تاريخ الاردن وعشائره / 9 : قصة طويق / جد الطوقة / بني صخر بالعقبة عام 1377 م وطوفان الضيغم 1293

mainThumb

19-12-2009 12:00 AM

تاليف د . احمد عويدي العبادي
oweidi2005@yahoo.com


الحلقة التاسعة :
قصة طويق / جد الطوقة / بني صخر بالعقبة عام 1377 م وطوفان الضيغم 1293 م وانعدام الفكر الوطني والادارة المركزية وانعدام الكيان السياسي, بعد انتهاء المماليك واثناء الاحتلال التركي للاردن

الصراع من اجل البقاء
Conflict for Survival
في كتابنا: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية بالانجليزية جعلنا أحد أبوابه بعنوان : الصراع من أجل البقاء، وأننا ونحن نكرر العنوان، نتحدث هنا عن أحداث أخرى تتعلق بالأحداث التاريخية والعشائر متممة لتلك ، وليس تكرارا لما قلناه في كتابنا بالانجليزية ، ولم تكن هذه المادة ضمن حديثنا هناك. ولا بد من القول هنا، أنني كمؤرخ ومفكر متخصص بالشؤون الأردنية، أفهم النصوص التاريخية بأبعاد قد تكون مختلفة تارة أو قريبة تارة اخرى , أو متطابقة مع فهم الآخرين لها،وربما تكون مطابقة اوقريبة من حقيقة جوهرها في حين حدوثها رغم بعد الزمن بيننا وبين وقت الحدث , لأنني لا أعتمد التاريخ السردي، أي انني لا اكتب مجرد سرد الأحداث، وإنما أتوقف عند النصوص والمحطات وأتداولها بالتحليل والبعدين السياسي والاجتماعي، فضلاً عن البعد الحربي وهو ما تهمله الروايات السردية في غالب الأحيان. واجتهد في تعبئة الخلل والغموض بحيث تكون الاحداث منسجمة وانسيابية ومنطقية مع ثقافتنا كاردنيين .
عند الحديث عن تاريخ الأردن وعشائره ، نجد المؤرخين يهتمون بما يقع لدى الدولة ومؤسساتها واصحاب السلطة ما يكون منها في الغالب ايجابيا , أو عليها في بعض الاحيان ، ويتناسون بنسبة عالية أهمية الشعب الأردني، لذلك فإني أسمي مثل هذه الكتابات: كتابات التاريخ السلطاني أي الاهتمام بالسلاطين والدول وتعاقبهم على العروش، والصراع ما بينهم، كما راينا لدى المماليك مثلا , وتكون الإشارة لبلادنا وشعبنا إشارات جانبية أو عابرة. أما نحن فإننا نتوقف عند هذه الإشارة العابرة ونتناولها بالبحث الموسع ومقارنتها بما لدينا من روايات شعبية وتاريخية في مصادر أخرى، وفهمنا العام للأمور، بحيث نحاول إعادة بناء الأحداث والحياة الاجتماعية reconstruction of the social life.
ومن المؤسف ان عدم كتابة احداث الشعب الاردني وما اداه قد جير جميع الانجازات للسلاطين والخلفاء والامراء وتحول الشعب الاردني بالنسبة لكتاب التاريخ عبارة عن ارقام اورعايا لا قيمة لها في الاحداث ولا ذكر لها في القرارات . فالاردنيون صنعوا التاريخ ولم يكتبوه , وغيرهم كتبه لنفسه ما انجزه الاردنيون وادعاه وهو لم يصنعه اصلا. وهذا يبرهن مقولتنا ان التاريخ لمن يكتبه لا لمن يصنعه , واما انا فاصنع التاريخ واكتبه .
من هنا فإن من يقرأ كتاباتنا يجد البعد الاجتماعي واضحاً فيها، لإيماننا أن التاريخ ليس من صنع شخص واحد،او اسرة او مجموعة او طبقة , وإنما ينسب عادة إلى شخص واحد أو مجموعة أشخاص ( للاسف الشديد ) ويتحول الشعب الى ارقام يشار اليهم بكلمة : المتطوعين او الجنود او الناس او العشائر او الفلاحين او الشعب او الرعية , دونما اشارة لللتفاصيل التي نحتاجها كثيرا. امام هذا الواقع المؤلم المرير فانه لامناص لنا من الايمان بالأمور على النحو التالي:
نعم صحيح أن التاريخ قد يكون من صنع شخص واحد، ولكن ذلك ليس دائماً أبداً فقد يكون من صنع شخص، وقد يكون بقيادة شخص، وقد يكون من فكر شخص , ويقوده أو يصنعه شخص آخر يتبنى هذا الفكر أو يغرسه في ذهنه . وقد يكون التاريخ من صنع الشعب وبخاصة في أيام الثورات والمجاعات والتمرد، وانهيار الدولة، ويلتقطها شخص بعينه فتنسب الانجازات اليه وحده , حينها فإن الفوضى تسود التاريخ أو تصنعه، وقد يتوصل الناس إلى تفاهم لضبط الأمور وحفظ التوازن كما حدث في اتفاقية نواحي الكفارات في شمال الأردن عام 1919/ 1920 عندما حدث الفراغ السياسي والأمني في الأردن بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى , فاضطر الناس لملء الفراغ بطريقة تضمن بقاءهم واستمرارهم .
وقد أثبت التاريخ أن الازدهار والاستقرار لا يدومان، وأن الفوضى والدمار لا يدومان أيضاً، وان عناصر البقاء لاتستمر , وان عناصر الفناء اخطر , لانها ان اتت على شعب فلا يمكن له ان ينهض الا بموجود فكر يجمعه ويصنع له قضية وهوية , ووجود قائد يستطيع تنفيذ هذا الفكر . وأن غياب القيادة التي تضبط الأمور والتوازن، يؤدي إلى الفوضى العامة في ذلك الشعب. وأثبت التاريخ بالأردن على الأقل، ومن خلال ما أوردناه في هذا الكتاب أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وأن السياسة لا تقبل الفراغ أيضاً، فعندما انهارت الدولة الأموية، وصار الأردن خارج المعادلة والهامش بقرار عباسي أثبت عقوق العباسيين ضد رحم دعوتهم الاردن والاردنيين ، وحينها فإن العشائر الأردنية تحركت في اتجاهين في صراعها من أجل البقاء، الأول هجرتها في جميع الاتجاهات، نحو الرافدين والهلال الخصيب وسوريا ومصر وفلسطين. وبقيت أجزاء من هذه العشائر في ديار الآباء والأجداد مع تغيير الاسماء وايجاد التحالفات العشائرية من اجل البقاء . وغيرت اسماءها وتكيلاتها للتمويه على سيف الجلاد العباسي ونجحت في ذلك وحققت البقاء .
والثانية ان هذه العشائر الأردنية اوجدت نظاماً اجتماعياً لملء فراغ نظام الدولة السياسي الغائب او المفقود سمه ماشئت ، ومارس شيوخ العشائر سلطات الحكام، وتصرف الشعب كرعايا لهؤلاء الشيوخ , فصار العرف والعادة سائدا لضبط العشائر بدلاً من سيادة قانون الدولة في حفظ التوازن الحياتي. أما الأمن والحماية فقد لجأت العشائر إلى نظام التحالفات العشائرية وفعّلته بقوة، وهو نظام اجتماعي عشائري عربي كان موجودا في الجاهلية والإسلام فيما يسمى: الحلف في حالة بقاء العشيرة مستقلة عن الأخرى رغم ما بينهما من تحالف , ولكنها تعينها وتجد العون منها . أو ما يسمى بالموالاة، وهو عندما ينظم الجزء إلى الكل ويأخذ الاسم الجديد، ويذوب أمامه الاسم القديم الذي كان يحمله التابع الجديد للمتبوع الجديد ، فصارت العشائر من أفراد وعائلات بقيت على قيد الحياة بعد الحروب والأمراض وأعادت بناء نفسها من جديد من أجل البقاء.
أطلقت العشائر الأردنية مصطلحات جديدة على ما كان سائداً عند العرب. فالحلف يسمى: أبناء العم، أو البنعمة cousinship. والموالاة، أي لحاق الشخص أو العائلات بعشائر أخرى سُمِّي: اللفايق integrated subjects، أو اللامّة cohesion، فيقال: لامّة العائلة الفلانية أي العائلات التي صارت معها ومنها عصباً وهي ليست منها نسباً وبرز مفهومان مهمان في الأمن والحماية. وهو:
1.العصب أي تعصّب مجموعات من أصول مختلفة أو متباعدة من أجل تشكيل مجموعة واحدة (عشيرة) سعياً للبقاء والاستمرار , وهذا ما صار عليه غالبية العشائر الأردنية في العصرين العباسي والمملوكي الثاني والعثماني/ التركي حتى عام 1919 وبقي سائداً إلى سنوات متأخرة من القرن العشرين. ويدخل في العصب / العصبية عند العشائر الاردنية كل من طبقة العبيد وطبقة الصناع , فقد كان السائد ان كل شيخ له اعتباره لديه عبيد وصناع . اما العبيد فهم ونساؤهم يخدمون الشيخ ونساءه , ويتزاوج العبيد فيما بينهم او من طبقة الصناع , واما الصناع فيتزاوجون مع طبقتهم ايضا . وكان العبد اوالصانع اذا رغب الزواج اخبر سيده الشيخ الذي يقوم بالطلب والاعطاء في ان واحد ويجري مراسيم الزواج .
من الملفت للنظر ان العبيد عند البدو يتمتعون بامرين هما : ان العبد يحمل اسم عائلة سيده فيحسبه الغرباء انه من تلك العائلة العريقة نسبا وهو ليس كذلك , وعندما يلتقيه شخص يساله : ( ياولد من هم عمامك ؟ ) / اي من هم اسيادك ؟ , وهذا نوع من رقي ادب الخطاب الانساني . ومع الزمن قد يصبح العبد جزءا من تلك العائلة التي هي اسياده ويتزاوج معهم في زمن الاجيال التي لا تعرف حقيقة العبودية المتعلقة بالعبيد لانهم يحملون اسم العشيرة التي يحملها الشيخ نفسه. والنقطة الاخرى ان البدو يورثون العبد كانه احد الابناء , ومع الزمن قد يصبح صاحب مال وقد يصبح اكثر ثراء من اسياده , وبخاصة اننا في عصر انتهى فيه الرق والرقيق . ونقطة اخرى هي : ان االشيوخ اعتادوا ان يوكلوا الى عبيدهم مهمات في الغزو والمعارك وقد يعين الشيخ احد عبيده نائبا عنه اذا غاب وغاب من يخلفه من اولاده , كما ان العبد يخاطب سيده بكلمة عمي / عموه , او حبابي ( للشيخ ) او حبابتي ( للشيخة )/ ( بتشديد الباء في حبابي وحبابتي ) . ويتعصب العبد والصانع لاسياده ويدافع عنهم بروحه .
واما الصانع فهو مختلف فالعبد يشترط عند البدو ان يكون اسمر البشرة او داكن البشرة , اما الصانع فهو ابيض البشرة . وقد يحدث ان يتزوج الشيخ احدى عبداته ( حينها تسمى جارية ) او احدى الصانعات بسبب جمالها , وفي العشائر الاردنية شواهد لايحصيها العد على ماقلنا . اما الان فان مناصب الدولة ومراتبها قد جعلت العبيد والصناع في مصاف الاسياد من حيث الظاهر والحقوق القانونية وربما يتقدمون عليهم رسميا , ولكن النظرة الاجتماعية الخفية واحيانا العلنية تبقى ضمن المفهوم الاجتماعي المتوارث ان الاسياد اسياد والعبيد عبيد , واذا غضبوا منه ذكروه بانه عبد او صانع .
وعادة مايبدا التزاوج بين العبيد واسيادهم , في ان الشيخ ياخذ العبدة كجارية ثم يزوج ابناءها وبناتها الى بنات وابناء الشيوخ من اقاربه او خارجهم لانهم ابناؤه وان كانت امهم جارية , ثم يختلط النسب . وهذه حالات موجودة في سائر القبائل تقريبا , وبعد عدة اجيال / الجيل الرابع يدعي نسل العبيد انهم من نسب الاسياد وليس مجرد الاسم وحده , وقد واجهت هذه المعضلة اثناء دراستي للعشائر من قبل فاقلعت عن الكتابة في الانساب لمعرفتي بالخلط وتباين الروايت حيث يقول الشيح او الراوية شيئا عن النسب امام الناس مايخالف قوله فيما بيني وبينه , فوجدت انني سارتكب ذنبا ان تحدثت بالنسب , واقلعت الى تاريخ العشائر وليس الى نسبها .
اما الان فقد انتهى عصر الرق وتصنيف الناس وصاروا سواسية ظاهريا بموجب القانون من حيث الحقوق والواجبا , وان كان الامر مغايرا عند التطبيق العملي , وصار مانقوله جزءا من الماضي والتاريخ , وصارالاسياد يتحرجون في وصف نسل عبيدهم وصناعهم انهم عبيد او صناع , بل يقولون ظاهرا انهم منهم , ومن وراء الكواليس يعلمون ابناءهم ويخبرونني كمؤرخ عن الحقيقة الدقيقة جدا . واما في اوقات الجد والصراع على السيادة فان السيد يعود الى سيادته والعبد الى دائرته . ان هذه الثقافة صارت الان جزءا من الذكريات والحكايات المنسية . وقد اتينا على ذلك بالتفاصيل في كتابنا بالانجليزية اعلاه
التاريخ السياسي للعشائر الاردنية political history of the jordan tribes from 2000B.C-2010 A.C
2.أما علاقة النسب ( الصلبية / من الصلب / يخرج من بين الصلب والترائب ) فهي الانتساب إلى جدّ واحد وهم جميعا من صلبه وان تعددت الامهات لان الرجل ينسب الى ابيه ولو سمي باسم امه , فالنسب قد يغاير التسمية ولا يؤثر اي منهما على الاخر عند العشائر الاردنية , كما ان الوثائق الرسمية تنسب الشخص للاب الشرعي على المبدأ الاسلامي : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقد يكون ابناء الصلب هؤلاء في عشيرة واحدة، أو متفرقون في عشائر عدة , ويحملون اسماء عصبية مغايرة لاسملئهم النسبية ، وسنجد فيما بعد من هذا الكتاب كيف أن الأخوة (من أب واحد) تفرقوا وصار كل منهم في عشيرة مختلفة عن عشيرة الآخر مكانا واسما ، وحمل كل منهم اسماً مختلفاً عن الآخر، فصار العصب (العصبية والتعصب) متبايناً، رغم أن النسب واحد . وقد لجأت العشائر الأردنية إلى وسائل متعددة في صراعها من أجل البقاء، حيث شرحناها مفصلة في كتابنا: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية بالانجليزية المشار اليه اعلاه .
لقد مرت حقب زمنية في تاريخ الأردن من الحروب والاحتلالات والاختلالات والامراض والاوبئة والقحط والزلازل والفياضانات وما الى ذلك من الكوارث السياسية والاجتماعية ( الصراع العشائري ) والعسكرية والطبيعية , أتت بالفناء على غالبية السكان، ومع هذا استطاع الأردنيون أن يجدِّدوا أنفسهم ويعيدون بناء عشائرهم باستمرار، وأن يستوعبوا المستجدات، وأن يبتدعوا او يطوروا في كل مرة نظاماً اجتماعياً يحافظ على بقائهم، ويعيدون صياغته بما يحقق لهم الاستمرار والبقاء , وبدونه لا بقاء لهم.
واستطاعوا دائماً أن يتعاملوا مع سلطات الدول المتعاقبة المحتلة والمهيمنة بذكاء عجزت عنه عشائر البلدان الأخرى. فإن أي حاكم يهمه من الشعب الاحترام والطعام والترحيب والتصفيق ظاهريا والرقص بالسيف والهتاف بحياته , وهذا ماجعل السلاطين يحبونهم عندما يمارسون هذا الاسلوب وهم في الحقيقة يضحكون عليه من اجل البقاء .كما أن طبيعة الأردني هي احترام الآخرين، وعدم التجاوز على صاحب السلطة من الشيخ حتى السلطان , كما أنه مضياف للآخرين، ومن أقواله لهم: ( لاقيني ولا تغدِّيني ) ، ذلك أن الترحيب عندهم أهم من الطعام، ولهذا جذور في ثقافة العرب وتاريخهم، وأما التصفيق والزغاريد واللعب بالسيوف والرقص فإنها وسائل أردنية ذكية في اختطاف عقل الحاكم منذ الوثنية وعبر النصرانية والإسلام حتى فترات متأخرة , ولكنها جزء من صراعهم من اجل البقاء بالحفاظ على انفسهم وعدم الاصطدام بقوات ذلك الحاكم ,وليس من اجل بقائه هو ولا من اجل بقاء قواته وانما تلافي الاصطدام بهم او التعرض لانتقامهم .
فالحاكم بطبعه يعشق احتفاء الناس به على أنه حاكم ملهم متميّ?Zز عن الآخرين، وأنه يحب بل ويتمنى، لا بل ويسعى أن يرى الشعب كله يحتفي به، ولا يغني واحدا عن الآخر، وبهذه الطريقة استطاع الأردنيون تجاوز الخطر الصليبي، واستيعاب الفترة الأيوبية، واستقطاب الإنجليز في بداية القرن العشرين، وقد ذهبت جميع الدول، وبقي الأردنيون، إنه صراع البقاء ومداواة المرض بما يناسب مافيه من الدواء . لذلك نجد في كتب التاريخ كيف كانوا يحترمون الحكام ويقدمون لهم الهدايا وينحرون الإبل والأغنام، فيفقد الحاكم صوابه طربا وفرحا بما لايجده عند من سواهم ، ويترك القاهرة ودمشق ويعيش في الأردن، ويرتدي لباس أهلها، ويتحدث لهجتهم، ويغدق عليهم الأموال التي جاء بها من القاهرة ، ويشطب عنهم الديون والضرائب والالتزامات . إنه شعب قادر على البقاء وهو مؤمن أن جميع الدول تذهب ولكن يجب أن يبقى أمران ضمن ثوابت الأردني هما: الوطن (الأرض) والإنسان (الشعب)، وهم يضيفون في كل مرحلة , ولكل سلطان قولهم له : أنه ( الحاكم ) العنصر الثابت الثالث في المعادلة (؟!!).
وقد تعرض الأردنيون إلى مثلثات قاتلة، فمثلاً عصف بهم مثلث الفناء وهو الجوع والخوف والموت، أما الجوع فقد تغلّبوا عليه بواسطة الغزو وإعادة توزيع الثروة والارزاق والنهب بما يحتاجون إليه، والهجرة إلى بلدان فيها إطعام من جوع، وأمن من خوف، حتى إذا ما ذهبت سنوات القحط، ازدهرت البلاد بسرعة. وظهروا بطانا (satisfied) بعد أن كانوا خماصاً (hungry).
أما الخوف فقد تجاوزوه بالتحالفات، والعيش في مناطق منعزلة بعيدة عن متناول أيدي الجيوش والسلطات والدولة، إلى أن تتبدّ?Zل الأحوال إلى ما هو أفضل , فيخرجون من الغايات وينزلون من الجبال، ويتقدمون من أعماق الصحراء، وينفصلون عن العشائر التي التحقوا بها خارج الاردن وهم ليسوا منها. وأما الموت فإنه نهاية المخلوقات، وعندهم إيمان عجيب بقدرية الموت، أنه من عند الله سبحانه، وأنه غير مرتبط بعمر أو سلاح أو جوع، لذا يتقدمون للحرب والغزو وهم شجعان لأن "الأعمار بيد الله" ولأن الموت قد يصيب الصغير ويترك الكبير، ويأتي على السليم ويترك السقيم، وهو المبدأ الذي قاله زهير بن أبي سلمى: الشاعر المخضرم. والأردنيون يقولون في أمثالهم: كم ناقة تشرب بجلد حوارها a she camel might drink from the water brought in the skin of her kid. (i.e.) the kid of the she camel might die before her mother.
وقولهم: الموت ع رقاب المخاليق سنّة death is the law which all human being will taste or suffer >.
والمثلث الآخر هو مثلث الفراغ والصراع والضياع. وكما قلنا فإن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وكذلك السياسة لا تقبلها، وقد تغلّب الأردنيون على فراغ السلطة بنظامهم الاجتماعي كما قلنا تواً، أو بالترحال إلى بلدان تخلو من الفراغ . أما الصراع فكان بين القبائل، والأحلاف، وأيضاً مع القبائل الغازية من الخارج، أو الحملات العسكرية التي تريد احتلال البلاد، كما حدث ذلك للحاميات العسكرية المملوكية، والتركية فيما بعد، ولقوات إبراهيم باشا بن محمد علي باشا/ حاكم مصر الاعجمي الالباني ، في منتصف القرن التاسع عشر. وكذلك الصراع مع الجيوش التركية قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى كما سيأتي إن شاء الله.
من هنا برزت عبر التاريخ قضية اسمها القضية الاردنية , وهي واضحة بشكل جلي . وان عناصر هذه القضية كانت دائما قضية هوية وقضية كيان سياسي , وقضية تحديد الكيان الوطني وتقزيمه الى ديرة في الشمالاو الجنوب او الوسط او الصحراء . ولا شك ان غياب الفكر الوطني والمفكر الوطني قضية من اهم القضاي لان المفكر هو المهندس الذي يرسم اطار البناء الوطني وفلسفة الكيان الوطني والسياسي , وهناك فارق كبير بين موظف يتشدق بالفهم ومفكر يعبر عن ضمير الشعب . وبرزت بالمقابل اصوات وقرارت ترفض وجود الاردن وترفض وجود قضية اردنية او هوية اردنية . وكان اول مفكر وطني في بلورة الكيانين الوطني والسياسي هو المرحوم الشاعر مصطفى وهبي التل والمغفور له الشهيد وصفي التل ايضا , وقيادات الحركة الوطنية الاردنية في القرن العشرين واواخر القرن التاسع عشر . وهنا فاننا لانبخس حدد الادومي وبلاق المؤابي وميشعالمؤابي وملوك الانباط حقهم واهميتهم في هذا الصدد .
وكما تقول العرب : لايفوت الهمة شيءnever to be late
لان الهمة تختصر المسافات والزمن , وبالتالي فانك ان تاتي متاخرا خير من الا تاتي ابدا . من هنا راينا ان نضع الفكر الوطني الاردني للاجيال الحاضرة والقادمة , في كتاباتنا عن الاردن في المقالات والمؤلفات , وان ناتي بدليل من التاريخ ضمن هذا الكتاب ان الاردن ككيان وطني كان موجودا منذ الاف السنين قبل الميلاد والى الان , وانه ايضا موجود ككيان اجتماعي منذ الاف السنين الى الان , وان التواد والتراحم بينهم بقي سائدا منذ زمن الوثنية والمسيحية والاسلام , وحتى عندما خسف الله بهم زمن سيدنا شعيب وصالح ولوط كان الانبياء يشعرون بالحزن عليهم لانهم ماتوا على الكفر , وان مشاعر الانبياء هذه عليهم الصلاة والسلام لتدل على التراحم الاردني حتى بين المتناقضين في العقيدة من ابناء هذا الوطن الاردن العزيز

ومن المثلثات التي تأذى الأردنيون منها عبر التاريخ: الطاعون والكوارث الطبيعية (الشتاء الماحق، الحرّ اللاهب، الصقيع النّحس، الريح العقيم). وفقدان السلطة، منذ الوثنية إلى نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. وأن مرض الطاعون ليس حالة واحدة في تاريخ الأردن، وقد أشرنا كيف أصاب البلاد في عام 542م، وفي عام 640م، وكيف أنه في هذا الأخير جاء على أكثر من ثلثي سكان البلاد، ثم أصاب البلاد في زمن دولة المماليك البحرية عام 1341م/ 742هـ.
ويسمى الطاعون لدى الأردنيين بالوباء، والفناء الأعظم، ويسمونه الطاعون ايضا , لأنه لا يفرق بين شخص وشخص ولا بين حيوان ولا إنسان، تنقله الرياح، وتنقله جميع الوسائل الأخرى وعند الطاعون لعام 1341 لا بد أن نتوقف ونحلل ونتدارس، ولا بد أن نقرن ذلك بفشل الفرنجة في حروبهم الصليبية، ومن ثم طردهم من البلاد فيما بعد شرّ طردة. واما الطاعون فلم يًصب إلا البلاد الإسلامية من بغداد إلى الأناضول إلى سوريا إلى مصر ثم انتقل إلى الصين، ذلك أن الرياح في بلاد الشرق أكثر ما تكون غربية، لذا فإن ابتداء انتشاره من الساحل أدى به إلى بلاد الصين.
لقد بدأ الطاعون من السفن التجارية الأوروبية، ويبدو لي أنه كان ضمن خطّة صليبية مدروسة للانتقام من المسلمين الذين طردوا الفرنجة من بلادنا وحرروها منهم. وقد تحقق من الفناء والبلاء والخسارة البشرية والمادية للبلدان الإسلامية مئات أضعاف الأذى الذي أصابها من الحروب الصليبية، إذ مات غالبية السكان، بحيث لا يمكن لأي معركة مهما كانت حامية الوطيس أن تقتل مثل هذه الأرقام، وأقفرت البلاد من العمال والفلاحين والزراع والرعاة، وماتت المواشي الداجنة، والوحوش البرية، وبذلك كان الوباء انتقاماً صليبياً سياسيّاً قذرا من المسلمين بشكل واضح، وهو لم يصب أوروبا، لكنه وصل إلى قبرص وربما كان ذلك لإظهار أن الأمر طبيعي، ونحن نعرف أن أكثر من نصف سكان هذه الجزيرة هم من الأتراك المسلمين الذين أصابهم الوباء أيضاً.
ومن البراهين على أن هذا الطاعن كان مؤامرة صليبية اوروبية مبرمجة ممنهجة أنه انتقل إلى بلاد الأندلس الإسلامية عبر هذه السفن، وأصاب بلدان أفريقيا التي كانت في حينه إسلامية وعربية.
ويعبر ابن بطوطة عن نتيجة هذا الوباء الذي زرعه الفرنجة لحقدهم الصليبي على العرب والشرق من مسلمين ونصارى بقوله: أنه شاهد حلب وحمص وعاد إلى دمشق وعجلون والقدس والخليل وغزة فوجد معظمها خالية من الناس لكثرة من مات من هذا الوباء، وقد أدى الطاعون إلى خراب العمران، وكان بإمكان الصليبيين غزو بلادنا مرة أخرى، لكن هدفهم كان القضاء على أمتنا وحضارتنا، وتحقق لهم جزء كبير من هذا الهدف، وخافوا إن جاءوا أن يصيبهم ما زرعوه في بلادنا وهو الطاعون .
وكان من نتيجة هذا الوباء أن ضعفت السلطة المركزية للدولة في القاهرة فاختل التوازن في سائر الأرجاء التابعة لها، ومات غالبية الجيش بالطاعون، وخرجت العربان لعجز الدولة عن كبح جماحهم، وكثرت الحروب القبلية من أجل السيادة والبقاء. ذلك أن سيطرة أي قبيلة على أخرى تعني دفع المغلوب للغالب إتاوة ( خاوة ) من المال أو الحلال أو الإنتاج ، وبالتالي فإن السيطرة تعني تأمين مورد دخل للقبيلة الغالبة، وسلب المغلوبة جزءاً من إنتاجها.
أما في الأردن فانتشرت النزاعات والنهب والسلب، وأعتقد أنه في هذه الفترة وبعد انعدام سلطة الكرك، انتقل ابن مهدي إلى البلقاء ليصبح زعيمها بلا منازع مدة ثلاثة قرون ونيف، وينتزع الامارة من العجرمي بشكل كامل ومهيمن , وكان الامير العجرمي اذاك يسمى نافع العجرمي كما يذكره ابن بطوطة في رحلته. وبقي بنو عقبة في الكرك، وصاروا أمراء الديار الكركية، مدعومين من الامير بن مهدي باعتبارهما من جذام، ومقابل تفاهم التوازن حيث صارت البلاد من الموجب إلى الزرقاء لابن مهدي وتحت سيطرته وسطوته، وصارت مؤاب من الموجب إلى الحسا تحت إمرة وإمارة ابن عقبة/ العمرو، وبذلك عاد ابن عقبة للإمارة بعد أن فقدها ردماً من الزمن في مطلع عصر المماليك البحرية السابقين .
وانتزع ابن مهدي اراضي عباد التي كانت معهم بعد معركة حطين , حيث كانت ديارهم من زرقاء شبيب الى زرقاء ماعية ( عباد من السل الى السيل / عباد من زرقائ شبيب الى زرثاء ماعين ) واقتصرت اراضي عباد على مناطق وادي السير حتى عين عبدون , وعلى البقعة وابو نصير حيث بقوا فيها الىزمن الاحتلال التركي الذي ذكرهم في ابو نصير / البقعة وذلك قبل مجيء العدوان الى ديار البلقاء .وصارت امارته تحتوي وتهيمن على العبابيد والعجارمة وبني حميدة في ذيبان وجبل بني حميدة .
واستمر آل الفضل بن عيسى بن مهنا آل حيار الطائي في إمارة عربان الصحراء لأنهم كانوا على درجة عالية من الثراء والنفوذ، وسعة الديار من الفرات إلى البادية، ومن دمشق إلى نينوى، ومن جبال تركيا إلى تيماء والجوف. في عصر لم تكن فيه سلطة مركزية قادرة على القضاء عليهم أو لوي ذراعهم، وكانوا على علاقة حميمة مع ابن مهدي مقابل تفاهم مشترك بعدم تجاوز أيٍّ منهم على ديار الآخر لكنهم كانوا أكثر منه قوة وجمعاً.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإنه لا بد من إلقاء الضوء على ما حدث لآخر سلطان من سلاطين المماليك البحرية، لأننا نرى أن قصّة طويق جد الطوقة/ بني صخر قد بدأت من هذه الحادثة في شعبان 778هـ، آذار 1377م ونرى أن تشير للحادثة من بدايتها، لأنها كانت الصفحة النهائية من دولة المماليك البحرية (الأتراك) وبداية دولة المماليك البرجية (الشراكسة)، حيث أن دخول طويق في تاريخ الأردن مهم للغاية وهو من الاحامدة من بني صخر وليس من احامدة حرب كما يظن بعض الرواة والكتاب ، وتناسلت ذريته حتى كثرت، ووصل ابن فايز (أحد أحفاده) إلى رتبة شيخ مشايخ بني صخر وامير الصحرا في عام 1880/ 1881، كما سيأتي إن شاء الله. وقد عُرِف أعقابه بأنهم أصحاب سياسة وسيف وسطوة، وأنهم أمراء الصحراء وهو اللقب الذي يطلق على بني صخر عامّة.
بدأت الحكاية زمن الملك الأشرف شعبان آخر أحفاد الناصر قلاوون الذي كان يتسلّ?Zم عرش الدولة الإسلامية ومركزها القاهرة. فقد وقع الخلاف بين هذا السلطان وأحد أمراء المماليك المدعو: يلبغا الذي حاول بمساعدة مماليكه الأجلاب (الذين تم جلبهم وهم كبار السنّ) أقول حاولوا عزل السلطان شعبان، ولكنه انتصر عليهم بمؤازرة أهل القاهرة، وكان مصير يلبغا القتل اثناء اعتقاله في قلعة القاهرة، وتم القبض على عدد من مماليكه الأجلاب وإرسالهم إلى سجن الكرك حيث مكثوا فيه عدة سنين، وفرح الناس بزوال دولة الأجلاب، لما كانوا عليه من الاستبداد والبطش والأذى والظلم.
وفي عهد السلطان شعبان طوى النسيان بلاد شرق الأردن وحاضرتها الكرك التي صارت سجناً للمنفيين ليس إلا، وبدأ عصر من الإهمال الرسمي لبلادنا من الحواضر في القاهرة ودمشق وبغداد (التي صارت حطاما ركاما ايضا بسبب اختلال المغول لها ), وحدث للاردن واهلها في هذه القرون مثلما حدث لهم في بداية العصر العباسي تماماً. ولكن هذا السلطان ( شعبان ) فطن إلى أهمية الكرك وقيمتها عندما قرر أداء فريضة الحج عام هجري 778 =1377م، حيث أمر بنقل أخوته وبني عمومته من ذرية قلاوون إلى مدينة الكرك للإقامة فيها أثناء غيابه في الحج، وذلك لأنها آمنة ومنيعة، وتم ذلك له، بينما خرج في موكب مهيب يرافقه الأمراء والقضاة إلى الديار المقدسة وذلك في شهر كانون الثاني عام 1377/ شعبان عام 778هـ. وحمل معه خزانة المال لكي لا يسيطر عليها أي شخص بعده في القاهرة، إذا ما حدث انقلاب عليه. وكان معه من الإبل الكثير وهي تحمل أصناف الطعام والبقول مزروعة في صناديق خاصة لتكون في خدمة مطبخه، ويكون طعامه طازجاً.
وصل ركب السلطان إلى العقبة (جنوب الأردن) في 29 شوال 778هـ، 1377م حيث حط رحاله على ساحل البحر، وحيث حضر إليه نائب الكرك الذي أمره السلطان أن يجهِّز كميات من بُسُط (مفردها بساط mats) الكرك التي كانت ذات سمعة شهيرة، وأن يرسلها إلى قلعة الجبل في القاهرة.
لم يكن السلطان ليعرف أن رفاقه الأمراء المماليك قد عقدوا العزم على الإطاحة به في العقبة الاردنية النائية عن عاصمة ملكه . وقد حددوا المكان عندما يكون خارج مصر والقاهرة، وهذا هو المكان الأنسب وهو العقبة القائمة في جنوب الاردن على راس الخليج المسمى باسمها , حيث لا توجد قوارب، وحيث توجد صحراء قاحلة أينما توجه (شرقاً أو غرباً أو شمالاً) وحيث البحر نفسه صحراء بانعدام القوارب والسفن والقوة البحرية ، وحيث تجمع شيوخ القبائل العربان من شرق الاردن ومن الساحل الجنوبي للعقبة ( حتى الوجه وينبع ) وفلسطين ووسط الاردن , ليأخذ كل حصته من المال السنوي المعتاد لقاء قيامه بخدمات حماية قوافل الحج وعدم الاعتداء عليها . ولا شك أن وجود خزانة الدولة المحمولة على عشرين جملاً قد أسال لعاب شيوخ العربان الاردنيين في الحصول على المال وليس على العطايا الزهيدة مقارنة بما يمكن نهبه وقت الفوضى من هذا المال الوفير المتوفر , وبذلك صار شيوخ العربان خطرا على السلطان بما لايقل عن خطر المماليك المتامرين عليه .
حضر شيوخ عشائر الانباط ( الحويطات وبني عطية واللياثنة ) وشيوخ الكرك من بني عقبة وشيوخ جذام من ابن مهدي والجرمي والعجرمي , والصخري ( ابن زهير انذاك ومعه شيوخ بني صخر ) , وحضر الشيخ حمد الدجرا وهو من جذام من بني صخر وليس من حرب كما تقول روايات اخرى , وكان حمد الدجرا يقيم في العلا التي كانت من منازل بني صخر انذاك وتابعة لبلاد الكرك ايضا .
كانت الخطّة الخفية في القاهرة أن تتم الإطاحة بالسلطان من قبل أمراء المماليك بعد ان يصبح بعيدا عن مقر عاصمة ملكه ، وأن يقوم الأمراء المرافقون بالقضاء عليه، إلا أن خللاً حدث في تطبيق الخطّة عندما أعلن أمراء القاهرة خلعه وتنصيب ابنه مكانه قبل أن يقتلوه هنا بالعقبة، فانهزم السلطان واختفى عن رفاقه في شعاب جبال الاردن حول العقبة , حتى اعياه الجوع والعطش , واستطاع المماليك الذين كانوا معه , وعن طريق قصاصي الاثر ان يصلوا اليه وان يلقوا القبض عليه ، ثم ساقوه إلى قلعة الجبل بالقاهرة , وخنقوه في 6 ذي القعدة عام 778هـ/ 1377م.
لم يقتصر التشتيت على السلطان وحده بل تعداه الى ركبه من المماليك والمصريين الذين تفرقوا في البلاد بسبب الانقلاب عليه وهو في العقبة، وقد اثر كثير منهم الانخراط في حياة البادية وشظفها على سيف الموت وارهابه في القاهره , فالتحقوا بالقبائل الاردنية وغيرها واستجاروا بها وصاروا منها وامتزجوا فيها وتزاوجوا منها , حيث يمكن ان نرى بعض بقايا سحنهم ( مفرده سحنة features ( تظهر هنا وهناك بين عشائر البدو الى الان . وانذهلت المرضعة عن ولدها، والزوج عن زوجه وكل لا يدري ما يحدث، حيث السيف يعمل قتلا والناس تعمل نهبا وكل يريد السلامة لنفسه وجمع اكبر قدر ممكن من المال من الخزائن التي يحملها عشرون جملا كما قلنا , وراحت خزائن الدولة نهباً مقسّ?Zماً للأمراء والمماليك والعربان، ونحن نعتقد، والله أعلم أن قصّة طويق / جد عشيرة الطوقة / بني صخر تبدأ من هنا، إذ أن هذه الرواية قريبة مما يرويه رواة بني صخر , من أن طويق كان على كور ناقة وضاعت به في موسم الحج من القافلة المصرية , وأن ما حدث هو من أكبر عوامل الشتات. وأن ما نقوله هو مجرّ?Zد اجتهاد، لأن الزمن الذي يوازي تعاقب الأجيال منذ طويق إلى الآن يستقر في ذلك الزمن قبلاً أو بعداً بقليل ، فإن كان قبل ذلك، فتكون الأمور زمن السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون في عام 747هـ/ 1346م الذي فقد سلطانه عندما أراد أداء فريضة الحج، وهو ظالم والناس تدعو عليه.
ولم تقع يدي على رواية أخرى مطابقة سوى هاتين الروايتين 1346م، و1377م ( اي بفارق 31 سنة فقط )، ويكون بذلك حمد الدجراء المرتبط اسمه بطويق هو أحد أمراء العربان من بني صخر الذين جاءوا لمقابلة السلطان بالعقبة للسلام عليه وأخذ حصتهم السنوية من المال او نهبها , ولا بد انه شارك في النهب , وانه لقي حتفه بعد ان اشتبك مع حرس السلطان ( وهذا مانرجحه ونطمئن اليه ) وانذهلت المرضعة عن ولدها والاب عن ابنه . وبذلك بدات قصة طويق ابن حمد الدجراء ( والاغلب عندي انه ابو طويق ) , ثم هروب الناقة ووصول طويق إلى دْه?Zم?Zش Dhamash، فسمي بذلك "لقطة دهمش" / احد شيوخ بني صخر انذاك وكانت فيه ( دهمش ) مشيخة بني صخر , قبل الباسلي وابن زهير , الا انه في هذه الفترة كان شيخا مهما في بني صخر لان المشيخة في هذه الفترة كانت في ابن زهير .
ولا بد ان دهمش ( جد الدهامشة ) كان احد الشيوخ الذين جاءوا لاخذ حصتهم من الصر السنوي من سلطان القاهرة , وانه ماكان يعلم ان هؤلاء اولاد حمد الدجرا ( الذي لابد انه / اي حمد قتل في المعركة والا لبحث عن ولديه على الناقة ). وان دهمش كان احد الذين سلموا من المذبحة واخذ او نهب نصيبه من المال وغادر سالما غانما , وانه في طريق عودته الى ديار الكرك او البلقاء وجد ناقة هائمة على وجهها فامسكها ووجد الولدين , ولا بد انهما قالا له انهم ابناء حمد الدجرا الذي مات في المعركة وايضا لابد انه عرفها من خلال الوسم الموجود على الناقة انه وسم حمد الدجرا بشكل خاص ووسم الصخور بشكل عام , ذلك ان البدو كانوا يضعون وسمين على ابلهم : واحدا للقبيلة واخر للعشيرة الفرعية , وان حمد الدجرا من احامدة بني صخر وليس من احامدة بني حرب ., ولكن دهمش كان يريد تربيتهم لانهم اقاربه من بني صخر (وكان هو في ديار الكرك ) من جهة وليتقوى بهم امام الاعداء من جهة اخرى , وبدات بذلك قصة طويق بعد ان مات اخوه او ذهب الى منطقة اخرى فيما بعد , مع وجود روايات كثيرة لاانس لاي منها , لذلك لااذكرها .
نحن نرى أن وضع الطوق من فضة في عنق الطفل الذي لا ندري اسمه الحقيقي، هو نمط من التفاؤل , ذلك ان البدو يتفاءلون بالفضة على انها ( فضاة بال ) اي راحة بال , ويتشاءمون من الذهب للرجال على انه ذهب اي انحسر وغادر . وعلى اية حال فاننا نتعامل مع اسمه ( طويق / تصغير طوق ) كما أطلقه عليه دهمش، نحن نرى أن ذلك لا يكون إلا كعلامة لدرء الحسد والعين عنه , وانه من ابناءالشيوخ. كما أن بدو الأردن مغرمين بإطلاق تصغير التحبب على الأسماء مثل: طوق يسمون طويق، وحوطة يسمونها حويطة الخ.ومن هذه الاسماء ظهرت اسماء : الطوقة والحويطات
كانت بنو صخر في ذلك العصر تقطن البلاد من العلا جنوباً (التي كانت جزءاً من إمارة الكرك)، إلى الجولان شمالاً، وكانت الزعامة فيها في ابن زهير كما رأينا زمن السلطان الظاهر بيبرس ومن بعده، وعندما عمّ?Z الفراغ والجراد والطاعون ( فيما بعد ) رحلوا إلى العلا حيث الماء والمرعى والمناخ النقي. واستمروا هناك طويلاً قبل حادثة طويق المشار إليها أعلاه، وكانت خضير أكثر فروع بني صخر عدداً وعدة، فكانت هجرتهم إلى مصر، وكانت نخوتهم البواسل، وصار ذلك اسماً لهم حيث لا زالوا هناك باسم البواسل وهم في المنطقة الشرقية من مصر، وبقي جزء، منهم في العلا، وتحركوا إلى بركة زيزياء التي كانت لهم، ثم صارت للطوقة عندما ازدادوا عليهم عدداً وعدة، بعد أجيال طويلة وصارت بركة الموقر لبني محمد التي تضم الخرشان والجبور (بما فيهم ابن زهير) والحماد والقضاة ومن في فلكهم من عشائر بني صخر.
وقد ذكر بعض الكتاب خطئاً أن بني صخر وفدت حديثاً على الأردن ـ أي في القرن السابع عشر ـ وهو كلام عاري عن الصحّة، لأن بني صخر كانوا من القوة والبأس والسطوة بحيث يتجولون من العلا إلى الشرقية في مصر إلى جنوب فلسطين وغزة وشمالها إلى الديار الأردنية والجولان إلى جزيرة الفرات ودير الزور. وكانوا يوازون بالقوة (ولا أقول بالعدد) قبيلة عنزة، ويتجولون في ديار إمارة الكرك المعروفة آنذاك فضلاً عن جنوب فلسطين وجزيرة الفرات.
وظهر من بني صخر أشدّ الرجال والعائلات شجاعة وجسارة وبسالة ، وكانوا كلما التحق بهم جمع من بني صخر الذين اصابهم الشتات وتم لم شملهم , كلما ازدادوا قوة وشراسة ومن مبدأ نفس الرجال يحي الرجال
men feel strong when supported by other brave men.
وكما قلنا سابقاً بدأ تشكيل العشائر الأردنية واعادة بنائها من جديد بعد الطاعون والجراد وفراغ السلطة، وصارت السطوة للقوي، وتكرست الأحلاف،واستعادت بقايا العشائر ماكان من احلاف الاباء والاجداد , وعاش الناس فترة من الفوضى والفراغ حوالي قرناً ونصف القرن من الزمن , وهي أواخر فترة المماليك البحرية ( الاتراك ) ، وطيلة مدة المماليك البرجية ( القوقازيون ) حتى مجيء الأتراك عام 1517 وإنهائهم لدولة المماليك، الذين تم القضاء على بقاياهم ( المماليك ) نهائياً من قبل محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر عندما دعاهم إلى وليمة في القلعة وأعمل فيهم السيف، ولم يترك منهم أحداً، وبذلك أُسْدل الستار على عصر المماليك الذي استمر من 1250 إلى 1517 أي حوالي ثلاثة قرون 267 سنة بشقيهم البحرية والبرجية، أي التركية والشركسية، وبقيت جذام هي المسيطرة عشائرياً على الأردن، وغاب الغساسنة عن الإمارة، كما أن قبيلة طي هيمنت على عربان البادية، ولم يكن وجود لغيرهم في السيادة، وإن كان الآخرون موجودون كعربان وشيوخ .
لا توجد لدينا مصادر دقيقة حول وجود وتركات العشائر الأردنية في فترة الضياع والفراغ لمدة قرن ونصف قبل مجيء الأتراك، لأن مسؤولية البقاء والحماية كانت ذاتية، ولا توجد دولة لأداء هذه المهمة للناس، ولا سلطة مركزية او كيان سيتاسي يمكن ان يدون في سجلاته مانحتاج اليه الان , وصارت الضرائب تدفع من عشيرة الى اخرى وتسمى الخاوة tribute ثم استخدموا كلمة الأخوة brotherhood في بعض الأحيان والأماكن لتلطيف كلمة خاوة. وقد أدت الأمراض والحروب والجوع إلى تناقص أعداد السكان، أو على الأقل تزايدهم ببطء شديد، او توقف لاتزايدهم , وصار الفقر يؤدي إلى تأخر في الزواج، وبالتالي قلّة في الإنجاب، وكثر موت الأطفال بالمرض وسوء التغذية، والرجال بالمرض والحروب، وصار نظام الثأر سيفاً مصلتاً على الجميع والكل يريد أخذ ثأره من الكل , وكل واحد ياخذ القانون بيده هو نفسه . انه صراع الضعفاء والفقراء والجهلاء , وغياب الحكمة .
تحول المجتمع الأردني والعشائر إلى مجتمع الأقوياء والضعفاء إلا أن الغزو قد يحيل غنياً إلى جائع معدم، وقد يحول فقيراً إلى غني متخم . لأن الشجاعة والجسارة هي المقياس، وسيطر جهل الناس بالدين , والجهل بالمحرمات , وتحولوا إلى أعراب لا يعرفون من دينهم شيئاً، ولا يرعون حرمة الدماء، وإن بقيت الأعراض مصونة في جميع عصور الضلال والجوع والحروب. أما حرمة المال فكانت معدومة، وأما حرمة الدماء فكانت موجودة لكنها غير ذات أهمية، وفي هذا الضياع برز غزاة جدد من غير العرب وهم الأتراك الذين استعمروا بلادنا أربعة قرون فيما بعد بالتمام والكمال.
ويمر كثير من المؤرخين على بعض الكوارث الطبيعية أو الأحداث الهامة التي حدثت بالاردن مرور الكرام مثل الطوفان والجراد والطاعون , ومحاولة الثورة على السلطان وهو في طريق الحج وذلك ما ذكرناه عن تطابق رواية الإنقلاب على الملك الأشرف شعبان مع الروايات الشعبية التي استمرت عدة قرون بدون تدوين حول بداية قصّة طوبق الجد الأعلى للطوقة twugah من بني صخر / جذام . وقد شرحنا ذلك ولا داعي للتكرار والإطالة .
وهنا نريد التوقف هنيهة عند الطوفان الذي حدث عام 1293 مع ماوقع معه من برد قارس وشديد وعام في بلاد الشام أفسد غالبية الغلات فارتفعت الأسعار ونفقت الدواب , واندثرت المراعي والأعلاف ,وهطلت الأمطار ليلاً نهاراً لمدة طويلة , حتى تسببت في هدم بيوت الطين والعقود والقناطر في كل من غزة والرملة ومناطق شرق الأردن , واجتاحت السيول الأودية فهدمت الطواحين وجرفت مضارب العربان من بيوت الشعر , فوجد ( بضم الواو ) أحد عشر أسداً في سيل واحد ميتاً غرقاً .
تحدث المؤرخون : اين كثير في البداية والنهاية (ج13), والمقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك , وأبن الفرات في كتابه تاريخ ابن الفرات عن هذه الطوفانات بما يطابق الرواية الشعبية حول مصير عرب الضيغم ( من جذام ) الذين اتخذوا من وادي الحسا /جنوب الاردن منازل لهم . ويبدوا أنهم لجأوا للنزول في مجرى الوادي للهروب من برد الصحراء القارص جدًا ذلك العام الموصوف في المصادر التاريخية أعلاه ,وللحماية من الرياح العاتية ,حتى إذا ما بدأ هطول الأمطار لم يتمكنوا من رفع البيوت والرحيل ولا الخروج منها , ولا تغيير مواضعها . فأخذهم السيل وهرب عرار وابن عمه عمير ومعهم نفر قليل من الضيغم .
وتقول الروايات الشعبية أن الجرذون بدأ ينقل أولاده من الوادي قبل أيام من هطول الأمطار والطوفان فرآه الشيخ شهوان والد عرار , فقال أن هذا الجرذون لا بد ويهرب من الموت وأن الطوفان آت لا محالة فعلينا ان نرحل , الا ان القوم سفهوا رايه واعتبروا ذلك خوفا لامبرر له , كما سخروا من الجرذون وكيف يمكن ان يعرف ويفهم اكثر من الانسان .وعندما تحقق الطوفان وأخذ الناس , ولم ينج منهم إلا القليل , قال شهوان بيته المشهور في قصيدة يصف فيها الطوفان :
من شوفي للجرذون نقال لعياله

عرفت انه من الموت خايف


Once I Saw The Rat Bearing His Kids From The Bottom Of The Valley To The Top Of Adjacent Hills, I Was Certain That He Is Afraid Of Death.
نجا كل من عرار وعمير من الموت ومعهم عدد لا بأس به من عربانهم , حيث كان منهم من كانت منازلهم بعيدة عن مجرى السيل , وغرق البافون ومواشيهم وكلابهم وخيلهم وابلهم , وصارت قصتهم ترويها العربان منذ ذلك الحين إلى اليوم . وذهب عدد من أفراد الضيغم وهم من جذام الأردن , أقول ذهبوا إلى شمّر , وممّن ذهب هناك الجد الأعلى لابن ختلان الذي عاد إلى الأردن وصار شيخ مشايخ بني عباد , وابن عمه الجد الأعلى لعشيرة العربيات الذي صار شيخ السلط فيما بعد , واخر هو جد النوحة وهم من عشيرة الجبرة / عباد في ماحص , ومن النوحة / الضيغم عشيرة الدويري في كتم باربد وهم من النوحة في ماحص / عبابيد .
كانت سنة الطوفان في صفر عام 693هـ / كانون الثاني 1293 م , ومن فلول الضيغم بقي الحجايا وهم الآن من بدو الجنوب ومنازلهم محاذية لحوض وادي الحسا , وشرقي الطفيلة وفي جبال الشّراة . وعندما استقرت أمور الأردن عاد شديد الضيغمي ( جد الختالين ) من شمّر والتحق بعباد / جذام ، وبذلك عاد إلى جذاميته ، وصارت له ولذريته إمرة القبيلة ولكن باسم ابن ختلان وصار بيت المشيخة الكبرى في عباد كما قلنا.أما جد العربيات فعاد الى الأردن قادماً من شمر ( وسمي ابو عرب / اي انه من البدو / عرب ) بعد عودة ابن ختلان حيث وجده شيخاّ لمشايخ عباد , وتزوج ابنته فيما بعد ( جد العربيات / هو الذي تزوج ابنة بن ختلان ) لأنه كان ابن عمها وهو أولى بها .وصار العربيات شيوخا في السلط وبن ختلان شيخا في عباد , وكلاهما ضيغمي جذامي اصلا عائدا من شمر بعد ان التحقا بها على اثر طوفان سيل الحسا عام 1293 م .
ويبدو أن الرجلين ( وهما اقارب ) اتفقا على عقد صفقة بينهما وهو أن يستقر جد العربيات في السّلط , ويصير سلطيّا وشيخا , وجد الختالين في عباد وتكون له بيت الشيخة . وقد تكرر التزاوج بين العربيات والعبابيد فيما بعد في اكثر من جيل . , وكان كل من الرجلين يدعم الآخر في القبيلة الأخرى , وكذلك كان. من هنا فإنه عندما كانت تؤول المشيخة بالسلط الى العربيات أو ابو حمور أو العواملة, فإنهم يتحولون إلى حلفاء لعباد , والسبب أن هؤلاء وعباد من حلف اليمنية , وعندما تصبح الشيخة في الفواعير أو الحياصات أو الحيارات , يتحالفون مع العدوان وينضمون لحلف القيسية الذي يتراسه ابن عدوان
من هنا صار المثل : صحبة عبادي وسلطي
Friendship of the Abbadi and Saltis
ذلك أن عداوتهم لا تدوم ولا تتجاوز الحدود , ولا تصل إلى كسر العظم إلا مرة واحدة عام 1850 جئنا عليها تفصيلاً في كتابنا : التاريخ السياسي للعشائر الأردنية بالانجليزية .
وقد يقول قائل أن طوفان الحسا الذي أفنى وشتتت الضياغم ( مفردها ضيغم ) هو الذي وقع في عام 728 هـ أي بعد ثلاثين عاما وتقول أن هذا الطوفان الآخر وقع في عجلون وحدها , وحددته كتب التاريخ , وتم كتابة تقرير ورسالة في ذلك من مدينة عجلون إلى دمشق يتضمن الإشارة إلى السيل الذي دهم المدينة ( عجلون ) وآخرين ودمّر فيها الكثير , وانه وقع في النهار فهرب الناس وسلموا ولم يمت فيه إلا بضعة أفراد , كما أن عجلون بعيدة المكان عن الحسا
أما طوفان الحسا الذي أتى على الضياغم فقد وقع ليلاً وليس نهاراً , وجاء على مضارب بيت الشعر وليس على مباني , وعلى من كان ينزل مجرى السيل وليس من كان على السفوح او في التلال المجاورة . لقد كان تجمعا لامطار غزيرة ومفاجئة نزلت على الصحراءوتجمعت في مجرى سيل الحسا , وان تشابه السيلان ورغم اختلاف زمان ومكان ونتيجة كل منهما .
وفي أعقاب هذه الكوارث المتتالية : الطوفان 1293م , والطاعون 1341م وتمرد العربان والصراعات الداخلية 1349م , والجراد الساحق الماحق 1368 , تحركت القبائل الأردنية كما سبق وقلنا لإعادة ترتيب أوضاعم وتمركزهم واستقرارهم وامنهم , بما يضمن لهم البقاء والاستمرار . فهاجر الكثير منهم الى العلا وشمال الحجاز هروبا من الصراعات والطوفان والجراد والأمراض , بانتظار هدوء الأمور ليعودوا إلى ديارهم الاردنية مرة اخرى كما فعلوا عبر مسيرة التاريخ الطويلة .
وعاد الطراونة على سبيل المثال من شمال الحجاز وسكنوا طور وادي موسى واخذوا هذا الإسم ( الطرو / وليس الطور ) ثم تحركوا نحو الكرك في مرحلة متاخرة , حيث كانت منازلهم فيها ( في الطفيلة والكرك ) قبل هجرتهم الى الجزيرة بحثاً عن الأمان من سوء الطقس , وانحلال الامن , وتفشي الأمراض .
وتحركت بقية بني حسن من الطفيلة والكرك بعد ان عادوا اليهما من معارك حطين وعين جالوت وحرب التتار وتحرير فلسطين والقدس من الفرنجة وسلكوا طريقهم باتجاه الشمال مرورا بعفرا ثم باللجون سالكين الطريق المؤابي الروماني القديم ثم عبر وادي الموجب بعد ان خيموا على سيله الذي كان جاريا وغزيرا انذاك ودائما على مدار السنة , حتى إذا ماتجاوزوا الموجب ثم ادركهم العطش في جبال ذبيان , وردوا ماء الوالة الذي كان نهرا صغير ايضا , ثم واصلوا مسيرهم فيما بعد الى سيل عمان , ثم الى نهر الزرقاء حيث حطوا رحالهم في منطقة وعرة وعصية الى الجنوب من مجرى النهر مشرفة عليه وعلى الديرة كلها من حوله , وهي منطقة محصنة طبيعياً , ويمكن رؤية أي عدو قادم اليهم من مسافات بعيدة والتأهب لملاقاته أو صدّه بسهولة ولو بالحجارة من رؤوس التلال لضربه وهو عند أقدام الجبال.وكان نزولهم في هذا المكان ضروري لغايات الامن والحماية ريثما يرتبون امورهم ويتوطنوا في هذه الديرة , وهم قريبون من الماء الزلال وهو ماء نهر الزرقاء . وهناك بنوا مقاما لجدهم الاعلى حدد ولا زال المقام الى الان وان كانت جرافات الزراعة قد هدمته في الستينات من القرن العشرين ؟؟ .
ونزل جزء منهم اثناء مسيرتهم هذه في منطقة الغوير في ديار الكرك وتم تسمية هذا الفرع نسبة الى المكان فصاروا باسم الغويري / نسبة الى غوير االكرك ) ثم تحركوا في مرحلة لاحقة في احدى سنوات الشتاء الغزير والبرد القارس الى الغور طلاب للدفء والمرعى , وسلكوا طريق الغور الى ان صاروا بمحاذاة مناطق زرقاء شبيب وهناك التحقوا باقارهم بني حسن الذين سبقوهم الى مناطق حوض نهر الزرقاء . ولكن باسم الغويري وليس الغوري . فالنسبةالى الغور هي غوري او غوراني واما النسبة الى الغوير فهي الغويري وهذا الذي حدث , وهذا اصل النسبة , مثل الغساسنة بسبب نزولهم على ماء غسان .
ولا يعني ان رحيلهم ورحلتهم هذه انها كانت في ايام او اسابيع ولكنها ربما اخذت اشهرا وسنوات طويلة , لانهم كانوا كلما تحركوا او خيموا نظروا الى الديار من حولهم وتوكدوا من سلامتها وامنها ومرعاها . كان عددهم كبير وماشيهم كثيرة جدا , وكان نزولهم على نبع واحد او غدير لم يكن يكفيهم , لذا خيموا في رحلتهم على السيول الغزيرة مثل عفرا واللجون والموجب والوالة ثم على حسبان التي كانت تحت سيادة ابن مهدي , ثم على سيل عمان ثم الى حوض وادي الزرقاء كما قلنا , ثم فيما بعد الى الغدير الابيض وسيل الضليل الذي اصبح الان جافا , وكان حينها ماءا جاريا ومحاط بالاشجار الكثيفة ومن ذلك صار اسمه الظليل من الظلال وليس من اسم اخر .
كان حدد وهو اسم الملك الأدومي حدد الأول والثاني والثالث اسما مهما جدا لدى بني حسن ((والطراونة والشوابكة والسعوديين والكلالدة / المحيسن ) ) وهو شخص مهم جدا في تاريخ الاردن الوطني القديم ايضا , وكان بنوا حسن يعتقدون أنه من أولياء الله يتبركون به عند المصاعب والحروب فصنعوا له قبراً وهمياً ومقاما في رأس التلة التي نزلوها جنوب مجرى نهر الزرقاء , وبقيت الأمور هكذا إلى نهاية الستينات من القرن العشرين .
وفي مرحلة متأخرة بسطت بنو حسن سيطرتها على المنطقة المحيطة بنهر الزرقاء من مجراه وروافده وحوضه كاملا وشرقي جرش الى محاذاة اراضي ديرة العبابيد التي كانت تنتهي شمالا بنهر الزرقاء. وما ان استقرت بنو حسن في حوض الزرقاء والغدير الابيض والفدين ( المفرق ) حتى التحقت بهم العديد من عشائرها وفروعاها الذين كانوا افترقوا عنهم بعد معركة حطين , ومنهم الغويريين كما قلنا توا وقد بقوا في مناطق الكرك حتى بداية العهد العثماني . والتحقت بهم فرقة اخرى منهم كانت غادرت الاردن بسبب الاضطهاد العباسي , وسكنت العراق , وهم الخزاعلة وبقي قسم منهم هناك بالعراق مع الخزاعلة الى الان , وعاد القسم الاخر الى الاصل وهو بنو حسن . وتشكل عشيرة الخزاعلة الان بطنا هاما وقويا وكبيرا من بطون بني حسن. فالناس من بعضها والتامت بعد قرون وسنين والذاكرة الجماعية بقيت تروي للاولاد والاحفاد عن الاصل حتى التام شمل الناس مرة اخرى , واعادوا تجميع وتشكيل بني حسن التي نراها الان وهي اكثر العشائر الاردنية عددا , وان كانت لازالت منهم اعداد تزيد عن ذلك مستقرة في فلسطين والشام والعراق والجزيرة تفرقوا عن العشيرة الام على اثر الاضطهاد العباسي وبعد الحروب كما قلنا .
واما بنو حميدة فقد بقي منهم عشائر في فلسطين بعد مشاركتهم في معركتي حطين وعين جالوت , وعاد منهم اجزاء من العلا ووادي السياح والتاموا مرة اخرى وصار امتدادهم من بصيرا في الطفيلة الى مادبا مع حدود ابناء عمهم الجذاميين : بني صخر شرقا والعبابيد شمالا . وتوهم بعض الرواة أن بني حميدة جاءوا توّا إلى البلاد دون الحديث عن مرحلة ما قبل المجيء عندما كانو بالاردن وهم من اعمق واعرق واقدم عشائره : انهم بطن من جذام وهم ابناء حميدة الجذامي والذي نرى انه شقيق حماد الجذامي ( جد بني يونس والشريدة الحاليين في شمال الاردن ) .
اما بني صخر وبعد مشاركتهم في معارك حطين وعين جالوت ومحاربة التتار , تفرقوا في البلاد ايضا امتدادا من غزة والبحر الابيض غربا الى شرقي النيل الى جزيرة الفرات الى شمال الاردن الى بيسان , مما جعل من الصعوبة بمكان الاحتفاظ بالمشيخة عليهم من اسرة واحدة او شيخ واحد , وكان كل بطن يتحرك كوحدة مستقلة عن الاخر وله شيخه وبيت المشيخة فيه . وكانوا يجتمعون على بركة زيزياء وسيل عمان وسيل حسبان سيل الزرقاء في الربيع والصيف . ولا تزال تسميات احياء هامة بعمان منسوبة الى بني صخر الى الان :
فالشميساني سمي كذلك لانه كان المكان التي تنتشر به ابل بني صخر بعد ورودها الى سيل عمان . وكانوا يقولون لللرعاة شمسوا الابل اي دعوها تتعرض للشمس لتعطش مرة اخرى وترد الماء قبل ان يغادروا المكان في نجعة اخرى تستمر اسبوعين او ثلاثة , فصار اسم المكان : الشميساني / من شميس وهي تصغير شمس وتشميس / اي شميس ثم نسبو الكلمة الى المكان فيقولون : اصدروها على الشميساني فصار هذا اسم المكان منسوبا الى الشمس والتشميس , نسبة الى ماكانوا يفعلونه بابلهم / تشميس ابل بني صخر .
كذلك الصويفية وهي من مقاسم عشائر بني عباد العشائرية تاريخيا بعد رحيلهم من الكرك ( وبقيت كذلك حتى نهاية الثمانينات من القرن التاسع عشر عندما صادرها الاتراك لاعطائها للمهاجرين الشراكسة ), الا ان عباد كانت تسمح لابناء عمهم بني صخر بالتحرك والرعي في اراضيها , فينزل بنو صخر في الصيف في الصويفية , ويقولون : نريد ان نقضي الصويف / اي نقضي الصيف في هذا المكان ( بالتصغير ) : صويف ( اي قضاء الصيف او النزول بها في الصيف ) ومعناه ايضا انهم يقضون شطرا من الصيف وليس الصيف كله , ويقولون ملقانا بالصويف اي بالصيف في مكان الاصطياف وهو هذا المكان , ثم تحولت الكلمة الى الصويفية . كذلك اللويبدة التي كانت غابة من الاشجار وهي ملبد / اي مخبا للانسان والحيوان واللصوص والنازلين والباحثين عن الحماية وسميت اللويبدة من تصغير لويبد اي لابد / اي مختبيء .
نعود للقول ان بني صخر قد امتدت في نجعاتها من العلا الى نجد الى بادية العراق الى جزيرة الفرات بالبادية السورية الى فلسطين الى غزة الى شرقي النيل الى الجولان وبيسان . ولا زالت اراضيهم في بيسان تحمل اسماء عشائرهم الى الان.
وبعد عودتهم من العلا العودة الاخيرة والنهائية وجدوا أمامهم بني حميدة وقد تعرضوا للأذى من عربان الكرك فوقف الصخور معهم كونهم جميعاً جذام وقبيلة واحدة , كما فصلنا في كتابنا أعلاه , ولا داعي للتكرار لدقّة التفاصيل في ذلك الكتاب وكثرتها على اهميتها .
أما العجارمة فقد استمروا في ديار البلقاء قبل وبعد الجميع , وفقدوا امارة الديرة واخذها منهم ابن مهدي بقرار من الظاهر بيبرس كما قلنا سابقا واستمر بن مهدي في امارته والعجرمي في مشيخته وليس بامارته . واما العمرو فاستقروا في ديار الكرك واستعادوا وضعهم كامراء لعربان الكرك بقانون القوة وليس بقوة القانون وانما بدعم بعض سلاطين المماليك الذين كانوا يكرهون الظاهر بيبرس الذي انتزع منهم الامارة . وأما بني عباد فقد أصابها الشتات وتفرقوا في البلاد مثلما هي بقية العشائر ولم يعد اليهم من بطونهم من افترق عنهم بعد مشاركتهم في معارك حطين وعين جالوت ومحاربة التتار , حتى ظهر ابن ختلان الضيغمي الجذامي , واعاد تنظيمهم مما شجع المتفرقين عنهم للالتحاق بهم ثانية قادمين من فلسطين وسوريا والحجاز ونجد والعراق ( الذي شاركوا في حرب التتار ), وعادوا الى الخارطة السياسية والعشائرية حلفاء لأقاربهم الجذاميين وهم بنو صخر وبنو حميدة وبنو عجرمة , والعمرو, وبذلك بدات تظهر القبائل القديمة مرة اخرى ضمن التاهب لتجاوز صراع البقاء واعادة لم الشمل من بعد الشتات , وبقي من عباد الكثير في فلسطين , ولا زالوا في القدس واماكن اخرى وهم احفاد من شارك بتحريرها من الصليبيين , ومنهم في غزة ومنهم في شمال فلسطين . وقد تفرق من عباد بعض العائلات بعد نزوحهم الى بيسان عام 1850 ولا زالوا هناك والتحقوا باقاربهم العبابيد الذين سبقوهم منذ حطين وعين جالوت وتحرير فلسطين .
ونتيجة هذه الكوارث تحركت عشيرة بقايا بنو حماد نهائيا من وادي ابن حماد ( منطقة الكرك ) واهم اخوة بني حميدة , اقول تحركوا من الكرك والتحقوا بابناء عمهم الذين استقروا في منطقة جبل عجلون في شمال الاردن , الى ان انتهى بهم المطاف في تبنة , والتحق بهم من كان منهم اشترك في حطين وعين جالوت وحرب التتار ممن لم يعد بعد المعركة مباشرة , وبيت المشيخة فيهم هو في عائلة الشريدة , ولا زالوا هناك الى الآن .
كما تحركت عشيرة العبيدات من منطقة الطفيلة منفصلة عن عشيرتها الاصلية وهي العبيديين , وبقي من شارك في معركة حطين وعين جالوت من العبيديين ( صار اسمهم العبيدات ) اقول استقروا في شمال الاردن وذهب منهم فروع الى ليبيا ومنهم من استقر في فلسطين ولا زال فيها الى الان يحمل الاسم نفسه ( العبيدات ) . وأما تحرك الشوابكة من الشوبك الى البلقاء فكان بعد هدم قلعتهم عام 629 هـ /1293م عندما امر السلطان الاشرف خليل بن فلاوون بهدمها وتسويتها بالأرض ذلك أن السلطان الأشرف أمر نائب الشام عز الدين الأكرم بهذه المهمة فقال الأكرم للسلطان خليل , ياخوتته كيف تخرب مثل هذه القلعة وهي قلعة عامرة آهلة ( بالناس من الاهلين ) وهي حصن من حصون المسلمين , فانتهره السلطان قائلا له " أنتم نفوسكم كبار تزعمون انكم اصحاب رأي ولا يجي برايكم إلا على رؤوسكم "
تحرك الشوابكة الى البلقاء , وعاشوا في أكناف عمان ومأدبا وصارا من عشائر البلقاوية اليمنية نسبا القيسية عصبا ( بلقين سابقا ) , وصار يطلق عليهم الشوابكة – بنسبة الجمع , وليس بنسبة المفرد . لذلك فأن ابناء الشوبك الحاليين يُسمون انفسهم : الشوبكي ( فلان الشوبكي ) , أما الشوابكة في البلقاء فالنسبة بالجمع وليس بالمفرد فيقال : فلان الشوابكة . وبذلك نجد أن تحركات العشائر كانت لسبب ما , ولكن الشوابكة الذين طردهم خليل بن قلاوون لم يعودوا ألى الشوبك وان بقيت التسمية تلازمهم الى الان , وهم الان في التقسيمات العشائرية ضمن عشائر البلقاوية , مثلما هو الحال العزيزات والحدادين في مأدبا ومن لف لهم ( نصارى ) الذين جاءوا الى مأدبا عام1882 , فهم الآن من عشائر البلقاوية وليسوا من عشائر الكرك , رغم اعتزازهم وقرابتهم بالكرك واهله . واشترك الشوابكة في حطين وعين جالوت وتحريرالاقصى وفلسطين , وبقي منهم الكثير في فلسطين ولا زالوا يحملون اسم الشوبكي هناك الى الان .
واما النعيمات والسعوديين من اهالي قلعة الشوبك فقد نزحوا الى الحجاز واطراف نجد , ثم عادوا الى منطقتي معان والكرك ( بما فيها الطفيلة انذاك ) , ونزحت عشائر من الشوبك بسب هذا الهدم وفي سنته ايضا , اقول نزحوا الى سيناء وفلسطين , وسكنوا طور البتراء وطور سيناء , ثم عادوا الى الشوبك وحسب البعض انهم ليسوا منها اصلا وهو خطأ , فهم ممن اجبرهم خليل بن قلاوون على ترك المنطقة باعتبارهم اصحاب موالاة للايوبيين , ثم عادوا الى ديار الاباء والاجداد وهي الشوبك ولا زالوا بها الى الان ونزح منهم الكثير الى عمان والزرقاء ووسط وشمال الاردن بسبب العمل والتعليم والبحث عن سبل العيش , والسكن بعيدا عن الشوبك بعد التقاعد واثناء العمل .
اما الغساسنة فقد استمروا بالكرك , وأما عشائر الكرك الأخرى فاستمرت ايضا ماعدا ما كان من نزوح افراد منهم ومن سائر الاردن الى الشمال والبلقاء كما سيأتي في مرحلة متأخرة من هذا الكتاب ان شاء الله .
اما معان فإنها كانت واحة مستقرة تتعامل بالتجارة مع الحجاج , وتقوم على خدمتهم وبالتالي لم يغادروا الى اماكن اخرى , بل ان بلدتهم استقطبت عشائر من الشام والحجاز وفلسطين والاردن والبدو والفلاحين , واما عشائر الانباط ( الحويطات وبني عطية ) فقد كانت تحركاتهم من سواحل سيناء الى الوجه على البحر الاحمر , الى تيماء شرقا الى الحسا شمالا , الى الشرقية في مصر جنبا الى حنب مع البواسل / خضير / بني صخر , ويوجد حويطات مصريين مثلما هو أمر الصخور( البواسل ) ايضاً .
وبذلك استقرت العشائر الاردنية بترتيب جديد قبل مجيء الاتراك , حيث تغيرت الدوافع والتسميات وتباينت قوة كل عشيرة حسب المفقود والموجود , وصارت كل قبيلة عبارة عن شبه مملكة مستقلة تدافع عن نفسها بالسيف او التحالف او دفع الخاوة او الاندماج في عشيرة اخرى .
وهنا لا بد ان نفرق بين قوة العشيرة وقوة الامارة بالمفهوم العشائري الاردني , وقوة الامير وقوة الشيخ < , وقوة التابع وقوة المتبوع وقوة السيد وقوة المسود وقوة الانف وقوة الذنب وقوة الراس وقوة المرؤؤس وقوة الكبير وقوة المكبور . اما من حيث القوة , فقد كانت كل من عشائر بني صخر , وعشائر الانباط ( الحويطات وبني عطية واللياثنة ) أقوى قبيلتين بدويتين في الاردن ( من حيث القوة وكل لها امتدادها خارج ديرتها المحدودة ) , واذا اردنا حسبة الامور حسب الاصول , فإن الاقوى والاكثر والاوسع والاقدم كانت قبيلة جذام حيث كان منها ثلاث امارات : ابن مهدي , بن عقبة , الجرمي , ( وقبلهم العجرمي ) وبن حماد ( الشريدة فيما بعد ) . ولكن تفرق جذام وعدم اتحادهم وانتشارهم على مساحات ومسافات واسعة داخل الارن وتحركهم الى الاقطار المجاورة وعدم مساندة بعضهم في المحن المصيرية مثل وقوفهم متفرجين حيال ماحل بابن مهدي عندما كان ياكل الضربات العاصفة والقاتلة من البلقاوية بزعامة العدوان , ومثل عدم مساندتهم لبني عقبة ( العمرو ) عندما تكالبت عليهم عشائر الكرك بما فيها العشائر الجذامية ( بني حميدة ) واليمنية ( الغساسنة وبلي وبني قضاعة الذين كانوا في الكرك ) , اقول ساهم هذا كله في ضياع امارات جذام كلها : الجرمي والمهدي وبني عقبة , وساهم في ضياع شيخة بني نصير ( نصير / النصيرات ) في شمال الاردن وحل محلهم الخصاونة في المشيخة لناحية بني الاعسر / ناحية بني عبيد فيما بعد . فقد اسماها النصيرات ناحية بني عبيد عندما اطاحوا بامارة بني الاعسر , وابقى الخصاونة على اسمها ( ناحية بني عبيد ) بعد سيطرتهم على مقاليد الهيمنة فيها , ولا تزال تحمل هذا الاسم الى الان .
وبدل الامارة , حلت قوة العشيرة ولكن بدون سلطة مركزية مستقرة وثابتة في مدينة او قلعة او بلدة , وانما سلطة كثبانية متحركة / اي مثل كثبان الرمل حيث ان كمية الرمل ونوعيته ولونه لاتتغير , ولكن المتغير هو شكلها وحركتها , وذلك حسب الظروف ومتطلبات الصراع من اجل البقاء , وتكون تارة مجزأة وتارة متحدة وتكون في كل بمظهر عام مختلف عما كانت عليه من قبل . اما السلطة المركزية لهذه الكثبان فهو بيت المشيخة في القبيلة الذي يتحرك مع تحركها وعادة ماتكون له منازل محددة في المصايف واخرى في المشاتي واخرى في الربيع وكلها تجري حيث تتوفر ثلاثة امور وهي : الماء والكلا والامن والحماية . وبهذه حافظ الاردنوين على وجودهم واستمرارهم من اجل البقاء والاستمرار تماما مثلما حافظت الرمال على وجودها رغم تباين تشكلها حسب الرياح . واما الرياح بالسبة للعشائر الاردنية فهي الظروف المحيطة : مثل الغزوات والاحتلال والقحط والاوبئة وتوفر سبل استمرار الحياة .
واما الامارات فقد كان اقواها امارة آل فضل بن عيسى بن مهنا بن حيار الطائي , ثم ذبلت قوتهم وطغت قوة ابن مهدي لعدة قرون بسبب قوته الاقتصادية لسعة اقطاعاته في البلقاء حيث خصوبة التربة , وغزارة المطر , وتوفر الينابيع , فضلاً عن بيئة الرعاية للقطعان المتنوعة , ووجود الفرسان وقوة قبيلة جذام . كما ان ابن مهدي كان يستلم الاموال من والي دمشق لقاء حماية قوافل الحج من شمال الاردن الى تبوك .وبذلك كان له موردان : الموارد الذاتية من الانتاج الحيواني والزراعي , والموارد الخارجية من اموال الدولة التركية لقاء الحفاظ على مواكب الحجيج . كما ان امارة الغزاوي في مطلع العصر العثماني كانت قوية وتوازي في قوتها وامتدادها ووظيفتها ماكانت تقوم به الامارة الطائية زمن المماليك , وكانت الامارة الغزاوية اقوى واوسع من امارة المهداوي , ولكنها لم تعمر طويلا بينما دامت امارة المهداوي لعدة قرون
واما القبيلة الاكثر عددا بعد جذام في الاردن فكانت عشائر الادوميين ( بني حسن والشوابكة واهالي قرى الطفيلة والشوبك ) . ولكن تفرق الادوميين وجذام جعلهم تحت عناوين متعددة مما اعطى القوة للقبيلة وتقسمت القبيلة الرئيسة الى اجزاء وصاروا احلافا بعد ان كانوا بطونا : مثلا صارت عباد وبني حميجة وبني صخر احلافا واختفى اسم جذام من قاموس التعامل بزوال المماليك البحرية الذين كانوا يعطون اهمية لذلك . وصارت الانباط الى ثلاثة بطون وهي احلاف : الحويطات وبني عطية واللياثنة . وانعزلت البطون ضن قبائل فاستقلت بنو صخر وعباد وبنو جميدة والحويطات وبني عطية وصار كل واحد من هذه القبائل له حلفاؤه الخاصين به , وله مصالحة وديرته وتحركه بدون اخذ اعتبار للطرف الاخر . ولكن الفزعة تتحقق عندما يحتاج اي طرف منهم ولكن على اساس انهم حلفاء وبني عم وليس على انهم جذام او الادوميين او الانباط او قضاعة او بلي او بني كلب او بلقين ( عشائر البلقاوية ) . وعلى هذا الاساس صارت اقوى القبائل في الاردن : بني صخر والحويطات ثم دخلت قوة ابن عدوان فيما بعد ليكون القوة الثالثة في الاردن بعد الصخور والحويطات , وذلك في القرن السابع عشر وما بعده . نحن هنا نتحدث عن القوة وليس عن العدد . وصارت االجذامية او النبطية او الادومية لاتستخدم الافي الامور المصيرية من اجل البقاء وتجد كل قبيلة من ابناء القبيلة التاريخية المؤازرة كاحلاف وليس كاقارب . وبمعنى اخر حلت رابطة الحلف بدلا من رابطة القرابة , اي نسيان القرابة واستخدام الحلف بدلا منها بسبب تغير الظروف وتوسع هذه القبائل وتباين مصالحها في ظل غياب السلطة المركزية وغياب المفكر الوطني الذي يمكن ان يجمعهم على اهداف محددة .
كانت هذه العشائر تتحرك هنا وهناك بحثا عن البقاء ( يسميه الاخرون البحث عن الماء والكلا ولكنهم يبحثون عن الماء والكلا والامان / اي عن البقاء واستمرار البقاء ) , وعن الامن والحماية وهروبا من الموت والمرض والجوع والاحتلال والقوات الغازية لدول الاحتلال , والجوائح الطبيعية والاوبئة وسطوة القبائل القوية . وقد صارت في الاردن فراغات في غياب الدولة , فراغات مخيفة جعلت الحياة متعذرة بدون قبيلة وبدون وحدة القبيلة وتحالف القبائل , وبدون شيخ للقبيلة وان يكون شجاعا وحكيما في الان نفسه وليس حكيما فحسب , بل مقاتلا ايضا يقود قبيلته في الحروب والغزوات والمعارك ويقودها في السم والرخاء . لذلك يسمونه ( المنيخ المثر ) ايصاحب القرار بالسلام والنزول في هذا المكان او ذاك , وصاحب القرار في الغزو والرحيل والتقل . فالبقاء صار للاقوى وليس للاصلح .
صار في هذه الفترات فراغ سياسي , فوضى اجتماعية واقتصادية وانفلات امني , وصار خلط لجميع الاوراق , فاتحد اليمني مع القيسي ( العجارمة وبقايا كندة في البلقاء مع العدوان ) وصار الضيغمي شيخا لعشيرة من جذام ( ابن ختلان شيخا لمشايخ عباد ) ورحل ابن الكرك الى عجلون وبن عجلون الى حوران والكل يبحث عن البقاء والحياة واستمرار البقاء والامن والحماية والحياة .
. وفي مثل هذه الاجواء , صارت كل قبيلة تأخذ القانون بيدها وتدافع عن نفسها حسب قدرتها وامكاناتها تظلم ان استطاعت الظلم وتجنح للسلم اذا وجدت نفسها اضعف من الخصم , وصار الحكم للاقوى وصار الناس غير آمنين لقضاء فريضة الحج , وتلاشت التجارة واقتصرت على تجارة الملح من الازرق ومن البحر الميت ( وبقيت هذه التجارة حتى نهاية الستينات من القرن العشرين ) , وتجارة المواشي ومنتجاتها , والفحم الى فلسطين واستيراد الزيت والقطين والزبيب والدبس والتمر والاقمشة والملابس من هناك ومن دمشق , ولكنها لاتساوي شيئاً مع ما كان عليه امرها زمن الحروب الصليبية والمماليك . وحدثت مجاعات , وسنوات قحط جف فيها الزرع والضرع معا , وغارت بعض العيون ولم يعد يرى الناس دولة أو سلاطينا كما كان الامر من قبل .
لم يتطور الفكر السياسي او ينمو لدى ابن مهدي ( جذام البلقاء ) او ابن عقبة ( جذام الكرك / العمرو ) وقبله عند نافع العجرمي ( جذام / البلقاء ) ولا عند حيار وعيسى بن مهنا ( الامارة الطائية / البادية الشمالية ) والمحفوظ السردي / كندة ( البادية الاردنية الشمالية ) , ولا عند الغزاوي ( بني عوف ) , ولا ابن رباع ( ( بن حماد /جذام الشمال / الشريدة فيما بعد ), ولا ابن عدوان فيما بعد قبل ثورة الشيخ ماجد العدوان , ولا عند ابن مجلي ( المجالية / في الكرك ) فيما بعد , ولا عند الشيخ ابراهيم الضمور الغساسنة قاهر ابراهيم باشا بن محمد علي باشا ولا حفيده الشيخ ابراهيم . اقول لم يتبلور ويتطور ويتوسع ويزدهر لديهم فكر وطني اردني يمكن ان يتحول الى امارة اردنية ذات نظام سياسي ومؤسسات وسلطة مركزية , بل بقي كل منهم بدويا معتمدا على الآخرين وعلى من حوله , ومتطّلعا الى استمرار ما يبغيه ضمن دائرة صغيرة وكل يرى نفسه اكبر من الاخرين فلم يتوسع اي منهم عن حدوده للاسف الشديد ولم يطع اي منهم للاخر وانحصرت نظرة كل واحد على مافي يد جاره فيهاجمه ان توسع ويحاربه ان طلب اليه الخضوع له و واشتدت الصراعات وكثرت المؤامرات والغدر بالقتل على الطعام وفي غير . لقد كان صراع البقاء الحياتي والسياسي والاقتصادي والسيادي المنوقوص وبقية مايهم البقاء .
بل ان بن مهدي اراد الزواج من فتاة نصرانية فحيصية وابنة الخوري رغم أنف والدها بقانون القوة لا بقوة القانون ولم يراعي حرمة العقيدة المسيحية في هذا الشان ., وكانت نهايته بهذه الهفوة كما سيأتي ان شاء الله , وبالفعل أضاعته شهوته ان صحت الرواية , بل وأضاعت امارته التي كانت كبيت العنكبوت في اواخر عهدها . واتاحت لظهور بدل منه أمير جديد لعشائر البلقاء وهو ابن عدوان منهيا بذلك امارة جذام في البلقاء بعد حروب طويلة وطاحنة وصراع دموي وليس مجرد نزاع او خلاف , ومستبدلا بها مشيخة بن عدوان وكذلك كان , وهذه حقائق التاريخ والايام دول وتداول , والامارة لايستحقها الا من يعمل بحقها ولا يستمر بها الا من يعرف سر الحكم وليس مجرد الوصول الى الحكم فقط .
عندما اقول هذا كمؤرخ اشعر ان قلبي يقطر دما , لان اي وطن بلا هوية وبلا ادارة مركزية ومؤسسات وسلطة سياسية ليس الا اجزاء متناثرة ومعرضا للطعن في شرعيته وتاريخه وهذا مانعانيه الان . ان الوطن لايبنى بالانانية اي ان يقول الشخص انا او الطوفان , وانما يحيا الوطن بحياتنا ونقول : نعيش جميعا ويحيا الوطن لاننا اذا متنا اخذه غيرنا .
اذن وهكذا أسْدل الستار على قوة الأيوبيين والمماليك وبزغ فجر جديد وهو الممالك البرجية , إلا أن نيرانهم أحرقت اطرافنا لكن نورهم لم يصل الى أعماقنا للأسف الشديد.
إعتاد العرب تصنيف الأمم الى عدة أعراق : العرب وهم بالنسبة لنا في مقدمة الأعراق لأن لغتهم لغة القران ولغة أهل الجنة , ثم العجم وهم الفرس ( في عرف العرب ) واحيانا يقال لهم : غير العرب , أو يتكلمون برطانة أعجمية , ثم الترك وهم الأتراك وقد خصصت كتب المؤرخين العرب لهم تصنيفا خاصا واسمتهم الترك بدلا من كلة الأعاجم , ويرد اسمهم بالفرد الدال على الجمع : الترك , اما الروم فهم العرق الأروبي الذين يشكلون عنصرا هاما من مصادر الجواري عند العرب , ثم الزنج وهم نسل حام , سود البشرة من سكان أفريقيا وقد أمر الإسلام بمساواة الأعراق اذا امنوا واسلموا , وجعل الافضلية فيها للتقوى وليس للون او العرق او الجغرافيا أو اللغة او الدم او النسب ( سلمان منا ال البيت ) ( انا جد كل تقي ولو كان عبدا حبشيا ) .
لم تكن هيمنة الأتراك جديدة على العرب , فقد كان المماليك البحرية اتراك اصلا ومنهم قطز وبيبرس وقلاوون وابناؤهم كما ذكرنا من قبل , وكان الخليفة في بغداد محاطا ايضا بالأتراك والأعاجم , وكان العرب بعيدون عن دار وادارة القرار في مقر الخلافة , الأمر الذي جعل بلاطها يعج بالأعراق غير العربية , ويتحدثون بلغاتهم , وكانت العربية بالنسبة لهم هي اللغة الثانية , وهذا مااوضحة المتنبي في شعره ان العربي يشعر بالغربة في بغداد .
قبل الاحتلال العثماني للبلدان العربية عام 1516 ميلادي : كانت الأردن تغط في فراغ سياسي كامل كما قلنا اعلاه , ولم ترْق not upgraded الزعامات العشائرية الى مستوى تنظيمي اداري وسياسي وفكري يمكن أن يكون مشروعا وطنيا مقنعا للناس وموحدا لهم كما ذكرنا اعلاه . ولا بد من الاعتراف بالحقيقة أن هذه الزعامات أو المشيخات كانت خاوية من الفكر ومن الأهداف البعيدة المدى , ومن الهّم العام , وإنما كان يهيمن عليهم الهم الشخصي أو العائلي personal or family interest وحفاظ الشيخ على نفسه و أولاده حتى ولو كان ذلك يكم في قتال أخيه وأبناء عمه . هذا هو الوضع الذي كان سائدا للاسف الشديد , فضلا عن الفوضى الاقتصادية التي أدت الى المجاعات أو الفقر , حيث توقفت التجارة وانحدر الإنتاج . وفوق هذا وذاك هناك فوضى اجتماعية وأمنية وانعدام السلطة السياسية اقول انعدام السلطة السياسية وانعدام الفكر الوطني والمفكر الوطني لان اية سلطة سياسية غير قائمة على فكر سياسي فانها عبارة عن نمط من الاحتلال والعصابات التي يذهب الوطن والشعب بايديها نهبا مقسما .
في ظل هذه الفوضى وهذا الفراغ وداء الغثاء , لم يكن لدى الأردنيين وزعاماتهم قدرة لمقاومة أية مخاطر خارجية , ولم يكن لديهم استعداداً للتجمع تحت لواء زعيم واحد , ولم يكن يوجد زعيم قادر على توحيد البلاد والعباد , وليس من احد عنده المال لاجتذاب الناس , ولا الطعام لاطعام الفقراء , حتى صار من يولم وليمة يشبع منها القانع والمعتر والمراة والطفل يصبح موضع المدح والغناء عليه والقصائد في السامر , مع المبالغة بسبب الجوع الذي عض الناس بانيابه .
وانتشر الغزو والسلب والنهب وانفرط عقد الامن تماما , وصار من لاينضم الى عشيرة مهددا بالموت والذل والهوان وظهرت امثال جديدة :( الربع درع ) اي ان مجموعة الرجل هم درعه الذي يحميه , ( واطعمني اليوم واذبحني بكرة ) وصارت الاغاني تقول :== شيخ بلا عزوته قلت مراجيله ==ا اي ان اي شيخ بدون رجال ممن حوله لاقيمة له ولا قدرة له على المقاومة او الدفاع عن نفسه وعن ربعه . لقد صارت الحياة لدى العشائر هي أن يعيشوا فقط بانتظار المجهول , والارتياح من دفع الضرائب للدولة الغائبة . كما أن الدولة العربية المجاورة خلت من وجود الدولة أو السلطة , فالخليفة في القاهرة لا حول له ولا قوة سوى أن يحمل هذا الاسم بلا معنى ولا صلاحيات , ودولة المماليك كانت في نزاعها الأخير وفي معمعة الصراع بين قطعان المماليك , وكل واحد يعتبر نفسه اميرا مساويا للاخرين وليس لهم الحق بالسلطنة اكثر منه , فقد تعلموا من العرب المثل القائل ( ماحدا احسن من حدا ) , وبغداد صارت مدينة هامشية , ودمشق فقدت بريقها , وقلعة الكرك والشوبك تحولتا إلى مخازن ومساكن للعربان يسهل الدخول اليها والخروج منها , واختفى بريقهما والاهتمام بهما , وتلاشت العساكر والمنجنيقات , ومات السلاطين , وتبدّلت الحال غير الحال , والناس غير الناس , وصار قول الشاعر الجاهلي حقيقة موجودة على أرض الواقع :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم لهم
ولا سراة اذا جهالهم سادوا

والبيت لايبتنى إلا له عمد
ولا عماد إذا لم تُرْسى أوتاد

فالناس بدون سراة , أي بدون زعامات وقيادات تتحول الى قطعان حائرة تذهب هيبتها وتسيطر عليها خيبتها , وانتشرت عصابات اللصوص وقطاع الطرق في كل مكان بالأردن , وصار الناس يمتدحون اللص وله حق تناول فنجان القهوة في مجلس الرجال ويقول الشاعر البدوي :
ثلّث وصبه للّي تكره الناس طرياه

يضوي الي سكت عليه النبوح

The third cup of coffee should be served for the thief who makes his storm on his target during darkness, who will not be seen , but only realized by the dogs’ barking.
وتتناقل الروايات الشعبية عن قصص السرقات من أجل لقمة العيش , ليس لأن الناس لصوص أو يحبون السطو واللصوصية , وإنما فقط من أجل الحياة والبقاء . واذكر في طفولتي في نهاية الخمسينات كيف أن اللصوص كانوا يسرقون التمر من بيوت الشعر , فقط بسبب الجوع والحاجة ليس إلا .
وصارت القاهرة وبغداد ودمشق كالرجل العجوز المريض طريح الفراش محتضر , ينتظر اللحظة التي يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة , او كالعجوز الشمطاء التي لاترتجى بزواج ولا تصلح للحمل . أما في الأندلس فقد كانت حروب دموية داخلية بين ملوك الطوائف , وأخرى مع الفرنجة , وأخرى مع المرابطين ويوسف بن تاشقين البربري الذي زج بأعظم ملك عربي هناك هيبة , اقول زج به في سجن أغمات مدة سبع وعشرين سنة رهين القيود في قدميه , ألا وهو ملك اشبيلية المعتمد بن عباد رحمه الله .
ينتمي المعتمد بن عباد الى عشيرة بني عباد الأردنية , وذهب جده الاعلى مع الفتوحات الاسلامية الى الأندلس , بعد فتح الأردن واعتناق غالبية سكانه للدين الجديد , ومنهم بنو عباد , وانتشروا في شمال أفريقيا والأندلس وفي مصر , ولا زالوا يحملون اسم العبادي الى يومنا هذا في الأندلس بالاسبانية – الابادي - : Alabadi , وفي المغرب والجزائر وتونس وليبيا يحملون اسم العبادي تحديدا, وقد التقيت العديد منهم خارج الاردن جاءوا للسلام علي عندما عرفوا انني عبادي من الأردن . وتحدثنا في التاريخ , وتحدثوا عن اصولهم الاردنية منذ الفتح الاسلامي الاول , فلديهم روايات مثلما لدينا روايات وهي متطابقة رغم مرور القرون .
لقد كان هناك أمة عربية , ولكن وجودها كان مقتصرا على القرآن الكريم واللغة العربية , اما الحكام فلم يكن فيهم عربي واحد . وصار الفراغ , الذي لا تقبله الطبيعة ولا السياسة وهنا ظهر عرق جديد : وهم الأتراك , ولكن المرحلة تحمل إسماً جديد آخر هو : العثمانيون وذلك نسبة الى الجدّ الأعلى للأسرة الحاكمة واسمه عثمان , وصارت الدولة التي اسسها من العرق التركي تسمى الدولة العثمانية , ويقال السلطان العثماني , والخليفة العثماني , ولم ينتسبوا للعرق ( الأتراك ) وانما للأسرة مثلما هو حال الكثير من الشعوب والبلدان في التاريخ الذين تتم تسميتهم بأسماء الحكام او اسرة الحاكم . مثل البطالسة في مصر نسبة إلى بطليمون , والسلاجقة في بغداد نسبة لجدهم سلجوق , والسلوقيين نسبة إلى سلوق ملك دمشق بعد موت الإسكندر والايوبيين والمماليك . وفي العصر الحديث هناك دول تسمى بأسماء الأسرة الحاكمة , والشعب باسم هذه الأسرة . وهو أمر دارج في عصرنا الحالي ولا زال .
قام بنو عثمان بتأسيس دولتهم في أواسط اسيا , ثم امتدوا حول البحر الأسود وبحر قزوين وسيطروا على آسيا الصغرى ثم احتلوا القسطنطينية عام 1453م على يد السلطان محمد الفاتح , وبذلك طويت صفحة الصراع الصليبي الاسلامي حول هذه المدينة المحصنة , ذلك الصراع الذي دام قرونا بسقوط عاصمة الامبراطورية البيزنطية بأيدي المسلمين .
لم يكن العثمانيون كالتتار , لآن هؤلاء عرق تركي والتتار من العرق الأصفر الذي يسميه العرب : عرق يأجوج ومأجوج . وهم ( اي الاتراك ) عند العرب عرق خاص لهم ثقافتهم ولغتهم , وياتي بعدهم الروم وهم الأوروبيون أو الجنس القوقازي في التصنيف الحديث لبني آدم ثم بأجوج ومأجوج وهم العرق الأصفر ويشمل بلاد الصين وجنوب شرق آسيا واليابان ومن ومن لفها من هذه الدول والبلدان , ثم العرق الزنجي ويعتقدون ان الزنوج أبناء حام بن نوح , وهم في الغالبية سكان أفريقيا الى الجنوب من الصحراء الكبرى .
ويطلق العرب كلمة عبد على من يكون اسمر البشرة / أي من القارة السوداء , ويطلقون اسم مملوك لمن يكون أبيض البشرة من الأعراق الآسيوية اذا صار عبدا , ويطلقون اسم غلام على كليهما اذا كان ذلك للتودد والتحبب.والمملوك تعني العبد / عند العرب ولكنه من من العرق الابيض وليس من السحنة السوداء .
لقد دفع الأردنيون الثمن غالياً عبر التاريخ بعد سقوط مملكة الانباط الاردنية , وذلك لعدم وجود حاكم اردني يحكم الاردنيين ويدير شؤون بلادهم , وظلوا تابعين للآخرين حتى صار ذلك جزءاًُ من ثقافتهم أن كل طرف اردني يوجس خيفة من الطرف الاردني الآخر ويؤثر خضوعه للأجنبي والغريب على خضوعه لأردني آخر . وقد ساهم الأمويون رغم محبتم للأردن واهلها , أقول ساهموا بذلك إذا اقتصر الأمر على أن يبقى الأردنيون موضع الثقة وعنصر الحماية والادارة والقتال والفتوحات , ولكن ليس عنصر السيادة او الاستقلال أو الولاية . وأما العباسيون فقد اهملوا الارردن ودمروه , ولم يطوّروا مفهوم حكم الأردنيين للأردن , بل مفهوم حكم المماليك للأردن والأردنيين , فدفع اهل البلاد ثمن ذلك ,مثلما دفعه السلاطين أنفسهم إذ أنه في غياب الحاكم الأردني صار الملك أو السلطان المملوك في الكرك في مواجهة الثوار أو الشرعية الموازية لسقوط الطبقة العازلة التي يجب ان تتوفر بين الحاكم والمحكوم , واقتصر دورنا ( كاردنيين ) على مؤازرة الحاكم الغريب وحمايته او التخلي عنه . كما أن الأردنيين لم يطوروا مفهوما للحكم العام للبلاد , وانما بقي مفهوما عشائريا بحتا وليس سياسيا , ومحدووداً وليس واسعاّ او شاملا , وهما شخصيّا وليس هماً عاماً .
وبناء عليه فقد , دفعنا ثمن عدم تأهيلنا للحكم بانفسنا او على ايدي الدول التي حكمت الأردن من الأمويين الى نهاية المماليك , اقول دفعنا نحن ثمن ذلك , ودفعنا أيضاً ثمن عدم قيامنا بتطوير مفهوم وطني عام يصعد فيه أمير من أمراء القبائل الاردنية ويوحد الجميع , كما حدث عند التتار وبني عثمان , والاسكندر المقدوني والامبراطور الفارسي , وفي جزيرة العرب فيما بعد , فهؤلاء بدأوا أمراء مجموعات صغيرة ومناطق محدودة فوحدوا من حولهم وحوّلوا المشيخات إلى ممالك والشيخ إلى حاكم حقيقي , والمقاتل إلى جندي محترف وانشاوا سلطات مركزية وجيوش وتوسعوا في الاحتلال والحروب .
يجب أن نعترف ان الحسد بين الشيوخ الاردنيين , والجشع والخوف هو المثلث الذي حال دون ذلك أو ساهم في هذه الحيلولة . فكل شيخ يحسد الآخر ويتآمر عليه الا يتجاوز ولو خطوة واحدة الى الافضل , لأنهم لايؤمنون بمفهوم : هناك احد احسن من احد وانما بمفهوم : ( ماحدا احسن من حدا ) no one is better than the other< , وأما الجشع فكل شخص يريد المال وأن يبقى بالمشيخة ويكون بعدها الطوفان . أما الخوف فهو خوف الشيخ على نفسه أن يزول وخوفة من الناس أن تقتله . لذا بقي رهين التمنّيات والمشاريع التي تحدث عادة معه , وتُواري الثرى معه لتكون رميما ورفاتا مثله .
بقيت الأردن بعد الغساسنة والأنباط من قبلهم ساحة مفتوحة للجيوش والدول , وتحوّل أهلها إلى رعايا للدول التي تحكمهم , ولم يؤهل أحداً منهم نفسه لتشكيل نظام حكم تتجمع عليه الناس , فإذا البلاد متفرقة من حيث الجغرافيا إلى ديرة هنا , وديرة هناك , ومن حيث السكان الى عشيرة هنا وعشيرة هناك , وعلى رأس كل عشيرة شيخ , ولم يستطع واحد من هؤلاء الشيوخ أن يتطلع لتوحيد الأردن أو توحيد أهلها تحت قيادته او ان ينصاع لاخر اكثر منه اهلية وقدرة وشجاعة , وانما مشغولا بالصراعات داخل العشيرة الواحدة , والعشائر المجاورة همّه الحفاظ على نفسه , وليس تطوير موقعه وتوسيع رقعة حكمه مثلما حدث مثلاً في نجد , أو في العراق أو في سوريا , حيث طوروا انفسهم الى سلطات مركزية وانشاوا دولا وجيوشا ووحدوا القبائل بالسلم او القتال وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة
لقد جاء الأيوبيون , واعتنوا بانفسهم كعائلة ونظروا الى العرب بفوقية حمقاء , وأفرغوا الشام ومصر من أية عائلات يمكن أن تتطور مشايخها الى نظام حكم في أي من هذه البلدان , وهياوا مماليكهم للحكم وقاوموا أية تطلعات عربية محلية او قومية في أي قطر من بلاد مصر والهلال الخصيب : وجاء المماليك وكان الصراع بينهم كالأيوبيين , كما اتخذ المماليك الكرك معقلاً لهم , ولكن أياً منهم لم يُفكر لحظة في بناء نظام سياسي مستقل في البلاد اردنية حتى من ذريته وكان بامكانهم توسيع رقعة الاردن كيفما يشاءون . وعندما احتل الصليبيون البلاد صارت الاردن بالنسبة لهم ملاذا آمنا , وقلعة حصينة , واهلها لاواجب لهم سوى حمابة هؤلاء السلاطين الوافدين الذين ما ان تلوح في الأفق بارقة ذهاب التوتر السلطاني في دمشق أو مصر حتى يغادر اليها سرا تاركا الكرك والاردن واهلها للعاديات .
واصبحت مهمتها ( الاردن ) هي الحراسة ودفع الضرائب والتصفيق لهؤلاء السلاطين الغرباء وحمايتهم وحماية أموالهم وعيالهم , واذا تجاوز أي أردني حدوده هذه لقي حتفه بالسيف وليس غير السيف من مصير .
وعندما اندثر السلاطين تحول الأردن الى ساحة للفراغ السياسي والإجتماعي كما قلنا , والى بلاد خالية من الأمن والطمأنينة , فصارت عامل طرد سكاني ,وزادت الكوارث الطبيعية التي تأتي عادة مع غياب الأمن والضمير والدين والتقوى , وتشتت الكثير من سكان الأردن نحو الأقطار المجاورة والتحقوا بعشائر أخرى طلبا للحياة والحماية , وانتظاراً لهدوء الأمور في الاردن للعودة الى أرض الآباء والأجداد والالتحاق ثانية بعشائرهم الاصلية . لقد صارت الاردن واهلها بدون سلطة مركزية كالانسان بلا راس وبالتالي بلا حياة تتناهشه الوحوش والوحشية , وصار هم الشيخ او الفارس هو كم يمكن ان يكسب من غزو او نهب من هنا او هناك , وكم يسمع من الثناء والمدح وزغريت النشميات وقصائد السامر . وهذا واضح بقول الشاعر الصخري
اللي يريد المديح يوم البنات ينشدن
يسوي سوايا طه ولا طراد بنزبن
فالمديح صار بديلا عن البحث او التفكير في السطة الوطنية العامة او المركزية . وكان هم اي منهم هو : كم تكون له سمعة طيبة بين الناس من الكرم او الشجاعة , وكم هي سمعة وصيت المرأة الفتاة الفلانية ونصيبها من الجمال والاخلاق , من خلال ماتنقله العبدات (مؤنث العبد ) او الصانعات ( مؤنث الصانع ) تالى الاخرين لدرجة ان العشق كان يوقم من اي طرف تجاه الاخر على السمعة والصيت . صار الجميع يهتمون باخبار الكرماء والشجعان واالفرسان والاثرياء ومن يعطي الفقراء والمتكسبين . ومن الامثلة علىذلك ان عبدالقادر الختالين شيخ مشايخ عباد في حينه سمي عبدالقادر العريان لانه كان سخيا رغم ضيق ذات اليد , وانه وهب ابنه وابنته وهما طفلان للشاعر النجدي الذي جاء يمدحه لكننا لانجد القصيدة متوفرة بين ايدينا , ثم جرى فك الاولاد اعداء عبدالقادر العريان الختالين من قبل اعداء العبابيد ودفعوا مالا للشاعر واعادوا الاولاد الى امهم وابيهم رغم مابين الدافع والعبابيد من عداوة
امام هذا الفراغ , وكما قلنا سابقا بأن الطبيعة والسياسة لا تقبل أي منهما الفراغ , وفي هذه الكارثية للعالم العربي , كان بنو عثمان يبنون أنفسهم وسلطانهم , فشكلوا دولة في آسيا الصغرى ( تركيا الحالية ) وما حولها , وصار من الطبيعي أن يتحركوا لملئ الفراغ في الأقطار المجاورة . سوريا والاردن وفلسطين ومصر والعراق . وقد تشوّفوا للأمور التالية:
1-أن الخلافة العربية الاسلامية ضعيفة , بل شبه متلاشية , وما هي إلا طيف او شبح لا قيمة له , وكان مركز الخليفة في القاهرة بعد ان جيء به من بغداد بعد اجتياح التتار لها وحرقها . ورغم ضعفه فإنه كان يمثل الشرعية الدينية والسياسية للوحدة الاسلامية , ذلك أن الثقافة السائدة آنذاك عند العرب والمسلمين أنه لا يجوز العيش بدون وجود خليفة يوحّد كلمة المسلمين .
اذن كان العثمانيون يتطلعون لأخذ الخلافة , وخلع بردتها عليهم , إلا ان ذلك من الناحية الشرعية كان مثارا للجدل , ذلك أن الأئمة من قريش وكان الخليفة من نسل العباسيين أبناء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عرب من قريش من ال هاشم , واصحاب الحق الشرعي في هذا المنصب في غياب ال الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعا . وبالتالي لا يجوز أن يتحول هذا المنصب الى الاعاجم أو الأتراك , أو قل لغير العرب ولغير قريش في العرب فالائمة من قريش .
إلا أن منطق القوة قادر على الوصول الى كرسي الخلافة , ومن يرفض ذلك من العلماء فالسيف جاهز له . كما أنه لم تكن توجد زعامات سياسية أو دينية عربية آنذاك يمكن أن تستقطب الناس أو تدعي الخلافة على انها أولى بها من الأتراك . فقد أتى الأيوبيون والممالبك وقبلهم الأعاجم المسيطرون على الخليفة والخلافة . أقول أتوا على الزعامات العربية , وأنهوها فخارت قوى من بقي حيّاً . من هنا كان الجو خاليا من الزعامات العربية , وكان السلطان العثماني التركي هو أقوى سلاطين المسلمين , وان قوتهم هي القوة الاسلامية الوحيدة دينيا وقوميا ووطنيا .
كان السلطان يسعى للسيطرة على الحرمين الشريفين , لأن ذلك يمنحه شرعية روحية دينية وتاريخية هامة , وهذا لا يكون بدون السيطرة على الخليفة والخلافة , لأنه لا يجوز ظهور امامين في آن واحد ولا أميرين في آن واحد , وفي هذه الحالة فأن القتل يجب أن يكون من نصيب من أعلن العصيان على االشرعية المتفق عليها بموجب البيعة . اذن لا بد من احتلال مصر للقبض على الخليفة ومصادرة الخلافة .
2-أراد السلطان العثماني أن تكون دولته متصلة ما بين العاصمة السياسية وهي الاستانة , وبين العاصمة الدينية المقدسة للمسلمين وفيها قبلتهم وهي مكة المكرمة , وبالتالي فإنه لابد من احتلال سوريا والأردن والحجاز , لتكون الطريق والارض والجغرافيا في خدمة الدولة والسلطان ومتصلة كلها بعضها ببعض ضمن ممتلكات السلطان الواحدة للسلطان الواحد للدولة الواحدة , للتاج السلطاني الواحد , للعلم السلطاني الواحد .
3-لم يكن لدى العرب قيادة عربية حقيقية قادرة على الوقوف في وجه العثمانيين , ولا المماليك والأيوبيين من قبل . كما أن سلطان العرب في الأندلس قد انتهى عام 1492 أي قبل احتلال سوريا بربع قرن (1517م) , وتشتت عرب الاندلس وهم يخضعون لحملات التنصير القسري والاغتصاب والقتل والتشريد والمهانة التي لم يذكر التاريخ لها مثيلاً من قبل ومن بعد . اذن فالعنصر العربي في اسوأ حالاته من الوهن واليأس والاجتثاث والقتل والابادة الممنهجة , وقد نضبت خزائن البلاد والناس من ظهور أية قيادة عربية حقيقية يمكن لها أن توحّد الناس , وراح الاندلسيون وهم ملوك طوائف يبحثون رغم تناحرهم وتنافرهم عن اموي ولو كان طفلا ليقودهم في حربهم ويعيد اليهم دولتهم , فلم يجدوا امويا لا في الانلس ولا في افريقيا ولا في اسيا . لقد تمت ابادة بني امية ابادة كاملة من كل مكان وفي كل مكان , فهم اقدر العرب على التجارة والحكم بلا منازع , وعض العرب ايدي الندامة على ابادة بني امية , بل ودفعوا ثمن مااقترفت ايدي العباسيين والمنصور بن عامر الذي اباد ماكان من الامويين في الاندلس .
4- اما المماليك ومن قبلهم الايوبيون الذين تزعموا الدولة العريبة في القاهرة ودمشق إنما استعربوا لتحقيق مصالحهم , وأبقوا العنصر العربي بعيداً عن مواقع القرار , وبقي العرب ( كشعب ) في طبقة دنيا , والمماليك ( كحكام أعاجم ) في الطبقة العليا . ورأوا أنفسهم فوق العنصر العربي وحكموا العرب باسم العرب والعروبة وايضا باسم الاسلام , ولا علاقة لهم بذلك . وكان العرب يفضلون أي احتلال مهما كان عثمانياً أم صليبياً , المهم أن يوفر لهم الحرية والحماية من الفوضى , أو التقاط الأنفاس أو تركهم وشأنهم في عروبتهم . من هنا سقطت دولة المماليك في أول معركة لهم مع السلطان العثماني سليم الأول عام 1516م في مرج دابق قرب حلب , وقضى على سلطانهم العجوز وهو قانصوة الغوري وتلاشت هذه الدولة التي كانت قائمة بسبب عجز الناس وضعفهم , وعدم ارتقائهم الى مواقع المسؤولية , وليس بسبب قوة المماليك وقوتهم . لقد كانت سلطة المماليك الجراكسة ( البرجية ) اوهن من بيت العنكبوت .
وما ان اندحر المماليك في مرج دابق شمال سوريا حتى سقطت سوريا والأردن ومصر بأيدي السلطان العثماني الرهيب الذي وصل الرضوانية بجوار القاهرة عام 1517م حيث سحق خط الدفاع الملوكي الثاني الذي كان قائما لحماية القاهرة , والذي راح سحقا تحت سنابل العثمانيين فاحتل السلطان سليم مصر وضمها الى ولاياته التابعة للأستانة , وقبض على الخليفة وتركه يعيش في كنفه ( في كنف السلطان ) وتحت حراسة رجاله وحمايتهم خشية أن يهرب ( الخليفة ) ويعلن عدم شرعية حكم الأعاجم للبلاد العربية ولمنصب الخلافة , مما قد قد يؤدي إلى ثورة عارمة ضد قوات سليم الأول التي لا زالت لم توطّد أقدامها في الديار العربية توطيدا يؤهلها للاستقرار والاستمرار والاعمار , ولا زالت الثورات مشتعلة ضدها في مصر والاردن والشام , لكنها ثورات متفرقة تعوزها الوحدة وتنقصها القوة .
. ومهما يكن من أمر، فقد دارت موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، حيث لقي السلطان المملوكي العجوز قانصوه الغوري مصرعه , فانهّزم المماليك , وزال حكمهم نهائياً عن الشام، وشرع المؤرخون يرصدون العوامل والأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة المحزنة ، فعزا كل من المؤرخ ابن إياس , والمؤرخ ابن زنبل المعاصرين لتلك الفترة، الهزيمة إلى عنصر الخيانة الذي كان متواجداً داخل البيت المملوكي، وصبّا جام غضبهما على جان بردي الغزالي الذي كان واليا على الشام للماليك ,وخاير بك الذي كان من قيادات المماليك العسكرية المهزومة , على أساس أنهما كانا أكثر المتواطئين لحساب السلطان العثماني سليم الأول. وقد سار بقية المؤرخين بعد ابن إياس وابن زنبل بنقل تلك الروايات بعضهم عن بعض من دون إعمال جهدهم في التثبت من صحة أصل الرواية، حتى غدت تلك الروايات التي اقتبسوها وكانها حقيقة واقعة دون إدراك أن أصلها واحد .
وبعد ن انهى السلطان سليم فتح الشام, والإنتصار الذي حققه قائده التركي سنان باشا على جانبردي الغزالي في خان يونس بدأ التقدم باتجاه مصر, وقبل التوجه الى مصر أرسل السلطان سليم رسولا إلى الزعيم الجديد للمماليك السلطان طومان باي ( بعد قانصوه الغوري ) يطلب منه الخضوع له والطاعة للدولة العثمانية وذكر إسمه بالخطبة على المنابر لاهمية ذلك لانه يعني اضفاء الشرعية على السلطان سليم , وعرض عليه أن تكون مصر له بدءا من غزة , ويكون هو واليا عليها من قبل السلطان العثماني , على أن يرسل له خراج مصر السنوي , وحذره من الوقوع فيما وقع فيه سلفه قانصوه الغوري من حماقة العصيان والتمرد . لكن طومان باي رفض العرض وقتل الرسل الذين بعث بهم سليم الاول بتأثير من أتباعه المماليك الجراكسة , مما يعني اعلان الحرب على العثمانيين . وهنا جمع طومان باي 40 ألف جندي نصفهم من أهالي مصر والنصف الآخر من العسكر المماليك , وفي قول آخر كان عدد جيشه 30 ألف مقاتل ليس فيهم اردني وهذا من اسباب هزيمته , ذلك ان الاردنيين لايهربون من المعارك بعكس غيرهم ,. وقد استقدم 200 مدفع مع مدفعيين من الفرنجة ووضعها في الريدانية والهدف منها هو مباغتة العثمانيين عند مرورهم والإنقضاض عليهم وحفرت الخنادق وأقيمت الدشم لمئة مدفع وكذلك الحواجز المضادة للخيول على غرار ما فعله سليم الأول في معركة مرج دابق ولكن استخبارات العثمانيين تمكنت من اكتشاف خطة الجيش المصري كما فصل ذلك د. فاضل بيات: تمكن والي حلب المملوكي خاير بك الجركسي والذي دخل بخدمة العثمانيين من تأمين خيانة صديقه القديم المملوك جانبردي الجرسكي والذي كان على خلاف مع السلطان طومان باي ( وكلهم من الجركس ايضا ) وهو ( خاير بيك ) الذي أشار على السلطان سليم بالإلتفاف على جيش المماليك. وقد علم طومان باي بالخيانة بعد فوات الأوان وتردد بمعاقبة خاير بيك خوفا من أن يدب الخلل في صفوف الجند المماليك .
قام السلطان العثماني بعملية تمويهية بعيد اكتشافه للخطة المصرية, بأن أظهر نفسه سائرا نحو العادلية ولكنه التف وبسرعة حول جبل المقطم ورمى بكل ثقله على المماليك بالريدانية وكانت تلك حيلة جانبردي الغزالي الذي أبلغ خاير بك ذلك, فوقعت المواجهة بتاريخ 29 ذي الحجة 922 الموافق22 يناير 1517 .
ومهما يكن من أمر، فقد التحم العثمانيون بالجيش المملوكي في معركة فاصلة وحامية الوطيس في صحراء الريدانية على أطراف القاهرة في 22 كانون الثاني (يناير) 1517م، انتهت بهزيمة المماليك ودخول العثمانيين للقاهرة، وخُطب للسلطان سليم على منابرها ، وفرّ?Z طومان باي إلى خارج القاهرة بعد ان تجرع الهزيمة وعرف انها جاءت من بني قومه المماليك الجراكسة .
لم يكن دخول العثمانيين القاهرة يعني نهاية الحرب، وأن الأمور سُويت لصالحهم، فقد استمرت المعارك في الشوارع لعدة أيام، مما اضطر السلطان سليم لمنح العفو للمماليك سواء كانوا في القاهرة أم خارجها , ومنهم بطبيعة الحال جان بردي الغزالي الذي أكرمه سليم بحُسن الاستقبال، لما أبداه من البسالة في مقاتلة العثمانيين في الريدانية ظاهريا , وربما لما ابلاه من بلاء حسن في خيانة سلطانه من اجل ان يستمر في الولاية تحت علم السلطان الجديد .
وفي رسالة الفتوح التي أرسلها السلطان سليم لابنه سليمان ( القانوني ) تأكيد لنفس المعنى، إذ يقول سليم: "… تحققنا في هذه الأثناء من مصطفى باشا أمير الرملي (الرومللي) السابق ومن الجراكسة، أن جان بردي الغزالي جاء في ذلك الوقت، وأدى فروض الطاعة وأظهر العبودية والخضوع بإخلاص).
ويبدو أن سليم الاول أراد بمنحه العفو عن مقاتلي المماليك بصفة عامة وجان بردي الغزالي بصفة خاصة، ان يشق صف القوات المصرية وتكاتف المماليك , ولكي يتفرغ للقضاء على آخر مقاومة للسلطان طومان باي الجركسي خارج القاهرة الذي تسلح بالقبائل العربية البدوية واستجار بها فاجارته وانضمت تحت لوائه ، وندلل على ذلك بما أورده ابن زنبل من قوله:"وأما ما كان من السلطان سليم فإنه ضاق صدره وندم على دخوله مصر، وخشي أن يطول عليه المطال ويدخل عليه الشتاء وينقطع عنه خبر بلاده من أمر النصارى (أي القوى المسيحية في أوروبا)لئلا (لكي لا) يدبروا أمراً في غيبته على أخذ القسطنطينية، فاشتغل فكره ) .

زاد إحساس السلطان سليم بتورطه في المستنقع المصري، وبخاصة بعدما خرجت الكثير من المناطق المصرية عن طاعة العثمانيين، خاصة القبائل البدوية التي تعاطفت مع طومان باي، وهنا قرر سليم الاول إرسال حملة عسكرية إلى منطقة أطفيح وغيرها في دلتا مصر للقضاء على تمردها. وعيّن عليها جان بردي الغزالي الجركسي لمعرفته بأحوال تلك المنطقة، ولخبرته السابقة في محاربة العربان. وتمكن الغزالي بالفعل من إلحاق هزيمة قاسية بتلك القبائل العربية البدوية التي ترفض الاحتلال العثماني لبلادها ، وشتت شملهم، وأمر بنهب بيوتهم واموالهم ومواشيهم . ليس هذا فحسب بل ان جانبرد الغزالي الجركسي الذي خان بني قومه قد تمادى في ايذاء البدو العرب بما يخالف الشرف العربي والكرامة الانسانية والشريعة الاسلامية , حيث انه أسر نساءهم وأولادهم، وأرسلهم إلى السلطان سليم الذي أمر ببيعهم بالقاهرة بأبخس الأثمان . فقد التقى الحقد التركي الذي يجسده سليم الال مع الخيانة التي يجسدها جانبرد الغزالي وكررهم للعنصر العربي الى هذه الدرجة , فاعادوا الجاهلية الاولى التي كان يباع فيها النساء والاطفال سبايا بعد كل غزوة انتصار لطرف على الطرف الاخر . كلاهما غريب ولا يهمه الا السلطة باي ثمن ولكن على حساب العنصر العربي .
استقر سليم الأول في القاهرة لترتيب الامورقبل ان يغادر لأنها كانت أهم عاصمة عربية وزادت اهميتها من وجود الخليفة فيها , وصار السلطان يرتب الامور باتجاه السعي للوصول الى الخلافة وتوطيد اقدامه والاتراك في القاهرة , لان توطيد حكمه فيها يعني ضمان تبعية البلاد المصرية والشامية على حدّ سواء للتاج السلطاني العثماني .
وفي هذه الأثناء ارسل الشريف بركات شريف مكة ولده الشريف محمد ابي نمي الثاني وكان طفلا في التاسعة من عمره على رأس وفد من رجالات الحجاز , وقاضي قضاة الديار المقدسة الى القاهرة حيث التقوا السلطان سليم الأول بالقاهرة وسلمه الشريف نمي مفاتيح الحرمين الشريفين , مما وفر على السلطان العثماني شنّ حرب لإحتلال الحجاز , وبذلك فان الشريف بركات قد اعطى سليم الاول الشرعية الروحية التي كان يفتقدها ويطمح اليها الا وهي : خادم الحرمين الشريفين , وبذلك أصدر السلطان التركي قراره بتثبيت الشريف بركات على مكة المكرمة والمدينة المنورة وكامل الحجاز ردا للجميل , وأن يكون الشريف نمي الثاني وليا لعهده, حيث اعجب به السلطان لذكائه وفصاحته ودهائه رغم صغر سنه .
وكان الشريف نمي قد قابل السلطان قانصوه الغوري قبل سنتين وعمره سبع سنوات وحصل منه على الفرمان نفسه ايضا . والشريف نمي حكم الحجاز بين ولي للعهد وشريف لمكة المكرمة حوالي ثمانين سنة منذ بلغ سبع سنوات الى ان مات عن عمر ناهز السابعة والثمانين , ويعتبر من اجل الاشراف واعظمهم واكثرهم قربا من والده الشريف بركات رغم انه لم يكن الابن البكر, وليس هذا مجال الحديث عن الشريف نمي مع كثرة مالدينا عنه من اخبار . وكان يلقب بابن البدوية لان امه شريفة من اشراف بدو المدينة المنورة .والحديث عن الشريف نمي يطول كثيرا لما كان عليه من التقوى وتوحيد الاشراف واحتواء الصراعات بينهم والدهاء والذكاء وتجنب الاصطدام بالدولة والسلطات المملوكية والعثمانية رغم صغر سنه من قبل وكان حكيما وشاعرا .
وبذلك فإن الشريف بركات الحسني ( والد الشريف محمد ابي نمي الثاني ) قد سهّل على السلطان سليم الاول عملية توحيد الديار الإسلامية ومنحه اسمى شرعية روحية لغير ال البيت , كانت بالنسبة لللسلطان حلماً بعيد المنال , او دونه جز الرقاب وارتكاب الحرمات . وقد قوّى هذا الاجراء من معنويات وطموحات السلطان سليم في ان يتولى الخلافة بدلاً من الخليفة الضعيف . وصارت لديه حجة قوية أن الدولة الاسلامية يجب ان تكون قوية وموحدة , وكذلك الخلافة , وانه بضعف الخليفة ضاعت الاندلس وضاعت الديار الاسلامية وتمزًقت , وانه لا بد من توحيدها ثانية , وبالتالي ان يمتد الاحتلال العثماني الى سائر البلاد العربية في شمال افريقيا , وان الحجاز صارت من ممتلكاته دونما اطلاق رصاصة واحدة .
وبمعنى آخر صار السلطان العثماني ودولته بديلا للدولة العربية زمن الأمويين والعباسين في ديار العرب وبلاد آسيا الصغرى وما بقي إلا اعلان الخلافة في الوقت المناسب , وهو أمر يجب الا يتم إلا بعد استكمال الاحتلال لبقية الأقطار العربية , وحتى يتعوّد الناس على وجود دولة جديدة اعجمية غير عربية وسقوط الدولة السابقة ( دولة المماليك ) وتلاشي الخلافة العربية التي كانت موجودة اسميا وليس حقيقة, وانه ليس شرطا ان يكون الخليفة من ال هاشم او من قريش .
ومهما يكن من أمر، فإن جانبرد الغزالي في بداية عهده طبق السياسة العثمانية القمعية الحاقدة على العرب بحذافيرها، وظل على ولائه التام للسلطان سليم، وسرعان ما قضى على تمرد قبلي في البقاع اللبناني قاده كل من الشيخين : ناصر الدين بن الحنش وحليفه ابن الحرفوش – الذي لم تذكر له المصادر التاريخية اسماً- قرب بعلبك في 26 ربيع الأول 924هـ /7 نيسان (إبريل) 1518م، وقطع رأسيهما ، وأرسل بهما إلى السلطان سليم في حلب الذي عجز من قبل من قتلهما . وهذا ما دعا المؤرخ ابن إياس للقول: "ولولا تحيّل الغزالي على ابن الحنش وقتله بحيلة صعدت من يده لما قدر على قتل ابن الحنش أبداً، وقد عجزت عن ذلك سلاطين مصر والأمراء " .
وبطش جانبرد الغزالي الجركسي أيضاً ببعض الأمراء العرب المحليين في نابلس وغيرها منهم قراجا بن طراباي الحارثي، وأخضعهم للسلطة العثمانية ). وشن عدة حملات ضد القبائل البدوية الاردنية وهي : بني عوف ومنهم الغزاوية والفريحات والرشدان , وعلى الجذاميين ومنهم بني صخر وعباد وبني حميدة , والمهداوية والعجارمة , وعلى الزيادنة اهالي جرش وقراها , وعلى سائر القبائل الاردنية الاخرى مثل :
الحوامدة وهم عشيرة كانت في سوف وقد استقرت بها بعد ان شاركت في حطين وعين جالوت قادمة من الطفيلة وهم ادوميون واقارب للسعوديين والنعيمات في محافظة الطفيلة ومعان , وعلى بني حسن وبني حماد والزعبية والصمادية والمومنية وبني عبيد وعشائر خرزة اربد وبني كنانة . لقد كانت حملات بقصد اخضاع العشائر الاردنية للاحتلال الجديد : المهم انه شن حملة ضد العشائر الاردنية في حوران وعجلون ( من الجولان الى تبوك ) حيث كانت هذه الحملات الاعجمية الحاقدة على ابناء واحفاد ابطال حطين وعين جالوت ودحر التتار , اقول كانت بحجة انهم دأبوا دوماً على التعرض لقافلة الحج الشامي عند طريق غزة .
قاد جانبرد الغزالي الجركسي جيشا من الانكشاريين والمرتزقة من العناصر غير العربية وهم مجمعون على محاولةاذلال العنصر العربي والاباء العربي الذي تمثله العشائر الاردنية . وباستخدامه للمدافع الحديثة في حينه وللخطط العسكرية المنظمة , استطاع ان ينتصر على هؤلاء العربان الذين كانت شجاعتهم وشهامتهم ينقصها السلاح امام جيش مسلح تنقصه الشجاعة والشهامة وانتصر عليهم وقتل الكثير منهم، وغنم أموالهم، وأعاد ما كانوا قد سلبوه من قافلة الحج . وبذلك امتدت ولاية الغزالي من معرّة النعمان إلى العريش بمصر . لقد كانت ثورة اردنية حقيقية ضد الاستعمار التركي , مما ولد الحقد التاركي التاريخي على الاردن والاردنيين ودفعنا مرة اخرى الى اربعمائة سنة من الجهل والمرض والفقر على ايدي هؤلاء المحتلين الغرباء واعوانهم واذنابهم .
ومن جهة اخرى صار السلطان أيضاّ يسابق التتار الذين دخلوا في الإسلام وتوسعوا في بلاد الهند واحتلوها وأقاموا فيها دولة اسلامية , وفرضوا الحرف العربي في كتاباتهم . ولكن صورة التتار عند العرب كانت في منتهى السوء والسواد , لأنهم أحرقوا بغداد وقتلوا ونهبوا وسلبوا وقتلوا ودمروا من قبل ومن بعد , ولم يمنعهم اعتناقهم للاسلام من الاستمرار في ممارسة أعمالهم الوثنية والوحشية باستباحة الأرواح والأعراض والأموال والأرض وكل شيء . فهم اذن عنصر غير مقبول لدى العرب اطلاقاً . أما العنصر التركي فهو أقل سوءاً عند العرب من التتار وتعود عليهم العرب زمن المماليك الاتراك حيث ان قطز وقلاوون وبيبرس واولادهم واحفادهم كانوا من المماليك الاتراك اصلا , والناس ياملون ان يكون هؤلاء الاتراك الجدد امتداد لمن سبقهم من المماليك .ولو كان املا وهميا
وبقي على السلطان ان يتجنب الصورة الملطخة السوداء للعنصر التركي في ذهنية الانسان العربي , وبطريقة ذات ملمس ناعم , انطوت على اجراءات ظاهرها ان الاتراك الجدد قريبون من العرب وانهم مسلمون وان سلطانهم اسمى نفسه خادم الحرمين الشريفين , وان جدهم الاعلى هو عثمان وهو اسم عربي , وبذلك اقترب السلطان سليم من الخلافة بهدوء واستخدم الحرف العربي في كتابة اللغة التركية مضاربا بذلك على التتار ومتقربا من العرب وساعيا الى الخلافة , واستخدم العربية في سائر الاقطار التي صارت تحت حكمه وخلافته وصار لقبه : خادم الحرمين الشريفين , وصارت اللغة العربية لغة رسمية للدولة الى جانب اللغة التركية . .
عاد السلطان سليم الأول الى الاستانة , وبرفقته الخليفة العباسي , وما ان وصلوا هناك حتى زج بالخليفة في سجن القسطنطينية , وظل مسجوناً الى أن ارتقى ولده سليمان القانوني عرش السلطنة وأطلق سراحه بعد أن تنازل الخليفة رسميّا عن الخلافة وعاد الى مصر ومات فيها . وبذلك رست الخلافة الى بني عثمان باعتبارهم الدولة الاسلامية الوحيدة التي تحكم العالم العربي والحرمين الشريفين , وصار واحدهم يحمل لقب السلطان الخليفة الذي يمسك بزمام الأمور الدنيوية من السياسة والجيش , والدينية من الخلافة والمراسيم الدينية وخدمةالحرمين الشريفين . وهكذا انتقلت الخلافة لأول مرة في تاريخها من العرب الى العجم , ومن الأرض العربية ( المدينة المنورة , دمشق , بغداد , القاهرة ) الى الأرض التركية في الاستانة , وبدلا من تكون في قلب الأمة العربية السابقة , صارت في طرف البلاد الاسلامية في تركيا , وبذلك صارت بعيدة المنال عن كل طامع من العرب ومن المستعربين , لأنها محمية بجيش هو من أقوى جيوش العالم في حينه , وبدولة تسيطرعلى نصف اوروبا وغرب اسيا وسائر الاقطار العربية .
ولولا ثورة العشائر الاردنية ضد الاحتلال التركي فان الأردن لم تكن في العير ولا في النفير في حسابات السلطان سليم الأول , لان مخططه كان يهدف الى سورية ومصر وكانه يعتبر الاردن غير موجود على الخارطة , الا ان الثورة الاردنية لفتت انتباهه فوجد مطية يقوم بالقمع والقتل والسحق الا وهو جانبرد الغزالي الجركسي . وبالقضاء على الثورة الاردنية استقرت امور الشام ومصر ودانت للاتراك وسلطانهم . وصارت دولة الأتراك تحكم بلاد الشام ومصر مثلما كانت تفعل دولة بيزنطة , وكلاهما عاصمتهما الاستانة التي كانت تسمى القسطنطينة زمن الرومان . مع الفارق في أن بيزنطة المسيحية دعمت وجود سلطة سياسية بالأردن وهم الضجاعمة ثم التنوخيين ( وكلاهما من قضاعة ) / ثم الغساسنة – وكانت الأردن امارة شبه مستقلة او حكما ذاتيا على الأقل في الجاهلية , أما زمن الأتراك , فقد بقيت مهملة – وتكررت مأساة الأردن في الاهمال والظلم الذي فرضه بنو العباس , والمماليك البحرية فيما بعد .
كان الاردنيون يتقاضون أموالاً من اثينا الوثنية ومن بيزنطة المسيحية , ولكنهم الان مُجبرون على دفع الضرائب والخاوة tribute للدولة العثمانية المسلمة – مفارقة عجيبة حقاً . ولم تبرز أهمية الأردن بالنسبة للأتراك إلا أنها مسلك لطريق الحج , واما ما بقي من ذلك فإن احتلالهم لفلسطين جعلها حلقة الوصل بين سوريا وآسيا الصغرى من جهة ومصر وشمال أفريفيا والبحر الاحمر من جهة اخرى , وذلك على حساب الأردن , كما أن العثمانيين لم يعيروا التجارة والطرق التجارية أهمية , وذلك يعني خروج الأردن من المعادلة خروجا تاما .
وصارت شرقي الأردن تتبع لدمشق وصار حكم العثمانيين لشرقي الأردن اسميا ، فلم تهتم الدولة إلا بقافلة الحج الشامي فيما بعد . وقد حاول زعيم منطقة لواء عجلون الذي شكل عام 1517م الأمير البدوي محمد سعيد الغزاوي من بني عوف من قضاعة , حاول مقاومة السيطرة العثمانية على البلاد وتمرد عليها ، وقد تمكنت الدولة من إحباط تمرد بني عوف برئاسة الغزاوي, إلا أنها أبقت على حكم عائلة الغزاوي في منطقة عجلون واعطته تصنيف سنجق (السنجق أو الصنجق: لفظ تركي استعمل بمعنى الع?Zل?Zم، أو الراية، وبمعنى الرمح، أو اللواء. والسنجق وحدة إدارية ضمن الولاية، عُرف حاكمه بلقب سنجق بك بالتركية وأمير لواء بالعربية، وعُرفت المنطقة التي يحكمها بالسنجق أو اللواء. وكان السنجق يُقّسم إلى عددٍ من النواحي، ويُسمى السنجق أو اللواء عادة باسم عاصمته وهي أكبر مدنه مثل سنجق القدس وغزّة…الخ.) , واتبعته مباشرة لاستانبول منذ عام 1591م .
جاء اسم الغزاوي من العادة الاردنية البدوية القديمة وهي تملك ( الطق ) اي ان يطق الشخص حجرا او شجرا في الارض لتعني ملكيته له , او ان يغرس رمحا او سيفا لتعني الملكية ايضا . والغزاوية من بني عوف من قضاعة ومن اهل عجلون القدماء وقد غرز ( غرز ) جدهم رمحه في صخرة كدليل على تملكه له فقالوا غزاوي وتلفظ هكذا i
,وليس Ighzawi
مكان Ghazzawi
وهناك فرق شاسع بين المعنيين بين الانتساب للغز وهو التملك , وبين الانتساب الى غزة وهي اسم مكان . والغزاوية هم بطن ابن مساعد من بني قضاعة وكان اسمهم قبل غرس الرمح : ابن مساعد وذلك في القرن الرابع عشر وما قبله ( زمن المماليك ومن قبلهم الايوبيين والصليبيين ). وفي عام 1498 حاول حاكم دمشق المملوكي ان يسيطرعليهم فعحز عن ذلك لان بني عوف كانت قبيلة قوية ومنيعة وتساعدها طبيعة المنطقة والغابات على حرب العصابات في جبال عجلون ,. وعندما عجزت حكومة دمشق على اخضاع بني عوف بزعامة ابن مساعد ( جد الغزاوية ) عقدت صلحا واتفاقية مع شيخهم ناصرالدين محمد بن ابي سيف وذلك عام 1511 م , ثم صارت لهم امارة المنطقة التي تشمل الان شرق الاردن . ولا زالت مقابر اجدادهم في راس هرقلا بجبل عجلون وقد فصلنا ذلك في كتابنا : التاريخ السياسي للعشائر الاردنية بالانجليزية .
أما في القرن الثامن عشر فقد خضعت اربد وعجلون للإمارة الزيدانية في قرية "تبنة" من عام 1760- 1775م تحت حكم احمد ظاهر عمر الزيداني / الزيادنة / الازد ، ثم سيطر على البلاد احمد باشا الجزار حاكم عكا من 1776- 1804م ) .وهناك روايات ان ال التل ( عشيرة التلول ) هم من ابناء عشيرة الزيداني وان كان البعض يرى انهم من احفاد سادة العمونيين العرب الاردنيين . وقد شاركت عشيرة التل بمعركتي حطين وعين جالوت , ثم عادت الى قلعة عمان ثم الى تل اربد وبها استقروا وكانوا من عشائر خرزة اربد . والزيداني هم من الزيادنة من الازد الاردنيين القدماء الذين تفرقوا بسبب الاضطهاد العباسي , واستقر قسم منهم في قرى جرش واسموا انفسهم الزيادنة بعد مشاركتهم في حرب حطين وعين جالوت , وساهموا في تطهير بلاد الشام والعراق من التتار وفلسطين من الاحتلال الصليبي .
لقد كان اسلوب الأتراك ( العثمانيون ) في الحكم قائم على النقاط التالية :
أ: القمع والسوط والكرباج وسنابك الخيل , فهم لا يؤمنون بالحوار ولا يستمعون للشكوى أو الرأي الآخر , بل يتعاملون مع الانسان أنه آلة أو حيوان , عليه أن ينفّذ الأوامر وليس له من حق الاعتراض او التفكير او ابداء اية وجهة نظر أو نقاش لا قبل ولا بعد . وقد أدى هذا الى انعدام الفكر العربي بعامة , والى تلاشيه بالتمام والكمال من الأردن بخاصة . فلم يظهر أدباء أو كتاب , اللهم إلا من شعراء البدو مثل نمر بن عدوان الذي كان نقطة مضيئة وسط ظلام الحكم التركي وخنوع الشعب الاردني وتفرقه . والذي صار بجدارة أمير شعراء البادية العريبة , ولم ينتزع منه أحد هذا اللقب الى الآن .
ب : الأخذ وليس العطاء , فهم يجمعون المال والغلال والحلال , ولايعطون شيئاً , وبذلك كانوا دولة متسلطة متخلفة بكل ما تعني هذه الكلمات من معنى , وكانوا يأتون في المواسم ليأخذوا مايروق لهم مما في حوزة الاردني الغلبان , دون أن يقدموا له الأمن والحماية أو الرعاية . فعلى الاردني الواجب أن يعطي فقط , وللتركي الحق أن يأخذ فقط . أما كيف يتمكن الأردني من الاعطاء فهو أمر لا يهم الأتراك أبداً , وان اعترض فالسوط والاغلال والمشنقة جاهزة كلها .
ج : ساد مثلث الجهل والفقر والمرض , فنقص أعداد الناس , ونضبت بعض القرى والمضارب من اهلها , بين هارب الى اعماق الصحراء , أو الى فلسطين أو الشام او مصر بحثاً عن الامن والامان . فقد كان البدو يخرجون من الصحراء في المواسم وينهبون كل شيء , والدولة لا تحمي هؤلاء الفلاحين من بطش البدو , ثم تأتي السلطات التركية وتأخذ الباقي ، فلا يبقى للفلاح الأردني ما يقوت أوده ولا يطعم أولاده فانتشر الجوع والمرض والموت , وساد الجهل الذي كان شعاراً للدولة ووسيلة لها لحكم العرب .
د.الجفاء المطلق بين الحاكم والمحكوم , فالأتراك كانوا يحتقرون العرب والعروبة , وكانت ثقافتهم وعقلياتهم ( الأتراك ) منافية ومخالفة تماما للعقل العربي والثقافة العربية , وكانت القوات التركية تتألف من الجيش الانكشاري الذي لا يعرف واحدهم من هو أبوه , لأنهم من الأطفال الأوروبيين , وتتم تربيتهم لغايات القمع والقتل والاخلاص للسلطان فقط واطاعة الاوامر , فيخرجون للحياة حاقدون على الناس والوجود كله , وبخاصة على العرب , وكان في الجيش عناصر كردية وقوقازية وتركية وصربية والبانية ويونانية ورومانية ويونانية وغيرها الكثير , وجميعهم يكرهون العرب والعروبة , وكان محمد علي باشا مثالا لذلك كما وصفه الرحالة بيركهارت في كتابه : ملحوظات عن الوهابيين الذي اشرنا اليه سابقا وترجمناه الى العربية . فصار العربي تحت ضغط سياسي وأمني وأقتصادي واداري تنوء به الجبال والجمال والرجال .
ه.كانت أهمية الأردن بالنسبة للأتراك تأتي ضمن اطار واحد فقط , وهو طريق الحج , وماعدا ذلك فهي بالنسبة لهم بادية مقفرة لااهمية لها ولا لاهلها ولا لمواردها بل انها مقفرة الموارد بسبب انعدام الامن والادارة والاهتمام الرسمي . ثم وجد الاتراك لاحقا ان الاردن يمكن ان تشكل مورداً من موارد الدولة الاقتصادية فجعلوها ضمن ولاية دمشق , وصارت على أطراف الهامش , وصار أهلها يعيشون حياة بلا قانون سوى قانون العشائر , وصاروا يتجنبون الاحتكاك بالأتراك لأن العادة صارت مجرد أن يحضر الطابور التركي الى مضارب العربان , أو ملاقاة الرعاة أو ملاقاة الافراد أو الجماعات , فإن أول اجراء يقوم به هؤلاء الجنود هو الضرب والتعذيب للناس وربطهم الى أوتاد مرابط الخيل والحمير والابل وبيوت الشعر بدون اي سبب , ومواصلة الجلد ثم اجبار أهاليهم بمواصلة ذبح المواشي طعاماً لهؤلاء الجنود وعليق خيولهم سواء اكان النس يعلنون الطاعة او التمرد , فالنتيجةواحدة .
وبهذه الطريقة تربى الاردنيون على الحقد ضد الأتراك , فما من أردني إلا وأهين , ولاقى هو أو أبوه أو عمه أو ولده من الهوان والتعذيب ما لا يطيقه البشر . وصار الرعب هو سيّد الموقف , فما أن يرى الأردني جندياً تركياً حتى يلوذ بالفرار أو الاختباء , لأنه يعرف أن هذا الجندي لا يعرف الا التعذيب والجلد بالسياط دونما رحمة أو شفقة اوسبب.
وان القارئ لطريقة الأتراك في ادارة الدولة ليستغرب كيف استمروا لأربعة قرون في حكمهم لبلادنا وشعبنا , وان السبب الوحيد هو غياب المفكر الوطني والفكر الوطني وغياب القيادات السياسية الاردنية القادرة على توحيد الناس والثورة , او القادرة على تقديم الفكر الذي يجمع الناس , بعكس ماصار في نجد في الدعوة الوهابية مثلا . ولم يتحقق الفكر والزعامات الفكرية الا في مطلع القرن العشرين أي بعد أربعة قرون من الاحتلال بالتمام والكمال من 1516 – 1916م عندما ثار الاردنيون على الاحتلال التركي وذبحوا الجنود اثناء تراجع القوات التركية منهزمة من جبهات المعارك بالاردن والحجاز وفلسطين . كان انتقاما لتراكمات استمرت وتجمعت عبر اربعة قرون متتالية .
. وهنا لا بد من ذكر حقيقة هامة أن غياب الفكر والمفكرين القادرين على ايجاد فكر سياسي يجمع الناس ويحررهم من الاستعباد ويبين ان لهم قضية وهوية وهدف , اقول غياب ذلك أفاد المحتلين الأتراك واذن لهم ان يستمروا على صدور العرب هذه القرون الأربعة . وان أي وطن أو شعب بدون مفكّر يصبح شعباً بدون قضية ولا هوية ولا تاريخ ولا شرعية حتى ولو توفرت هذه كلها , لأن المفكر هو الذي يبرز القضية والشرعية , ويرسم اطار الهوية ويبث الروح في الناس ويشحذ الهمم , وبغيابه تضيع الشعوب والأوطان والهوية والكيان .
اقتصرت القيادات الأردنية على استمرار الزعامات الهشّة مثل ابن مهدي , وابن عقبة حيث اختفت امارة العجرمي على يد ابن المهدي , وتلاشت امارة الجرمي دون أن نعرف أين وكيف , وتهاوت الامارة الطائية التي كان يتزعمها آل الفضل بن عيسى بن مهنا بن حيار الطائي . لقد كانت امارات اوهى من بيت العنكبوت لانها كانت قائمة على غير الفكر اولا . اما بن مهدي وبن عقبة فقد صار همهم جمع المال والاستبداد , ومزيدا من استعباد الناس , وصاروا حملا ثقيلا مضافا للكابوس التركي ( رهيب ).وصار الناس يتطلعون لكل من ينقذهم من الماساة فالتفت بنو عباد حول الضيغمي ابن ختلان , وخلصهم من المهداوي واستقلوا عنه دون ان يطيحوا به منذ بداية القرن الخامس عشر تقريبا , بينما التفت الجموع الاخرى من المتضررين بعد حوالي قرنين من الزمان حول ابن عدوان ( بعد نهاية القرن السابع عشر ) عندما تمرّد على ابن مهدي , ثم انتزع منه امارة البلقاوية وليس البلقاء ليدخل ( ابن عدوان ) في صراع مع بني صخر وعباد الذين لم يرق لهم ان يأخذ ابن عدوان امارة جذام في البلقاء وهم جذام .انه الصراع من اجل البقاء , وجميعهم كانوا مهتمين بالتخلص من ابن مهدي حيث ان ابن ختلان خلص العبابيد من سيطرته وبقي الاثنان ( بن ختلان وبن مهدي ) على الساحة العشائرية وساحة البلقاء دونما تحديات ,حيث ان عباد وبني مهدي كلاهما من بطن واحد هو بطن طريف من جذام , بينما قام ابن عدوان بعد قرنين من ذلك بتخليص البلقاوية من ظلم ابن مهدي ( المهداوي ) والى الابد .
وهكذا يمكن تسمية صراع هذه العشائر الأردنية بكلام لا يليق ذكره , ولكننا نقول , انه صراع الضعفاء من اجل العيش والبقاء , او صراع الضحايا , فجميعهم ضحايا الاحتلال التركي , وجميعهم ضعفاء يحاربون باجسادهم قبل سيوفهم , ومع هذا فهم يقاتلون بعضهم بعضا وهم في جحيم العداء يحاولون الوصول الى جحيم الحياة والاستمرار في نارها . وكان ذلك مصدر سعادة للأتراك , لأن اتفاق العربان يشكل خطراً على قوة الاحتلال التركي , وقد يشكل جبهة قوية , اما التفكك فيجعل الجميع أهدافا سهلة وشراذم يمكن القضاء عليها بسهولة , وتبقى الهيمنة للدولة تعمل ما تريد ولا أحداً من الناس يستطيع رفع راسه معارضا أو مقاوما او مطالبا بهوية وطنية او قومية .
نضبت مصادر الرزق عند العربان , وبخاصة البدو حيث لم تعد الدولة تعطيهم شيئاً بل تاخذ منهم , وانقطعت عادة الابتزاز العرباني للدولة منذ اليونان الى نهاية دولة المماليك البرجية . كما أن المزارع أيضا صارت لاتفي بالغرض ولا تغطي الحاجة , فتحول الناس الى ثلاثة امور لا نتزاع لقمة العيش او الدخل الذي يؤمن لقمة العيش وهي
(أ) الغزو بين القبائل
(ب) والهجوم على قوافل الحجاج في كل عام مرّة
( ج ) الهجوم على الفلاحين وابتزاز الخاوة منهم ونهب انتاجهم
أ‌-الغزو بين القبائل : قد يظن البعض أن الغزو طبع واجرام لدى البدوي الاردني , ولكن الحقيقة أنه نمط من الفروسية , واعادة توزيع الثروة , واعادة توزيع الرزق من أجل الاستمرار والبقاء , وبالتالي فهو وسيلة من وسائل الصراع من أجل البقاء . ويكون في غياب السلطة المركزية للدولة , وفي ظل سيادة قانون الغاب الذي بموجبه يعيش القوي ويضمحّل الضعيف , وهو كذلك نمط من الثأر بين الغزاة , فمن يغزو اليوم يجب أن يتوقع حلول الغزو عليه غدا ممن كان ضحية له , وذلك لاستعادة المنهوبات . هذا اذا لم تعُدْ بالاساليب الاخرى عبر الجاهات والتودد والمراسيل من قبل الضحية .
وان القارئ للتاريخ العربي يجد أن الغزو والثأر يأتي ضمن الثقافة العربية منذ أيام الجاهلية , وحتى في العصرين الأموي والعباسي , كان الغزو والنهب والعصابات من الممارسات الشائعة في البوادي والصحاري , وكان ذلك يؤرق الدولة كثيرا , وكانت تجرد طابورا كاملا بحثا عن لص أو قاطع طريق او قاتل وتعمم عنه لدى زعامات القبائل , وتعاقب من يأويه ولا يخبر عنه سلطان الدولة او الوالي , وكان المطلوب يسمى : بغية أمير المؤمنين ان كان مطلوبا للخليفة , أو بغية الأمير ان كان مطلوبا للوالي .
ورغم سيادة الدولة زمن الأمويين والعباسيين وتطبيق الشريعة الاسلامية إلا أن الثأر بقي موجوداً , ولا يتوانى ذوو المقتول عن أخذ الثأر بايديهم ان تمكنوا من القاتل دونما انتظار لتطبيق الشريعة على يد الوالي او الخليفة . وقد قرأت كثيراً من الحالات كيف كان يجري حساب الخسارة في الطرفين عند الصلح , بحيث يكون رجلاً مقابل رجل , وابلا مقابل ابل , وهكذا . ثم يدفع من بقي عليه غرم زائد , ثم يجري الصلح . وكذلك هذا شأن العشائر الأردنية حتى وقت قريب , عند اجراء الصلح أو العفو العام ( الحفار والدفان ) ان يحسبون الخسائر لدى الطرفين , رجلا مقابل رجل ومالا مقابل مال , ثم يؤدي المعتدي مازاد من عدوانه عقابا له على ما اقترفه بحق الطرف الآخر .
كان الغزو وسيلة من وسائل العيش والصراع من اجل البقاء , لذلك تعذر على الدولة العثمانية منعه بين العربان , لان قرارا رسميا لا يستطيع قطع عادة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ والثقافة لهذا الشعب أو ذلك . وكان الغزو مدمّراً بالفعل لأنه يحول دون بناء الشخص لثروته , وحتى الغزاة الذين يجمعون الأموال والحلال قد يفقدونها بغارة مفاجئة يقوم بها طرف آخر . وبالتالي فإنه لا يمكن للشخص أو المجموعة أو المجتمع بناء الثروة إلا في ظل الدولة والاستقرار السياسي , وهيبة السلطة . وكانت هذه مفقودة آنذاك في الأردن , وبالتالي انعدم وجود الأغنياء , وصار الناس يعيشون على أدنى درجات الحد الأدنى من متطلبات العيش واستمرار البقاء .
وقد يكون لثقافة الفقر والجوع هذه وتحمّلهما عبر الاجيال وبسبب الظروف السياسية والطبيعية والاجتماعية والامنية , دورا في تكوين القدرة العالية جدا لدى الأردنيين لكل الضغوط الرسمية والضرائب في العصر الحاضر , أنهم لم يصلوا بعد الى حدّ الجوع الذي كان وصله الاباء والاجداد عبر مراحل التاريخ , لأن الفقر يُذل الشعب والجوع يحركها . وفي حالة الفوضى فإن الجوع يحرك العشيرة ضد العشيرة الأخرى لإعادة توزيع الثروة والارزاق ولقمة العيش بين الناس .
ب‌-الهجوم على قوافل الحجاج ونهبها : كانت قوافل الحجاج وما يتبعها من الجردة ( اي قافلة المؤن لمواكب الحجيج اثناء عودتهم من الديار المقدسة ) تعبر الأردن مرة في كل عام محملة بالأطعمة والأموال والسلاح والكساء ومواد التجارة . وبالتالي فقد كانت هدفاً اقتصاديا غنيا يأتي برداً وسلاماً , ولا يحتاج الا الى عنصر المباغتة والهجوم , وتكاتف المهاجمين , ونهب ما في أيدي القافلة من الطعام والكساء والمال والمواشي , وتشريد الحجاج في الصحراء , فلا ينجو من يموت ولا ينجو من يبقى حيا , ولا ينجو من ينجو ايضا . ولم يكن لدى القبائل الأردنية وازع ديني يمنعهم من اقتراف هذه الجرائم الكبرى المنكرة للاسف الشديد , لأنهم يريدون الثأر من الدولة التي أهملتهم ومنعت عنهم صرّهم السنوي yearly tribute الذي يترتب على الدولة دفعه لهم مقابل حماية الحجاج وعدم الاعتداء عليهم . وكان الأيوبيون والمماليك يدفعون ذلك لامراء البدو كما سبق وشرحنا .
وكان ابن مهدي زعيم جذام وامير البلقاء في الان نفسه يقوم بالهجوم على الحجيج عندما لا تدفع الدولة النركية له المبالغ السنوية ( الصر ) ومن ثم صارت بنو صخر تقوم بالهجوم فيما بعد كذلك , وقد ذكرت كتب المؤرخين المعاصرين لهذه الأحداث , ذلك بالتفاصيل , حيث كان رد الفعل التركي الرسمي متباينا من والي إلى والي آخر , لاختلاف الثقافة والأهداف واللغة والعقلية .
كان الأردنيون سعداء بسقوط دولة المماليك الهرمة , وهم يأملون أن يبدلهم الله خيرا منها , إلا أنه تحقق فيهم قول الشاعر العربي القديم :
دعوت على عمرو فمات فسرني
فلما أتى زيد بكيت على عمرو

وكان على شعبنا أن يدخل في هذا النفق التركي المظلم أربعة قرون بالتمام والكمال , وأن يتحملو أسوأ حكم في تاريخهم منذ الوثنية الى ان زال هذا الحكم ( التركي ) ولا شبيه له الا الحكم العباسي الذي استمر اربعة قرون ايضا :
كان الحجاج قبل قبل مجيء الاتراك يسلكون الطريق المرصوف , النبطي المؤابي الأدومي القديم الذي رممه الرومان بعد عام 106م . ولكنها صارت تعرف بطريق البنت نسبة الى بنت السلطان التركي لأنها سلكتها في طريق عودتها الى ديارها في احد مواسم الحج . ويقال أن هذه الطريق هي التي صارت مسار طرق قوافل الحجاج عبر الاردن في العهد التركي كله , ثم مسار الخط الحديدي الحجازي فيما بعد , لأنها تسلك أيسر الطرق عبر هذه الأراضي الوعرة .
أراد الأتراك أن يسدلوا الستار على كلمة الطريق الروماني , وأن يصبح اسم طريق البنت ضمن مسار آخر جديد اكثر يسرا وسهولة واقصر مسافة , لتصبح هذه أنها تعني بني عثمان ولا تعني الرومان . ليس هذا فحسب , بل ان السلطان أمر ببناء الحصون على طول طريق الحج , لتكون مركزا للحاميات ولحماية قوافل الحجاج في حلها وترحالها . ومن هذه الحصون قصر البنت بالحسا , وحصن معان حيث كان فيه حصنا وساقية بني في عام 1563م , مما ادى الى تغيير موقع معان , حيث هجر اهلها احياءها القديمة المعروفة الان بالحمام , وقاموا بتأسيس معان الحالية .
ان بناء الحصون الحجرية يدل على تحجر العقلية التركية في التعامل مع الناس من خلال منطق القوة والبطش فقط , فلو أن الدولة المحتلة تعاملت مع العربان بالطريق التي سلكها المماليك , وهي التفاعل والتعامل مع العربان بالتجارة معهم وشراء منتجاتهم من المواشي والخيول والابل والمواد الغذائية , وتشكيل امارة ولو هشّة ترضي العربان وتحقق اهداف الدولة , ودفع مبالغ سنوية , لهؤلاء الشيوخ , لما احتاجت الدولة لهذه الحصون ولهذه المئاسي التي عاناها الحجاج عبر القرون التركية , ولكن ورغم بناء هذه القلاع , إلا انها لم تحقق الامر المرجو منها , وهو أمن قوافل الحجيج , بل زادت الطين بلّة , حتى ادرك حكام الاستانة بعد زمن طويل أن الحل الامثل : هو دفع مبالغ سنوية كافية لشيوخ العربان الاردنيين لقاء المرور الامن لمواكب الحجيج . وبذلك عادوا الى العادة القديمة منذ زمن اليونان في ان الدولة المحتلة يجب ان تدفع الخاوة لهؤلاء العربان لكي تامن شرهم .
وفي زمن الأتراك ظهر مايسمى : جردة الحجاج jardat al hujjaj , وهي قافلة تحمل الطعام للحجاج , والأعلاف للركائب , تتحرك من الشام باتجاه الجنوب عبر الاردن وذلك بعد انتهاء موسم الحج , وتلتقي المواكب العائدة من الديار المقدسة , في مناطق قريبة من العلا التي كانت المركز الجنوبي لدخول الاردن من الجنوب , ذلك أن ما مع الحجاج من طعام واعلاف يكون قد نفذ اثناء هذا الوقت – أي من انطلاقهم حتى انتهاء المناسك والعودة - فيتم تزويدهم بذلك في رحلة العودة , وتأتي الجردة – قافلة التزويد supplying caravan من الشام وتسير على طريق الحجاج نفسه .
وقد اعتاد البدو الاردنيون مهاجمتها ونهبها في السنوات التي لا يأخذون شيئا من المال لقاء سكوتهم . لذلك كانت لا تسير الا ويرافقها طوابير من العساكر , ومع هذا يتغلب البدو عليهم , لأن الهجوم يكون عادة إما في الصباح حيث يكون الركب مرتاحا ومرتخيا , ويتهيأ لليقظة والانطلاق , أو مساء حيث يحطون رحالهم بعد طول سفر وارهاق سحابة يومهم ذاك . ويقول الأردنيون في الغارة الصباحية في سامرهم ( أي القصيد في السامر )
صابحوهم صباحي
قبل مايقوم المتضاحي


قبل راعي الطرش يقوم
يوم راعي الغنم يتاحي


The raiders assaulted their targets at early morning during which the lazy persons are not awake yet, and the shepherd of camels still sleeping too, but that of goats is calling for his cattle to start walk for gracing.
وبهذا الهجوم يقتلون الجنود أو يربطونهم , ويأخذون الاحمال على نفس الجمال ويتوجهون إما الى الصحراء شرقا أو الى الجبال الوعرة غربا حيث يتعذر على أية حملة عسكرية في كليهما اللحاق بهؤلاء العربان . وان القارئ للكتب التي تتحدث عن تلك الفترة , يجد الاشارات الكثيرة حول الهجوم على مواكب الحج , وعلى جردة الحجاج , وكانت أكثر قبيلة بالأردن تقوم بذلك بالأردن هي قبيلة جذام , زمن بني مهدي ثم صارت بعد زواله يقوم بها عشيرة اخرى من جذام وهي : بني صخر .
لم يحاول الأتراك تأسيس حكومة أو إدارة في الأردن، وبقيت الفوضى هي السائدة، إلا أنها فوضى هدّامة وليست خلاّقة، أما الفوضى الهدامة في الأردن فقد أبقت الجميع في حاله فقدان وزن وضياع ثروة، وتبادل للقتل والثأر، فبقي الجميع ضعفاء معدمين ، وبقي الغرباء (الأتراك) ماسكون بزمام الأمور بأسلوب وحشي . أما الفوضى الخلاّقة فيتساوى الجميع فيها من نهب ثرواته ومقدراته والاطاحة بقدره , فيصبح كل منهم فقيراً، ويتحول من كان في المشيخة أو مواقع السيادة إلى شخص عادي بلا هيبة ولا كيان، حينها يتساوى الجميع بالمال المعدود والجاه المفقفود ، ويتقدم أكثرهم تأهيلاً لموقع السيادة والقيادة، فيقود الجميع ويبني عشيرة قوامها التساوي بين الجميع في الفقر والمال والجاه , وتكون الاهمية له وحده ، وإخلاصهم له هو وحده .
لم تحدث في الأردن فوضى خلاقة في تاريخه على المستوى الوطني ( وان حدثت احيانا على المستوى العشائري المحدود ) ، ولكنها حدثت في بلدان أخرى كثيرة، وبالتالي بقيت الفوضى الهدامة بالاردن قوامها التباينات الهشّة الوضيعة بين الأفراد، وبقيت المشيخات في أماكنها ونخرها السوس، وصارت كبيت العنكبوت، فلا هي قادرة لحماية نفسها، ولا لحماية الناس، ولا لتوحيد الوطن ولا لإيجاد تناغم بين مكونات المجتمع. وكان أعلى ما يبغي واحدهم الحصول عليه أن يكون شيخاً، وهي العقدة التي يعاني منها الأردنيون حتى يومنا هذا للاسف الشديد، حيث يحبّذ كل واحد أن يقال له أنه الشيخ أو كان ابن الشيوخ، وأن يقال عن خصومه وعن الآخرين أنهم ليسوا شيوخاً ولا أبناء شيوخ، أن مثل هذه الثقافة ليست وليدة لحظة أو يوم أو جيل، بل وليدة أجيال متعاقبة وثقافة شعب بناها عبر القرون .
لقد دفع الأردنيون ثمن خضوعهم للأجنبي، وثمن إخلاصهم له، وقطفت الشعوب الأخرى مثل أهل الشام والعراق ومصر واليمن والحجاز ثمار تمردهم على الغرباء والاحتلال والظلم والجور، فصار خضوع الأردني للسلطة ( اجنبية كانت ام غير اجنبية ) نمطاً من الثقافة المتوارثة وصار التمرد عليها لايكون الا بعد زمن طويل لكنه تمرد لمرة واحدة وينهي كل شيء , اما الشعوب الاخرى فان التمرد والثورات والتضحيات بسبب ذلك صارت نمطاً من الثقافة المتوارثة لدى الشعوب الأخرى. وهذا ما وجده الأتراك أمامهم. لذلك وجدوا جيشاً يقاومهم في حلب عام 1516 وجيشاً آخر في (رضوانية) القاهرة عام 1517، وكان الأردن حينها بلا جيش ولا إدارة، ولا حتى ارادة , كان مسلوب القوة والارادة والادارة والسيادة والقيادة ( واللي ياخذ امي هو عمي ) , ولا يوجد فيه أسرة حاكمة، بل مشيخات وهمية هشة كبيووت العنكبوت التي هي اوهن البيوت , لا تصمد أمام هبة من ريح أو نفخة من دولة.
ومع هذا كان لدى الأردنيين عناصر البقاء والاستمرار كشعب وأفراد ولكن بدون أن تكون لديهم عناصر السيادة والقيادة، فهم في جميع الظروف قادرون على العيش والحياة والبقاء ، وفي الظروف جميعها عاجزون عن التوحد على مقعد السيادة وتكوين إدارة مركزية او امارة او مملكة في بلادهم يديرونها بأنفسهم.
وقد أدرك العثمانيون رغم حماقتهم السياسة، أقول أدركوا هذه الصفة في الأردنيين، وفتحوا مراكز إدارة في كل من الكرك والشوبك، اقتصرت مهماتها على بسط نفوذ الدولة على القبائل الأردنية والعابرة وعلى سكان القرى والبلدات وكلهم قبائل أيضاً، وإرهابهم بالعنف والقوة والسوط والبسطار والنار لدفع الضرائب والاخلاص القسري للسلطان والدولة العلية . وقد سلك الأتراك السبيل نفسه في كل من مصر والشام. وصار الناس يتبادلون أخبار عنف الدولة وإرهاب الدولة وسطوة الدولة وظلم الدولة الذي تمارسه على كل عربي في كل قطر من الأقطار العربية .
لقد وقعت اضطرابات وثورات ومقاومة ورفض لهذا كله في كل من مصر والشام والعراق ، لأنها بلاد الثورات ضد المحتلين والطغاة، أما في الأردن فقد وصل الناس في عصر الأتراك إلى درجة من التفتت والتناحر والتنافر بحيث لم يكن يوجد شعب، ولا قبائل كبيرة، بل مجموعات متناثرة، وكانت القبيلة الوحيدة القوية هي قبيلة بني صخر، وكان الأمير الوهمي الموجود في الوسط هو ابن مهدي الجذامي، وكان الأمير الأقوى الذي عيّنته الدولة العثمانية هو الأمير الغزاوي الذي اقتصرت سلطته على شمال الأردن، واقتصر المهداوي على وسط الأردن، وابن عقبة/ العمرو على جنوب الأردن، (أي عجلون/ السلط/ الكرك تباعاً). ولكن الغزاوي انتهى ايضا بعد تفسخ امارته من الداخل وتنازع الاسرة الغزاوية على الامارة الهشة .
أمام هذه الفوضى أرسلت الدولة مجموعة من الموظفين وطابورا من الجيش إلى قلعة الكرك، لتكون مركزاً للإدارة التركية وتغطي البلاد من العلا حتى نهر الموجب، إلا أن الحاكم الجديد تحبّ?Zب إلى الناس واستقل بالأمر عن السلطة المركزية، ومن الواضح أن هذا الحاكم سمع من الناس عن استقلال الأمراء الأيوبيين والمماليك في هذه القلعة والديار , وفكر في إقامة إمارة أو مملكة في الكرك مستقلة عن السلطة في الآستانة وقد تحبب إلى الناس فأحبوه ودعموه وحموه. وياليته فعلها لصارت الاردن بلدا مزدهرا وليست نهبا مقسما لمصر والشام والتناحر القبلي الداخلي والخارجي .
وهنا يقف الإنسان الوطني آسفاً وحزيناً: أما كان بإمكانهم الاتفاق على واحد منهم ومنحه هذا الحب والدعم الذي منحوه للغريب ؟ ولماذا نجد لا يكون هذا منهم إلا للوافد : الأيوبي والمملوكي والتركي؟ إنه حسّ الخضوع للدولة وعدم مقاومتها، وهم ينظرون لمثل هذا الحاكم أنه يمثل القوة السياسية العليا، وأنه هو الذي يدفع ثمن تمرده على أسياده، أما هم فيقفون مع المنتصر في نهاية المطاف، ولن يثبتوا معه إذا ما داهمه خطر الدولة او نضبت خزائنه . انها حقيقة التاريخ , ولا نستحي من ذكرها , فانه لايمكن وصف الدواء الا بتشخيص الداء .
وقد تعاملت سلطات ولاية الشام مع هذا الحاكم التركي المتمرد بهدوء إذ أرسلت من ابناء وطنه بالقطرانة لمعرفة طلباته والتي كانت تأسيس إمارة الكرك المستقلة على نمط الحكم الذاتي داخل الدولة العثمانية وعلى الطريقة المملوكية والايوبية ، فوافق الوسيط وعاد إلى الشام لتوقيع بنود الاتفاقية والعودة للوالي مرة ثانية، وعندما عاد ثانية ألقى القبض على هذا المتمرد ولم يقف معه أحد من أهل البلاد , الذين يبدو أنهم أقنعوه بالاستقلال , فإن نجح استفادوا , وإن فشل دفع ثمن تمرده في جلده، وهم يتفرجون وهذا الذي حدث، حيث سيق بالأغلال إلى سجن دمشق.
على أثر ذلك وجد العثمانيون أن موضوع الثورة والتمرد والاستغلال هو جزء من ثقافة الكرك ومن يحكم الكرك , فخرجوا منها وتركوها للعشائر والعربان لان ذلك اقل كلفة عليهم من وضع حامية فيها قد تتمرد على الدولة فيما بعد . اقول تركوها وشأنها حتى عام 1890، وصارت القلعة ملكاً للعربان ومقسّمة إلى أقسام واجنحة ، لكل مجموعة عشائرية جزء منها لغايات الخزين والسكن وقت الشتاء، وبقيت بالنسبة لهم تحكي ذكريات الماضي من الأنفة والمنعة والمقاومة والعزة والكرامة , وتذرف دموع الحاضر على المجد الغابر .
كان هذا التمرّد في زمن السلطان سليمان القانوني أي بعد احتلال البلاد بوقت طويل. ويقال أن أحفاد الجنود والموظفين الاتراك في تلك الفترة أعلاه لا زالوا هناك، وأن أعقاب الموظفين المدنيين يُسمّون الآن بالبشابشة/ أي أحفاد الباشا، والأغوات (اللغوات) أحفاد الآغا (وهو منصب في الإدارة التركية) والطنشات أحفاد أحد قادة الدرك الضباط في حينه، وتتداول الحكايات الشعبية في الكرك هذه الروايات، وليس لدي ما يؤيدها أو ينفيها.
وتزامن مع تمرد الكرك تمرد آخر وهو ثورة أهل الشوبك في قلعة الشوبك , عندما حاول جنود القلعة تسخير نساء الشوبك في جلب الماء لهم في القلعة , فثار الأهلون ودخلوا القلعة وقتلوا الجنود، وهرب من هرب منهم فجرّدت الدولة طابوراً من حامية الكرك التركية في الكرك لقمع أهل الشوبك , حيث هرب الكثير منهم إلى البلقاء، ولحقوا بأقاربهم الذين كانوا هربوا زمن المماليك، وهم شوابكة البلقاء , وبذلك يكون الشوابكة في البلقاء قد وصلوا إلى منازلهم الجديدة في موجتين موجة قطنت قرى مادبا، وأخرى في خريبة السوق والرجيب وأكناف عمان، ولا أدري أيهم قبل الآخر، ولكنهم جميعاً يُدْعون بالشوابكة وجاءوا من الشوبك بسبب بسبب ظروف الاحتلال المملوكي ثم التركي للشوبك وقلعتها , مثلما شرحنا من قبل.
إن هذا يلقي الضوء على العقلية الأردنية، وهو أنه إذا شعر بالخطر قاوم لحماية نفسه من الموت ثم هرب إلى ديار أخرى، فهو في حالات القتل والثأر يغادر مكان الخطر فيما يسمى الجلوة، وفي حالة الاحتلال يغادر الديار والوطن إلى أوطان أخرى، وقد يستقر هناك، وقد يعود بعد زوال الخطر ولو بعد اجيال طويلة ، أما في مصر والشام فإن الناس يقاومون هناك مقاومة عنيفة ويتحملون الاحتلال ويشكلون ثورات واضطرابات للتحرر منه. وقد يرحلون ولكن الرحيل ليس الثقافة الوحيدة لديهم , وإنما واحد من الخيارات المتعددة التي يمتلكونها او على استعداد لممارستها , بعكس مانحن عليه نحن الاردنيين للاسف الشديد .
أشعر بالغصّ?Zة وأنا أخرج بنتائج عجيبة غريبة عن أهلي وأبناء بلدي الاردنيين , ولكنني مؤرخ أقول ما أؤمن به بكل موضوعية وصدق، وقد أكون مخطئاً، وأرجو أن أكون مخطئا ، ولكنني أهيب بالمؤرخين والكتاب الذين تعمّ?Zقوا في دراسة الشعب الأردني أن يخرجوا بنتائج مغايرة لما خرج بي حضرتنا , فهناك من البراهين ما يثبت رؤيتي، ولكن هناك من الأمثلة الفردية، ولا أقول البراهين، ما يغاير ما خرجنا به.
وعلى اية حال فإن المؤرخ المفكر مختلف عن المفكر وحده , أو المؤرخ وحده إذا سلك واحدة من هذه دون الجمع بينهما، وأدعي أنني مفكر ومؤرخ واجمع بينهما معا ، يخضع الفكر عندي لوقائع التاريخ وحقائقه المنظورة وغير المنظورة ، وتخضع وقائع التاريخ وما تعتبر حقائقه , للتمحيص الفكري والتحليل الضروري ، فتكون النتيجة مغايرة لما يخرج به مفكر وحده أو مؤرخ وحده، او مدون او ناقل او كاتب سلطاني , وقد تكون مطابقة لها أيضاً احيانا. ولكن لا بد من القول : أن الشعب الأردني قد يكون من أكثر الشعوب , إن لم يكن أكثرها قدرة على البقاء والعيش والحياة، والصراع من اجل البقاء , وهو من الشعوب المتحضرة القادرة على على بناء قيادة من ذاته يلتف حولها عندما تتاح لهذا القائد مقومات السيادة والقيادة واولها الفكر ثم المال ثم القوة .
وقد دفعنا ودفع الأردن ثمناً غالياً لهذه الطبيعة التي يتميز بها الشعب الأردني، للأسف الشديد، والسبب كله يعود إلى شيء واحد , وهو غياب القيادة المركزية التي يمكن أن تلهمه التوحد والخطوة الواحدة. لذلك لم يكن الشعب الأردني فيما بين نهاية الأنباط ونهاية العصر العثماني، أقول لم يكن شعباً، بل كان عشائر متناحرة متنافرة، لا تتحد إلا أمام الخطر الخارجي فقط. هذا اذا ماستثنينا سنوات الايوبيين والمماليك بعد تحريره من الاحتلال الصليبي .
بقيت الأمور بين شدّ وجذب بين الأتراك والأردنيين حتى أدركت الدولة أخيراً أنه يستحيل عليها أن تنعم بالأمن في الأردن، ويتعذر عليها مرور مواكب الحجيج والجردة بسلام , إلا إذا رضيت هذه العشائر، ودفعت السلطة العثمانية لهم المال المقرر الذي يرضيهم ويطيب خواطرهم ، عبر شيوخهم . فقد فشلت سياسة الحكومة في الكرك وتم طرد الحامية من الشوبك، وتحول بقايا الموظفين إلى مواطنين ذابوا مع العربان وصاروا جزءاً مع تركيبة العشائر عبر الزمن. وبقيت الدولة غريبة على الناس والناس غريبون على الدولة.وبقي المثل الاردني منذ زمن الوثنية قائم الى الان ( الدولة دولة والناس ناس )
أمام هذا درست سلطات الآستانة تاريخ العشائر الأردنية فوجدت أن المال هو الوسيلة المثلى لاستمالتهم، وأن القوة لا تؤذي إلا الدولة بالدرجة الأولى، وتؤدي إلى ترحيل الناس وانقطاع مورد اقتصادي من موارد الدولة . لذا قررت الدولة منح مبالغ من المال لشيوخ العشائر في كل من سوريا والأردن والحجاز تدفع إليهم من قبل أمير الحاج ـ أي أمير موكب الحجاج في كل عام ـ عند مروره في أراضي هذه القبائل. وتسمى الصّرّة al-surrah وهي مفرد والجمع ص?Zرّ?Z surr وسميت كذلك لأن مبالغ المال كانت تُص?Zرّ (أي تربط) to be tighten in a bag في كيس من المال، وتعطى دفعة واحدة للشيخ، وتكون من الدنانير الذهبية العثمانية المسماة العصملية usmalliyyah، وذلك لأن الأتراك يقولون عصمان أي عثمان، وعصملي أي عثماني ، حيث تتحول الثاء إلى صاد.
وبإعطاء الأموال لشيوخ البدو الاردنيين وغيرهم هدأت الأمور، وسارت مواكب الحجيج في أمان وسلام، حتى إذا ما رفض أمير الحج دفع المبلغ المرقوم قامت العشائر بمهاجمة الحجاج وسلبهم أموالهم، وأموال الحكومة التي ترافقهم، ونهب ركائيهم ومتاعهم. وقد حدث هذا مرات عديدة، كان من بينها قيام ابن مهدي الجذامي أمير البلقاء بمهاجمة موكب الحجاج ونهبه، وكان معه حمدان بن فايز (جد العدوان) الذي كان نصيبه من الغنائم ناقة ضبطاء (عرجاء) وكان خرج مال الحجاج عليها، وأخذه وشكل قوة أطاح بالمهداوي وأسس مشيخته في البلقاء، كما سيأتي إن شاء الله . كان ذلك في القرن السابع عشر الميلادي .
وتحدثت الروايات وكتب التاريخ المعاصرة لتلك الأحداث زمن الأتراك عن تكرار هجوم بني صخر على مواكب الحجاج ونهب ما بأيديهم , عندما يمتنع أمير الحج عن دفع الصرة المستحقة لهم , المتفق عليها سلفا مع والي الشام . ولا بد من العودة إلى ما كان يدفعه البيزنطيون وكانت عاصمتهم القسطنطينية نفسها. وكيف امتنعت بيزنطة عن الدفع ثم اضطرت لدفع مستحقات السنوات الفائتة والقائمة والقادمة في حينه فأفلست خزانة الدولة البيزنطية ، وأدى ذلك إلى عجزها في تمويل الحرب مع الفرس والمسلمين، وكانت نهايتها في مؤتة واليرموك وطبقة فحل ثم اندحارها من سوريا إلى الأبد إن شاء الله. لقد نهايتها الاساس في القسطل عندما رفض ضابط الصرف البيزنطي دفع مخصصات العشائر الاردنية وقال كلمته المشهورة ( اني لااجد مالا لدفع رواتب الجنود فمن اين لي بالمال لاعطاء هؤلاء الكلاب الضالة ) وعندما سمعه شيوخ العشائر غضبوا غضبا شديدا لهذه الاهانة وقرروا اسقاط الدولة البيزنطية , وكان ذلك قبيل معركة مؤتة بقليل , مما اضطر معه هرقل ان يسترضيهم بدفع مستحقاتهم تلك السنة وما قبلها وما بعدها , مما ادى الى افلاس الخزينة وعجزت عن تزويد الحرب ضد المسلمين .
حاول علي باشا أمير الحاج عام 1754 دفع المبالغ المرقومة لزعماء عشائر الأردن، وبقي يخادعهم في الذهاب والإياب إلى أن فلت من أيديهم ذلك العام ، فانتظروا العام القادم، ووقفوا في طريق المحمل/ موكب الحجاج، ومنعوه من المسير إلى الديار المقدسة إلا بعد دفع مبالغ السنة الماضية والسنة الجارية تماما مثلما فعل اجدادهم باليزنطيين من قبل ، فاضطر الباشا للرضوخ لإرادتهم، لكن الحكومة قررت أن تتخلص من هذه العشائر وأن تضربهم بعنف، فأوعزت إلى والي سوريا عبد الله باشا أن يسيِّر حملة لتأديبهم وذلك يعني القتل والنهب والتشريد ومنع تعدياتهم على مواكب الحج في السنوات القادمة.
لجأ عبد الله باشا إلى الحيلة، إذ وجه الدعوات إلى زعماء القبائل في عام 1756م، مدّعياً أنه يريد تسليمهم أعطياتهم التي فاتت فلما حضروا قدم لهم طعاماً من نوع فريد، وهو السيف، حيث قطع رؤوسهم، وأرسلها في صناديق إلى الآستانة. وقد تباهى أنه أدّب هؤلاء العربان.
كانت النتيجة مغايرة تماما لما توخاها الوالي ودولته في الآستانة، حيث اجتمعت هذه القبائل الاردنية المنكوبة بقتل شيوخها ، ووجدت أن قتل زعمائها إهانة لها، ومنعاً لاستحقاقاتها المالية في المستقبل، لذلك اجتمعت عام 1759 أي بعد ثلاث سنوات من قتل زعمائهم، وبعد أن خدعوا السلطات التركية والناس ان العربان خافوا ولن تقوم لهم قائمة ,وشعر الاتراك بالأمان حيث لم يتعرض الحجاج في أعوام 1757، 1758 إلى أية مضايقات من العشائر الاردنية , مما زاد من أعدادهم وأحوالهم واموالهم ، وقلل من الحاميات المرافقة لهم في عام 1759،وبذلك نجحت خديعة العشائر الاردنية وانطلت الحيلة على الاتراك وحجاج الشام وتركيا
وبالفعل انقضت العشائر على موكب الحجاج في هذا العام 1759م فسلبوا ستين ألف حاج ونهبوا ركائبهم وزادهم، فتشتّت الحجاج في الصحاري والبراري ومات منهم عشرون ألفاً على الأقل قتلاً من العربان أو من شدة الجوع والعطش والضياع، وتم بيع الإسلاب من قبل البدو في أسواق عكا على مرأى ومسمع السلطات التركية في تلك المدينة، ولم يجرؤ أحد من الدولة على الاعتراض على ذلك , وكان ظاهر العمرو في حينها والي عكا، ويتعاطف مع البدو ويكره الأتراك وهو من عشيرة الزيادنة من جرش في شرق الأردن أصلاً, وهو اصلا من ازد الاردن ويحن الى بلاد ابائه شرقي النهر .
وقد انشأ العثمانيون إمارة للحج تنطلق من دمشق وبنوا القلاع في شرقي الأردن على طول طريق الحج , للحفظ على امن الحجاج في محطات توقفهم بين كل قلعة واخرى مسيرة يوم للركب العام . وقد استمر ارتباط الأردن بدمشق إلى الحملة المصرية عام 1831م. ففي تلك السنة أرسل والي مصر محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا إلى بلاد الشام على رأس قوة تمكنت من الانتصار على جيش العثمانيين والسيطرة على بلاد الشام ، وهو يحلم باستعادة سيطرة المماليك على البلدين , ويريد اقامة حكم وراثي له ولذريته من بعده .
وقد حاول ابراهيم باشا في البداية أن يطبق الإدارة المركزية المتبعة في مصر على بلاد الشام ، وقام بفتحها أمام الإرساليات التبشيرية ، واهتم بالتعليم ، وحاول فرض الضرائب وتنظيمها ، ونزع السلاح من الأهالي ، لمنع الحروب الأهلية . وقد وضعت حكومة محمد علي بلادنا تحت إمرة حاكم عام هو الأمير بشير الشهابي . ثم عين محمد شريف باشا وأطلق عليه حاكمدار عربستان ( اي بلاد العرب ) كدليل ان محمد علي باشا كان يعتز باعجميته ويكره العرب . وغيرت الإدارة المصرية الايالة إلى المديرية ، وقسمت المديريات إلى متسلميات .فقد شكلت في شرقي الأردن متسلمية عجلون عين عليها حسن بك اليازجي . ثم محمد آغا الشوربجي . وليس منهم اردني وانما غرباء على البلاد , وقد ثار اهالي بلاد الشام ضد الإدارة المصرية الجديدة ؛ فثار أهل القدس ونابلس . فقد رأس قاسم الأحمد الجماعيني وهو اصلا من جماعين المناصير من عباد وهو ممن بقي من عباد في فلسطين بعد مشاركتهم في معارك حطين وعين جالوت وتحرير القدس وفلسطين , اقول بعد ان قاد قاسم الاحمد الجماعين ثورة نابلس سنة 1834م , اضطر للجوء إلى شرقي الأردن ارض الاباء والاجداد وتحصن في الكرك , حيث استجار بزعيم الغساسنة الشيخ ابراهيم الضمور الذي ضحى بولديه وفقدهما امامه على ايدي قوات ابراهيم باشا , ومع هذا لم يسلم دخسله ولم يسلم الكرك للالباني المحتل ابراهيم باشا . كما ثارت عجلون على الحكم المصري المذكور عام 1839 وتزعم الثورة محمود الرفاعي . كما ثارت القبائل البدوية في شرقي الأردن : جذام واهل الكرك والبلقاوية وبني عوف ( الغزاوية ) وعرب الصقر والعدوان والسلطية. وقد عينت الإدارة المصرية الشيخ يوسف الشريدة متسلما لعجلون .
وقد ثارت الشوبك عام 1905 و ثارت الكرك عام 1910 معارضين عملية تعداد النفوس لما سيترتب عليه من ضرائب وتجنيد إجباري للمشاركة في حروب الاتراك في البلقان واليونان واسيا الصغرى ، وجاء إليها القائد التركي سامي باشا الفاروقي لتأديبها ، ولاحق شيوخ العشائر الثائرين ، حيث اعدم بعضهم في الكرك ، وبعضهم في دمشق . وارتكب الحيش التركي مذبحة في عراق الكرك حيث ذبحوا 99 شخصا في القرية المذكورة وهي من اعمال الكرك وتم القبض على عشرات الشيوخ من الكرك ومنهم الشيخ قدر المجالي , الذي يبدو انه مات مسموما في سجنه بدمشق عام 1912 . تم ذلك بعد اصدار العفو العام ولكن الاتراك لم يربطهم عهد ولا وعد اصلا . فالملك عقيم لايعرف ابا ولا اخا .
اما قافلة الحج الشامي زمن الاحتلال التركي التي تسير عبر الاردن فكانت تضم حجاج بلاد الشام والجزيرة وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان، وحجاج إستانبول نفسها، وكان عددها يتراوح ما بين ثلاثين وخمسين ألفا في كل عام تقريبا تزيد اوتنقص .وقد كان السلطان العثماني يشرف بنفسه على ترتيب وإعداد هذه القافلة وخروجها من مدينة إستانبول , ثم تقطع الطريق التجاري حتى دمشق، ومنها إلى أراضي شرق الاردن ، عبر صحراء مزريب إلى مدائن صالح حتى تصل القافلة إلى المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة واتم التسليم , وكان السلطان العثماني يصدر أوامره إلى الولاة , ليقوم كل واحد منهم بتسهيل مهمة مرور القافلة، وحراستها حتى تصل إلى حدود الولاية المجاورة، ليتولى الوالي الاخر استقبالها وتأمين مسيرتها عبر ولايته، وهكذا من ولاية الى ولاية الى ان تصل سالمة في نهاية المطاف , وعلى راس القافلة ( امير الحج ) الذي يجد كل حفاوة وتكريم في كل ولاية يحل فيها .
ويتسلم أمير الحج بموجب صك شرعي أموال الأوقاف والهدايا المرسلة إلى أهالي الحرمين الشريفين، وإلى الحرمين الشريفين ذاتهما، من بسط وتح?Zف ومصابيح وشمعدانات ومواد غذائية وما شابه ذلك .وهناك يسلمها حسب الاصول .
(( كانت الدولة العثمانية تتحمل نفقات الحج، وتعهد بإمارته لواحد من كبار العسكريين في دمشق، أو من زعماء العشائر العربية في الاردن او في فلسطين، ويهيأ هذا الأمير للخروج بالحج، قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر، فيقوم أولاً بـ"الدورة" أي زيارة المناطق الجنوبية من دمشق لجمع المال اللازم، وقد يكون الوالي نفسه أمير الحج، وهي مهمة صعبة وخطيرة لأن من واجباته أن يدفع عن الحجاج اعتداءات القبائل التي تنوي بهم شرًّا، وقد تولّى أسعد باشا العظم –والي دمشق- إمارة الحج مدة 14 عامًا، وكان الباشاوات في مختلف أنحاء السلطنة العثمانية يتوقون إلى هذا اللقب ) .
تتضمن قوافل الحج الشامي عدة فئات لغايات الخدمات تقوم على خدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم، ومن هذه الوظائف : السقاة، الذين كانوا يحملون القرب ( الجلود المليئة بالماء ) لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. والبّراكون، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. والعكّامة وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضًا، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم، ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهياؤون لتأمين راحة الحجاج . فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال، وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة، والبياطرة منهم أيضًا، والجنود يخدمون أنفسهم، أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه .
(في العودة، يكون مع القافلة رجل يُدعى "أمين الصر"، والصر هو بعض الهدايا التي كانت توزع على عربان بين الحرمين خشية بطشهم بالحجاج ، ويحوي هذا الصر مختلف المتاع من أحذية، ومحارم ومناديل قطنية أو حريرية كان بعضها يصنع في دمشق أو تحضر من إستانبول، والعُقل، والعباءات والجوارب. أما "الجوخة دار" أو "جوقة دار" وهي كلمة تركية الأصل تعني فتيان السلطان أو القصر السلطاني، ثم أصبحت الكلمة تطلق على رسول السلطان أو الوالي، فيقوم في الحج بدور الرسول الذي يرسله أمير الحج إلى دمشق ليبشّر الناس بعودة الحجاج قبل وصولهم ببضعة أيام، وينفصل الجوخة دار عن الحجاج في تبوك، يصل قبلهم بسبعة أيام، ويبشر الناس بسلامة الحج ونظافته من الوباء والأمراض والمصائب،والغزو والسلب والنهب . وبمجرد وصول الجوخة دار يبدأ الناس بالسفر إلى مزيريب أو غباغب أو الكسوة، حاملين مختلف الأطعمة لملاقاة حجاجهم من أقارب وأصحاب .
9 (0وفي عام 1754م رفض علي باشا الذي كان على رأس موكب الحج في تلك السنة أن يعطي القبائل الاردنية أعطياتهم السنوية فاعتصبوا في السنة التالية، على منع مرور المحمل ما لم يأخذوا ما تقدم وما تأخر من استحقاقاتهم، فخضع الباشا لإرادتهم ولبى طلبهم، ولكنه بنفس الوقت اتهم الشيخ ظاهر العمر الزيداني ( من جرش اصلا ) بالتحريض على الوالي وإفشاله إدارياً وأمنياً، وذلك من خلال تشجيع العشائر البدوية الأردنية على المطالبة بالعطايا السلطانية لهم مقابل حمايتهم لقوافل الحجاج من قطاع الطرق واللصوص، لذلك صممت الحكومة بعد هذه المرة على كسر شوكة عشائر الاردن التي تسكن البادية واطراف البادية مثل بني صخر , فأرسلت أمرا إلى عبد الله باشا والي سورية «لتأديبهم ومنع عدوانهم على قوافل الحجاج , فعمد الوالي إلى الحيلة فطلب زعماءهم في عام 1756م لقبض حصصهم من الصر , ولما حضروا ألقى القبض عليهم وقطع رؤوسهم وأرسلها إلى الآستانة». كما سبق وقلنا اعلاه
كانت النتيجة عكس ما توقعها الأتراك، لأن القبائل البدوية صممت على الانتقام من الحكومة مهما كلفها الأمر ولكن في الوقت الذي يناسبها هي وفي غفلة الدولة وفي اكثر وقت يتوفر فيه المال ، فاجتمعت هذه الظروف كلها في عام 1759م في نقطة على طريق الحج، وليس كما قال عبد الله باشا والي سورية بأن زعماء القبائل البدوية بزعامة بني صخر اجتمعوا مع ظاهر العمر الزيداني وشجعهم على الانتقام «وانقضّت هذه العشائر على موكب الحجاج وقتلت حاميته.
يقول البريطاني فردريك بيك في كتابه «تاريخ شرقي الاردن وقبائلها» الذي كتبه عام 1934م، صفحة /230/، نقلاً عن كتاب يعقوب بيركهارت الخاص بالحياة البدوية، ما يلي: « ... ويقال ان ستين ألفاً من الحجاج سلبوا وتشتتوا في الولاية فمات منهم عشرون ألفاً سواء على يد البدو أو من جراء الجوع والعطش، وقد بيعت الغنائم والأسلاب في عكا على مرأى من صاحبها ظاهر العمر الذي كان يعطف على البدو ويحنو عليهم».
وقد استند فردريك بيك، وبيركهارت وفولني، ونيبور، وجميع الكتاب الأجانب على تقرير الوالي عبد الله باشا إلى حكومته التركية في الباب العالي ، ليبرر جريمته بقطع رؤوس مشايخ البدو الاردنيين ، ولكن الحقيقة كما أوردها المؤرخون العرب، أن ظاهر العمر نقم نقمة شديدة على الوالي لأنه ألغى عطايا السلطان للبدو الاردنيين الذين كان يعتبر نفسه منهم كونه ازدي اردني والمقررة منذ عهد السلطان سليمان القانوني، ولأن الوالي سفك دماء بريئة ذنبُ أصحابها أنهم طالبوا بحقهم الممنوح لهم بقرار سلطاني، فأقدم الشيخ ظاهر على نصرة العائلات الاردنية المنكوبة مادياً فقط، فأرسل أولاده أحمد، وسعد الدين، وعباس، إلى مضارب بني صخر، وقدموا للعائلات المنكوبة بعض الأرزاق، وشلية من الغنم، ومثلها من الجمال.
أما حكاية الوالي «ان ظاهر العمر هو الذي أغرى البدو بمهاجمة الحجاج» فقد توضحت للحكومة التركية بأنها غير صحيحة، ونترك الحديث للمؤرخ حبيب السيوفي، بقوله: ( هاجمت قبائل البدو في شرقي الأردن موكب الحاج الشامي ونهبته، بعد أن رفض أمير الحاج أن يدفع لشيوخها الأعطيات المقررة منذ أيام السلطان سليمان القانوني، ثم جاء كثيرون من رجال تلك القبائل يبيعون ما نهبوا من الأمتعة في مرج إبن عامر قرب الناصرة، فأرسل ظاهر العمر أحد رجاله فأبتاع كثيراً من المتاع.ووصلت الأنباء إلى العاصمة بنهب الحاج الذي كان يتألف من عدة الآف من مختلف الأقطار الإسلامية، فأرسلت الحكومة مندوباً للتحقيق إلى دمشق فقيل له هناك: إن ظاهر العمر الزيداني هو الذي أغرى البدو بمهاجمة الحاج. وعندما قدم ذلك المندوب إلى عكا جمعه ظاهر العمر بشيوخ البدو، فأفادوا بأنهم هاجموا الحاج لأن أعطياتهم المقررة سنوياً منعت عنهم من قبل والي دمشق الذي كان يتولى إمارة الحاج ) .
ويبدو ان الحكومة التركية اقتنعت بسوء تصرف والي دمشق فنزعت منه ولاية صيدا وسلمتها إلى ظاهر العمر وكان ذلك عام 1757م. وبهذا بلغ ظاهر العمر أوج القوة...».

ويشهد ابن دريد الأزدي في كتابه الاشتقاق - الجزء الأول صفحة / 184/ على حالة الاستقرار الأمني في الشمال الأردني، وعلى قوة الزيادنة في المنطقة، فيقول:«وانتقلت سيادة البلاد الممتدة من دمشق وحوران إلى الأردن ووادي السرحان والجوف إلى عنزه ، أما منطقة عجلون فقد كانت خاضعة لسيادة ظاهر العمر الزيداني صاحب عكا فلم تجسر عنزه على دخولها»..
وكان الزيادنة دخلوا قرية الحصن بعد دخولهم بلدة إربد، وحصنوها بقلعة بنيت على تل الحصن ، في الوقت الذي كانت الزعامة المحلية للحصن لبني نصير / النصيرات من جذام ، وتتبع إدارياً لزعامة الشيخ أحمد ظاهر العمر الزيداني من الازد المقيم في عاصمته تبنة في لواء دير ابي سعيد الان . وعلى أثر الخلافات والمحاربة بين العمرو و الأغوات من عشائر الكرك من جهة والخصاونة من جهة اخرى ، وانتصار عشائر الكرك في هذا الصراع بعد عودة جزء منهم من المشاركة بمعارك حطين وعين حالوت ، هاجر بقية الخصاونة إلى منطقة عجلون ولحقوا باقاربهم الذين سبقوهم الى هناك قبلهم بعد حطين وعين جالوت , فنزلوا في قرية عين الشعرة التي تقع بين عبين و صخرة.
، ثم رحلوا بعد ذلك إلى بلدة الحصن، وأخذوا ينافسون النصيرات على الزعامة حتى تمكنوا من إخراج النصيرات من البلدة، فتحالف الخصاونة مع الأمير الفحيلي شيخ قبيلة الفحيلي البدوية التي كانت نازلة في عجلون وهدف هذا التحالف القضاء على زعامة الزيادنة في الشمال الأردني، وفي هذه يقول فردريك بيك في كتابه تاريخ شرقي الأردن وقبائلها صفحة /397/ ما يلي: «وفي ذلك الحين كان الزيادين / الزيداني / ، وعلى رأسهم أحمد الظاهر بن ظاهر العمر صاحب عكا، يحكمون بعض نواحي عجلون حكماً أقرب إلى العسف والظلم منه إلى العدل. فاتفق الخصاونة وحلفاؤهم والأمير الفحيلي شيخ قبيلة الفحيلي التي كانت نازلة بعجلون على طردهم. ولما علم أحمد الظاهر، الذي كان مركزه في قرية تبنة بالكورة، ما بيت له، الخصاونة أرسل يطلب زعيمهم موسى بن حمد، وفور وصوله قبض عليه وقطع رأسه وعلقه على باب القلعة. ثم أرسل بعض رجاله إلى الحصن ونهبوا بيت الشيخ موسى وقبضوا على شيوخ الخصاونة وساقوهم مكتوفين إلى تبنة».
أما عشيرة الفحيلي فقد تم طردهم من عجلون، ونزحوا إلى قرية دبوسيا التابعة للزوية، وبعضهم استقر في منطقة اللجاة.
اما الوضع العشائري في البلقاء فكان يختلف تماماً عن الوضع في الشمال الأردني، ففي الشمال الأردني كانت الخلافات والمنازعات والمحاربة اكثر ماتكون بين العشائر البدوية والعشائر المستقرة ، أما في البلقاء فالخلافات والمنازعات والمحاربة غالباً ما كانت بين العشائر البدوية بعضها ضد بعض ، لذلك كانت مهمة ظاهر العمر صعبة جداً في البلقاء وبخاصة في السلط عاصمة البلقاء.
كان الشيخ ظاهر العمر يراقب الأحداث في البلقاء بدقة، وينتظر الفرصة ليأخذ دوره في فعل الأحداث التي يريدها أن تكون لمصلحة البلاد ووحدتها الوطنية بعيدة عن العصبية القبلية التي لا تخدم إلا القُوى المتنفذة فشّد الحبال قائم ما بين قبيلتي العدوان والمهداوية، وبين العدوان والبلاونة، في الوقت الذي رسخت بني صخر تحالفها مع عباد كونهم جميعامن جذام , فقويت شوكة الصخور بوجود ظهير لهم في الجبال والغور ومغاريب عمان وهم بني عباد , وكان الشيخ ظاهر العمر يتعاطف مع بني صخر، وبنى معهم علاقات جيدة في مطلع عام 1759م.
وقبل أن يقدم ظاهر العمر الزيداني على خطوة التحرك باتجاه السلط، أراد أن يرتب وينظم أمور بيته ا، حيث كان ابنه عثمان يشكل عقبة أمام وحدة العائلة الزيدانية بسبب طموحاته غير المشروعة وغياب حالة الوعي العام لإستراتيجية والده تجاه البلاد، فلم يفكر إلاّ بمصلحته وربما غيرةً من أخيه أحمد الذي يحكم بلاد إربد والكورة وعجلون بالعدل والتفاهم مع عشائرها قاطبة.
ونترك الحديث للمؤرخ ميخائيل الصباغ، الذي أشار إلى الفتن التي كانت تلاحق الشيخ ظاهر، وشراكة أولاده في هذه الفتن، بقوله: «بعد أن أصبحت صيدا وعكا وحيفا ويافا والرملة وصفد وجبل عامل وجبل عجلون في دائرة حكم الشيخ ظاهر العمر، أراد أن تكون منطقة البلقاء - السلط في دائرة حكمه.. ولكن كانت الفتن تتلاحق، إذ حاول عرب الصقر أن يعيثوا فساداً في البلاد كعادة البدو في ذلك العهد، فهاجمهم ظاهر وأوقع بهم الهزيمة وقتل منهم كثيرين. ثم عاد ابنه عثمان يحرض على والده ظاهر مطالباً أن يتولى هو وأخوانه البلاد منطقة منطقة لكل منهم جزء مقسوم ، وأتفق الأبناء الخمسة ( ابناء ظاهر العمر ) - صليبي، علي، عثمان، سعيد، سعد الدين، - مع عرب الصقر على قتال أبيهم، ولكن ظاهر تمكن من الإيقاع بينهم وحافظ على وحدة البلاد وعفا عن أولاده فلم يعاقبهم.
ورأى ظاهر بعد ذلك أن يسترضي ابنه عثمان فولاه حكم الناصرة، كما ولى ابنه علي حاكمية صفد». وبعد ذلك قرر التوجه إلى السلط، فبعث عام /1760م/ أحد القادة الكبار واسمه قاسم السعيد في حملة كبيرة على البلقاء، فانتصر قاسم على قبيلة العدوان التي كانت بزعامة ذياب بن عدوان الذي هرب إلى جبال اللجون في منطقة الكرك واحتل قاسم قلعة الكرك. ولكن صالح شقيق ذياب بقي نازلاً في شونة نمرين ، وبينما كانت قافلة تسير بين نابلس والسلط حاملة ذخائر وأسلحة إلى القائد قاسم السعيد خرج عليها صالح بن عدوان وسلبها.
عندها جمع قاسم جموعه وزحف بها إلى الغور لتأديب صالح ومعاقبته، ولكنه قتل في بداية المعركة، فتشتت قواته بعد مقتله، وعادت إلى السلط،ولكن ابن عدوان لحق بها وهزمها، وبذلك أصبح صالح العدوان زعيم البلقاء، أما قوات الزيادنة فبعضها ذهب إلى عكا والبعض الآخر لجأ إلى الكورة وعجلون .
واما النتيجة التي ترتبت على خروج الزيادنة من السلط فيتحدث عنها فردريك بيك في كتابه تاريخ شرقي الأردن وقبائلها ، نقلاً عن الوثائق العثمانية، صفحة /237/ ما يلي:«ولما نمي ذلك إلى ذياب بن عدوان دبّ الحسد والغيرة في قلبه من أخيه وخرج من اللجون لقتال اخيه صالح لكنه انغلب وفرّ إلى دمشق مستنجدا بالحكومة، فأمدته الحكومة بجيش سار به إلى البلقاء، ولما سمع صالح أخبار هذه الحملة خاف والتجأ الى قلعة السلط. . استغل سكان السلط - من العشائر الفلاحية والمسيحية التي كانت تنعم بالأمن والاستقرار في عهد الزيادنة - هذه الفرصة للفتك بصالح الذي كان قد سامهم أنواع العذاب فهجموا عليه وقتلوه وبعثوا برأسه إلى قائد الحملة التركية».
تفرغ الزيادنة إلى بناء حاكمية حرة في الشمال الأردني، فكانت الإنجازات شاهدة علىذلك))
وما دام الشيء بالشيء يذكر فلا بد من الحديث عن خرزات اربد وما تعنيه : اذ تجمع الروايات الشفوية الشعبية في اربد ولدى عشائرها على وجود سبع عشائريه ترتبط بهذه الخرزات وهذه الوحدات القرابيه التي إشتهرت بإسم " الخرزات السبع" :وهذه العشائر السبعة هي : " هي عشائر : " التل , خريس , حجازي , رشيدات , دلقموني , شرايري ,عبنده " وتعتز هذه هذه العشائر بهذا اللقب الذي يؤكد أصالتها وقدمها ودورها الإقتصادي والإجتماعي والسياسي في مدينه إربد حيث استقرت بها بعد مشاركتها في معارك حطين وعين جالوت وتحرير فلسطين والقدس الشريف . اما الخرزات ومفردها " الخرزه " فالمقصود بها حجر من البازلت ألاسود يوضع على فوهة البئر المخصص لجمع مياه الأمطار , ويتالف حجر الخرزة وهو حجر الغطاء للفوهة عادة من حجر بازلتي دائري الشكل أسود اللون تتوسطه فتحة مناسبة الابعاد والقطر بحيث يدخل من خلالها " دلو " لجمع الماء وسحبه من اعماق البئر لخارجه ويعمل هذا الحجر على الحيلولة دون تساقط الحجارة والاتربه والاوساخ الى داخل البئر).
اما وان الشيء بالشيء يذكر لابد من الحديث عن عرب المسعودي وهم من جذام ايضا وكانوا الصق العشائر بالعمر ( بن عقبة ) لانهم من بطن واحد من جذام , ومع هذا صار بينهم خلاف على من تكون له الامارة بالكرك في فترة الحكم العثماني , فرحل المساعيد الى ديار عباد في البلقاء ونزلوا ضيوفا على القبيلة واتخذوا من عيرا ويرقا / غربي السلط محطة لهم حيث هاجمهم القائد التركي نصوح باشا بن عثمان وقتل امير المساعيد الشيخ عبدالقادر وذلك عام 1713 ميلادي .
وعلى اثر هذه الحملة التركية نزح المساعيد الى مناطق بيسان وكانت اراضي اردنية انذاك , حيث نزلوا الجفتلك والفارعه وامتدوا الى طوباس وكفر الديك ودير بلوط و ام خالد (الخضيره حاليا) وحيفا ونابلس والقدس والخليل حيث استقرت منهم فروع كثيرة في فلسطين . ولو بقوا في مناطق عباد لصاروا من العبابيد لانهم جميعا من جذام . وازاء هذا الاحتضان العبادي للمساعيد , رد هؤلاء الجميل بدورهم الى عباد في بيسان عام 1850 عندما لجات عباد الى الصقر وازرهم المسعودي نزوحا من تحالف البلقاء بقيادة العدوان ضد العبابيد . ولا زال في عيرا / عباد مايشير الى اقامة المساعيد في كنف العبابيد في هذه المنطقة, < حيث يسمى احد أحواض الأراضي في عيرا الى اليوم حوض الداير والمسعوديات , كما توجود أبيار ابو الفيتا وهم احد اسماء شيوخ المسعودي الذين مروا بعيرا , وقد شاركوا في معارك مع العبابيد ضد العدوان ايضا .
اما عن القائد التركي المذكور اعلاه وهو نصوح باشا عثمان , فقد ذكر عنه وعن ممارساته الشيخ شمس الدين محمد بن شرف الدين الخليلي ( ت 1147 هجري 1734 ميلادي , حيث ذكر عن احداث عام 1125 هــ 1713 ميلادي ما مارسه نصوح باشا من الاذى والظلم بحق الناس في الديار الاردنية والفلسطينية , حيث يقول الشيخ شمس الدين عما فعله نصوح باشا ( عن مدونة المساعيد لمحررها راشد بن حمدان واشارة اليها من السيد طارق المساعيد ) اذ نبهني اليها مشكورا , حيث نجد مانصه : :
لفي عام 1125 هــ شن الوالي التركي في دمشق نصوح باشا بن عثمان أغلي حملة شعواء على بلاد الأردن وفلسطين نكل فيها بالأهالي وفعل بهم ما لم يفعله إلا أعداء الأمة إبان الحروب الصليبية والمغولية " ... فإنه نهب الأموال والبلاد وأخذ النساء والأولاد وكانت الحرائر بنات الأمراء تباع في الأسواق وبنات الأشراف كذلك فإنه ركب على الكرك وخرب قلعتها وقتل أهلها جميعا لم يبق منهم إلا القليل وأخذ السبايا مثل سبايا النصارى " وقال : " أخذ نساء جبل نابلس وكن يزدن على خمسمائة امرأة "
وقال : " ونهب المساعيد مالا وولدا ونساءا ولم يسلم إلا الرجل القوي هرب بنفسه وصاروا عبرة للمعتبر في البلاد وقتل أميرهم عبد القادر وكان إذا نزل ببلاد ثم سافر تنتشر جماعته مقدار ثلاث ساعات فجميع من يلقونه يأخذونه من مال ورجال ونساء وبنات وأولاد ، إن كان طائعا وإن عاصيا ، إن ظالما أو مظلوما ، إن عابدا أو زاهدا ، لا يعفون عمن دب ودرج ، هذه سيرته في البلاد والعباد ونهب البلقاء جميعا أموالها وأولادها ونساءها وجمع جميع أولاد البلاد اشامية من حلب إلى الحجاز وكان يعمل في الحجاز شيئا لا يرضي الله ولا رسوله ، ثم لم يزل في الطغيان والفساد والنهب والقتل في العباد "
وقال : " وكان في الحج الشريف سنة خمس وعشرين وماية وألف فتنبه له ملك الزمان أعزه الديان ونصره الرحمن هو جناب السلطان احمد بن محمد خان من آل عثمان فكتب الأوامر بقتله وإراحة المسلمين من شره وعين عليه عدة وزراء وباشاوات " قال : " فمكثوا ينتظرونه لما يقدم من الحج " قال : " .... فأدركته العساكر في غابة السيد علي بن عليل وقتلوه بها شر قتلة " قال : " كانت الدنيا في غاية الفساد منه ومن جماعته واتباعه وعساكره حتى أنه لما ركب على المساعيد ونهبهم وقتلهم واخذ نساءهم نزل أريحا ثلاثة أيام حصل له النهب ولجماعته وأينما مر من سائر الجهات واللصوص تابعين له ينهبون من جماعته حتى أنه لما توجه للرملة من القدس قتل من جماعته نحو ثلاثين رجلا ولم يسال عنهم لفساد حاله وحال اتباعه وجماعته " ( تاريخ القدس والخليل ، تأليف الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن شرف الدين الخليلي ، تحقيق الدكتور محمد عدنان البخيت و الدكتور نوفان رجا السوارية ، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ، لندن ، 1425 هــ 2004 م ، ص 199 و200 و 201 و202 و 203 )
قلت : لقد ارتكب هذا الوالي الظالم مذابح يندى لها الجبين تجاه بلاد الأردن وفلسطين وفعل ما لم يفعله إلا التتار والغريب أن الشيخ الخليلي الذي بين شيئا من هذه المظالم حينما ذكر ما يتعلق بقبيلة المساعيد قال : " ... ونهب المساعيد مالا وولدا ونساءا ولم يسلم إلا الرجل القوي هرب بنفسه وصاروا عبرة للمعتبر في البلاد وقتل أميرهم عبد القادر " وهذا يفيدنا بأمرين هما :
1ــ تحامل المؤرخين على القبائل العربية فهو هنا يظهر شيئا من الشماتة حينما يقول ( صاروا عبرة للمعتبر ) رغم أن القبائل لا تقتل طفلا ولا امرأة ولا تفعل ما فعله هذا الوالي الطاغية فالمؤرخ يرى في أعمال هذا الوالي تجاه القرى والمدن والأرياف ظلما وفسادا وحينما تعلق الأمر بقبيلة عربية أبدى شيئا من الرضى لأن هذه القبيلة أصبحت عبرة للمعتبر ، وهذا حال بعض مؤرخي الدولة ممن يتحاملون على قبائل العرب . ففي عام 839 هــ أرسل الشريف أبو زهير بركات بن حسن بعثا إلى بعض بطون حرب حول عسفان وكان هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان وسار معهم الأمير أرنبغا وصحبته عشرون مملوكا فلما نزلوا عسفان وجدوا خمسة رجال وامرأة حامل فقتلوا الرجال وقتلوا المرأة وما في بطنها واستاقوا الإبل التي وجدوها وعادوا وفي طريق عودتهم كمن لهم أهل المنطقة من بني حرب فقتلوا منهم أربعين رجلا من أهل مكة ومن المماليك ثمانية رجال وجرح الكثيرون .
قال عبد الملك العصامي وهو المؤرخ الذي أورد الخبر تعليقا على ما أصاب بعث الشريف : " إنا لله وإنا إليه راجعون " قال الشيخ عاتق بن غيث البلادي معلقا على هذا : " عندما قتل جماعة أرنبغا المرأة الحامل ومن في بطنها أيضا لم يقل أحد إنا لله وإنا إليه راجعون ! " ( نسب حرب ، ص 112 وحاشيتها )
2- ويبدوا أن المساعيد بعد إن استقفاقوا من هذه الهجمة أخذوا يتتبعون جيش نصوح يقتلون منهم يدل على هذا قول المؤرخ ( لما ركب على المساعيد ونهبهم وقتلهم واخذ نساءهم نزل أريحا ثلاثة أيام حصل له النهب ولجماعته وأينما مر من سائر الجهات واللصوص تابعين له ينهبون من جماعته حتى أنه لما توجه للرملة من القدس قتل من جماعته نحو ثلاثين رجلا ولم يسال عنهم لفساد حاله وحال اتباعه وجماعته ) وقول المؤرخ أن الذين كانوا يهاجمونه هم لصوص قول مردود فهل كان يجرؤ اللصوص على مهاجمة قائد عسكري ؟ بل هاجمه أولياء النساء الذين سباهن وحصل له هذا الهجوم بعد نهبه للمساعيد كما نص عليه هو نفسه .وقد أورد هذا الخبر محمد بن جمعة المقار في كتابه الباشات والقضاة في دمشق ص 54 في ذكر حوادث سنة 1125 هــ 1713 / 1714 م : " وفيها ركب نصوح باشا على عرب المسعودي فقتل ونهب وأخذ أموالهم وأولادهم ونساءهم .... " ( تاريخ القدس والخليل ، ص 279 ــ 280 ) كما أورده إبن كنان فقد ذكر أن نصوح باشا قاتل أهالي البلقاء من عرب المسعودي المستقرين ( قافلة الحج الشامي ، مأمون أصلان بني يونس ، ص 49 )

التعليقات محجوبة بناء على رغبة المؤلف ومن كانت له ملحوظة موثقة ان يرسلها باسمه الصريح الى بريده الالكتروني اعلاه



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد