أربعةُ «أصفار» على ما تبقّى من غزّة

mainThumb

05-11-2023 11:09 PM

 

أولًا: المسافة صفر
ليسَت "المسافة صفر"، حدثًا جديدًا، إنّما هي التّطور الطبيعيّ للطفل الفلسطينيّ الذي كانَ يقفُ أمامَ "دبابة" الاحتلال في الانتفاضة الأولى ويضربها بالحجر. وهذه المظاهر من "البطولة" والإقدام الفلسطينيّ ستسجّل دائمًا في أذهاننا، وستقدّم كردٍ على كلِّ من سينسى أو يتناسى كيفَ وإلى أيِّ حدٍ دافع الفلسطينيُّ عن أرضه، وهي التي تعطينا شعورًا بالعزّة والكرامة. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ قدراتِ المقاومة في غزّة، والمنطلِقة من قدرة وإيمان وعقيدة المُقاومين، محدودة وبدائيّة أمام آلة عدوان الاحتلال، وهذا سيقودنا للتفكير في نقطتين أساسيتين كي لا تتحوّل المسافة صفر إلى السّاعة صفر للإبادة التامّة:
*. تنتشِر التّهويلات الكبيرة، والأخبار المختلقة.. التي يبدو هدفها مبدئيًا إعطاء طمأنينةٍ كاذبة ومريحة لنا، (نحنُ الجالسون في الفُرجة)، وهي مضرِّة مثلها مثلَ الأخبارِ المُحبِطة والمُثبّطة، فيجري تداولُ أخبارٍ حول عشراتِ القتلى والأسرى، بل وحتّى فبركة صور لهم وغير ذلك، إضافة إلى عباراتٍ مريحة جدًا، إحداها مستفز للغاية كنتُ أحاول ألّا أعلّق عليها، وهي: "تخيّل أن يرجع الاتّصال ونجدهم انتصروا" أو "رح نفطر بحيفا". يبدو فقدان الواقعيّة والإيمان بالخوارق أمرًا رائجًا، والحقيقية أنّ المقاوَمة بأسلحتها البدائيّة القليلة والمحليّة، وبعزيمة رجلها وصبرهم منقطع النّظير، وبإنجازاتِها هي حالةٌ معجِزة أصلًا أمام جيشِ الاحتلال المتطوّر والمدعوم من دول العالِم، لكنّهم بشرٌ في النّهاية، إنّهم أمامَ آليات من البرّ والبحر والجو وسط قطع الكهرباء والماء والغذاء، ووسط قصف مرعب للمدنيين والأطفال، وهم أهاليهم وأقاربهم وجيرانهم، وإنّهم يصمدونَ محطِّمين كلّ معايير الدنيا، كما صمَد الفلسطينيونَ قبْلًا في جنوب لبنان وجنين وغيرها. لكن هناك حقيقة أخرى هي أنّ استمرار العدوان والحِصار والتّوغل بهذه الطريقة سيؤدّي لخسائر فادِحة، ولإبادة جماعيّة ستتجاوز أعدادها المتخيّل.
*. أنا غير مرتاح إطلاقًا لخطابِ الاحتلال في الآونة الأخيرة حولَ "الثّمن" و"الخسائِر" التي يتكبّدها في الدخول البرّي، وتباكيه الكبير على جنوده من "النّخبة"، لم نعتَد صراحةً مثل هذه في موضوع خسائِره من الجنود، وهذا الوُضوح مبالغٌ فيه (أو فائض الوضوح) في نشرِ أعداد القتلى وأسمائِهم ورتبِهم، على مرِّ تاريخه، وتباكيه عليهم أكثر من تباكيه على الأسرى منهم لدى المُقاومة، أو حتّى على "فرقة غزّة". وفكّرتُ أنّ ذلك من الممكن أن يتعلّق بالانقسامات الداخليّة، أو أنّ "الجيش" غير مقتنع بالحربِ البريّة ويحاول زيادة ضغط الجبهة الداخليّة على "القيادة السياسيّة"، أو أنّ الاحتلال يحضِّر لكارثة ما. هذا ليسَ تشكيكًا في أنّه يواجه مقاومة شرسة جدًا ويتكبد خسائر حقيقيّة، ولكن هذا نظَر إلى نقطة أخرى من الأمر وهو الاعترافُ به بشكل أكبر وأوضح من اللازم، إضافة للحديث عن الخسائر الاقتصاديّة وغير ذلك، والأكيد أنّ الاحتلال كان يتوقّع هذه المواجهة في غزّة قبل أن يبدأ التّوغل. هل يبحث مثلًا عن نزول معقول عن الشّجرة وتخفيض سقف الأهداف التي وضَعها؟ متحججًا ربما بتقليل الخسائِر مع أنّه يؤكّد الاستمرار لغاية الآن، أم هل يمهّد لحرب طويلة الأمد يعطيها مبرّرات إضافية؟، أم يمهد (أمام العالم ربّما) لخيارات أكثر وحشيّة قد تصل لأسلحة غير متخيّلة (ولا يجب أن نأخذ تصريح مَن يسمّى وزير التّراث بشكل عابر، واليوم بدأ الاحتلال باستخدام القنابل الزلزاليّة).
المقاومون يراهنون على عامِل الوقت، وإذا استمرَّ الأمر على هذه الوتيرة فلن يتبقّى شيء من غزّة وستعود الأمور إلى نقطة الصفر، ولن يجدَ أيُّ أحدٍ أصلًا أرضًا ولا شعبًا ليحكمهم، والاحتلال الذي وجد هذا الصّمت والرّضى والمشاركة العالميّة في إبادة غزّة، لن يتورّع عن الاستمرار في "خرافاتِه التلموديّة" ونقل الإبادة إلى كلّ مكان، "الناجونَ من الهزيمة"، يحاوِلونَ بما استطاعوا، إذْ لم يعد هناك فُرص للاستسلام أصلًا، والتاريخ يدور، وعدوان الاحتلال الذي صدّق الآن أنّه "الرّب الأعلى" للدنيا وأنّه لن "يقدر عليه أحد" مستمرٌّ، والمطلوب هو لحظة شجاعة من أيّ أحد تزيد من الضّغط على الاحتلال و"جبهته الداخليّة" المتهالكة، وتُبعثر الأوراق عالميًا، بدل كلّ المواقف التي تزيد من الضّغط على غزّة، وإلّا فإنّها "الإبادة المحقّقة" للجميع، وليسَ لغزّة فقط.

ثانيًا:«ويبدو (جمعُنا) صفرًا»..

لَقَد تَمّ تسليعُ كُلّ شيء. الآن أصبحَ بإمكانِكَ شراءُ إنسانٍ وبيعه، شراؤه كاملًا أو مقطّعًا، شراءُ صمته أو كلامه، حضوره أو حتّى غيابه، شراءُ قدمه لتسير بِها في المسيرات، شراءُ يده بهراوة أو سلاح أو حَرَكة أو قلم أو شراؤها فارغة مستعدّة لأيّ شيء. والذي يبيع فإمّا لدناءة في نفسِه وهذا ما لا يمكن إصلاحه، وإمّا لحاجةٍ تكسرُ ظهره، أو خوفٍ ينخرِ قدميه، أو عجزٍ يشُلّ حركته، وإمّا لأنّ عددًا قد باع... تمّ تسليعُ الأشياء والأشخاص والمواقف والصّور والأصوات والأفكار والثّورات والأوطان والقضايا والدّماء. أيضًا يمكن أن تبيع عقلك، تخيّل. في زمن البيع بالجُملة هذا أفكّرُ كثيرًا في مآلاتِ هذا الإنسان، في استمرار تناسُل البيع.. وتناسُل القمع والقتل والذّل والإذلال، وانهيار كلّ ما يتعلّق بحقوق الإنسان والمنطق والقانون والأخلاق. في هذه المرحلة التي أصبحَ فيها الفلسطينيُّ جحيمَ الفلسطينيّ بدل أن يكونَ جَنّته، وفَخّه بدل أن يكون متراسَه، وقاتِلَه معنويًا وحقيقيًا بدل أن يكونَ المدافِع عنه. ليست هوايةً ولا أمرًا مُربحًا جلدُ الضّحية/ الذات على أخطائها، بل أمرٌ مؤسف ومؤلِم.. لكنّها أخطاء تحوّلت إلى خطايا فادحة، وواقِع يحتاجُ إلى تحوُّلٍ جذريّ عميق، الآن وليسَ غدًا، في السّياسة والأسلوب والممارَسة والأشخاص والقناعات والأولويات. لا أحد يُريد أن يخرجَ من خانَة "تحصيل حاصِل"، ومِن إرضائه بالمساعدات الإنسانيّة وحفنة أوراق ماليّة وبضع وعودات لا يمكن إطلاقًا إنجازها على الأرض، وأكل الزّمان عليها وشرِب بشكلها المنهار. لا أعرف إنّ كانت هذه هي النّهاية.. والفلسطينيّ استراحَ إليها؟. لا أعرف فعلًا، لم يعُد سهلًا الجزمُ بشيء الآن، ونحنُ نتفرج على أعدادِ الشّهداء ودماءِ الأطفال، وما تزالُ لدينا القدرة على النفاق والدفاع عن "الغلط" وتبنيه والتّصفيق له والمناكفة لأجله سرًا وجهرًا. ينهارُ الإنسان كمفهوم حديثًا. وتصبح الإنسانيّة بلا أي قيمة (لا ترقى للصّفر حتّى)، وسط غرقِه بالتّناقض والازدواجيّة. والإبادة الجماعيّة مستمرّة في غزّة، تهتزّ لها السماوات. هذا ما يخبرُنا به الواقع والمجتمع الدّولي والسّياسيين والرؤساء والمنظمات والقنوات، دونَ أن يقدّم أحدٌ ممن لديه قرار كيفَ سيتمّ وقف هذا، من (أمم المليارات) التي يبدو "جمعُها صفرًا" كما قال أحمد مطر. ولا تبدو فعلًا استعارة "يا وحدنا" إلّا وضع لأشياء في غير محلّها، فهم وحدهم فقط. والباقي بلا استثناء، كلّنا، نفكّر بمقدار الثّمن الذي سندفعه قبلَ اتّخاذ أيّ موقف، من الصّغير إلى الكبير.

ثالثًا: أصفارٌ أخرى...
يبدو صراخُ الأب في غزّة على النّاس ليبحثوا عن واحدٍ على الأقل من أبنائه الثلاثة، خوفًا حقيقيًا من أن يبقى (صِفرَ اليدينِ وحيدًا) بلا عائلة أو أبناء. وتبدو المطالبات للولاياتِ المتّحدة بالتّدخل لوقفِ العُدوان (وهي شريكٌ فيه وهي تقول بشكلٍ مباشر أنّها لا تدعم وقفه)، صفرًا حينَ نكتشف أنّها قامت بإجراء تغيير على خطابها (للوراء)، من الحديث عن "حقِّ الاحتِلال" بالدّفاع عن نفسه، إلى الحديثِ عن "واجِب الاحتلال" بالدّفاع عن نفسه، ضدَّ الأطفال والنساء والمدنيين والعُزّل والمشافي والمدارس وسيّارات الإسعاف. ويبدو انتِصارُ محمود درويش المُنتَحل في "ستنتهي الحربُ ويتصافح القادة" على محمود درويش الشّاعر في "أنا أحمد الزّعتر" و"هل سيسفِر موتُنا عن دولةٍ أم خيمةٍ؟" أو حتّى في "أنتَ منذُ الآن غيرك" و"خطب الدّكتاتور".. صفرًا شعريًا وثقافيًا أيضًا.

رابعًا: تحديق من المسافة صفر (الصورة أسفل النّص)
هذا المشهدُ مرعبٌ أكثر من أيِّ شيء، مرعبٌ جدًا. أحدّق في الصّورة متصلبًا أمامَها مثل حجر، أحسّ بالموتِ في لحمي. أتذكّر: "وأعيُنهم تفيضُ من الدّمع"، وأتذكّر: "فوربّكَ لنسألنّهم أجمعين". ولا أستطيعُ أبدًا.. أبدًا.. التّفكير فيما تحسُّ به السّيدة الجالسة (قدّام) الجثامين. كأنّها تحرُسهم؟ (من أن يُقصفوا مرّة أخرى أو من "هواة الرّثاء" أو منّي).. أو كأنّ بها سَكِينةً، من عند الله، لا تكونُ لبشر عاديّ: "لولا أنْ رَبَطنا على قلبها".. أو أنّها صرخت حتّى تفطّر صَدرُها...وهدَأت.. هدوءَ الذي رآى الموتَ وجهًا لوجهٍ تمامًا ثمّ نجا.. جالسًا مثلَ جثّةٍ أنا أمامَ صورَتِها التي قُدّامَ الجثامين، هل تُحسّ هيَ أنّها مثلهم؟ جثمانٌ ظلَّ يتنفس.. أكثر من ثلاثينَ شهيدًا اجتهدتُ في عدّهم، هل فكّرت هي في عدّهم؟ أو ربّما تعرفهم واحدًا واحدًا ما حاجتُها للعَدّ؟ وربّما هم أكثرُ مما استطاعت عدسة الكاميرا نقله أصلًا. هذا المشهدُ وحشيٌ، وإنّه يستقرُّ في رأسي، هل هذه الصّورة تكفي لشرحِ معنى "النّجاة" من الموتِ/ (الشّهادة) في غزّة؟.. كانوا عائلتها وجيرانها على الأغلب، كانَ لهم بيتٌ وملايينُ الذّكريات التي لن تفارِقَ رأسها أبدًا. لماذا أتذكّر الآن "لقد سرقَ الأعداءُ رقّتنا" التي قالها مُريد؟، هل لأنّ حجارةً وأمواتًا يمشونَ داخلنا نُحن الذينَ نتقطّعُ صامتين في البعيد، كيفَ هيَ؟ الصّورة ساكِنة كأنّها بلا صوت، مع أنّ أصواتَ القصفِ لا تتوقّف في غزّة، تختلطُ بأصواتِ البكاءِ والصّراخ والدّعاء، كأنّها لحظة خاصّة مقتطعةٌ من فائضِ التّجاسُر والصّبر، أو من هول الصّدمة، أو غرائبيّة فكرة الموت التي تحبِسُ العقل. أظنّ أنّ السيّدة صامتةٌ الآنَ تمامًا، العجزُ الحقُّ يعقِدُ اللّسان، "فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صومًا" قال اللهُ لمريمَ عندما أحسَّ بعجزِها عن شرحِ الأمرِ للبشَر. مشهدٌ مرعبٌ.. ولا يكفُّ عن التحديقِ فيَّ، هكذا يولدُ الغضب الفلسطينيُّ أو وُلِد، لا يكفُّ عن التحديقِ فيَّ وفينا، وإنّنا لا نرفعُ اللّومَ عن أنفُسنا بهذا البكاءِ بل نلومُنا به. دمُ الشّهداء في عنقِ كلّ من يملكُ قرارًا. ألا تُحدّقُ فيهم الصّور؟ ألا تطاردُهم في نومهم مثلَ الكوابيس؟.. مشهدٌ وحشيٌ يستقرُّ في رأسي.. لاحتلالٍ وحشيٍّ ونازيِّ يُحرِّقُ البَشر والحَجرَ والقُلوبَ والخَواطِر. يحدّقُ بنا أبدًا هذا المشهد.. وإنّه تحديقٌ "تنوءُ به الجبال"…..

* كاتب فلسطينيّ



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد