أنا حرامي

mainThumb

25-06-2020 01:53 PM

ثلاث مرات في حياتي إرتكبت جريمة السرقة. مرتين منها قبل البلوغ وواحدة قبل سنوات قليلة. الآن أعترف بها بعد هذا العمر الذي أوشك على النهاية، ولأغادر الدنيا خفيفًا، نظيفًا من حقوق الناس. وأما الذنوب التي بيني وبين الله فإنني أطمع أن يغفرها لي فأنا أحسن الظن به سبحانه وتعالى.

كانت المرة الأولى عندما كنت في الثامنة من عمري، حين تسللت إلى غرفة والدي وقمت بسرقة عشرة قروش من جيب جاكيت له، وإنسحبت بهدوء لأضيفها لمصروفي اليومي، ولم أتمكن من النوم ليلتها وفكرت كثيرًا بعقاب الله لي، وقمت بإعادة المبلغ إلى جيب والدي. أما الثانية فكانت حين سرقت قطفًا من العنب من دالية جار لنا مدلاة خارج سور بيته، وكان حُصرمًا فغصصت بحبة منه، كدت أن أموت بها لولا لطف الله بي بأن كنت قريبًا من عمارة تحت الإنشاء وشربت من برميل ماء ولحظتها لم يكن يهمني إن كان الماء نظيفًا أم لا. أما السرقة الثالثة فكانت قبل سنوات حين قمت بسرقة عشرة دلاء ماء من خزان جار لي، ولم أتمكن من الإستئذان منه في حينه، وبعد أن إلتقيت به أخبرته وإعتذرت له، ليخبرني: أنه أيضَا قام أكثر من مرة بأخذ الماء من خزان منزلي، والأمر طبيعًا ولا يوجب الإعتذار. بحث كثيرًا وعدت بذاكرتي لسنوات طفولتي وشبابي وحتى هذه اللحظة. ولم أجد إلا هذه السرقات الثلاث حياتي.

عملت في العمل العام مدة عشرون عامًا، وأحلت نفسي على التقاعد. وكان الهدف هو الحصول على وظيفة أخرى تسند راتبي التقاعدي الذي لم يكن يتجاوز ولغاية الآن بعد ستة سنوات من التقاعد الأربعمائة وخمسون دينارًا. وقمت بإنشاء سيرة ذاتيه مشرفة بالدورات والإنجازات والمناصب التي تقلدتها وحتى الأوسمة والنياشين وكُتب الشُكر والثناء التي حصلت عليها. وبدأت بالتقدم للوظائف المطلوبة من خلال الصحف والمواقع الألكترونية، وأجريت العشرات من المقابلات مع أصحاب المشاريع والشركات وكان ما يجمعهم جواب واحد: خبراتك ومؤهلاتك ودوراتك. أكبر من مستوى الوظائف التي نحن بحاجتها. أنا مع كل مقابلة من هذا النوع؛ كنت أطرب لكلام أصحاب العمل وأنتشي وأزهو به. وأبني قصورًا من وهم وخيال بأن وظيفة مهمة في طريقها إليّ. والمشكلة الأكبر كانت حين صدقت نفسي، ولم أتقدم إلا للوظائف المهمة وأقلها مدير إداري أو مدير علاقات عامة، وما زلت للآن أنتظر.

صديق لي أعرفه منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. في الستين من عمره، غير متزوج. منتصب القامة، يملك شعرًا أسودًا مسترسلًا حتى كتفيه ولا شعرة بيضاء به. يعمل عاملًا بأحرة يومية توفر له طعامه، وسجائرة وزجاجة مشروب رخيص. أزوره على فترات وألتق به نضحك كثيرًا وهو يحدثني عن نوادره والطرائف التي تحدث معه. وكم تُعجبني تحليلاته السياسية، والحلول التي يُبديها للخروج من أزمتنا الإقتصادية وإنهاء مشكلة الدين العام، وخاصة حين يكون قد وصل قمة الثمالة والتجلي.

في آخر مرة إلتقيت به سألني: هل وجدت عملًا ؟ رددت عليه بالنفي. ثم سألني: هل أنت مستور ماديًا؟ كذبت عليه وقلت له: نعم، ثم أضاف: سارقي الأوطان والفاسدين والمرتشين هم من يتسيدون الناس والمناصب ومنصات الخطابة الآن. ولا مكان للشرفاء يا صديقي! ربما هو أقنعني بكلامه وتذكرت سيرتي الذاتية فأنا لم أضف إليها جرائم سرقاتي لعلها تكون سببًا في حصولي على وظيفة مرموقة. إستأذنت منه وعدت إلى بيتي لأضيف إليها في خانة المهارات التي أتقنها (السرقة) وذكرتها جميعها: سرقة عشرةَ قروش لم تكتمل أركان الجريمة، وسرقة قطف عنب لم ينضج كاد أن يموت به، وعشرة دِلاء ماء. أسقط صاحبها حَقه الشخصي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد