إحباطات العقل والروح تحت الصقيع في رواية ثلوج منتصف الليل لبكر السباتين

mainThumb

04-12-2020 07:46 PM

دراسة نقدية..  بقلم الدكتورة دينا صليبا..

 
 
      أفرزت العولمة في هذه الرواية المتماسكة شخصيات سلطوية مستقطبة، وأخرى متعددة الولاء؛ ولكنها تتجه بفعل المصالح الفردية إلى التوافق الفعلي تحت مظلة العولمة، التي فرضت شروطها على المجتمعات، وتعاملت معها كأمر واقع لا مناص منه.
      فمن جهة أخذت تستمد بعض الشخوص قوتها من مركز النظام المحليّ وقوانينه، كالمحقق رباح الذي فرضت عليه التزاماته حالة انضباطية قاسية، لم تمنعه أحياناً من التفاعل مع المجتمع بعفوية؛ وذلك انسجاماً مع الحس العام . وأخرى جهوية ذات مبادئ في انتماءاتها الفكرية والسياسية، ومنها فئة جعلت تستمد طاقاتها الدافعة من شراكة قوى الجريمة المنظمة ، مع قوى السوق الحر ورؤوس الأموال المحلية؛ وحراك هذه العلاقة في إطار غسيل الأموال 
 (كالظروف التي نمت خلالها شخصية الجيباوي)، وتطوير اقتصاديات الدول المُسْتَقْبِلَة لمثل هذا الحراك، كشأن عالمنا الثالث(وهو ما جعل من شخصية الجيباوي والفئة التي ينتمي إليها مقبولين اجتماعياً رغم انفتاحهم على إقتصاد الكيان الإسرئيلي الطارئ)...
      ولا شك في أن هذه الظاهرة غربية بالدرجة الأولى... لا بل إنها تمثل في الظروف الموضوعية المعاصرة مدخلاً رأسمالياً حديثاً للسيطرة على العالم الجديد؛ إذ جعلت تزيد في حراكه آلياتُ العولمة كالفضائيات المنفتحة، وعالم الاتصالات الذي يرفض كل الحواجز والمحاذير... وبالطبع كان سينجم عن هذا التحالف المتعدد الأشكال والمستويات ازمات اجتماعية خانقة، وتفشي ظاهرة الإرهاب، والرد على هذه الظاهرة بحروب لا تنتهي.. والتي لا تخرج في مجملها عن كونها إرهاصات سترافق فيما بعد مراحل الانبعاث للمستقبل الذي توحي بشائره بالضبابية والغموض... وإن اختلف الأمر في هذه الرواية قليلاً حينما بشرت بمستقبل انقلابي على الواقع السوداوي، الذي يتمثل بثائر المنتظر. 
      وكي ينسجم الفرد مع معطيات القبول بالأمر الواقع لا بد من ارتدائه للقيم الجديدة التي ستوهمه بالكرامة من غير أن تحققها له؛ لذلك تقبل المجتمع ظاهرة خليل الجيباوي، وساندها من قبيل علاقة نفعية بالدرجة الأولى. 
       من هنا يمكن فهم شخصية فذة أبدع الكاتب في تحديد ملامحها... وهي شخصية أصبحت مألوفة جداً... إنه خليل الجيباوي... 
" الجيباوي سمسار لا يشبع، يتاجر بعظامك حتى لو  مت، بل وتأتي ديدانه حتى على اسمك، وبوسعه أن يفعل ذلك برضاك لو شاء، بل سيقنعك بأنه يخسر لأجلك".
      هكذا قدمت الرواية وصفها لهذه الشخصية... فهي مراوغة تزاوج في سلوكها الإنساني بين الظاهر الإيجابي والباطن الذي يرتع بالشرور. ويظهر هذا التناقض بين الباطن والظاهر جلياً من خلال نتائج أفعال هذه الشخصية الإيجابية والمضللة على المجتمع، مقابل انحيازها إلى قوى الجريمة المنظمة وتطبيق مشروعها المدمر في المجتمع الذي تنتمي إليه.
      ورغم ذلك، فقد رفضت هذه الشخصية المراوغة بشكل أو بآخر، الانسياق مع المافيا الروسية في تعاملها المألوف مع المشروع الصهيوني، والمستقطِب للهجرة اليهودية إلى فلسطين، من أجل سد الثغرات التي أحدثتها الانتفاضة الفلسطينية في المجتمع الإسرائيلي. وهذ بالطبع ليس إنصافاً لخليل الجيباوي؛ لأنه في نهاية المطاف قد سرق أموال المافيا في هذه الصفقة، لا بل وضع المافيا في حيرة مع عملائها؛ لذلك لم تسقطه من حساباتها. بل أعجبت بسلوكه الجريء. فيما اعتمدته أخيراً شريكاً لها في الشرق الأوسط ؛ مما دفعها إلى أن تنتدب إليه من يعزز موقفه ظاهرياً، الذي سيحل مكانه فيما بعد كأسلوب إرهابي مألوف لمنظمة إجرامية لا تعرف سوى لغة الانتقام، هذه اللغة القائمة على مقولة ميكافللي الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة".
      وأخيراً سيكشف لنا الراوي أن المقصود من ذلك بعد صراع محير هو المحامي عصام مهنا. وهو شخصية فاوستية الطابع (فاوست، الذي وقع بدمه عقداً مع الشيطان، كما جاء في المسرحية التي كتبها االشاعر الألماني جوته بالاسم نفسه)؛ إذ تنصل من التزامه الوطني عام اثنين وثمانين من القرن المنصرم... فلم يلتحق بجبهات القتال في لبنان خلافاً للكثيرين من زملائه الفلسطينين، ممن كانوا يدرسون في الجامعات الروسية مقابل منحات دراسية قدمتها لهم بعض المنظمات الفلسطينية؛ وقد اختار عصام مهنا طريقه الشائك في عالم يخلو من الفضيلة، ويسوده الظلام الذي يخبئ في جوفه شراكاً منصوبة... منفتحاً بذلك على دروب الجريمة... التي كبلته بقوانينها القاسية... ولا شك في أنه كان يدرك جوهر مهمته، في أن ثمة عين له ستكون على الجيباوي، وأخرى ستعدّ عليه أنفاسه... والمحصلة التي لا شك فيها كانت دماءً سالت حتى الركب... 
وكان الجيباوي يخاطبه دائماً: 
  " عليك بهمومي الصغيرة، خلصني منها، أو فارجئ مواجهتي بها حتى أتفرغ لمجلس الأمة، وللسوق المتأزم".. 
       وكان عصام مهنا بكل يقظته قد سوى أموره مع خليل الجيباوي. ولكنه أيضاً شكل امتداداً ناضجاً للجابي في إطار علاقة المافيا مع الاقتصاديات المحلية لدول العالم الثالث.. وقد تجلى هذا الخط الواعي لمفردات المهادنة مع السلطات المحلية وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النص الآتي: 
"... وكان عصام مهنا قد أدرك نصيحة أحد خبراء، المافيا باستدراج بعض الشخصيات ذات النفوذ القوي لتغطية نشاط مجموعاتهم التجارية... ورغم ذلك فتجربتهم مع الجيباوي كانت تدعوهم إلى التراجع عن هذه النصيحة، والعمل في إطار قانوني مشروع، مع الالتزام بدفع الضرائب، والقيام بالواجبات الإنسانية والاجتماعية بدعم مؤسسات المجتمع المحلي... والتقيد بقوانين البلاد"..
    إنها القاعدة نفسها التي اعتمد عليها الجيباوي في نمو شخصيته درامياً، وتفاعلها مع الشخصيات الأخرى في إطار من الصراع الخارجي المحكوم بالنفعية... والآخر الداخليّ التنفيسيّ الرافض.
     إنه ذات الأسلوب الذي يذكرني بصراع الأبناء (الخارجي والداخلي) مع شخصية الوالد (فيدور) المليئة بالفساد والظلم في رواية الإخوة (كارامازوف) من خلال تحليل نفسي واجتماعي بين فيه الأديب العالمي الروسي (دستوفسكي) تناقض النفس البشرية إزاء المواقف وأثر ذلك في الشخصيات ونموها وتداعيات الأحداث على خلفية العاطفة المتوترة، وما فيها من صراع المحبة والبغضاء... ويبدو أن السباتين قد أفاد من هذه التجربة في تحليله الاجتماعي، التي خلص فيها إلى أن التحالف بين قوى الجريمة لا يعرف الأمان. 
     لقد كانت العلاقة بين الجيباوي وعصام مهنا مليئة بالشراك المتقابلة، وذلك في إطار من التوازن الحذر. وقد افترض الراوي ديمومة تلك العلاقات في ظل قوانين وإجراءات محلية متوازنة، رغم الاختراقات الفكرية والمعلوماتية المتبادلة. حتى إن التعامل مع هذه القوى من قبل الأجهزة الرسمية كان يسيرأحياناً على الدرجة نفسها من التوازن..
     وسوف يتلمس القارىء المدرك هذه الحالة من خلال قراءته المتأنية للرواية، التي يحكمها التشويق والترابط رغم فسيفسائية الزمان والمكان فيها... وتبادل المعطيات (الدرامية) بين ذاكرة حافلة بالوعي والتاريخ، القريب منه والبعيد، وتفاعل تلك المعطيات مع زمن الرواية الراهن، والملئ بالأزمات المعاصرة المتفاقمة، التي أدخلت شخوص الرواية في صلب الأحداث فأصبحوا من مكونات نسيجها المعقد التراكيب، في إطار لوحة فسيفسائية متعددة الألوان، ذات تكوين مستقر ومنسجم. 
     ولعل من أهم المعوقات البارزة في مسيرة الجيباوي عبر خطها الدرامي، هو ظهور بعض الشخصيات النامية الرئيسة ، مثل شخصية (محروس) المصري، الذي ارتبط نفعياً بالجيباوي مدفوعاً بضيق الحال والرغبة في العيش الكريم.. وهوالحال نفسه بالنسبة لحامد البغدادي كأحد ضحايا الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها السلبية على المكان والإنسان، حيث ترك حامد جبهات القتال مستعرة في حدود بلاده الشرقية.. ليقع بعد ذلك في براثن الجيباوي... والأمر ذاته سوف يتكرر مع ماهر عبد الجبار فيما بعد.. الذي وجد في قبوله تجيير إبداعاته للجابي لقاء أجر بخس وضعاً مقبولاً بالنسبة إليه، وحلاً منطقياً لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية... ورغم ذلك استطاع مواجهة الموقف برفضه التنازل عن توقيعه للجابي. إلا أن العولمة جمعتهما من جديد في توافق موهوم؛ ربما كان لتعلق ماهر عبد الجبار بابنة الجيباوي (رزان) دورٌ في ترسيخ هذا التوافق.
      ولا ننسى في هذا السياق أهم الشخصيات المعوقة لمسيرة الجيباوي، إنها المحامية وداد كنعان.. وهي شخصية ثابتة في خطها الدراميّ؛ إذ استقرت رغبتها في التجرد من الماضي المتهالك، والتطلع إلى مستقبلها الوضاء.. من هنا سيتفهم القاريء طبيعة صراعها مع الجيباوي في ذودها عن كرامتها التي غوفلت ذات يوم من قبله؛ إذ تزوجها الجيباوي عرفياً؛ ليتخلى عنها فيما بعد وفي وضح النهار... وليبدأ بعد ذلك صراعهما..
      وكان شعار وداد في أثناء ذلك الكرامة وتحقيق الذات.. وهو ما ينسجم أيضاً مع تطلعات المرأة في كل زمان ومكان... وكان سعي وداد كنعان للحصول على الورقة العرفية التي أخفاها الجيباوي جزءاً من معركتها معه..
      وخلافاً للتوقعات... فقد نمت شخصية وداد كنعان رغم ثباتها باتجاه مفاجئ، ولكنه في نهاية الأمر سلوك قابل للتصديق، هذا  على اعتبار أن الدوافع النفسية والاجتماعية التي كانت تقف وراءه بدت مألوفة ومقنعة وواقعية... وقد تجلت هذه المفاجأة بتكاتف وداد كنعان رغم عدائها للجابي مع أفراد أسرته... لا بل وتنازلها عن نصيبها المتواضع من ثروة الجيباوي لصالح الابنة (رزان)؛ وكأنها بذلك تبرهن على أن كرامتها فوق كل أموال الجيباوي... وما كانت تريده من الجيباوي فقط سوى إشهاره لزواجهما العرفي ومن ثم الطلاق... بذلك تستعيد كرامتها المهدورة... 
     ربما في هذا الأمر بعض المبالغة، إلاّ أنه ينسجم مع طبائع البشر... وهو مقبول جداً في هذا الصراع. علماً بأن (رزان) في خطها الدرامي كانت تستحق منها هذه المكافأة.. كونها الصديقة الأثيرة بالنسبة لها، هذا قبل افتضاح علاقتها بأبيها.. وكانت (رزان) تتفهم دائماً شخصية وداد، وتؤمن بدورها الجاد في مسيرة المرأة خلافاً لدور والدتها المشين في المجتمع.. حتى إنها تفهمت دائماً ما كان يكتنف علاقة وداد بوالدها من التباس تجلى بوقوف الأخيرة إزاءه في الانتخابات النيابية... فآزرتهما معاً.. وكان على والدها أن يتفهم هذا الدور, ولكن...! على مضض.. 
     "... فهي لا تريد أن تكون بالنسبة لوالدها كحصان طرواده لتؤجج من خلال ذلك حرب والدها على وداد، بل تريد أن تتخذ موقف الصَّمام الذي يكبح أي هجوم من أحدهما على آخر".. 
     أما الشخصية الأبرز ـ في نظري ـ في هذه الرواية ، ذات البعد الوطني والأفق القومي... الشخصية المليئة بمفردات اليقظة والوعي... والذاكرة النابضة الحاضرة دائماً، فهي شخصية إبراهيم الصافي... تلك الشخصية الفسيفسائية الزاخرة بألوان الحياة... والقوية الحضور... 
     لقد وظف الكاتب ذاكرة هذه الشخصية الملحمية بمهارة... وهي ذاكرة عزيزة لا تنفتح على الأحداث إلاّ بفعل الاستفزازات الظاهرة لأفراد تماهوا مع الفساد، وتركوا له متسعاً في عقولهم وقلوبهم.. وكان موقف هذه الشخصية من الجيباوي يتجلى في النص الآتي:
" تخيل!!! يذهب بي ذلك الحشري إلى منطقة أكرهها في تعاملي مع المواقف! وذلك خلافاً لطبيعتي التي لا تهاب المواجهة، لا بأس! فطبيعة عودتي من المنفى أدخلت في قلبي شيئاً من الروع"... 
      لقد استمدت هذه الشخصية عمقها من ذاكرة الماضي المكتظ بالأزمات والهزائم التي ما لبثت نتائجها تولد الإحباطات في عقل عربي متضارب الاتجاهات، ومأخوذ بالأحلام؛ فيما هو غارق في مستنقع الواقع الآسن.. ورغم ذلك تنفتح هذه الشخصية على الحلم الفلسطيني في العودة أو التحرير.. وتتحيز بذلك إلى قضيتها التي تفانت لأجلها.. فيما أخذت تحلم لأجلها بثائر...
       لقد نمت شخصية إبراهيم الصافي باتجاه الأمل المرتجى مع ابنه ثائر... هذا الحلم الذي ثناه في آخر الرواية عن قرار الالتحاق بالسلطة الوطنية الفلسطينية؛ لأنها في نظره الخطوة الأولى نحو التردي والسقوط في هاوية الاقتتال الداخلي كهدف صهيونيّ... خاصة أن الانتفاضة قد اشتعلت فتيلاً مما أوقد في قلبه بصيص أمل في مسيرة التحرير. وزاد من إيمانه بذلك ردود الأفعال الشعبية التي غاصت بها شوارع (عمان) والعواصم العربية الأخرى... في احتفالية تضامنية عربية مشرفة... وقد استقرت هذه الشخصية الفذة في مواجهتها للظروف كافة على النحو الآتي:
     الثبات على المقاومة للمحتل الإسرائيلي.. والثبات على مقارعة الجيباوي ودعم المستضعفين أمامه لنيل حقوقهم.. والتصالح مع الذات، والتفاهم مع الآخرين.. ومحاولة التغيير بالحوار.. ومن ثم إرسال برقية إلى المستقبل بعنوان:ثائر! وهي رسالة تعبر أولاً عن رفض الواقع العربي المتخاذل بكل شواهده المعاصرة.. والحفاظ على أحلام التغيير إلى الأفضل.. إنه الانحياز إلى مصالح الأمة العربية من غير تفريط.. وربما يعبر هذا الصوت أيضاً عن الأغلبية العربية الصامتة..وفي نظره أن سكوتهم هو نفسه الخوف على أحلامهم الأثيرة في إطار مستقبلهم المنشود... 
       ويتجلى ذلك في النص الآتي، وعلى لسان إبراهيم الصافي:
      " ولكن ثائراً أيضاً يحتاج إلى شيء من الخوف كي أحميه"          
      وكان يرى أخيراً بأن ثلوج منتصف الليل ستأتي:
      "وستذوب وكأنها على صفيح ساخن 
      ستتراكم فوق بيوت المدينة 
      وفي قلوب الناس المليئة بالهموم 
     علّها تهدئ من صخب المدينة التي لا تعرف النوم 
      ستسقط الثلوج والناس نيام
     فيأتيهم صباحهم وهم من غير هموم" 
     وهي ستكون من أسوأ الظروف على الأرض في فلسطين، ولكنه أيضاً:
     "زائر منتصف الليل، ذلك الثلج الأبيض القادم إليهم كالأمل".. 
     إن السباتين يزج بالقارئ من خلال البناء المحكم لهذه الرواية ورؤيتها الجادة الهادفة بما لديه من معطيات الإدانة لواقع اغتصبته العولمة إلى حالة نقدية استرجاعية للواقع المتأزم بالفساد.
       سيأخذنا تحليل هذا النص الى بعدين متلازمين:
      - فالمدخل الاجتماعي في ظل عولمة حداثية تقلب الموازين والقواعد الاجتماعية لخدمة نظرية سيادة القطب الواحد.
       - والبعد الآخر هو التحليل الفني الأدبي للنص...
      فالتعامل مع النص في أثناء   الولوج إلى عالم رواية "ثلوج منتصف الليل" سيضع القارئ  أمام عالم خصب تزدحم فيه المفارقات الإنسانية... وتراكماتها السببية وتطوراتها الموضوعية التي ستفضي فيما بعد إلى الممكن المتوقع والمعلوم من خلال الزمن المنطقي في تراكماته وتداخلاته مع المكان.. والخرائط التي تبشر بها الأحداث الواقعية، فتنتهجها الشخوص الثابتة والنامية في تراكيب تتشابك فيها الذات (الأنا) ما بين اللاوعي (الداخل) والشكل والفعل الخارجيين.. ناهيك عن صراع هذه الذات مع الآخر في تحقيق وجودها، وذلك في إطار مجتمع يحتفي بمكوناته، وعقده، وأطروحاته الفكرية والسياسية والحياتية، التي محورها الفرد وكأهم مفردات العولمة..
      لذلك فالتراكمات السببية الدافعة والمؤثرة في مجريات هذه الرواية كانت تعترضها رياح التغير كأهم معطيات الحداثة.. وبكل تطرفاتها التي تحاصر المعمار الروائي.. وتوقظه من سبات التقليدية القائمة على: الزمان، والمكان، والحدث، والعقدة، والشخوص، والحوار، بإخراج البناء الروائي من الشكل المُقَوْلَب وإخضاعه للتغيير، بكسر الثوابت الجاهزة والانفتاح على خارج الذات وداخلها من غير حواجز قد تقلل من صدق الرؤية.. 
     وهذا الأمر الذي سيطوع اللغة في سكونها وتوترها وخلجات الروح فيها وسردها بما يوحيه الحدث ووسائل البوح (المونولوج) والحوار المباشر وتداخلاتها في إطار واقعي.. وبحساسية نفسية مليئة بالصدق والحياة وبوسائل التغيير، مثل: الوصف والتحليل والتعليل الذي يقف بنا أحياناً عند حدود التسجيل.. وقد يغوص بنا أحياناً أخرى داخل النفس البشرية أو داخل المجتمع، أو يرف بنا في سماوات الشعر والحكمة.. وقد يصبح شكل التعبير تطوراً ذا اتجاه واحد لحركة الأحداث.. أو توازياً أو ثنائية بين إتجاهين.. وقد يصبح تشابكاً بين اتجاهات مختلفة.. وقد يتفجر في حوار مسرحيّ.. وقد يتسلح بالمنولوج الداخلي أو الوصف الخارجي أو الازدواجية في التعبير.. لتمكين الأحداث من التمدد الأفقي واسترجاع الذاكرة المحفزة على التوتر والتصعيد بالأحداث.. وصولاً إلى الذروة (العقدة) التي تتشابك فيها شخوص الرواية ليتراوح الصراع في تلك العقدة بين الاحتدام والنكوص.. للخروج بمعطيات النهاية ومفردات الحلم المستمر كنهاية للصراع الذي ستتبدل فيه مواقع المتصارعين بين التحالفات الجديدة على السطح.. واختفاء العقدة من غير حل في بواطن الذوات.. إشارة إلى سكون الصراع، وبروز التفاهمات، والإيهام بالحل وسيادة الحلم الذي يكون قد دفن في خبايا القلوب بعيداً عن لهيب الواقع وهشيم العلاقات التي فرضتها العولمة. 
     إنها تجربة قوية... وتمثل رؤية متكاملة لحركة المجتمعات العربية إزاء المتغيرات العاصفة.. خاصة تداعيات القضية الفلسطينية، وأثرها في الإنسان العربي عامة، والفلسطيني خاصة في الوطن المحتل أوفي الشتات، بل إنها مدخل لفهم سلوك الإنسان العربي المعاصر في زمن الهبوط الاجتماعي الى قاعدة الانسجام مع العولمة في جانبها المبتذل... وهي في نهاية المطاف رؤية استشرافية للمستقبل، وفي تقديري أن رواية " ثلوج منتصف الليل" تعد إضافة متميزة رفد بها المؤلف مكتبتنا العربية وتستحق منا كل الاهتمام. 
 
 د. ديــنـا صليــبـا
 بيروت ـ لبنان  



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد