بايدن والعقيدة الاستراتيجية الأميركية .. السيد ولد أباه

mainThumb

26-01-2021 07:42 AM

 بتولي جو بايدن الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية يتجدد الحوار الفكري والسياسي على نطاق واسع حول قدرة الرئيس الجديد على إعادة الوضع السياسي إلى توازناته ومحدداته التقليدية، بحيث تكون حقبة الرئيس السابق ترامب مجرد قوس عابر في المسار السياسي الأميركي الحديث.

صحيح أن المستجدات الأخيرة أظهرت فروقاً حقيقية بين الظاهرة الترامبية وتركيبة الحزب الجمهوري الذي تخلت العديد من قياداته البارزة عن الرئيس المنتهية ولايته بعد أحداث «الكابيتول» المثيرة. كما أن الرئيس بايدن لا يمثل الاتجاهات الجديدة في الحزب الديمقراطي، في مكوناته اليسارية الراديكالية ومجموعات الأقليات الصاعدة في صفوفه، بل هو أقرب لخط الوسط الليبرالي المعتدل، ومن ثم لن يجد صعوبةً في التوافق مع البرلمانيين «الجمهوريين» الذين يسيطرون على نصف مقاعد مجلس الشيوخ.
إلا أن ما كشفت عنه الظاهرة الترامبية هو ما لاحظه الجميع من تصدعات وانشقاقات عميقة في الخريطة الاجتماعية والسياسية الأميركية، وما يهمنا هنا هو أثر هذه الظاهرة على طبيعة الرؤية الاستراتيجية الأميركية التي تعرضت لهزة قوية خلال السنوات الأربع الماضية.
ما نعنيه هنا بالرؤية الاستراتيجية الأميركية هو العقيدة التي تشكلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على أساس الربط العضوي بين طبيعة النموذج الليبرالي الداخلي والمصالح الحيوية الخارجية، بما انجرَّ عنه خيار النظام الليبرالي الدولي الذي كانت الولايات المتحدة القوة الفاعلة في بلورته وتقنينه.
وعلى الرغم من التباين المعروف بين الاتجاهين الانعزالي الانكفائي والاتجاه التدخلي الأممي، فإن التشبث بنموذج النظام الليبرالي العالمي ظل طيلة العقود الست الأخيرة مسلمةً مشتركةً بين مختلف مدارس الفكر الاستراتيجي الأميركي.
والسؤال المطروح اليوم هو: هل سيتمكن الرئيس الجديد بايدن من تنشيط هذا النموذج واستعادة زخمه وفاعليته بعد سنوات ترامب المضطربة؟
يعالج «هال براندس»، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جونس هوبكنس، هذا السؤال في مقالة هامة ب«فورين آفيرز» (20 يناير 2021) تحت عنوان «الفرصة الأخيرة للأممية الأميركية». وخلاصة الرأي الذي يدافع عنه براندس هو أن التحدي الكبير الذي تواجهه الإدارة الجديدة هو إعادة بناء وتصور المنظور الليبرالي الدولي الذي هو جوهر العقيدة الاستراتيجية الأميركية التقليدية بمعالجة الاختلالات التي كشفت عنها المقاربة الوطنية غير الليبرالية التي اعتمدها ترامب في سعيه الواضح لتقويض أسس مرتكزات النظام الدولي القائم.
لقد أثبتت تجربة ترامب أن الخطاب القومي المناوئ للقيم الليبرالية لم يجعل الولايات المتحدة أكثر أمناً ورفاهيةً، ولم يفض إلى التغلب على خصومها الخارجيين، بل أضعفَ قدرتَها على التأثير الدولي حتى في حزامها الجيوسياسي المباشر.
ما يتضح من تصريحات الرئيس بايدن، خلال حملته الانتخابية وبعد اعتلائه مركز السلطة، هو أنه عازم على إحياء العقيدة الاستراتيجية الليبرالية الأميركية في مرتكزاتها الأربع الأساسية: العودة القوية للمؤسسات الدولية وتنشيط الدور الأميركي المحوري فيها، إحياء وتفعيل دوائر التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة وشركائها الخارجيين وفي مقدمتهم أوروبا الغربية والحلف الأطلسي، الدفاع عن قيم حقوق الإنسان والديمقراطية خارج حدود الولايات المتحدة، مواجهة الخصوم الأيديولوجيين والاستراتيجيين التقليديين للولايات المتحدة وبصفة خاصة الصين وروسيا.
وقد لا تكون هذه التوجهات موضع خلاف كبير بين القوى السياسية الأميركية، بما فيها الجناح الليبرالي المحافظ في الحزب الجمهوري الذي لا يزال الطرف الأقوى في الحزب، إلا أن الحقبة الترامبية نبّهت إلى خلل مضاعف في هذه التوجهات قد يكون من الضروري اعتباره في أي مقاربة جديدة للأممية الليبرالية.
إن هذا الخلل المزدوج يتعلق بتركيبة النظام الدولي نفسه الذي لم يعد محكوماً بالتوازنات الموروثة عن الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تلتها. فمن الواضح أن الانفصام تزايد بوتيرة متسارعة بين المحددات الاقتصادية في النظام الليبرالي ومحدداته السياسية، أي بين الديناميكية الرأسمالية والديمقراطية التعددية. فإذا كانت العولمة الرأسمالية وحدت السوق الدولية وقضت على معادلة الاستقطاب السابقة، فإنها عمّقت الشروخ داخل المنظومة الرأسمالية، وأصبحت آليات التجارة الحرة والتنافسية الإنتاجية في صالح القوى الرأسمالية غير الغربية (مثل الصين والهند). كما أن الشرخ ذاته تفاقم داخل المنظومة الديمقراطية ببروز خلافات عميقة بين الديمقراطيات الليبرالية الكلاسيكية والديمقراطيات الشعبوية المناوئة للقيم الليبرالية التي تنتمي إليها الترامبية والعديد من التجارب المماثلة في شرق أوروبا ووسطها.
وهكذا يصبح السؤال العصي هو: كيف يمكن إحياء وتنشيط العقيدة الاستراتيجية الأميركية وتجديد بنائها الأيديولوجي، في الوقت الذي لم تعد فيه الولايات المتحدة مؤهلة لقيادة نظام عالمي لا تتحكم في مركزه الاقتصادي ولا في بنياته الأيديولوجية والسياسية؟
 
*نقلا عن الاتحاد


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد