هجرة الأدمغة: من الرّابح ومن الخاسر؟ .. بروين حبيب

mainThumb

29-11-2021 03:05 PM

 بدأت رحلة أحمد بأحلام كبيرة، استقال من مهنته في إحدى الصحف العربية، وطار إلى كندا مع عائلته، زوجة إعلامية أيضا، وثلاثة أولاد، أكبرهم على أبواب الجامعة. كل شيء كان يبدو جميلا في البداية، لكن شيئا ما حدث وجعل الأيام تأخذ مذاقا مُرًّا. بدأ يكتشف أنه خرج من جحيم بلده العربي، إلى الهامش الكندي ليعيش على حافّة الحياة.

في انتظار الحصول على جواز سفر كندي مارس المهن البسيطة التي أشعرته دائما بعدم أهميته. مثلا عمل نادلا في سلسلة من المقاهي، كما عمل سائقا، وحتى في قطف الزهور. مضت أول سنة دون أن يجد ما يناسب شهادته وخبرته الإعلامية (أكثر من عشرين سنة) تحوّلت زوجته إلى ربّة بيت، وبدأت مدخراتهما تنضب شيئا فشيئا.
قبل إقبالهما على هذه المغامرة، اتبعا خطوات طلب الهجرة، وحين حصلا على الموافقة اعتقدا أن الحياة ابتسمت لهما أخيرا، باعا شقتهما وسيارتهما وغادرا.
كانا صحافيين يعملان تحت خطر يومي، مع امتيازات قليلة، واليوم هما بالمعنى العميق للكلمة مجرّد عاطلين عن العمل، شبه مفلسين، والنّاجي الوحيد من عائلتها هو ابنهما البكر بعد التحاقه بالجامعة، وهذا عزاؤهما الوحيد، أمّا أقسى ما واجههما فهو لحظة تلقيا مساعدة مالية من والد أحمد، والبحث مجدّدًا عن فرصة عمل «أونلاين» عن طريق الأصدقاء والزملاء القدامى.
الجنّة في الحقيقة لا تنتظر المهاجر في الشّقِّ الآخر من العالم، فالمهجر لا يأبه بك إن كنت «لاجئا فكريا» أو «لاجئا سياسيا» أو «لاجئا اجتماعيا» وهذه التصنيفات لا تخطر على بال الهارب من بلاده بحثا عن ظروف حياة أفضل، وهو يعتقد واهما أن مستواه التعليمي وشهادته واتقانه للغة الإنكليزية سيفتح له آفاقا أفضل من تلك المتوفّرة في بلاده.
وهذه حالة أحمد التي تعتبر أفضل من حالات من يقطعون البحار أو براري أوروبا عن طريق عصابات تجار البشر لبلوغ الجنة الموعودة، كونه يصنّف ضمن فئة الأدمغة المهاجرة. أمّا حكايته فواحدة من مئات الحكايات التي تدمي القلب. نسمع يوميا عن أطباء اشتغلوا في التمريض، لأن شهاداتهم غير مقبولة، ومهندسين ودكاترة في حقول مختلفة تعطّلت قدراتهم الفكرية وتحوّلوا لعاطلين عن العمل يعيشون على الإعانات التي تخصصها الدولة لأمثالهم.
السؤال المحرج الآن: من الرّابح ومن الخاسر من هذه الهجرة؟
رجال السلطة يحفزون الهجرة أو يمنعونها، ويضعون سياسات محدّدة بخصوص هجرة العلماء والطّاقات الفكرية، هناك السلطة التي تحتفظ بالأدمغة بالقوة، وتديرها وفق سياق استعبادي محض، وهناك سلطة تُفَعّل سياسة جذب الأدمغة ثم بعد جمعها تخضع الجميع لعملية فرز، بالضرورة هناك من يجد نفسه في الهامش بعد ذلك. هناك أنظمة تفضل التّراخي في احتضان أدمغتها، فتسهّل لها سبل الهجرة، وتعتبر ذلك استثمارا جيدا لها، كون تلك الأدمغة ليست سوى «الدّجاجة التي تبيض ذهبا» بسبب تحويلات العملة الصعبة من المهجر إلى الوطن، دون أي رغبة في استعادتها ذات يوم، لأنها في الغالب تقلق مضجعها بأفكارها التي تنادي بالحرية الفردية وإصلاح التعليم، وقطاعات أخرى تضرب مباشرة في المنظومة الحاكمة وتدعو لتغييرها، وهذا مكمن الصراع الحقيقي بين الأدمغة ورجال السلطة.
في الحقيقة رجل العلم والفكر لا يمكنه أن يعيش في كنف مجتمع يعمُّه الجهل، وقلة الوعي، كما لا يمكنه أن يحقق أي عطاء في فضاء خالِ من الرّغبة في التطوُّر والازدهار. بمعنى آخر يبدأ كل شيء حين يُطلق سراح الأفكار من مخابئها، ويمكن للمرء التعبير عنها دون خوف. متى ما كبّل الخوف ولجم اللسان عاد الإنسان إلى حالته البدائية، لا فرق بين إنسان الكهوف وذاك الذي يُقدّم له العلف ليعيش ساكتا، ويقاتل فقط في حالات الشعور بخطر الأعداء. وإذا ما تتبعنا بيانات هجرات الأدمغة عبر التاريخ، سنفهم جيدا أن الحروب التي دمّرت حضارات عظيمة تسببت في هجرة الأدمغة إلى حيث نمت حضارات جديدة، لقد ارتبط كل ازدهار باحتضان الأدمغة. عندما بنى الملك الأول بطليموس العظيم مكتبة ومتحف الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد لم يكن هناك «مجتمع علمي» في مصر، وقد قام بحل تلك المشكلة ببساطة بجلب العلماء، وكانت قاعدته الذهبية «عليك بإفقار منافسيك من أجل الثراء» وهكذا جذب علماء اليونان من أجل سيادة عاصمته الجديدة، فاستقطب مئات من علماء الفيزياء والرياضيات والنبات والحيوان والمنجمين والفلاسفة، وعلماء اللغة والفنانين والشعراء والمؤرخين، دون احتساب الزوار المتدفقين على المتحف والمكتبة يوميا من كامل مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط.
 
قرّاء التاريخ الذي استخلصوا العبر منه، يعرفون أن الثروة لم تكن يوما في الأيدي والأذرع، لكنّ في الأدمغة، وهذا ما جعل الدول الغنية اليوم تركز على المنتجات ذات القيمة الفكرية العالية، مستغلة انفتاح العالم على بعضه بعضا. وفي زمن مضى قيل إن «الثورات تقطع الرؤوس عندما كان كافيا تغيير العقول» نظرية شرحها مطولا المفكر والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إميرسون، في قراءته للثورة الفرنسية، التي راجع صنّاعها أنفسهم بعد أن كادوا يحولون فرنسا إلى «مسلخ» للعلماء والمفكرين، فجعلوا باريس قبلة للعالم كله، وقد قارنها مع لندن التي بنت نفسها لاستخداماتها الخاصة.
كثيرة هي الأمثلة إن شئنا أن نتوسع في هذا الموضوع، فقد هاجرت الأدمغة من أوطانها إلى بلدان أكثر احتراما للعلم والعلماء، وإلى غاية نهاية التسعينيات من القرن الماضي، كانت الصين تتربع على عرش هجرات العقول، تليها كوريا الجنوبية ثم اليابان، الوجهة بريطانيا ثم الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، لكن منذ أواخر القرن العشرين تغيرت المعطيات، حروب المنطقة العربية والافريقية فتحت بابا كبيرا لهجرة عقولها، لكن منذ بدء الربيع العربي تسارعت هجرة العقول العربية بشكل حاد. مأساة الإنسان في الشق الجنوبي من الكرة الأرضية بلغت حدا لا يوصف، لولا بعض الاستثناءات، ومأساة المثقف بشكل خاص هي الأقسى على الإطلاق، خاصّة إذا كان أحادي اللغة. مطلوب منه أن يطوّر مهاراته اللغوية وربما مهارات أخرى ليتمكن من العيش بشكل يليق به، مطلوب منه أيضا أن يتعافى من حمولته العاطفية الثقيلة، وجراحه ومواجعه التي تغلغلت مع الزمن في في كل تفصيل من تفصيلات ذاكرته.
بالتأكيد حيثما توجد عقول عظيمة ستتحقق أشياء عظيمة أيضا، لكن بالنسبة لكاتب أو مفكر أو إعلامي عربي، على ماذا يقوم هروبه؟ وما حجم خساراته حين يجد نفسه في مواجهة مصير مشابه لحياته السابقة في البلد المضيف؟ هل بإمكانه إنشاء فضاء مصغّر لطموحاته العربية؟ أو اختيار الطريق الأصعب، وخلع قميصه العربي وارتداء جبة لا تناسب مقاسه؟
أخطر العقول هي تلك التي لا تتقن غير لغة الوطن، ولا يمكنها التّخفي بلغة الأرقام، أو غيرها من العلوم، فقط لغتها الوحيدة، ونزيفها المستمر منذ نشأتها الأولى.
نزيف الشعر العربي المكتوب في المنافي متشابه، ولعلّ هذه الأبيات لمحمود درويش تختصر حال الأغلبية من النخب العربية في المهجر:
هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا… ولم يعد إلى الوطن؟
هل يذكر المساء
مهاجرا مات بلا كفن؟ /…/
أمّاه يا أمّاه لمن كتبت هذه الأوراق؟
أي بريد ذاهب يحملها؟
سدّت طريق البرّ والبحار والآفاق…
وأنت يا أمّاه
ووالدي، وأخوتي، والأهل، والرّفاق
لعلّكم أحياء
لعلّكم أموات
لعلّكم مثلي بلا عنوان
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان؟
من الرّابح ومن الخاسر إذن؟ ها هي ذي نصف قصيدة تعطينا أدقّ رقم لكل خساراتنا وإن كان للجهات المختصّة بالإحصائيات رأي آخر.
 
شاعرة وإعلامية من البحرين


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد