مدونات السلوك غير المنضبطة وسيلة لقمع الحقوق والحريات

mainThumb

21-11-2021 11:40 AM

في غمرة احتفالات المملكة بمرور مائة عام على تأسيسها لا نزال نلاحظ بأن بعض ممن يجلسون على كراسي الأجهزة الإدارية في المؤسسات العامة والخاصة يحاولون بشتى الطرق تقييد حقوق وحريات الموظفين العاملين لديهم، لا بل وتجدهم يسعون لفرض نصوص قانونية فضفاضة تعطيهم المزيد من السلطات التقديرية التي تمكنهم من تقييد الموظف والعامل.
 
ظاهرة (مدونات السلوك) وإن كانت في ظاهرها جميلة وتبدو من اسمها اللامع بأنها تهدف لضبط سلوك الموظف أو العامل، إلا أنها أحياناً قد تتضمن في ثناياها نصوص خطيرة بحيث تقييد حقوق العاملين وحرياتهم و/أو تفرض عليهم واجبات وظيفية إضافية لم تفرضها عليهم التشريعات النافذة الصادرة عن المشرع.
 
فعلى سبيل المثال، في إحدى الجامعات، يرفض العديد من العاملين فيها محاولات فرض مدونة سلوك عليهم من إخلال السعي لدفعهم للتوقيع على إقرار وتعهد "بالالتزام التام بأحكامها"، وبالتالي فإن تلك المدونة قد لاقت رفض واسع لكونها بعد توقيعها ستكون ملزمة للفرد وحجة عليه، وقد تكون سيف على رقبته في المستقبل إذا ما أساءت الإدارة استخدامها.
 
من وجهة نظر  قانونية وأكاديمية متخصصة، ان مثل هذه المدونات رائعة ومجدية إن كانت ضمن نطاقها السليم وكانت فعلاً تنظم شؤون ومسلكيات "أخلاقية" في العمل، إلا أنها قد تكون أداة خطيرة بيد السلطة إذا تضمنت نصوص فضفاضة أو إذا شابها عيوب قانونية كأن تقيد حقوقه المكفولة بموجب القوانين النافذة.
 
وفي مطالعة قانونية سريعة لأحد مدونات السلوك الجامعية التي اطلعنا عليها مؤخراً، يلاحظ عليها من الناحية القانونية الملاحظات الخمس الآتية:
 
1- أن تلك المدونة تضمنت في مقدمتها نص بأنها "صادرة عن مجلس العمداء في الجامعة بموجب قرار رقم (؟؟) تاريخ (؟؟)، ولكن لم يذكر فيها رقم القرار ولا تاريخه!!!! بعد البحث والسؤال لم نصل حتى الآن إلى قرار منشور بهذا الخصوص يثبت أن تلك المدونة فعلاً صدرت عن مجلس العمداء في تلك الجامعة.
 
2- إن كانت المدونة بالفعل مفروضة بموجب قرار إداري صادر عن مجلس العمداء حسب الأصول، فلماذا يطلب من العاملين التوقيع على تعهد بالالتزام بها؟؟!!! فالأصل أن القرار الإداري "ملزم ذاتياً"، وبالتالي لا حاجة لإجبار المخاطبين به على التوقيع على أي تعهد للالتزام بمضمونه (فهو ملزم تلقائياً)، وعليه يكفي إذاً توزيع تلك المدونة على العاملين لإعلامهم بصدورها والاطلاع عليها لا أكثر. 
 
3- جاء في المدونة أنها صادرة عن مجلس العمداء بالاستناد للمادة (١٦/ب/١٢) من قانون الجامعات الأردنية لسنة ٢٠١٨، وبالرجوع للقانون نجد أن هذا النص يحدد اختصاصات مجلس العمداء في الجامعات، وفي ذيل المادة (١٦) جاءت الفقرة ١٢ لتنص على ما يلي: " ب- يتولى مجلس العمداء المهام والصلاحيات التالية: ١٢- النظر في أي موضوع يتعلق بالعمل الأكاديمي في الجامعة مما يعرضه الرئيس عليه ولا يدخل ضمن اختصاص أي جهة أخرى وفقا لأحكام التشريعات النافذة ".
وهنا يثور السؤال: هل يكون من اختصاصات مجلس العمداء في أي جامعة مسألة إقرار قواعد جديدة تنظم حقوق وواجبات العاملين (أكاديميين وإداريين) فيها؟
 
الجواب القانوني: طبعاً لا، لأن تنظيم حقوق وواجبات الموظف في الجامعات الأردنية هو من اختصاص مجلس الوزراء حصراً، وبالفعل فإن حقوق وواجبات الموظف محددة بموجب أنظمة صدرت عن مجلس الوزراء ونافذة حتى يومنا هذا، ومما يؤكد ذلك نص المادة (٣٥) من قانون الجامعات الذي جاء فيه: " يصدر مجلس الوزراء الأنظمة اللازمة لتنفيذ أحكام هذا القانون بما في ذلك الأنظمة التالية المتعلقة بالجامعات الرسمية: أ- تعيين أعضاء هيئة التدريس والمحاضرين ومساعدي البحث والتدريس والمعارين والمتعاقدين والموظفين والمستخدمين وجميع العاملين في الجامعة وتثبيتهم ........وتعيين حقوقهم وواجباتهم الوظيفية والمالية وسائر الشؤون المتصلة بعملهم الجامعي. د- ممارسة العمل الأكاديمي في الجامعات والكليات الجامعية... الخ.".
 
 
يتبين لك عزيزي القارئ من خلال النص البسيط بالمشار إليه أعلاه أن حقوق وواجبات الموظف في الجامعات الأردنية تعين بموجب أنظمة تصدر عن مجلس الوزراء، لا بموجب مدونات يضعها أفراد، وبالفعل هناك أنظمة مخصصة لكل جامعة لتحكم علاقة الموظف في جامعته وتحدد حقوقه وواجباته، من هنا نرى بأنه لا مجال لقرارات إدارية تصدر عن مجلس العمداء ولا مجال لمدونات تعيد تنظيم تلك الحقوق والواجبات، وبلا شك نحن في دولة قانون يسود فيها القانون على إرادة من يسعون لفرض تلك المدونات بما تحتويه من نصوص خطيرة لن ندخل في تحليل مضمونها نظراً لكثرة الإشكاليات فيها، فالحديث يطول في تفاصيلها: فعلى سبيل المثال:
 
(جاء في المدونة أن الجامعة تلتزم بضمان حرية الرأي والتعبير في إطار القانون ووفق أحكام هذه المدونة، ثم جاءت المدونة بنصوص تتدخل في حرية التعبير، وهنا إشكالية كبيرة، وهنا نتساءل: منذ متى أصبحت حرية التعبير قابلة للتنظيم بموجب مدونات وضعها أفراد؟!! ألا يعلم "صانع" المدونات بأن هذه الحرية منظمة بموجب الدستور والقانون ولا يجوز المساس بها وتقييدها إلا بموجب نص قانوني صادر عن المشرع المختص؟ وهل ستسند إدارة الجامعة لهذا النص الفضفاض الذي يقيد حرية التعبير لكي تعاقب كل من يعبر عن رأيه خاصة إن كان لا يتفق مع رأي المسؤول؟؟)، إن مثل هذه النصوص الفضفاضة غالباً ما يساء استخدامها لعقاب شخص كتب منشور على موقع التواصل الاجتماعي منتقداً سلوك أو اجراء أو قرار وكان ذلك النقد لا يروق للمسؤول مثلاً.
 
يبدو واضحاً بأن "صانع" تلك المدونة قد استغل نص المادة (١٦-ب-١٢) من قانون الجامعات لكونه نص فضفاض يعطي مجلس العمداء صلاحيات النظر في أمور لا تدخل ضمن صلاحيات أي جهة أخرى، فأصدر مدونته بناء عليه، ولكنه بالمقابل غفل عن نص المادة (٣٥) الذي جعل تنظيم حقوق وواجبات الموظف من اختصاص مجلس الوزراء، أو أن "صانع" تلك المدونة قد اساء الصياغة وأشار في المدونة إلى انها جاءت لتنظم "حقوق وواجبات"، بجميع الحالات سيكون عمله وما صنعه من مدونات محلاً للنقد. الخلاصة: أخطأ صانع المدونة في صياغة المدونة عندما أشار إلى أنها تنظم "حقوق وواجبات".
 
4- حسناً فعل "صانع" تلك المدونة عندما نص في أحد نصوصها على التزام الجامعة بتمكين العاملين فيها من الاطلاع على هذه المدونة، ويلاحظ هنا أنه استخدم مصطلح "إطلاع"، ولم يقل (التعهد والتوقيع)، وهذا يؤكد أنه لا حاجة لإجبار أي موظف على التوقيع على وثيقة تعهد والتزام بالمدونة، فالالتزام بمدونات "السلوك" يكون أدبياً لا بموجب توقيع وتعهد.
 
5- أخيراً يلاحظ على تلك المدونة وجود بعض الأخطاء الاملائية فيها، ونستغرب هنا ونتساءل:
- من هو محرر وصانع تلك المدونة؟؟
- وهل بالفعل هي مدونة صادرة بموجب قرار صادر عن مجلس العمداء الذي يتضمن اساتذة ذوي مراتب عليا ومن خيرة اساتذة الجامعات؟!! وهل فعلاً اطلع عليها مجلس العمداء؟
- وهل فعلاً تم دراستها من الناحية القانونية قبل محاولة اجبار الموظفين على التوقيع عليها؟
- وهل تعلم إدارة تلك الجامعة بأن التشريعات الأردنية لا تجيز إكراه أحدهم أو الضغط عليه من أجل التوقيع على شيء بخلاف إرادته؟
- وهل ستقوم الإدارة العليا ذاتها بالتوقيع على تلك المدونة للتعهد بالالتزام بأحكامها، مثال: هل ستتعامل مع مختلف معاملات العاملين بشفافية ووضوح، دون إخفاء وتأخير للمعاملات، واحتراماً لنص المدونة الذي نص على إلزام إدارة الجامعة بالتعامل مع معاملات الموظف على أساس الاستحقاق والجدارة والتنافسية وتكافؤ الفرص؟!!!
 
كل هذه التساؤلات وغيرها تبقى برسم الإجابة، وندعو أجهزة الإدارة المختلفة في كافة المؤسسات لتوخي الحذر من مثل تلك المدونات التي قد يترتب عليها تقييد لحقوق وحريات الأفراد والمحددة بموجب الدستور والقوانين والأنظمة، وندعو الإدارة أيضاً للحذر ممن يقدمون لهم المشورة في نطاق عملهم خاصة عندما يتعلق الأمر بحقوق وواجبات العاملين وبمسائل فرض القواعد الملزمة.
 
إن الدعوة لمزيد من القيود على حريات الموظفين والعمال في القطاعين العام والخاص، والمزيد من النصوص الفضفاضة بيد أجهزة الإدارة، هي في الحقيقة دعوة لتأجيل استحقاقات وطنية ملحة وعاجلة بكفالة الحقوق والحريات العامة، وهي دعوة لتأجيل حلم الشباب الطامح للعيش في دولة قانون ينال فيها كرامته، هي دعوة لاستمرار هيمنة نخب معروفة على مقدرات الدولة ومؤسساتها، وهي دعوة لتخويف الناس من السعي وراء الإصلاح ومحاربة الفساد، وأخيراً هي بالمجمل تصب باتجاه الإجهاز على ما تبقى من مصادر وثروات وملامح العدالة الاجتماعية في دولة القانون التي زاد عمرها عن مئة عام (بلدنا العزيز الأردن) وفي ظل القيادة الهاشمية التي طالما أكدت مراراً على سمو مبدأ سيادة القانون وضرورة ضمان الحقوق والحريات العامة لا السعي وراء تقييدها.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد