجمال ما شئت (بإغراء) سوف ترتفع فوق السحب  ، وتبني بيتا من النجوم.
(يستمع إليها  مشدوها . فجأة يسمع صوت ميمونة وكأنها في خيال ياقوت)
صوت ميمونة : أنت قلبي وعزفك دقاته ... سوف أنتظرك.
ياقوت :(يعبس فجأة) لا ... لن أتزحزح عن بلدي خطوة واحدة.
مزدان : أيها الأحمق ... لن تراها في انتظارك كما تتوهم، سوف تختار زوجا غنيا ، يبني لها بيتا ، وأنت لا تملك شروى نقير، عندئذ سوف تقول لك : الظروف حكمت .
(ينظر إليها بدهشة)
مزدان : أرأيت..؟ ها أنا أقرأ أفكارك، وإن شئت (بإغراء) قرأت صفحة قلبك.
ياقوت : أنت مثيرة حقا .
مزدان : أنا أفهمك ... وأقدر فنك .(تناوله الناي بحرص مقصود ثم بإغراء   ) سوف أملي عليك ألحانا لم يعزفها الجن أنفسهم ...(تقف وتمد يدها نحوه ) هذا... لو رحلت معي !
(ينهض ويضع يده في يدها بتردد)
*****
يتبع
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد