العراقيون والتنقيب عن دكتاتور جديد - حامد الكيلاني

mainThumb

16-05-2018 03:10 PM

 فكرة علاج أمراض السلطة في الأنظمة الديمقراطية بالدورات الانتخابية واختيارات الإدارات الجديدة، ربما تقدم لنا توضيحا لأسباب تعميم التجارب التقليدية على ما طرأ من نتائج التصويت في انتخابات العراق، لهذا لم يعد غريباً تسويق مصطلح المفاجأة لترتيب التحالفات وتشكيل الحكومة المرتقبة أو لفسح المجال واسعا للاعتراض في محاولة لترك الباب مفتوحا للمساومات وإشعال الحرائق الصغيرة أو الكبيرة هنا وهناك، على قاعدة “عندما تفشل عليك أن تفشل بشكل أفضل”.

 
إذا كان من أسئلة مستقرة في أذهاننا عن العراق فهي تلك التي تتعلق بالخشية مما سيحصل وعدم معرفة إلى أين ستمضي وقائع الأكثرية الساحقة من أصوات اليأس بما يضاف إليها من أصوات الحالمين على أمل التغيير من الذين لا صلة لهم بمنتجات الاحتلال الأميركي وبضائع إيران الكارثية.
 
العاصمة بغداد، إن كانت تصلح كشريحة تحليل مختبرية لنتائج الانتخابات فهي بالنسبة لأبناء بغداد الأصليين وسكان محلاتها القديمة لا تعدو أن تكون إلا تعبيراً عن تغيير ديموغرافي طويل الأمد بدأ منذ تموز 1958، في ذلك اليوم الفاصل من تاريخ العراق والمنطقة.
 
تهجير حقيقي تعرضت له العناصر المتآخية في بغداد نتيجة للسياسات الخاطئة وتفاوت فرص الحياة بين مدن العراق مما أدى إلى ظاهرة ترييف العاصمة، وبعدها اكتشفنا مدى الاستغلال البشع للأحزاب الطائفية وبعض المرجعيات والشخصيات المذهبية لقوة العدد من الفقراء لأغراض التكاثر والتحشيد ضد الدولة الوطنية بحجة التمايز في الانتماءات.
 
لذلك القوائم والتحالفات التي تتصدر نتائج الانتخابات بشخوص قادتها على تباينهم تؤكد أن لا أحد منهم يمثل قلعة المجد التليد أو منارة المعرفة ومفاخر المدينة العريقة؛ لأن كل القوائم تمثل الوافدين إليها بعد تموز 1958 مهما تكالبوا فوق أنقاض السياسة أو تمثيل المجتمع البغدادي تحت لافتة “بغداد هويتنا”، فأغلبهم كانوا خلايا نائمة قبل الاحتلال ومهدوا عملياً للنفوذ الإيراني في العراق وتعميق أدواره السياسية والميليشياوية في العملية السياسية للمحتل.
 
من يتصدر الانتخابات وبالتسلسل لا يتورع عن الدفاع عن الوجود الإيراني في لحظة حاسمة، لأن الغايات السياسية في هذه المرحلة تتطلب إشارات توازن؛ لكنها مع ذلك إشارات تميل عقائدياً إلى ولاية الفقيه بحكم وقوفها المبدئي خلف مشروعه، وإن تراوحت المواقف بين الاستلاب المذهبي وبين الواقع السياسي ومآلاته في العراق.
 
الشيء الآخر الذي أثبتته نتائج الانتخابات أن الكتلة الكبيرة الثابتة في تصويتها لرجل دين استفادت من تواضع نسبة المصوتين، لتندفع في إشهار ما يختفي خلف عباءة النظام السياسي الديمقراطي لتقوم بترشيح نموذج دكتاتوري يتجاوز ويقفز على دكتاتورية زعماء الأحزاب بما يمنح الانطباع أن ثمة مرشدا قادما لا محالة في العراق وإن اختلفت التسميات والشكليات.
 
العراقيون ضمنياً توّاقون إلى دكتاتور ينتشلهم من تعددية الدكتاتوريات، وذلك واضح في ندمهم بأثر رجعي وبأطروحاتهم الداعمة لاستتباب الأمن والاستقرار بالضرب بيد من حديد على الفاسدين بعد معاناتهم وسقوط النماذج السياسية في حكم العراق. وهو في جانب منه اعتراف بفشل العملية السياسية وعدم الثقة بتجربة النظام الديمقراطي، وفي جانب آخر وسيلة لتدعيم وجهة النظر القائلة بعدم صلاحية النظم الحديثة للتطبيق في بلد مثل العراق.
 
توجهت الانتخابات هذه المرة إلى زج الميليشيات في العمل السياسي، وهو ضمن سقف التوقعات إذ لا شيء جديدا أو مفاجئا، لأن الإعدادات وضريبة الدم كانتا طريقاً معبداً لفوزهم مع ما توفر لهم من إمدادات مالية ومعنوية من النظام الإيراني ومن سطوتهم داخل العراق، إلى درجة أنهم لا يردون على من يصفهم بممثلي إيران في انتخابات العراق، فذلك مصدر فخر لهم وبعض برنامجهم السياسي في برلمان العراق المقبل.
 
أي بمعنى دقيق إن أصوات النظام الإيراني صار بإمكانها أن تكون بديلاً لسلاح الميليشيات داخل البرلمان، مع احتفاظها بسلاحها الخاص كجزء من منظومة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وأيضا في ميدان واجباتها الخاصة.
 
حزب الدعوة بجناحيه، النصر أو دولة القانون، لن يتخلى عن إيران باختلاف عدد المقاعد، فالجميع في النهاية بذات الولاءات إن في البرلمان أو خارجه؛ على هذا المقياس كيف يكون شكل الحوار الوطني تحت صوت الميليشيات بغير تصعيد لغة التنافس على مصادر الفساد بالمزيد من الدفاع عن المفاسد القديمة وحمايتها من التورط في مستنقع يتصيد فيه الفاسدون بعضهم البعض، مع اشتراط عدم المساس بالرقم واحد في كل كتلة أو قائمة فائزة.
 
نؤكد دائماً وبإصرار أن العملية السياسية في العراق ومعها تفاصيل الأحزاب وتولي الوزارات والسفارات تعمل بالضبط كما لو كانت سيطرة وهمية متنقلة تقطع الطريق فجأة، وتبدأ إما بالقتل على الهوية أو بالاختطاف أو بالسرقة أو بالمساومة أو بنشر الإرهاب أو بزرع بذور الفتنة والشك بين الناس لتستمر النزاعات والمآسي، فالدورات الانتخابية بمفاجآت من تقدمهم أو تؤخرهم هي تلميع متكرر للاحتلالين الأميركي والإيراني على اختلاف الغايات.
 
هل ما زال بإمكان العراقيين تغيير الأمور؟ نعم الحقيقة أن الشعب يغير ويتغير كما السياسيون، لكن الشعوب في نهاية الشوط هي التي تمتلك حق تقرير مصيرها، فالشعوب الحرة تجيد صناعة الثورات ولها قدرة الاتحاد خلف من يمثلها، لكنني أشك في أن المرحلة الحالية تنتج قائداً أو حزباً ثوريا، لأن المتوفر يتراوح بين زعيم ديني ملطخة يداه بدماء الشعب، أو زعيم سياسي لحزب طائفي لا يتورع عن قتل البسطاء حتى من أهله إن عارضوا سلطته ونزعته إلى البقاء؛ وباقي الزعماء بين تاريخ ميليشياوي أو تنقل على حبال الخيانة لمبادئهم أو مجموعتهم الفكرية.
 
من بين العراقيين من احتجز ثورته بالصمت والامتناع عن التصويت، ومن بينهم من ذهب واختار عن سبق وإصرار سجونه الطائفية أو العشائرية أو الحزبية أو النفعية، ومنهم أيضاً من أراد أن يكون صوته فتحة صغيرة مضافة في خيمة نزوح يحاول أن يتطلع منها إلى بيت وطن قديم كان يزدحم بالكرم وحب الإنسانية والرغبة في الحياة والمقاومة من أجل الغد.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد