الحرب العالمية الثالثة بدأت باستخدام وشيك للقنبلة النووية المالية

mainThumb

27-02-2022 12:10 PM

روسيا على أبواب "كييف" وأسئلة أخرى!
في أتون الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الدراماتيكية الملغمة بالمفاجآت، تطل علينا شخصية بوتين الذي امسك بخيوط اللعبة منذ إشعاله الحرب الضروس في أوكرانيا وقد حول قادة الغرب وعلى رأسهم أمريكا إلى بيادق في لعبة يتقنها، ويستحوذ على معطياتها باقتدار، فيما بات يعرف ب"استراتيجية روسيا الاتحادية الجديدة" التي وحدت أوروبا في منعطف لم يكن بالحسبان. فهل كان بوتين مدفوعاً إلى ذلك بوهم القوة وقد تقمصت "أناه" شخصية القيصر العظيم الذي نذر نفسه لإحياء أمجاد الإمبراطورية المسيحية الأرثوذكسية ذات العرق السلافي بعد أن دفن الشيوعية في أرضها من خلال انتقاد رموزها وإهمالهم اللافت؟ 
ولكن! هل أخذ بوتين بالحسبان النتائج المخيفة وارتداداتها الداخلية على نحو ما يجري الآن من حرب اقتصادية شعواء شنت ضده من قبل الغرب بقيادة خصمه اللدود أمريكا التي سخرت كل طاقاتها للدفاع ولو ظاهرياً عن أوكرانيا التي استنجد رئيسها بحلفائه الغربيين، ثم سرعان ما اتهمهم بالتقصير  بعد تغلغل الجيش الروسي في بلاده حتى بات على مشارف العاصمة؛ دون تدخل الناتو عسكرياً . مع أن السبب الذي أدى إلى كل ذلك يكمن في إصرار كييف على الانضمام إلى الناتو الذي اعتبره الروس فخاً لا فكاك من الوقوع فيه. فالدب الروسي قادر على التخلص من أنيابه الحديدية.
 وبالعودة إلى بوتين الذي أدار ظهره لكل الضغوطات الدولية، ساعياً لتحقيق أهدافه المعلنة، فهل كان يتوقع من جراء حربه على أوكرانيا؛ بأن بلاده ستتعرض لكارثة اقتصادية محتملة إذا ما قُصِفَ بما أطلق عليها الفرنسيون ب"القنبلة النووية المالية" التي سنتحدث عنها بالتفصل! أم أنه قدّر بأنها كالموس ذي الحدين، إذ يوجد لها ارتدادات كارثية على دول العالم بما فيها أوروبا نفسها! وأنه حصن الاقتصاد الروسي لمواجهة نتائجها من خلال استراتيجية "الدفاعات المالية".
وكان بوتين يعلم بأنه سيواجه أثناء الحرب حملة تضليلية ستكتسح الفضاء الرقمي الذي تتحكم به الشركات الأمريكية العملاقة، لكن الحقيقة كما يراها ساطعة ولا تغطى بغربال، في أن خصمه هو الغرب الذي يصر على تجزئة مفهوم الأمن في أية مفاوضات طرحها الروس.. وكانت أوكرانيا هي الضحية.
 فمنذ البداية كانت مطالب روسيا تتلخص بضرورة عقد مفاوضات بشأن الأمن الموحد دون تجزئته على اعتبار أن مشكلة روسيا ليست مع أوكرانيا بل مع الغرب الذي يمثله عسكرياً حلف الناتو، حيث ما يزال يتمدد ببطء باتجاه الشرق. ولولا مشكلة الحدود الأوكرانية المعلقة؛ لوافق الناتو على طلب أوكرانيا بالانضمام إلى الحلف الذي يلح عليه الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
 وتذرع الناتو منذ بداية الأزمة بالحشودات الروسية قبل الهجوم الروسي لنشر صواريخ جديدة شرق أوروبا ودعم أوكرانيا بأسلحة دفاعية جديدة بغية تجهيز الفخ الأمريكي المنصوب للدب الروسي.. لا بل وأرسل الحلف أيضاً آلاف الجنود إلى الدول الشرقية المجاورة لروسيا.. ومن هنا كما يبدو ستأخذ الرواية الروسية أدلتها التي تبرر  التخوفات الروسية من البوابة الأوكرانية المشرعة على الغرب، فيصبح إغلاقها مطلباً استراتيجياً أمنياً طارئاً يمكن تفهمه؛ لذلك قامت روسيا بداية بإجراء مناورات تقليدية أعقبتها أخرى نووية، ثم باغت بوتين العالم بقرار الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين شرقي أوكرانيا (دونيتسك ولوغانسك ) بطلب من مجلس الدوما الروسي.. ولم ينتظر بوتين طويلاً ليأمر بدخول الجيش الروسي، أوكرانيا من ثلاثة محاور ، جنوباً وشرقاً  بغية تحقيق عدة أهداف، وهي:
- إسقاط الحكومة التي يسيطر عليها النازيون الجدد، التي وضعت أوكرانيا في قلب العاصفة، وخاصة أن رئيسها زيلينسكي رفض القبول بالمطالب الروسية وفحواها: 
أن تكون أوكرانيا حيادية فلا تنضوي تحت عباءة أي حلف غربي أو شرقي. 
وأن تكون معزولة السلاح. 
وأن تشكل حكومة تضم كل الأطياف بما فيهم الناطقين باللغة الروسية ونسبتهم تتجاوز ال 30% من السكان. كذلك وقف العمليات الإرهابية التي يقوم بها النازيون الجدد ضدهم. 
في المقابل، الرد الغربي على "الغزو الروسي" جاء خلافاً لحسابات بوتين، الذي لم يقدر كما يبدو بأن حسابات البيدر لا تأتي دائماً وفق حسابات الحقل! لكن الروس يقولون بأنهم وضعوا كل ذلك بالحسبان وإن حصاد النتائج مثمر.
هذه ثقة مفرطة من قبل بوتين باستراتيجية روسيا الاتحادية الجديدة.. ولا نملك إزاء ذلك إلا انتظار نتائج الحرب بعد أن تنتهي قبل أن تخرج عن سياقها.
  لقد ورط الغربُ أوكرانيا ودفعها إلى مصير مجهول مستغلاً عدم خبرة الرئيس الأوكراني زيلينسكي السياسية، والذي أغرق البلاد في أزمة يصعب الخلاص منها.. وكان بوسعه الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بوتين قبل وقوع الكارثة وطمأنة الروس على أمنهم والتنازل عن سعيه للانضمام إلى حلف الناتو الذي لم يثبت في أتون هذه الأزمة بأنه جدير بالثقة على الأقل بالنسبة لأوكرانيا حينما نأى بنفسه عن أي تدخل عسكري قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
 ولكن كما يبدو، فإن رؤية زيلينسكي الاستشرافية قصيرة المدى وكان عليه أن يستخلص من التاريخ العبر بغية إنقاذ بلاده من الدمار قبل فوات الأوان. وكان حتى يوم أمس قد أبدى موافقته على عرض بلاروسيا بجمع طرفي النزاع على طاولة المفاوضات في منسك التي شهدت اتفاق عام 2014 الذي يتهم كل طرفٍ الآخرَ باختراقه؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه رغم الشروط الروسية التي اعتبرها زيلينسكي استسلاماً، وهي شروط جاءت أشد وطأة منها بداية الأزمة، فأعلن موافقته الفورية، واطمأنت القلوب، وإزاء ذلك أمر بوتين بوقف العمليات العسكرية الروسية تمهيداً للحوار. إلا أن زيلينسكي كما يبدو تعرض لضغوطات غربية ووعود جوفاء بالدعم المفتوح ووضع المارد الروسي في القمقم، دون أن يدرك بأنه أسقط روسيا في الفخ الأوكراني.
فكل التداعيات الأخيرة لم تأت مصادفة لأن الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه كان يصرح دائماً -خلافاً لرؤية سابقه ترامب- بأن الخطر المحدق بأمريكا يأتي من روسيا.
وقد قدم الأوكرانيون له المبررات لضرب الاقتصاد الروسي على طبق من ذهب، فهل ينجح الغرب في ذلك!
فقد تقدم الغرب بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يوم الجمعة الماضية يدين روسيا ويطالبها بالانسحاب من أوكرانيا والتراجع عن قرار الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين ثم التباحث في التفاصيل على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، فأجهض القرار بالفيتو الروسي على الرغم من تخفيف حدته قبل ساعات من التصويت. 
وصوت 11 عضوا من أعضاء المجلس الـ15 لصالح النص، بينما امتنعت عن التصويت الدول الثلاث الباقية وهي الصين والهند والإمارات العربية المتحدة.
من هنا جاء التلويح باستخدام ما قيل بأنه "خيار  نووي مالي" يتجلى بإخراج روسيا من نظام سويفت المالي الذي سيعيد روسيا إلى الوراء ويعثر تنميتها المستدامة، ويضعها أمام مصير مجهول رغم أن روسا استعدت لهذا الخيار المتوقع من خلال الدفاعات المالية.
فما هو هذا الخيار المالي المدمر الذي تلوح به أمريكا والغرب، ومدى فاعليته،؟
نظام "سويفت" هو شريان مالي عالمي يسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود. و كلمة سويفت - SWIFT - هي اختصار لـ "جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك"، وقد أنشئ هذا النظام عام 1973 ومركز هذه الجمعية بلجيكا، ويربط نظام سويفت 11 ألف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة.
ويشرف على نظام "سويفت" البنك الوطني البلجيكي، بالشراكة مع البنوك المركزية الكبرى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا.
 ويؤمن سويفت نظام مدفوعات آمن بين الشركات في العالم من خلال فتح الاعتمادات وتسديد المستحقات، بما في ذلك تيسير حركة الأموال ما بين الاستدانة والسداد.. 
ويتوقع خبراء اقتصاديون بأن حظر روسيا من التعامل عبر نظام سويفت، والذي يستخدم من قبل الآلاف من البنوك، سيؤدي إلى التأثير على شبكة البنوك الروسية وقدرة روسيا على الوصول للمال.
وإخراج دولة كروسيا من هذا النظام يعد كارثة مالية من شأنها ضرب اقتصاد روسيا في العمق.. وستكون له ارتدادات كارثية على بقية الدول وخاصة أوروبا  وتحديداً ألمانيا التي تستورد من روسيا 40% من الغاز.
 وتمتلك ألمانيا بالدرجة الأولى ودول أوروبية أخرى شركات عاملة في روسيا ويُخْشَى أن تصبح مرهونة للسلطات الروسية والتعامل معها بالمثل فيما لو أقدمت دول أوروبا على مصادرة الشركات الروسية في القارة العجوز التي تحاول استعادة شبابها الآفل، وكان بوسع أوروبا لو حسنت نواياها اللجوء إلى التهدئة وترك أوكرانيا وشأنها قبل وقوع المحظور.. والفرصة ما لبثت متاحة !
ويبدو أن روسيا كانت مستعدة لهذه الضربة المالية المحتملة لذلك قام البنك المركزي الروسي بضخ كميات محسوبة من العملات الأجنبية دعماً للشركات الروسية لتأمين الاستقرار المالي في البلاد، وخاصة أنه رفع من احتياطي العملات الأجنبية من .30٪؜ إلى 60٪؜ تجنباً لعقوبات قد تفرض على روسيا كما حصل عقب الاحتلال الروسي لشرقي جورجيا عام 2008، وانتزاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ومن ثم ضمها لروسيا. وما رافقها من تداعيات وصلت ذروتها إلى ما يحدث الآن في أوكرانيا.. وخاصة أن بوتين اتهم النظام الأوكراني الحالي الموالي للغرب بأنه انقلب على الشرعية عام 2014.. وتحول إلى خنجر مغروس في الخاصرة الروسية.
أما التحالف الصيني مع روسيا فيرى خبراء بأنه سيكون حذراً، وربما ينحصر أكثر باستيراد الغاز الروسي، ورغم ذلك فثمة عقبتين قد تصعبان من الموقف، الأول: صعوبة التعامل المالي أثناء تنفيذ العقود لو نفذ الغرب تهديداته بإخراج روسا من نظام سويفت.
أما الثاني فحجم التجارة الصينية مع الغرب أضعاف ما هي عليه مع روسيا.. فمصالح الدول قبل كل شيء.
 ولعل روسيا لو تعرضت للعقوبات، قد تستلهم تجربتي إيران وكوريا الشمالية وربما وضعت ذلك في الحسبان أثناء تقديراتها لنتائج الحرب الاقتصادية المحتملة بلجوئهما إلى السوق السوداء العالمية.. وهذا خيار روسي وارد الاحتمال لو حشرت موسكو في الزاوية.
في المحصلة فإن الأزمة متفاقمة، والعمليات العسكرية أمست في ذروتها.. وينتظر العالم بأنفاس مقبوضة، دخولاً روسياً وشيكاً لعاصمة أوكرانيا "كييف".
 وتبقى مآلات هذه الحرب المعقدة مجهولة، وعرضة للتدحرج وصولاً إلى ما لا يحمد عقباه.. ولا أريد الإشارة إلى حرب عالمية ثالثة لأن بوادرها كما يبدو بدأت بالفعل.. الله يستر!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد