بين هذا وذاك .. فقدنا الهويَّة

mainThumb

15-11-2020 12:35 AM

لا تضيِّعوا الحدود فتضيعوا معها
 
مؤسف ما نراه اليوم، في مسيرة التيه التي بدأناها منذ مدة، من تلاشي الشخصيات والمبادئ وذوبان حدود التعامل مع المسائل المختلفة، رغم أن المفترض هو بروز الشخصيات بوضوحٍ وتحديد أكبر كلما تقدَّم بنا العمر وزاد إدراكنا ووعينا وعلمنا .. بحيث لم نعد نعرف كيف نحب ونحبب الغير فينا دون تضحية بأصولنا، أو أن نبذل الود واللطف والحرص على مشاعر الغير دون أن نبذل الطاعة والانسياق في قيمنا ومعتقداتنا وأخلاقنا. أسوق هنا بعض الأمثلة التي أراها على ذلك، على أن الواقع يفيض بالكثير غيرها
 
المزاح جميلٌ ومحبَّب ونحتاجه جدًّا… لكنه أن خرج عن حدوده المقبولة أصبح مرفوضًا تمامًا. إنْ تناوَلَ الآخرين بسخرية (مثل الاستهزاء بأصحاب الوزن الزائد أو الإعاقات أو من لا يملكون قدرًا من الجمال أو من الذكاء بنشر صورهم والتهكم عليهم)، أو تعدَّى على محارم الله (مثل نشر صور لأشخاص عراة أو شبه عراة)، أو كان في الأعراض (حتى وإن كان من ارتكب الفاحشة مُقرًّا بذلك)، أو روَّج لأيٍ من الكبائر، أو ما كان فيه أي قدرٍ من الاستخفاف بأسماء الله أو شعائره
 
نعشق الفن والموسيقى بالفطرة، فهي ترقى بالنفس وتسمو بالروح وتهذِّب الخلق… لكننا نعرف ونرى ما يُقحَم تحت شعار الفن والموسيقى من الابتذال والإسفاف بل والجنون أحيانًا. وأكثر ما يستفزني ويؤلمني هنا هو ما يقوم به البعض من إدخال اسم الجلالة في ذلك. فقد تجرأ الكثيرون على إدخال أسماء الله ضمن كلمات الأغاني الرخيصة أو حتى التلفُّظ به في أثناء التصفيق أو الاستمتاع أو الإشادة بهذا النوع من الأغاني. كيف استطعنا أن نصل إلى الجرأة المرعبة على خالقنا في أن نلفظ كلمة “الله” ونحن ننتشي طربًا بأغنية ساقطة أو نستمتع بحركاتٍ رخيصة لراقصةٍ أرخص؟ إن كنا أضعف من الامتناع عن هذه الأمور فأقلُّ القليل أن نُبقي على احترامنا للذات الإلهيَّة العليَّة
 
الأدب واللطف في التعامل والتحبُّب إلى الخلق ومجاملتهم واجبٌ رائع يقرِّب القلوب ويدفع العداوة والبغضاء… لكنه يصبح سيئًا وممجوجًا، بل وحتى غير جائز إن خالف العقيدة (أيًّا كان دين الشخص) وعلى الأخص في الكبائر
 
فإن أخذنا مثلًا قضية الشذوذ، لا يجوز لأي شخص اتهام مرتكبه بالكفر أو الخروج عن الدين، أو معاملته بأي طريقةٍ مهينة أو مسيئة. هو يرتكب معصيةً وفاحشة وإثمًا كبيرًا، لكنَّه لا يختلف عمن يسرق (وما أكثرهم في زماننا)، ولا عمن يزني أو يشرب الخمر أو يقامر، والذين يُرجى أن يهتدوا ويمتنعوا عن المعصية يومًا ما. بل الواجب نصحه سرًّا والدعاء له بالتغلُّب على هذا البلاء. لكن المرفوض تمامًا هو إعطاء هذا الفعل أي نوع من التعاطف أو الدعم أو الشرعية أو التعامل معه على أنه حريَّة شخصية يتوجَّب حمايتها، لأن أثر ذلك يطال المجتمع ككل حتى يمكن أن يصل إلى أغلى الأشخاص على قلوبنا. والمرفوض أيضًا المجاهرة به علنًا (“كل أمتي معافى إلا المجاهرين“) أو قبول ذلك والتشجيع عليه، بل وما نراه حاليًّا من الافتخار بذلك حتى وصل الأمر لأن يصبح انتقاده هو المحذور والذي يُخشى منه. فأين ما يدَّعونه داعمو هذا النوع من “حريَّة التعبير”، التي تتوقف بمجرد أن نتجرَّأ على انتقاد هذا الفعل
 
أعي تمامًا ما يقدِّمه البعض من مسوِّغاتٍ بأن ذلك يعود لمسببَّاتٍ خَلقيَّة أو نفسيَّة.  وقد بحثت كثيرًا في الأمر حتى لا أظلم أي وجهة نظر وارتحت بعدها إلى التالي
 
فإن كانت أسبابه نفسيَّة فالواجب معالجته، أو على الأقل بذل جهدٍ معقول في سبيل ذلك –
 
وفي حال كانت أسبابه خَلقيَّة فأغلبها تعالج جراحيًّا. أما إن تعذَّر، فيكون حكمه حكم أي نوعٍ من العيوب أو الإعاقات والتحدِّيات التي يولد بها البعض، ويتعيَّن عليهم التكيَّف معها ومقاومة ومغالبة إتيان المعصية ما أمكن. وهنا يؤجر ويثاب على ذلك بأضعاف ما يؤجر عليه الأشخاص الطبيعيِّين. وهو نوعٌ من أنواع الابتلاءات التي يتعرَّض لها كلٌّ منا في حياته ويقابلها بالصَّبر والاحتساب
 
أما إن كان ذلك الفعل عن مللٍ ورغبةٍ في التنويع وتجربة كل الملذات والانسياق وراء شهوات النفس أينما قادت صاحبها، فهذا لا يبرِّر أي نوعٍ من التعاطف والتشجيع له. والدنيا لم تُخلَق لإرضاء أهوائنا بلا ضوابط
 
زماننا أصبح فيه أيَّ فعلٍ أو خطيئة أو معصية أو حتى جريمة يزيَّن بغلافٍ من الرومانسيَّة لكسب الاستعطاف والتأييد، لكن الخطأ يبقى خطأً. وفي جميع الحالات، يجب أن لا ندين الفاعل أو العاصي، أو نقبل نبذه أو إهانته أو تكفيره أو معاملته بأي نوعٍ من الظلم أو انتقاص الحقوق أو القسوة، وهو يستحق المعاملة نفسها كأي شخص آخر، لا فضل لأحدٍ على أحد فكلنا عاصٍ في مرحلةٍ من المراحل. وإنما ندين الفعل ذاته ونرفضه بأقسى الكلمات، كما نرفض الترويج له أو تشجيعه أو تطبيعه أو تشريعه.  فتحريمه واضحٌ لا جدال فيه في جميع الأديان  
 
مثالٌ آخر أسوقه هنا هو مجاملةُ الأصدقاء من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى أيًّا كانت. برأيي المتواضع، وبغض النظر عن أي فتاوى تتفق أو تختلف مع هذا الرأي، أجد من المحبب جدًّا والواجب أن يشارك بعضنا بعضًا الاحتفال بالمناسبات الدينية ونهنئ بعضنا فيها بل ونتبادل فيها الهدايا
 
لكن المرفوض أن يكون في التهنئة أو الهدايا أو المشاركات ما يعارض العقيدة لأيٍّ من الطرفين. فأنا لا أتوقع من أصدقاء لي من المسيحيين أو اليهود الاعتراف بقضايا عقائدية بالنسبة لي مثل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو كونه خاتم الرُّسل، ولا أنتظر منهم أن يقولوا ما يوحي بذلك. وبالمثل، لن ينتظر مني أصدقائي المسيحيُّون مجاملتهم على حساب عقيدتي. فلا يجوز أن تكون تهنئتي لهم في أعيادهم بأن أكرِّر، دون تفكيرٍ أو تقدير، جمل متداولة لديهم تتعارض مع عقيدتي.  هنا تحضرني جمل يكررها بعض المسلمين عن محبةٍ وحسن نية لكنها لا تجوز بالنسبة لنا مثل “المسيح قام حقًّا قام”. وهو ما يخالف اعتقادنا وما نصَّ عليه القرآن الكريم. وهذا لا ينتقص بأي شكلٍ من الأشكال الاحترام ومحبَّتنا لبعضنا البعض، إنما هي محبَّةٌ وتآلف وأخوة في الإنسانية وليست ذوبانًا وانصهارًا واختلاطًا في المعتقد
 
أُقدِّر تمامًا أن تجاوز البعض حدود الواجب والمقبول في المجاملات لا يأتي من ضعفٍ في الشخصية أو المبادئ، إنما هو عن طيب قلبٍ وتفانٍ في إظهار منتهى الحب والود.. لكنَّ إثبات الحب لا يستلزم أبدًا إنكار الذات ونفي الفكر والرأي والمعتقد الشخصي. من يحبُّك سيحبُّك على اختلافك عنه في كل الجوانب، ومن يكرهك لن يحبُّك لو كنت مستنسخًا عنه
 
لقد اختلطت الأمور وتلاشت الحدود وزادت إلى حدٍّ كبير مساحة الضبابيَّة بين ما هو محمود وجيِّد ومقبول وبين ما هو مرفوض أو لا يجوز، ومعها زادت ضبابيَّة شخصيَّاتنا وضياعنا بين ما نقبله وما نرفضه والحدود التي نلتزم بها. قوة الشخصيَّة والمبادئ يجب أن تقترن دائمًا بالحكمة (البعض يسمِّيها دبلوماسية)، فلا يكون الإنسان فظًّا غليظ القلب واللفظ والتصرُّف لكنه في الوقت ذاته ليس بالإمَّعة، يستجدي رضا الناس والجموع على حساب اعتقاده وقناعاته
 
المطلوب أن نسعى دائمًا لأن نُحِبَّ ونُحَب وننشر المحبَّة والتسامح ونعين بعضنا البعض على الخير، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان هويَّتنا الأصلية وبوصلتنا. المطلوب منتهى الأدب في التعامل مع الوقوف عند الحدود. الله سبحانه وتعالى خلقنا متنوِّعين متباينين لنتعارف ونتآلف ونتعلم من بعضنا وليس لننصهر ونذوب حتى نخرج شخصيَّةً واحدة، وهنا تصبح الحكمة أهم من العلم والذكاء
 
ختامًا، أحترم جدًا أصحاب المبادئ التي تقوم على منطق وبحث وثقافة عند التزامهم بها دون اشتراط أن تتوافق مع رأيي وفكري. ولا أحبُّ أن يوافقني أحد في الرأي أو يردد كلماتي لمجرد المجاملة والتحبُّب، أو تحسُّبًا لمظنَّة نشوء خلافٍ. ويؤلمني جدًّا ما أجد وأرى من تلاشي الحدود، و‘‘القبول بأيِّ شيء وكل شيء في سبيل أن نجد القبول’’


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد