لا قامات للبشر ما داموا تحت بساطير الطغاة - إبراهيم نصر الله

mainThumb

31-10-2019 12:19 AM

 فيلم بسيط… عميق

 
يبــــدو بسيـــــطاً بحكايـــته وناســــه، فـــيلم «العندليب، The Nightingale» الأسترالي، وحتى نهايته يظل المرء يتساءل: لماذا أتابع فيلماً بهذه البساطة، فهناك ضابط إنجليزي سفاح، وهناك أسرة أيرلندية منكوبة بغطرسته، وهناك قتل وحشي؛ لكن أجمل ما في هذا الفيلم أنه يكسر التوقعات؛ ففي لحظة تظن فيها أن الرجل سينتقم لأسرته، يفاجئك السيناريو بغير ذلك، وفي وقت تظن فيه أن الدليل الأسترالي، من السكان الأصليين، يرافق المرأة الطيبة في رحلة الانتقام لأسرتها، مدفوع الأجر، تنقلب الأمور ليكون حليفها. وهكذا، يُكمل الدليلُ ما لم تستطع القيام به، تلك المنتقمة غير القادرة على استخدام البندقية أو حشوها بسهولة، كما أن دقتها في التصويب لا تمتّ بصلة إلى دقة المنتقمين الذين قدَّمتهم لنا السينما الأمريكية ولمّعتهم، مغررة بمشاهديها.
إنه فيلم عن إدراك المهمَّشين، المُعذَبين في الأرض لمعضلة وجودهم، كأناس مُضطهدين، مُنتهَكين، بلا أوطان؛ رغم أن أرض الوطن تحت أقدامهم، وهم بلا أُسَرٍ لأن حياة أفراد أُسرهم لمن يملكون قوة السّحق والاغتصاب، بل ويملكون مفاتيح الحياة والموت.
طبيعي، في وضع كهذا، أن يتّحد البشر ويدفنوا اختلافاتهم كلّها، في اللون، وفي المستوى الاجتماعي والانتماء العرقي، وهم يكتشفون أن لا فرق بين ضحيةٍ وضحية أمام فوهة البندقية، ولا قامة لأي إنسان ما دام تحت حذاء الطاغية.
 
الآن… هنا
 
مشاهدة هذه الفيلم جاءت مصادفة، في واحدة من الفترات العاصفة التي تعيشها شعوب عربية بثورات شوارعها، وتعيشها شعوب أخرى على سطح هذا الكوكب بثوراتها أيضاً. وسيأتي زمن، ليس بالبعيد، وتعيشها شوارع عربية أخرى، لأن الطغاة لا يستخلصون الدروس؛ فهم لا يثقون إلا بتلك القوة التي يملكون، ويحسّون بها ومعها أنهم آلهة الأرض.
كثيرون بكوا حال الربيع العربي، وكثيرون شككوا فيه، ولم يزل هناك من يشكك فيه. لم يزل هناك من لا يفهم أن لكل ظالم نهاية. هذا ليس اختراعاً، إنه عنوان مسيرة البشر منذ وجِدوا على سطح هذا الكوكب. كنتُ كتبتُ، في مطلع الربيع العربي منذ سنوات، أن للشعوب الحقّ، كل الحق، في أن تثور على أي طاغية، سواء جاء باسم العسكر أو باسم الدين أو باسم العلمانية.
لم أزل مؤمناً بهذا، فالسنوات الماضية، رغم أنها أورثت شعوبنا دماراً، في أكثر من مكان، إلا أن من الصعب أن تُلجَم الشعوب، إلى الأبد، بإخافتها من عواقب الثورات. ينجح هذا الأمر، بل نجح، في عدد من بلداننا، لكن هذه الشعوب عادت وتنبَّهت أن خوفها لا يحميها، ولا يصلح من حال أوطانها، ولا يمكن أن يكون الخوف لبِنَة في بناء المستقبل بأيّ شكل من الأشكال. لقد صوّروا لنا الثورات بأنها الكارثة التي ستحلّ بأي وطن تتورّق فيه، ولم يَخطُر ببال الأنظمة، لحظة، أن تتوقف عن إهانة شعوبها ومستقبل شعوبها، وسحق كرامتها الوطنية والحضارية.
 
عنف كوني
 
هذه المسألة لا تتعلق بعنف الأنظمة ضد الداخل، في عالمنا العربي، بل بعنف الأنظمة الدولية ضد الخارج أيضاً، حيث وهْمُ العظمة، التفوّق، القوة، كالعنف في الداخل أيضاً، عندنا، لكن وهْمَ العظمة لدى هذه القوى الدولية يصطدم دائماً بمأزقين كبيرين: الهـــزيمة أولهما، في مواجهتها مع واقع مُضطَهد لا يقبل الخنوع.
أحياناً لا يكون هذا الرفض أكثر من ربة بيت قررت أن تنتقم لأسرتها كما في الفيلم، وأحياناً بصورة أوسع كما حدث في فيتنام، كوريا، أفغانستان، الجزائر، وفلسطين، فلسطين التي سيجددها تدفق الدم في عروق الشوارع العربية، كما جددت، هي، تدفق الدم في عروق الشوارع العربية بانتفاضاتها. وهم القوة الموجَّهة للخارج لا يلبث أيضاً أن يرتد ليغدو مأزقاً ثانياً في الداخل، حيث يولد الغضب الذي يؤدي إلى انهيارات داخلية بسبب التكاليف الكبيرة لوهْم السيطرة على العالم وإركاعه.
لم يحدث أن ظلّتْ أمة منتصرة إلى الأبد، كما كتبتُ ذات يوم في «زمن الخيول البيضاء».
ولم يحدث أن بقي طاغية منتصراً إلى الأبد.
لا يعجّل انهيار الإمبراطوريات والأنظمة شيء مثلما يعجّله العنف، سواء كان هذا العنف داخلياً أو خارجياً.
 
لبنان… تونس… العراق
 
بعض الأنظمة العربية كانت مستعدة لإنفاق كل ثرواتها كي لا تنجح ثورة واحدة، فتغدو مُلهمة لكل الشعوب، وهكذا عممت صورة الثورة باعتبارها مقبرة للأخضر واليابس. عاشت الجزائر مأزق وقائع سنوات الجمر التي أدمتها في حربها ضد العنف الأصولي، وخشيت نتائج الثورات ونتائجها المدمرة، وكذلك السودان، لكنهما استفاقتا على حقيقة أن الصمت على القهر لا يشبه كلمات النشيد الوطني، ولا وجوه الأطفال في طريقهم لمدارسهم. وكذلك حال الشعب العراقي الذي عانى قهراً وحروباً وتمييزاً وفساداً وطائفية واحتلالاً. أما الشعب اللبناني الذي حُشِر دائماً في حلقة التخويف من حروب أهلية طحنته، فقد أدرك أن زعماء طوائفه وفاسديها هم الذين يتغذون على لحمه، مرة بالحرب ومرة بسِلْم هشّ يتيح لهم ابتلاع مزيد من لحمه؛ فثاروا على الطائفية وقد اكتشفوا أنها كانت تعمل دائماً على انتزاع وتشويه أهم ما فيهم: إنسانيتهم، ووطنيّتهم، وحضارية وطنهم، وعبقريته، من جبران إلى فيروز.
وجاءت تونس لتبلغ قمتها مرة ثانية بعد ثورتها الرائدة، وهي تحقق هذا النجاح الكبير في أن تكون ديمقراطية حقاً، مُعيدة الأمل لقيم الثورة وأفقها، فالثورات يمكن أن تنجح وتصل إلى مداها، والثورات هي قيم، لا على مستوى الداخل وحسب، بل على مستوى القيم الوطنية والقومية والإنسانية. فأن تقول تونس، أيضاً، لا للدولة الصهيونية وتعلن أن لا مكان لأي صهيوني على أرضها، فهي بذلك تحتضن كرامة إنسانية سُحقت، ولم تزل تسحق في كل عاصمة عربية يرفرف فيها علم صهيوني، وفي كل عاصمة تفتح أبوابها للعنصرية السافرة.
وبعد:
دائماً هناك طغاة ينقشعون.
ودائماً تبقى هنا:
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
و.. إذا الشعب يوما أراد الحياة
و.. موطني .. موطني
و.. الساقية لسَّه مدوِّرة
و.. ويا زغيَّر ووسع الدِّني.. يا وطني.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد