من يصوغ مسار التاريخ حقاً؟ - لؤي عبد الإله

mainThumb

27-05-2018 03:09 PM

 تظل هذه الجملة الكليشيه تتكرر كلما سقط طاغية هنا وهناك أو حلت هزيمة بحركة سياسية ما: «إلى مزبلة التاريخ»، وكأن التاريخ مزوّد بزبالين وعربات ضخمة لنقل الفضلات وتدويرها بنظام صحي لتعود إلينا بشكل أنقى، وهنا يكمن خطر هذا النوع من المزابل، فإدخال هتلر اليوم إلى مزبلة التاريخ سيعود بعد أربعين سنة بشكل آخر ربما بول بوت أو عيدي أمين، وإدخال الطاغية نيرون الذي أحرق روما وهو يعزف على قيثارته يعود على شكل صدام حسين وهو يدفع باتجاه حرق بغداد بصواريخ عابرة للقارات وقنابل اليورانيوم المنضب بعد احتلاله الكويت عام 1991، بينما هو مشغول بكتابة الروايات، أو إعادة تدوير هولاكو الذي على يده دمرت بغداد بسكانها وعلومها وكتبها على هيئة زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي.

لكنني لا أؤمن بوجود تدوير من هذا النوع داخل مزبلة التاريخ العملاقة، بل قد يكون سكانها جنسا آخر غير الشريرين الذين على قلتهم فإنهم بشكل أو بآخر حرفوا مسار التاريخ أو في حقيقة الأمر هم صاغوا التاريخ.
 
لنأخذ أمثلة لبعض الطغاة الكبار المشهورين بفظائعهم: انظروا إلى الملك الإنجليزي هنري الثامن الذي قتل أكثر من زوجة كي يضمن الزواج من امرأة تنجب له وريثا للحكم، والذي تخلى عن الكاثوليكية لتحقيق رغبته بالزواج فقط وما ترتب عليه من قسر المجتمع على تبديل مذهبهم وتدمير كثير من الكنائس والأيقونات والتماثيل للتماشي مع الكنيسة الأنجليكية التي أسسها هذا الطاغية. وما قام به هنري الثامن من حرف لمسار بريطانيا قد صب دون أن يدري لاحقاً بانفتاح فكري واسع ساعد على تحقيق ثورة علمية وصناعية لاحقة، فهل يمكن إدخال هذا الطاغية إلى مزبلة التاريخ بعد كل ما ترتبت عليه جرائمه وحماقاته من تطور لم يؤثر على بريطانيا فحسب بل أوروبا وربما العالم أجمع.
 
لنأخذ طاغية آخر مثل نابليون. ما الذي كان يريده من الذهاب إلى الإمبراطورية الروسية التي تتجاوز مساحتها آنذاك مساحة قارة؟ في معركة بورودين قُتل أكثر من ربع مليون جندي فرنسي ولم يكن أمام الجيش الروسي سوى اختيار الانسحاب وترك نابليون يتعقبهم بانتظار قدوم موسم الشتاء والصقيع القاتل لجيش أنهكته التنقلات، فهم جُلِبوا من باريس وليون وتولوز إلى جحيم طقس جليدي قاتل تصل درجة الحرارة فيه إلى - 30، مع ذلك فإن كل حروبه الدونكيشوتية حفزت تلك الإمارات الإقطاعية على أن تتحد وأن تتبنى النظام الديمقراطي، فبفضل نابليون ظهر المد القومي العارم ومعه تشكلت ألمانيا وإيطاليا ودول قومية أخرى من ركام الإقطاعيات المفككة.
 
أستطيع أن أجزم بأن مزبلة التاريخ إن وجِدت فهي ستضم تلك الأغلبيات الصامتة التي يأتي المغامرون الطموحون ذوو الإرادة الحديدية ليدّعوا بأنهم يمثلونها لكنهم حال تسلمهم للسلطة يبدأون باستخدام هذه الأغلبية الصامتة وقودا لحروبهم ومعاركهم الداخلية. هؤلاء المغامرون الثوريون قد وضعوا أمام أنفسهم خيارين؛ إما الموت أو المجد، والمجد لا يتحقق إلا باستعباد الأغلبية الصامتة التي بفضلها تدور ماكينة الحياة والابتكار وتحسين ظروف الحياة. لكن أفرادها الآن ليسوا سوى عبيد للسادة القساة.
 
إنهم أولئك الذين نظنهم دائماً يقيمون في مزبلة التاريخ من صنع التاريخ، وهم الذين قرروا مصير من كانوا معاصرين لهم وخطوا الطريق التي ستسير الأجيال فيها عبر التاريخ.
 
لم تبنِ الجمهوريات الديمقراطية إرثاً كبيراً في بناء الأمم وبناء دولها بل الطغاة هم من قاموا بهذه المهمة: لويس الرابع عشر من كان وراء إقامة البيروقراطية الفرنسية التي ظلت أساساً لكل الجمهوريات التي أعقبتها في تسيير الخدمات العامة وفي تنفيذ القرارات الحكومية. إنه جنكيز خان الذي جاءت منه كل الجحافل المغولية التي قوضت دول القرن الثالث عشر والرابع عشر في العراق وإيران والهند والصين وكان هولاكو في طريقه إلى أوروبا لولا صد الجيش المملوكي له بقيادة الظاهر بيبرس في عين جالوت بفلسطين.
 
حتى القرن الثامن عشر لم تعرف البشرية إلا ثلاث فترات قصيرة من سيادة الحكم الديمقراطي غير الليبرالي: في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد ولمدة تقل عن القرن، وفي جمهوريات بعض المدن الإيطالية في القرن الثالث عشر، ولفترة قصيرة، ثم بروز الديمقراطية الملكية في بريطانيا مع ظهور المصانع الكبيرة وتحول المجتمع إلى الرأسمالية، إنه القرن الثامن عشر لكن النظام الديمقراطي ظل حكراً على المُلاك وأصحاب الثروات الكبيرة ولم تبدأ عاصفة التغيير إلا بعد وقوع الثورة الفرنسية وبعد أخذ الإمبراطور الصاعد نابليون رسالتها إلى أوروبا لتبدأ تلك الإقطاعيات بالتحول إلى دول قومية والبدء بتطبيق المبادئ التي طرحتها الثورة الفرنسية بطرق سلمية... لعل جملة هيغل حين رأى الإمبراطور الفرنسي الصاعد وهو يدخل إلى مدينة يينا الألمانية تجعلنا نفكر في التاريخ ومزابله: أرى التاريخ راكباً على حصان!
 
لقد ولِدت الأنظمة الديمقراطية الليبرالية وفي فمها ملعقة ذهب... لقد أقام الطغاة أسس دولهم عبر القمع والظلم والاستبداد إلى الحد الذي أصبحت دولهم قادرة على السير وحدها مثلما تتحرك كواكب المنظومة الشمسية وفق قوانين نيوتن. وإذا كان الخوف وراء سير الدول التي أسسها الطغاة فإن العادة التي فرزها الخوف مكن من التخلي عن الطغاة في آخر الأمر بعد أن انتفت الحاجة إليهم وأصبح بالإمكان لهذه الدول أن تسير كالمجموعة الشمسية ولن يكون الحاكم سوى موظف تنتهي صلاحية حكمه بعد أربع أو خمس سنين.
 
فهل دخل أولئك الطغاة مزبلة التاريخ؟
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد