المكافأة

mainThumb

23-02-2018 02:02 PM

 قصة قصيرة

 
مادت الأرضُ بالموظف وهو يتلقى خبرَ استدعاءِ المديرِ له؛ فارتسمت على جبينهِ تقطيبةٌ تفزعُ لها الغربان. ثم راح يحلل الموقفَ ولعابه يتنافض ككلامه الهَذِر:
 
" ربما أزعجته كلمتك الأخيرة في حفل الأمس! حينما وصفت المدير بالنملة التي لا تتعبها الواجبات! ربما!! ألم تجد كلمة أفضل منها أيها المعتوه لتصف بها المدير في حفل أقيم لتكريمه؛ قل(نحلة) مثلاً.. النحل يستحلب رحيق الزهور، أما النملة فهي مداس لعابري الطريق.. نملة يا متهور!! والله أضحكت الناس عليك". 
 
قال ذلك في نفسه بينما راح يتخيل مصيره المبهم بفرائص مرتعدة، ولسان لاهث كأنه مفقود في صحراء متناهية الأطراف؛ كأنه قادمٌ لتوه من الجبهة؛ وتخيل لوهلة بأن المديرَ احتسبها إهانةً شخصيةً له؛ خلافاً لما قصده الموظف المصدوم من الموقف المفاجئ؛ لذلك لم ينتظر طويلاً فسارع الخطا؛ إذْ كان عليه تجاوز كل أبواب المكاتب على جانبي الممر الطويل فيما نظرات زملائه الشفوقة تحاصره مؤنبة:
 
" ألم تهدر بذلك رزق أهلك الذين يعتاشون من راتبك البائس!!؟" 
 
استلحقِ الموظف الخطوات باتجاه المكتب وعيون الزملاء ترمقه بحزن إزاء ما سيتعرض إليه من عقوبة، بدا وجهه مخطوف اللون وعيناه تتقلبان توجساً فيما فمه يتلمظ طعم المهانة التي أثقلت على طرفي شاربيه الأحمال فتنكسا حتى تقاطرت عليهما حبيبات العرق الذ تفصد على جبينه، قال في نفسه:
 
" أكيد ستكون شديدة عليّ.. نملة أيها الشقي! فعقول هؤلاء المدراء كسمّ الخياط". 
 
وأخذ يبلع ريقه متلعثماً حين قال له أحدهم منبهاً قبل أن تبتلعه إحدى مكاتب الدائرة المالية:
 
"رأيت المدير يتطاير الشرر من عينيه المتوقدتين.. وهو يدخل الدائرة القانونية، عساه يرأف بحالك أيها المتهور.. فلسفتك أخيراً ستدميك على المكشوف. 
 
وعلق آخر كان يضم على صدره عدة ملفات:
 
"بل دلف المدير إلى قسم الشؤون الإدارية من الباب المتواري وكان يلاحق أحدهم بشتائم مكبوتة، أخشى أن تكون المقصود". 
 
وكان خبر استدعاء هذا الموظف المجتهد قد التهم كل فواصل الفراغ في وقت العمل بمكاتب الشركة: 
 
" فماذا تفعل الهواتف غير إضرام النيران في عقول الموظفين المريضة فالكل يتربص بالآخر!!"
 
وانضمت خطيبة هذا الموظف إلى الركب وهي تصب جام غضبها عليه بينما كانت تعقص شعرها الناعم إلى مؤخرة رأسها ربما ليشاهد مبلغ الغضب الذي ترك ملامح الخريف بعواصفه المتربة في قسمات وجهها المتشنج: 
 
"ماذا يعني أنك قلت في حفل الأمس بأن كلمتك ستكون مختزلة في ذات النملة.. فتوجه الكلام للرجل المحتفى به فتقول: بملئ الصوت:
 
يا من تمثل النملة بين الكسالى في زمن السمسرة". 
 
معقبةً بغضب شديد:
 
" ألم أخطر ببالك وأنت تشتم وليّ نعمتنا ولو عن غير قصد وخاصة أن الموظفين أخذوا يعلقون على الموقف حتى تناهى إلى سمع المدير بأنهم يطلقون عليه عطوفة النملة المبجلة! ألا يعني هذا بأنك تتاجر بمصلحتنا مجاناً خيبك الله!؟".
 
ثم أخرسته بدموعها وكاد يتعثر وهو يواريها ظهره مستلحقاً الوقت بينما أخذ المحاسب الذي دخل لتوه مكتبه يوجه الموظف برتابة تخلو من أي معنى:
 
-عاجل الخطا! المدير ينتظرك على أحر من الجمر. 
 
- خير إنشاء الله .
 
لم يحر جواباً.. فقد تسمر الموظف أخيراً أمام المكتب ليأتيه صوت المدير المجلجل من الداخل ضاحكاً:
 
" أدخل مستعمرة النمل أيها المجتهد".
 
فلما فتح الباب بيديه المرتجفتين لم يتسع قلبه للمفاجاة والمدير يقدمه لأحد أصدقائه بمحبة ورضا:
 
" كانت كلمته هي الأصدق! النمل!! ليتنا نقتفي أثر النمل في مسيرته اليومية كي نرتقي بأعمالنا".
 
ثم أشار إليه بالجلوس: 
 
"ستشرب قهوتك معنا تقديراً للنمل الذي نحبه". 
 
وعقب ضاحكاً ملء شدقيه وهو يدور حول مكتبه الفاخر باتجاه الموظف المشدوه:
 
" قرأت ملفك وما يحتويه من شهادات تقدير بحقك، شيء يرفع الراس"
 
ثم جعل يربت على كتفيه هامساً باعتداد:
 
" بوجودك بيننا يتحول مكتبي بالفعل إلى مستعمرة للنمل.. ويبدو أنني سأحول الشركة إلى مستعمرة، والموظفين إلى نمل يعمل باجتهاد وانتظام لا يهدر فيه الوقت.. رتب لنا كلمة أخرى لتقرءها في القاعة المجاورة حتى أكافئك أمام الهازئين بالمجتهدين أمثالك، إذهب الآن فلدينا موعد مع موظفي الشركة بعد ساعتين"..
 
خرج الموظف مورق الوجه حامداً الله في سره.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد