حبتي وفيل دوستويفسكي

mainThumb

05-01-2019 04:44 PM

 يقول الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي : صحيح أنني سوداوي المزاج، وأجعل من النملة فيلاً، ولكن والحق يُقال : كانت النملة في ذلك اليوم تشبه الفيل، كل الشبه .

 
صديقي فيودور : لطالما حاورتك، وجلسنا معاً الساعات الطوال، نتحدث من خلالها في كُتبك، ورواياتك الجميلة، أمثال الجريمة والعقاب، والإخوة كارامازوف، والمقامر، وغيرها الكثير، وكم أدهشتني كمية الإحباط واليأس التي كنت تعيشها، من خلال مؤلفاتك الجميلة، لِتصور لي حياتك وكأنك كنت تعيش على حافة الهاوية وعلى شرفة جبل تتمنى لو أنه ينهار بك .
 
أنا يا صديقي لا ألومك حقيقة، فلقد ولدت لأبٍ قاسي مدمن على الكحول سريع الغضب، وأعلم معاناتك مع مرض الصرع الذي أصبت به، وبقي ملازماً لك، والكثير من الحوادث التي أنهكتك، من فقدانك لوالدتك، إلى الحكم عليك بالإعدام لأنك أحد أعضاء جماعة الفكر المتحرر، والتي اعتقد القيصر أنذاك تسار نيكولاس ، أنها من الممكن أن تهدد حُكمه، لتجيئ مشيئة الله عند البدء بتنفيذ حكم الإعدام، بالعفو الملكي ليُستَبدَل بالسجن لمدة أربعة سنوات مع منعك من الكتابة، فأمضيت مدة الحُكم في ظروف قذرة، ولا إنسانية .
 
نعم صحيح لقد عانيتَ كثيراً، وربما بكيت وحتى من الممكن أن تكون قد راودتك فكرة الإنتحار، وأنت القائل في احدى رواياتك، القوة هي أن تقتل تلك الرغبة لديك بالإنتحار .
 
تأكد يا صديقي، لو لم تكن تلك المعاناة وتلك السوداوية التي استوطنت نفسك لما انتجت لنا تلك الروايات الجميلة، والتي جعلت منك كاتباً فريداً تحاكي النفس وخلجاتها وما يدور بداخلها بشكل إنساني مدهش، تجعلنا ونحن نقرأُها نعيش في داخلها، ونتقمصها فَكُنت بحق واحداً من أعظم الكُتاب الروس والعالميين، ومصدر الإلهام للأدباء والمفكريين المعاصرين، وربما يُحسب لك أنك من مؤسسي الفكر الوجودي الذي يعنى بحرية الفكر وعدم تقييده .
 
أنا ياصديقي، اختلف عنك، فلا أجعل من الحَبَةِ قُبة كما تفعل أنت، بل أُبسط القُبه لتبدو كالحبة في الحجم، فلا تُشغل بالي ولا أُفرد لها ذاك الحيز الكبير من التفكير فأعيش بها وأبقى أسيراً لها، الحياةُ يا صديقي لا تستقيم لأحد، ولا تضحك لنا دائماً، ولعبتنا معها كلعبة عض الإصبع، فلا بد أن نصبر على الألم ونعيش به، فيأتي الفرج في لحظة كما هي لحظة العفوعنك عند البدء بتنفيذ حكم الإعدام .
 
يا صديقي، كل ما شاهدته في حياتك وأشاهده الأن في حياتي، من حُروبٍ، ودمار، وقتلٍ، وظُلم، وتَعدي، وإنتقام، ماهي إلا رُدود أفعالٍ حمقاء، كانوا أصحابها يرون كما كنت ترى، النِملة فيلاً بحجمها، فأشعلت تلك النَملة النارَ في صدورهم، فَجعلت منهم وحوشاً بشرية، سادية، متعطشة للقتل ولم ولن يرتوي ظمأهم إلا بالدم، وياليت نِملَتَهُم، كانت كَنِملتك، أشعلت لنا هذا الأدب الراقي الجميل والذي أحياكَ بعد موتك وعشنا معه بكل تفاصيله .
 
آه يا صديقي، لو تعلم كم هم المعذبون في الأرض الآن، وكم هم من لفظتهم الحياة ليعيشوا على قارعة الطريق، كبيوت خاوية، خَرِبة، وكأعجاز نخلٍ خاوية، في مهب الريح، تتقاذفها أمواج الحاجة، وتصاريف الزمان، وأهواء الدنيا وتقلباتها، التي أتعَبَت فيهم الروح والجسد، ليحتضنهم الإكتئاب والإرهاب ليموتوا به، فكم أتمنى منك الآن لو تُخبرهم كيف استطعت قَهر آلامك، وتَجبير كسورك، وكيف هزمت الإحباط في داخلك، لعلهم يتأسون بك، فَيُنتِجوا لنا شِِعرٌ راقٍ وأدبِ جميل .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد