ساحة الانتخابات النيابية .. كُلْ اقرَع فيها بِفرَعْ

mainThumb

28-08-2020 03:25 AM

ذات ليلةٍ تتأنّقُ بالعفّةِ والطُّهر والبَساطة ، ويتدفَّقُ مِن ثنايا سُكونها بقايا خريرِ القهوة المنسابة في حَلق الزّمن ، ويُقاسمُ إيقاعَ أنينها حنينٌ مُرتجفٌ يُسامرُ القمَر الضّاحِكَ فوق هاماتنا ؛ وبينما يُطارحُ النّسيم جُدرانَ قلوبنا المكتظّة بأباريق الأمل ، يندَسُّ الشجنُ المخنوق بين زنبقاتِ الزّمن الجميل ؛ التفتُّ إلى الوجه الآخر من الزمن ، واتكأتُ على طَرفِ سرير الرّضا والدتي ، فأخذتُ أغازلُ روحها الدافئة الحانية ببعضِ كلماتٍ كُنتُ قد حبستُهنّ في معطفِ والدي رحمه الله ، وداريتُ عنها ضَوضاءَ قاطرة الليل المنسابَة بي ، حتى لا أُشغِلُ بالها ، أو أسرقُ عَن وجنتيها ما تبقّى من تجاعيد وزغاريد البهجة ؛ واستندتُ مُمازحاً قلبها :


شو رأيك يا حجّة تنزلي للانتخابات ؟ وأنا سوفَ أدفعُ عنك رسومَ الترشيح.


صَمَتت قليلاً ، ثم حملَقَت بي ، وتنهدّت باسمة الجَوى ، وكأنما ألقتْ عليّ بُردةَ الخجل ، ووشاح العتب الغائرِ في عينيها ؛ فأحسستُ بالحُزنِ أنْ أكون قد أغمدتُ في عينيها قُبلةَ الابنِ البار ، أو خرقتُ سِتارَ الوقار الذي يلفُّ مُحيّاها ، أو تخطّتْ دُعابتي معها ما لا يجب ؛ فامتطيتُ حصانَ شُرودي ، وأرخيتُ في ذاتي دموعَ خطيئتي ، وابتلعتُ حُرقتي وكَمّمتُ بالصمتِ وجعي ؛ فإذا بها تُبادرني بالقول :


لا عليك يا بُني ، دفعَ الله عنك كل بلاء ؛ لا تُشقي نَفسك فَوق ما بِكَ من شقاء ؛ فلا أحبُّ أن أرى الُحزنَ يجري على قسماتِ وجهك ، لكنّ الحياةُ اليومَ قد تغيّرت ، ولمْ يعُد لأمثالنا فيها سوى مَوطئ القدمْ ، فعلى رأي المثل صار كُلْ أقرَعْ فيها بِفْرَعْ.


لمْ يَبرحُ التفكير بالي في عمق هذا المثل ، وأنا أُلملمُ نفسي استعداداً للمغادرة ، حتى وجدته أنسبُ ما يتم إسقاطه على المرحلة التي نمرُّ بها هذه الأيام ، وهي مرحلة الترشيح للانتخابات النيابية ، التي تشهد تحرُّكاتٍ ولقاءاتٍ ومشاوراتٍ على المستوى الشعبي لاختيار المرشحين والاتفاق عليهم ، والتي تعتبرُ حديث الشارع الأردني في المجالس وأسواق الكلام ؛ ولا شكّ أنّ هذه حالة إيجابية بكل المعايير ، ترسّخ مبدأ الديمقراطية بكلّ تجليّاتها وصورها ، وتُعزّز حق الفرد في التمثيل البرلماني وخوض الحياة السياسية ، طالما كان يحقق معايير الترشيح التي تحددها الهيئة المستقلة للانتخابات.


قضيتنا ليستْ مع القانون ، ولا مع تلك الشروط والمعايير ، فمعايير الترشيح واضحة وليست تعجيزية ، ولعلّك تجد نسبةً عالية جداً من الشّعب من تنطبقُ عليهم هذ الشروط ؛ إنما القضية تكمُن في سؤالٍ واحدٍ فقط ، مَن هو المؤهّلُ لأن يمثّل الوطن ويتكلم باسم المواطن ؟


المؤهلُ للترشيح لمجلس النواب في السياق المجتمعي والسياسي معنىً فضفاضاً يتطلبُ مزايا كثيرة لاستحقاقه ، فليسَ يقتصرُ على شهادة أو مالٍ او جاهٍ أو وجاهةٍ أو سن ، ولا يُظلّلُ في خُروجٍ على خندق الوطن ولا استقواء خطابي فاتن ، ولا تراجيديا دراميّة غامضة كالسّراب ، تهبطُ ذروة أحداثها كلما اقتربَ البطل المرشّح من مبتغاه ، ولا يُمكنُ أنْ يُجتَزأ في موقفٍ عابرٍ تُفرزهُ حكايات ألف ليلة وليلة ؛ المؤهلُ للجلوسِ على كرسي المجلس ، ليسَ ذاك الشّخص الذي يُجيدُ لغة المسرح ، ولا ذاك الذي يشربُ فوزه ونجاحه من بئر المجتمع ، ثمّ يلقي فيه حجراً ، ويختفي عن الأنظار ماثلاً للمتنبي أنا تِربُ النّدى وربُّ القوافي.


ما يسيطرُ على ثقافة المجتمع الأردني من جدارياتٍ قديمةٍ واعتباراتٍ سطحيّة ، لم يعُد مناسباً الآن في ظل ارتفاع منسوب الثقافة والوعي السياسي لدى المجتمعات لترجيح كفّة المرشّح في ميزان الحياة العامة ؛ والضجيجُ الذي يَغلبُ على أمانة الضمير ، ويصهرُ الوعي في قوارير النفوسِ الخاوية من الدين والفكر والمسؤولية ، ما عادَ هو النغمة المحدِّدة للسيمفونية الرابحة في زمنٍ استطاع الناسُ فيه أن يميّزوا بين الممثّل الحقيقي والكومبارس ؛ والجيوبُ المُفرغة امتلأت بالقناعة وارتوت بالصدق ، بعدما نَبتْ سيوفُ الزاحفين الى مجلس النواب من قبل ، فأُغمدوا منذُ ذلك الحين في ذاكرة النسيان.


لسنا هنا نتباكى على ما يسمى الزمن الجميل ، ولسنا نوقفُ عجلة التطور الفكري والنضج السياسي والقدرة على تمثيل شرائح المجتمع المتنوعة عند وقتٍ ما ، ولسنا نحتكرها تحديداً على شخصياتٍ بعينها ؛ فمن الطبيعي والمألوف أنّ لكلِّ زمان مداهُ ، ولكلِّ مرحلةٍ وجهها ورجالها ورموزها ؛ والأردنُّ ولاّدة للقيادات والكفاءات الموثوقة ، والشخصيات التي تهزُّ الأرضُ حولها جانبيها ؛ لذا فإنّه من حُسن الطّالع أنْ تُخضِّب القواعد الشعبية في الوطن كفّيها من جديد ، وأن تمتزج آراءها بمسؤولية وحيادية ونزاهة ، لتفرز للوطن قياداتٍ شبابية مؤهلة وقادرة أن تؤدّي دورها الرقابي والتشريعي بكل نزاهةٍ وإتقان وجدية ، قياداتٍ ليس لديها هَوس الوقوفِ في المربّع المُضاد على الدوام من منطلق شوفيني يا بنت العم ؛ وقد آنَ الأوان لها لتتخلّص من عبء بعض الوجوه التي رانَتْ على عقول أبنائها وتفكيرهم وتمثيلهم ردحاً طويلاً من الزمن ، وحانَ الوقتُ لها لتغير صورة البرلمان التي تشوّهت في أذهان الناس خلال العقد الأخير ، نظراً لاتخاذ البعض مجلسَ النواب مطيّةً لخدمة مصالحهم الشخصية ، ومكاناً للترويج لأجندتهم التي تضعُ المصلحة العامة للوطن والمواطن على الرّف.

إنّ المرشّح المؤهل لخوض ميدان الانتخابات النيابية رجلاً كان او امرأة ، لا بدّ وأن يكون ذو ثقافة سياسية ودراية تامة بالقانون والدستور الذي سيحتكمُ إليه ، ولديه اطلاع وثيق الصلة بالواقع السياسي الذي تعيشه المنطقة والعالم ، بكل ظروفه ومستجداته وتقلّباته وصراعاته ، حتى يمتلك المقومات التي تمكنه من اتخاذ المواقف المشرِّفة في صف الوطن ، لا تلك التي تتأثر بانتماءاتٍ موجّهة دولية كانت أم حزبية أم طائفية أم مجتمعية ، فالوطن لا يحتمل التشرذم ولا يقبله بكل اُطره ومقاييسه.

الحياةُ البرلمانية تحتاجُ لمن لديه الرؤية الثاقبة للمستقبل البعيد ؛ من يستطيع أن يطلق برنامجاً انتخابياً مقنعاً لنفسه ولقاعدته الشعبية ، ومن ينافسُ نظرائه على رفعة وتنمية ونهضة البلاد ، لا من يحتكمُ إلى الأساطير والخرافات التي ملّ الناسُ منها ومن أصحابها ؛ من يوازنُ بين شجاعة الموقف وسموُّ الهدف ، ويربأ بنفسه عن فوضى الكلمة وعبثية النص ؛ ففي البرلمان لا بدّ أن تكون الكلمة ذاتها موقفاً ، وأن تاتي في وقتها وسياقها ومعناها ، بحيث لا يكون الحديث لمجرد الحديث وإلهاء الناس بما لذّ وطاب من العناوين الخطابية الرنانة ، التي لا تغني ولا تُسمن من جوع.


الشخص المؤهّل للبرلمان ، ليسَ ذلك الذي يتخذه فرصةٌ يغتنمها ليبدأ حياة مخمليّة جديدة بأشكالها وأبعادها المختلفة ، ويعيشُ في برجه العاجي ؛ إنما هو من يبادرُ إلى تفعيله كمنبرٍ يوصلُ من خلاله صوت الشّعب ورؤيته ومطالبه ومعاناته ، ويقدرُ على تذويب الفجوات بين الحكومة والشعب ، وصولاً الى الصالح العام ؛ ولا يروّج لنفسه من خلال وعود شخصيةٍ بالعمل والتعيين والاعفاءات وغيرها ، وهو يعلم تمام العلم أنه لا يقدر على تنفيذها في ظل الدور المقتصر حالياً على الرقابة والتشريع فقط في مجلس النواب ، ليسوق اليه المُطبّلين والمهرولين والمنافقين ؛ فيصدُق فيهم ما قاله الشافعي : ولو نطق الزمان لنا هجانا.


يجبُ علينا أنْ نقفَ بمسؤولية وعمق أمام هذا الأمانة العظيمة ، وهي التصويتُ لمن يستحقُ حمل هذه الأمانة ، وأنْ نُدرك أنّ زمن اللعب بالبيضة والحجر قد تولّى ، ولا بدّ أنْ نخرج من الجلابيب الضيقة ، ونلبس جلباب الوطن فقط ؛ خاصة في هذه الأيام التي يعُجُّ بها الميدان بأسماء المرشحين ، لنفرزَ الصوت الحق والنَّفَس الحر ، والقامة التي تستحقُ أن تكون الممثل الحقيقي لنا في مجلس النواب بعيداً عن كل الموازين الأخرى ؛ فتجاربنا السابقة مع كثير من النّواب كفيلة بأن تغلقَ باب الرهان الخاسر ، فلا رهانَ اليوم إلا على وعي المجتمع ومصداقيته وحرصه على وطنه.

لا تعميم فيما نقولُ ، فهنالك الكثير من المخلصين ، ممن ناضلوا من نوابنا السّابقين ، وبذلوا ما يستطيعون لصون عفّة وعفاف الوطن ، وعملوا لأجله واضعين نُصبَ أعينهم أن تبقى المصلحة العليا هي الأولوية ؛ إلا أننا لا بدّ أن نلوم انفسنا قبل أن نلوم أي نائبٍ أخرجناه من صميم مجتمعاتنا ، ثم أدار ظهره لنا ولوطنه ؛ فإنْ صدقنا الاختيار هذه المرّة أنجبنا الأخيار.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد