الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي: الحلم المؤجل لآلاف المتقاعدين

mainThumb

05-11-2025 05:37 PM

السوسنة - عمان - فراس الحديدي
في زوايا الوطن الممتدة من عمّان حتى الكرك، تتقاطع حكاياتهم في تفاصيلها الدقيقة رغم تنوع الملامح واللهجات. إنهم المتقاعدون، أولئك الذين قضوا أعمارهم في التعليم، والخدمة، والإعمار، وها هم الآن يجلسون في مقاعد خشبية قديمة في ممرات المستشفيات، ينتظرون دواء أو تقريرا أو استثناء... أو بارقة كرامة.
قصة تبدأ من العيادة... ولا تنتهي
كان الحاج أبو محمد، المتقاعد منذ عشر سنوات، يقف مستنداً إلى عكازه في طابور مزدحم أمام صيدلية مستشفى حكومي في العاصمة. في يده وصفة دواء لأمراض مزمنة، وفي قلبه صبر طويل. بعد ساعات من الانتظار، قيل له إن تقريره الطبي "انتهت صلاحيته". عليه أن يعيد الإجراءات من جديد. يخرج أبو محمد متعباً، لا يحمل شيئاً سوى الوصفة القديمة، وأمل لا يكف عن التآكل.
مثل أبو محمد، عشرات الآلاف من المتقاعدين في الأردن يجدون أنفسهم في مواجهة بيروقراطية قاسية، ونظام إعفاءات طبية معقد، لا يراعي ظروفهم الصحية أو النفسية، ولا يعكس حجم تضحياتهم في خدمة الدولة.
الرقم يتكلم... لكنه لا يعالج
تشير أرقام مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى أن عدد المتقاعدين بلغ في 2024 أكثر من 341 ألف متقاعد، 88% منهم غير مشمولين بأي مظلة تأمين صحي فعّال. متوسط المعاش التقاعدي لا يتجاوز 488 ديناراً، بينما تصل كلفة علاج مرض مزمن إلى 1,200 دينار سنوياً.
أكثر من نصف هؤلاء المتقاعدين يعتمدون على الإعفاءات الطبية المؤقتة، التي تزداد صعوبة في الحصول عليها، ويُرفض أو يُؤخر ما نسبته 30% منها. ويضطر بعضهم لتقليل جرعات الأدوية، أو الاستدانة، أو الاعتماد على الأبناء لتأمين كلفة العلاج، مما يؤثر نفسياً واجتماعياً على الأسرة بأكملها.
مشروع مؤجل... هل يعود؟
في عام 2021، أطلقت مؤسسة الضمان الاجتماعي، بقيادة د. حازم الرحاحلة، مشروع تأمين صحي شامل يستهدف المتقاعدين والعاملين غير المؤمن عليهم. تغطية 100% في مستشفيات القطاع الخاص، علاج السرطان في مركز الحسين، واشتراك بنسبة 3% من دخل المنتفع.
أُنجزت الدراسات الاكتوارية، وتم الاتفاق مع الأطراف المعنية، لكن المشروع توقف في 2022. حاول فريق التحقيق التواصل مع د. الرحاحلة مراراً للحصول على تعليقه، إلا أنه لم يرد رغم محاولاتنا عبر مكتبه ووسائل تواصل متعددة.
عين خبير: هل يمكن للضمان أن يُطبّق التأمين؟
يقول الحقوقي والخبير في التأمينات الاجتماعية موسى الصبيحي: "نعم، يمكن تطبيق تأمين صحي اجتماعي مستدام من خلال الضمان، لكن بشروط أهمها أن تكون الحكومة شريكاً استراتيجياً، أن توضع نسب اقتطاع عادلة، أن يدار صندوق التأمين باحتراف مستقل عن بقية التأمينات، وأن يتوفر احتياطي مالي للتقلبات المفاجئة."
ويضيف أن الشمولية والعدالة وجودة الرعاية شرط أساسي، وأن هناك فرصة حقيقية لإطلاق المشروع خلال خمس سنوات، إذا توفرت الإرادة والشراكة.
المجتمع يقول كلمته
استطلاع للرأي أجرته الجمعية الأردنية للضمان في اذار 2025 أظهر أن 85% من المواطنين يعتبرون التأمين الصحي للمتقاعدين حقاً أساسياً، و78% منهم يؤيدون فرض ضريبة رمزية لتمويله.
مبادرات تنبض من الهامش
في إربد، أطلقت جمعية خيرية مبادرة "صحتك أمانة" عام 2023، تؤمّن تغطية صحية رمزية مقابل 15 ديناراً شهرياً. النتيجة؟ خفض الاعتماد على الإعفاءات بنسبة 60%، وتوفير أدوية وفحوصات دورية، وتحسين نوعية الحياة للمستفيدين.
أصوات خلف الأرقام
أم محمد (62 عاماً): "دفعت 28 سنة اشتراكات، واليوم أضطر أتنازل عن دوائي لأوفر لأولادي."
أبو خالد (67 عاماً): "أنتظر عملية قلب، لكن الورق أبطأ من القلب."
فاطمة (70 عاماً): "اشتريت الدواء بديْن، حتى ما أحرج ابني العاطل."
دروس من الجوار... ونماذج قابلة للتكيّف
في المغرب: تغطية 70% من المتقاعدين، بتمويل مشترك من الدولة وصناديق خاصة وضريبة تضامنية.


في تونس: تغطية 85% عبر صندوق وطني ممول من الاشتراكات.


في مصر: خطة تدريجية حتى 2030 لتغطية كبار السن، بتمويل من الضرائب ورسوم على بعض الخدمات.


هذه التجارب تُظهر أن الشراكة والتمويل المتنوع هما مفتاح النجاح.

خارطة الطريق المقترحة
2026: شمول كبار السن والمرضى المزمنين – الكلفة التقديرية 50 مليون دينار


2027-2028: اشتراك اختياري مدعوم – الكلفة 30 مليون دينار


2030: تطبيق إلزامي تدريجي – الكلفة 90–130 مليون دينار
مع إشراف هيئة مستقلة وإصدار تقارير دورية للرقابة والشفافية.
في ردهة الوطن... لا يزال الانتظار قائماً
ليس هذا التحقيق سوى تذكير بأن من بنى هذه البلاد يستحق أن يعيش شيخوخته بكرامة.
في وطن كتب في دستوره "الشيخوخة في كنف الدولة"، لا يجوز أن يبقى العلاج حلماً، والدواء امتيازاً، والصحة رفاهية.
لا نريد مديحا للماضي، بل رعاية للحاضر. لا نطلب صدقة، بل شراكة في الإنسانية. إن التأمين الصحي ليس ترفاً سياسياً، بل امتحان حقيقي لمعادلة الكرامة.
وحتى يحين الموعد، سيبقى المتقاعد الأردني جالساً على مقعد خشبي في ردهة الوطن... في انتظار بارد، لا يدفئه سوى الأمل.
المصادر:
مؤسسة الضمان الاجتماعي – إحصاءات 2024


وزارة الصحة الأردنية – تقارير التغطية الصحية


البنك الدولي – الحماية الاجتماعية في الأردن (2021–2024)


جامعة اليرموك – دراسة اكتوارية 2024


مقابلات ميدانية – عمّان، الزرقاء، إربد


متابعة ملف التأمين الصحي (2021–2025)


مبادرة صحتك أمانة – إربد


الجمعية الأردنية للضمان – استطلاع اذار 2025


تجارب المغرب، تونس، مصر – وزارات الصحة


تصريح خاص من الحقوقي موسى الصبيحي – خبير التأمينات الاجتماعية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد