تاريخ الاردن وعشائره /الحلقة الخامسة لـ عويدي العبادي

mainThumb

08-11-2009 12:00 AM

عمان - السوسنة

توضيح من المؤلف

فنحمد الله سبحانه على نعمه , ونود التوكيد مرة اخرى ومرات ومرات : ان هذا الكتاب هو عن تاريخ الاردن وتاريخ العشائر الاردنية وليس عن انساب العشائر ولا عن العشائر غير الاردنية وليس عن غير الاردن مع كل الاحترام للجميع , وانما اتحدث في اختصاصي ويعينني ولا اتجاوز الى ما سواهما . ونؤكد مرة اخرى ان الكتابة عن الاردن لا تعني العداوة للاخرين وان حب الاردن لا يعني كره الاوطان والشعوب الاخرى .

كما انني اتقدم من كل المتداخلين الذين دونوا معلومات هامة ومفيدة موضوعية , لكنني انعي لحال اولئك الذين ابت عليهم انفسهم الا ان يخلدوا الى الارض لما يحملونه من اوزار الكره لكل ماهو اردني او فيه منفعة للاردن . كما انني ارحب باي انتقاد او تعليق او حتى شتيمة على شخصي , اما الشتيمة على الاردن والشعب الاردني والهمز واللمز والاستخفاف بهذا الشعب والوطن فهي ما لانسامح بها اطلاقا ولا اقول لا نسمح به , واشكر السوسنة على نشره لانه ياتي ضمن الراي الاخر .

نحن شعب لنا هوية وتاريخ ووجود وكيان شاء من شاء وابى من ابى . ونحن شعب ابي عصي على الدهر والذئاب والاذناب , عصي ابد الدهر على كل احتلال واختلال واذلال وجدير بكل احترام واجلال , ونحن شعب نعلم ( بتشديد اللام ) الاخرين معنى الكرامة والرجولة والصبر والاناة والموالاة والانتماء للوطن دون ان نمن على احد ولكننا نرفض ان يمن علينا احد من البشر في هذا الكون .

نحن لسنا انبياء ولكن خرج منا الانبياء وعاش بيننا الانبياء وتوسد ثرانا الانبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا , والاولياء والصحابة والطاهرون والمجاهدون . نحن لسنا ملائكة لكننا لسنا شياطين ولا جنودا للشياطين ولا ادوات للشياطين , ونحن قوم نتحرك حبا بالحرية لا قبولا بالعبودية وليس فقدانا للانتماء للتراب , ونحن كنا نتجول طلبا للماء والكلأ وللامن والحماية والحرية والحياة الكريمة عندما قبلت شعوب اخرى بالذل والعبودية والمهانة الخنوع . نحن عندما نغادر الوطن يبقى الاردن مستقرا في اعماقنا ونتشوف العودة اليه ولو بعد قرون ولا تثنينا فوائد الوطن الجديد وامتيازاته عن اطلال بلادنا وخرائبها . ثم نعود الى الوطن لنستقر فيه وعليه ولو بعد اجيال.

لقد تلقيت الشتائم ضدي باقل من العادي وبصدر رحب , ولكن الشتائم ضدنا كشعب ووطن والهمز واللمز امور تستوجب الرد مثلما تستوجب النشر ضمن حرية الراي والراي الاخر , وعلينا كاردنيين الا نتسامح ولا نتهاون في الشتيمة ضد الاردن والاردنيين وضد الهوية والتاريخ والثقافة . وعلى هذه الالسن ان تلتزم الادب فنحن شعب مؤدب لكننا نؤدب من يتجاوز الادب ونعلمه الادب ونعلمه كيف يتادب , ونحن شعب نستحي ونحتشم لكننا نصفع من يخلع ثوب الحياء والحشمة ونعلمه اصول الحياء وكيف عليه ان يستحي ونعلمه كيف عليه ان يحتشم , ونحن شعب صبور وقور ونعلم غيرنا الصبر والوقار . نحن شعب مدرسة كرامة ونعيد الكرامة لمن فقدها وبالتالي لا يجوز لمن نحن اصحاب اليد العليا عليه ان يتطاول علينا . نحن البلد الوحيد في العالم الذي تبدا حدوده بالكرامة وتنتهي حدوده بالكرامة , لاننا شعب كريم واهل كرامة ومدرسة في الكرامة نعلم الاخرين الكرامة وكيفية الحفاظ على الكرامة , فنرجو الا يخدش احد كرامتنا فقد امتزجت في دماء ابائنا واجدادنا منذ الوثنية الى اليوم بتراب الاردن .

واما المشككون فهم جزء من مدرسة عبدالله بن سبأ وعبدالله بن ابي كبير منافقي المدينة المنورة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , والذين وان ماتوا باجسادهم لكنهم مدرسة مستنسخة في النفاق والتشكيك في كل عصر وعادت تطل براسها في الاردن .. نقول لهم قولوا ماشئتم ونحن نكتب ما نريد بل نكتب الحقيقة . فالتاريخ لمن يكتبه . واكرر لكم القول الذي سبق وقلته : ان التاريخ لمن يكتبه لا لمن يصنعه , ولكنني نصنع التاريخ ونكتبه . فانتم تقولون ضدنا ما لا دليل عليه ونحن نقول لكم ما لا حجة عندكم على نقضه , وشتان بين الهراء والدواء , وبين الزبد والزبدة وبين الثرى والثريا .

هذا كتاب يذكر الحقائق ومن حقنا الدفاع عن الاردن بالكلمة المدونة وهي الاخطر , وبالدليل وهو الاهم والاجدر , وبالقلم وهو السلاح الذي لا يفله الا القلم مثله , واما الحلقات الضائعة في تاريخنا فمن مهمة المؤرخ الامين الصادق المخلص ان يعيد بناءها بما يتفق مع السياق وطبيعة الشعب ومراحله .

ولم يقع ظلم على شعب في التاريخ العربي مثلما وقع على الشعب الاردني , وان اعظم ظلم لنا ان يقال لنا اننا شعب بلا تاريخ ولا هوية ولا ثقافة ولا كيان ولا وطن . وانا اقول لله در هذا الشعب الذي صمد امام اربعة قرون من التصفية على ايدي العباسيين واربعة قرون مثلها على ايدي الاستعمار التركي والف سنة على ايدي اليونان والرومان وخمسة قرون على ايدي الفرس وبلاد الرافدين وقرنين تحت الاحتلال الصليبي

اقول لله در الاردنيين من شعب كيف صمد واستمر واستطاع ان يخترع ويبتدع وسائل للحفاظ على نفسه والتكيف الى ان بقي الى الان . انه اتقن لعبة صراع البقاء حقا . ياله من شعب عظيم حقا , وياله من شعب يعرف كيف يصارع ويصرع من اجل البقاء , ويبتسم عند الجراح ويضحك عند الصياح , وياله من شعب غير وجه التاريخ عبر حقب التاريخ وغير الاسماء وضحك على جميع الدول من الفرس والاشوريين والبابليين والعباسيين والصليبيين والايوبيين والمماليك والاتراك الى الانتداب البريطاني .

فعل ذلك من اجل البقاء وحبا بوطنه الاردن ( ياديرتي مالك علي لوم لومك على من خان ) ولم يسجل التاريخ خيانة لاردني ضد بلده منذ الوثنية الاولى الى الان , الا من كانت جيناته هجينة وتلزمه بذلك ؟؟؟؟ .

وما كتابتي لتاريخ هذا الشعب وانا في السجن الا لانه شعب يسكن في اعماقي , ولان وطني يسكن في اعماقي حتى عندما كنت وراء القضبان بعيدا عنهما , وهاهو هذا الكتاب بين يدي القراء ليكون وثيقة للاجيال والتاريخ ومن لم يعجبه هذا الكلام قليقل ماشاء له هواه , وليشتم ويتهم شخصي كما شاء له هوى الاتهام والشتيمة , وليذهب يبحث عن الولائم ليملا بطنه الاجرب الذي لم يمتليء من اموال اليتامى والارامل والمظلومين والشعب الاردني , ولياكل الجديان والخرفان والصيصان وليقطع الثروة الحيوانية , الا انه لامكان له في التاريخ ابدا ولكن مكانهم في ( ..... ).

ارجو من الاخوة الكرام في السوسنة ان ينشروا اية انتقادات او شتائم ضدي كشخص . لاننا نريد من كل صاحب قرار ان يتسع صدره لراي الشعب , ومن حق الشعب ان ينتقد كل مسؤول او كاتب , حتى ولو كان المسؤول سابقا ومهمته البحث عن اصناف الاطعمة في بيوت الناس في ولائم فاخرة لا ياكل منها فقير ولا ارملة ولا يتيم . واكرر القول انه وبدون حرية الكلمة فان الاوطان تبقى مزعزعة الاركان , وانه وباستمرار هذه الولائم فان جمعيات الرفق بالحيوان يجب ان تتحرك لتننقذ الخرفان والجديان والصيصان من افواه لا تشبع ابدا واعين لا تدمع واعمال لا تنفع .

. اقول للجميع : لقد زرعت بذورا من الفكر الوطني ومنها هذا الكتاب وغيره سيبقى مابقي الاردن والاردنيون ان شاء الله . فالاشخاص يموتون ولكن الفكر لا يموت , والجاني يلقى حتفه موتا ولكن العدالة لا تموت ولن تموت . وامل ان يكون ما نكتب وسيلة حضارية وعلمية في اعادة كتابة التاريخ الاردني , وان يتحول فكرنا ذات يوم وهو ما اراه عاجلا ام اجلا الى غابة وارفة الظلال وفيرة الغلال ينعم بها الشعب الاردني كله ان شاء الله .

أعداء المسيح ( Enemies of Jesuscrusaders )

درج الكتاب والمؤرخون على تسميتها بالحروب الصليبية، اما نحن فقد وضعنا عنوانها: أعداء المسيح . ولا بد أن نفرق بين النصرانية والصليبية. فالنصرانية في أساسها دين سماوي توحيدي جاء به السيد المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يقول : إلهي إياك وحدك أعبد، ولك وحدك أسجد. حيث ورد في القرآن الكريم أن سيدنا المسيح هو كلمة الله القاها الى السيدة العذراء مريم ابنة عمران عليها الصلاة والسلام، فكانت هذه معجزة مما أنزل الله على البشر.وقد دعا المسيح عليه السلام الى عبادة الله الواحد الاحد , وبشر بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم انه ياتي من بعد عيسى . وفي ذلك نصوص قرانية كريمة , قال تعالى :

و?Zإِذْ ق?Zال?Z اللّ?Zهُ ي?Zا عِيس?Zى ابْن?Z م?Zرْي?Zم?Z أ?Zأ?Zنْت?Z قُلْت?Z لِلنّ?Zاسِ اتّ?Zخِذُونِي و?Zأُمِّي?Z إِل?Zه?Zيْنِ مِنْ دُونِ اللّ?Zهِ ق?Zال?Z سُبْح?Zان?Zك?Z م?Zا ي?Zكُونُ لِي أ?Zنْ أ?Zقُول?Z م?Zا ل?Zيْس?Z لِي بِح?Zقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ ف?Zق?Zدْ ع?Zلِمْت?Zهُ ت?Zعْل?Zمُ م?Zا فِي ن?Zفْسِي و?Zل?Zا أ?Zعْل?Zمُ م?Zا فِي ن?Zفْسِك?Z إِنّ?Zك?Z أ?Zنْت?Z ع?Zلّ?Zامُ الْغُيُوبِ (116) م?Zا قُلْتُ ل?Zهُمْ إِلّ?Zا م?Zا أ?Zم?Zرْت?Zنِي بِهِ أ?Zنِ اعْبُدُوا اللّ?Zه?Z ر?Zبِّي و?Zر?Zبّ?Zكُمْ و?Zكُنْتُ ع?Zل?Zيْهِمْ ش?Zهِيدًا م?Zا دُمْتُ فِيهِمْ ف?Zل?Zمّ?Zا ت?Zو?Zفّ?Zيْت?Zنِي كُنْت?Z أ?Zنْت?Z الرّ?Zقِيب?Z ع?Zل?Zيْهِمْ و?Zأ?Zنْت?Z ع?Zل?Zى كُلِّ ش?Zيْءٍ ش?Zهِيدٌ (117) إِنْ تُع?Zذِّبْهُمْ ف?Zإِنّ?Zهُمْ عِب?Zادُك?Z و?Zإِنْ ت?Zغْفِرْ ل?Zهُمْ ف?Zإِنّ?Zك?Z أ?Zنْت?Z الْع?Zزِيزُ الْح?Zكِيمُ (118) ق?Zال?Z اللّ?Zهُ ه?Zذ?Zا ي?Zوْمُ ي?Zنْف?Zعُ الصّ?Zادِقِين?Z صِدْقُهُمْ ل?Zهُمْ ج?Zنّ?Zاتٌ ت?Zجْرِي مِنْ ت?Zحْتِه?Zا الْأ?Zنْه?Zارُ خ?Zالِدِين?Z فِيه?Zا أ?Zب?Zدًا ر?Zضِي?Z اللّ?Zهُ ع?Zنْهُمْ و?Zر?Zضُوا ع?Zنْهُ ذ?Zلِك?Z الْف?Zوْزُ الْع?Zظِيمُ (119) لِلّ?Zهِ مُلْكُ السّ?Zم?Zاو?Zاتِ و?Zالْأ?Zرْضِ و?Zم?Zا فِيهِنّ?Z و?Zهُو?Z ع?Zل?Zى كُلِّ ش?Zيْءٍ ق?Zدِيرٌ (120) سورة المائدة

وقوله سبحانه : (و?Zاذْكُرْ فِي الْكِت?Zابِ م?Zرْي?Zم?Z إِذِ انْت?Zب?Zذ?Zتْ مِنْ أ?Zهْلِه?Zا م?Zك?Zانًا ش?Zرْقِيًّا (16) ف?Zاتّ?Zخ?Zذ?Zتْ مِنْ دُونِهِمْ حِج?Zابًا ف?Zأ?Zرْس?Zلْن?Zا إِل?Zيْه?Zا رُوح?Zن?Zا ف?Zت?Zم?Zثّ?Zل?Z ل?Zه?Zا ب?Zش?Zرًا س?Zوِيًّا (17) ق?Zال?Zتْ إِنِّي أ?Zعُوذُ بِالرّ?Zحْم?Zنِ مِنْك?Z إِنْ كُنْت?Z ت?Zقِيًّا (18) ق?Zال?Z إِنّ?Zم?Zا أ?Zن?Zا ر?Zسُولُ ر?Zبِّكِ لِأ?Zه?Zب?Z ل?Zكِ غُل?Zامًا ز?Zكِيًّا (19) ق?Zال?Zتْ أ?Zنّ?Zى ي?Zكُونُ لِي غُل?Zامٌ و?Zل?Zمْ ي?Zمْس?Zسْنِي ب?Zش?Zرٌ و?Zل?Zمْ أ?Zكُ ب?Zغِيًّا (20) ق?Zال?Z ك?Zذ?Zلِكِ ق?Zال?Z ر?Zبُّكِ هُو?Z ع?Zل?Zيّ?Z ه?Zيِّنٌ و?Zلِن?Zجْع?Zل?Zهُ آ?Zي?Zةً لِلنّ?Zاسِ و?Zر?Zحْم?Zةً مِنّ?Zا و?Zك?Zان?Z أ?Zمْرًا م?Zقْضِيًّا (21) ف?Zح?Zم?Zل?Zتْهُ ف?Zانْت?Zب?Zذ?Zتْ بِهِ م?Zك?Zانًا ق?Zصِيًّا (22) ف?Zأ?Zج?Zاء?Zه?Zا الْم?Zخ?Zاضُ إِل?Zى جِذْعِ النّ?Zخْل?Zةِ ق?Zال?Zتْ ي?Zا ل?Zيْت?Zنِي مِتُّ ق?Zبْل?Z ه?Zذ?Zا و?Zكُنْتُ ن?Zسْيًا م?Zنْسِيًّا (23) ف?Zن?Zاد?Zاه?Zا مِنْ ت?Zحْتِه?Zا أ?Zلّ?Zا ت?Zحْز?Zنِي ق?Zدْ ج?Zع?Zل?Z ر?Zبُّكِ ت?Zحْت?Zكِ س?Zرِيًّا (24) و?Zهُزِّي إِل?Zيْكِ بِجِذْعِ النّ?Zخْل?Zةِ تُس?Zاقِطْ ع?Zل?Zيْكِ رُط?Zبًا ج?Zنِيًّا (25) ( سورة مريم ) ( سريا : سيل ماء جاري كان قد انقطع من قبل )

وقوله تعالى : ( و?Zإِذْ ق?Zال?Z عِيس?Zى ابْنُ م?Zرْي?Zم?Z ي?Zا ب?Zنِي إِسْر?Zائِيل?Z إِنِّي ر?Zسُولُ اللّ?Zهِ إِل?Zيْكُمْ مُص?Zدِّقًا لِم?Zا ب?Zيْن?Z ي?Zد?Zيّ?Z مِن?Z التّ?Zوْر?Zاةِ و?Zمُب?Zشِّرًا بِر?Zسُولٍ ي?Zأْتِي مِنْ ب?Zعْدِي اسْمُهُ أ?Zحْم?Zدُ ف?Zل?Zمّ?Zا ج?Zاء?Zهُمْ بِالْب?Zيِّن?Zاتِ ق?Zالُوا ه?Zذ?Zا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسن ورهبانا وأنهم لا يستكبرون *

لقد وصف الله سبحانه وتعالى النصارى أنهم أقرب مودة للذين آمنوا، ووصف اليهود أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.

والنصرانية التوحيدية في اصلها دين من الديانات السماوية التوحيدية قائم على الوصايا العشر التي وردت في التوراة , وكررها المسيح وهي: 1= لا يكن آلهة أخرى أمامي". يطالب الله الإنسان أن يعبده وحده دون سواه، 2= "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً". 3= لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً". وهذه الوصية تدعو إلى احترام اسم الله وتقديسه، 4= "اذكر يوم السبت لتقدسه". إن يوم السبت أو يوم الراحة في العهد القديم، ويوم الأحد في العهد الجديد، ليس تدبيراً بشرياً، إنما هو ترتيب إلهي، فإن الله جعل السبت لأجل الإنسان، (مرقس:27/2). 5= أكرم أباك وأمك". 6= "لا تقتل". ليست هذه الوصية مجرد نهي عن ارتكاب جريمة القتل (متى:21/26). 7= "لا تزنِ". وهذا ما صرّح به يسوع في كلامه: "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (متى:28/50). 8= "لا تسرق" أفس:28/4) 9= "لا تشهد على قريبك شهادة زور 10= "لا تشته"..

واما في الاسلام الحنيف

فقد ورد في ورد في الحديث عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله علية وسلم قال : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

إذن النصرانية دين يدعو في اصله إلى التوحيد والمحبة والسلام: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وإذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدِر له خدك الأيسر. وهو الدين الذي تفرغ فيه عبر تاريخه العديد من الرهبان للعبادة والتعبد. وأن الأردنيين الذين كانوا نصارى واعتنقوا الإسلام بعد الفتح الإسلامي بقوا مع أقاربهم المسلمين على المودة والمحبة والمؤازرة والمناصرة، وجميعهم تشرّبوا الثقافة الإسلامية. وصار عندنا في الأردن مثل أعلى من التسامح الديني، حيث يرفض المسلم أن يشتم أحد الدين المسيحي، ويرفض المسيحي أن يشتم أحد الدين الإسلامي، وكلاهما يغار على دين الآخر بعد الغيرة على دينه، هذه هي النصرانية أو المسيحية وهي في ذلك جزء من تاريخ الاردن على مدى اكثر من اربعة قرون قبل الفتح الاسلامي المبين.

أما الصليبية فهي شيء آخر، فهي حركة سياسية عنصرية تكره الشعوب وتهادي الانسانية , وتعمل على التطهير العرقي للعرب من نصارى ومسلمين , ابتدعها الحاقدون الغربيون ضد العرب المسلمين والنصارى , للثلر منا من معارك مؤتة واليرموك والاندلس وشمال افريقيا , وساقوا الحملات إلى بلادنا وبدأوا بقتل النصارى العرب اولا باعتبارهم في عرف هؤلاء الصليبيين كفار متواطئون مع المسلمين ضد الصليب.

وبذلك أثبت النصارى الاوائل أنهم أحباب تعاليم المحبة ، لما هم عليه من علوّ الأخلاق والموادعة مع إخوانهم المسلمين , وأثبت الصليبيون أنهم أعداء المسيح، وأعداء المسيحية، وأن أهدافهم لم تكن دينية، وإنما انتقام لبيزنطة وروما، في هزيمتها على يد المسلمين في المعارك المتتالية في ايام الفتح الاسلامي وفي الاندلس ، وطردهم من البلاد. وقد ساهم الأردنيون النصارى قبل إسلامهم، ومن بقي على نصرانيته في دعم الجيوش الإسلامية في مؤتة، وطبقة فحل واليرموك ضد القوات البيزنطية , وبقي هذا الأسى في نفوس الرومان فابتدعوا شكلاً دينياً متطرّفاً لا يمت للسيد المسيح ولا لدينه بأية صلة، وسمّوا أنفسهم حماة الصليب، وحراس القبر المقدس، وضرورة تحريره من العرب (مسلميهم ونصاراهم) ومن المسلمين عربهم وغير العرب منهم.

قبل البدء بهذه الحملات الحاقدة:

1. بدأت الأردن أرضاً وشعباً تتنفس الصعداء، حيث بدأت تذوي وتذبل الهيمنة العباسية الحاقدة عن إدارة الأمور، وجاءت منهم أجيال وخلفاء ضعفاء لم يتذكروا سبب الأذى الذي لحق بالأردن واهله ، ولم تعد توجد تعليمات عباسية لتهميش هذا البلد وأهله.بل ان بيت الخلافة لم يعد في موقع يستطيع معه اصدار الاوامر اصلا او حتى الدفاع عن نفسه .

2. ظهرت في هذه المرحلة ثلاثة مراكز للخلافة : العباسية في بغداد وهي استمرار وهمي للعباسية وهي خلافة سنيّة، والخلافة الشيعية / الفاطمية , في القاهرة وهي حاقدة على السنة أيضاً وتدعي انها من البيت العلوي من الطالبيين من ال البيت ، وتتطلع لهيمنتها وهيمنة مذهبها على العالم الإسلامي، ودحر المذهب السني وأتباعه باسم ال البيت . واما الخلافة الثالثة فهي الخلافة الاموية الاندلسية ةالتي اصبحت في ايدي اناس من قبائل العرب ليس منهم من هو من ال البيت ولا من قريش .

3. كان المستفيد الأول من هذا الصراع هم أهل الأردن وبلادهم. لان الاردن تستفيد دوما من صراع الاخرين خارج الارض الاردنية ولكنها اكثر الخاسرين اذا كانت ارض الاردن هي ميدان الصراع .ولا زالت هذه الفائدة او الضرر يتكرر في العصر الحديث تباعا لما قلنا , لانه قانون طبيعي يتعلق بموقع الاردن واهله . استفاد الاردنيون عندما عمل ولاة دمشق وبغداد كل منهم على اكتساب الأردن إلى جانبهم، وحاول الفاطميون في القاهرة أن تتحول هذه الرقعة من الأرض إلى جبهة حماية ودعم لهم ضد سوريا وبغداد والحجاز ، وفي مثل هذه الظروف، وجد الأردنيون أن الفرصة قد حانت للعودة إلى ديارهم، والبدء بلم شملهم وتعمير القرى والمدن وزراعة الأرض، والتعامل بدهاء مع الطرفين، دون إظهار أي عداء لأيِّ منهما .بل ولسان حالهم ( الاردنيون ) يقول :( بطيخ يكسر بعضه ) ( واللي ياخذ امي هو عمي ).اثناء تفرق الاردنيين زمن العباسيين كانت الاتصالات بقيت بشكل طيب بين الاقارب رغم بعد المسافات , وكانوا يتبادلون الاخبار حيث عاد كل غائب الى عشيرته وديرته الاصلية وقيل في حينها او فيما بعد ان هذه العائلة اصلها من كذا وتلك من كذا وهي من العشيرة نفسها وعادت اليها بعد طول شتات عباسي لهم .

4. بدء عودة الاردنيين الى ديارهم ولكن قدوم الصليبيين صدمهم فمنهم من غادر ثانية ومنهم من هادن ومنهم لم يحضر . كانت العشائر الاردنية في وضع لايحسدون عليه من احتلال الى احتلال ومن قوة غازية الى قوة غازية

لقد تعلم الأردنيون درساً من موقفهم العلني مع بني أمية فدفعوا ثمناً من الشتات والإهمال والاضطهاد استمر أربعة قرون ونيف على ايدي العباسيين ، وحان الوقت الآن لإعادة المكاسب التي فقدوها، والاستفادة من أطراف النزاع،واكل التفاحتين من ايدي المتخاصمين , والوقوف على مسافة مساوية من اطراف النزاع , لذا بقوا على المذهب السني، ولكنهم استخدموا في أدبياتهم وحوارهم كلمات واصطلاحات شيعية ترضي الدعاة والجواسيس الشيعة الفاطميين , وتعطي الصورة للقاهرة أن أهل الأردن مع الشيعة ( او انهم شيعة ) ، أو على الأقل ليسوا ضد الدولة الفاطمية. وانتشرت الطقوس الفاطمية بين الأردنيين مثل: أربعينية الميت، ومثل ذبيحة الخميس (في شهر نيسان) ومثل زيارات القبور والتبرك بها، ومنها تقديس عليّ بن أبي طالب، ومنها في اللفظ قولهم : ( الله وعلي معاك) , حيث لا زالت هذه المقولة سائدة إلى يومنا هذا بين الناس. ومنها لبس العباءة السوداء ولا تزال . وقد بقيت هذه في الذاكرة الشعبية الأردنية حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.

ومثلما كانت الأوضاع مضطربة في العالم العربي بين سنة وشيعة، وعرب وعجم , وترك وعرب، وتحول الخليفة إلى وظيفة اسمية ليس له إلا الدعاء على المنابر، وصار الحاكم الحقيقي في الخلافة السنية هم الأتراك الطارئون على العروبة والذين اعتنقوا الإسلام حديثاً، وقد وجدوا دولة هزيلة، وشعبا مشتتا منهك القوى، وكرها من الشعب للحكام، وظلما وبغيا في كل ركن وزاوية، وكلما جاء قائد ادعى أنه يريد العدل والحرية والانقاذ تبعه الناس وصفقوا له، بل إن الناس قد سئمت الحروب والصراعات ولا تريد إلا راحة البال وحماية الذرية والولد والعرض والروح والمال والحلال . فانتشرت عادة التصفيق لمن يملا الايدي بالوعود .

وهكذا وعلى مرّ التاريخ تتحول الأردن , أو لنقل هذه البقعة الجغرافية المسماة الأردن إلى واحة أمان واستقطاب وملاذ آمن، إذا ما كانت الأقطار من حولها في أوضاع أمنية مضطربة فكانت ملاذاً آمناً بنصوص العهد القديم، وكذلك في العصر الاموي , يانوسن اليها عندما يشعر الناس أو الأمراء أو الملوك من حولها بالخطر . وإذا شعر أهلها بالخطر فيها غادروها إلى خارجها او غيروا اسماءهم وتحالفاتهم ، حتى إذا ما اضطربت أمور مصر والعراق وسوريا والحجاز وفلسطين، عاد أهلها إليها، وجاء معهم غيرهم، طلباً للأمن والأمان. وبذلك فإن الأردن تنتفع على مرّ العصور مما يحلّ بجوارها من الأقطار والشعوب من مآسي ومصائب. وفي العصر الحديث نعيش هذه الشواهد إلى يومنا هذا مطلع القرن الحادي والعشرين.

صارت بغداد مضطربة بسبب هيمنة الأتراك والأعاجم، وسوريا كذلك بسبب تعاقب احتلالها بين دولة القاهرة ودولة بغداد، ومصر كذلك إذا ما داهمها خطر داخلي أو خارجي، وهنا تحركت الذاكرة الجماعية للعشائر الأردنية النازحة في سوريا وفلسطين والعراق ومصر وتركيا وشمال افريقيا وغيرها ، وتذكروا بعد أجيال أن ( الاردن ) ديار الآباء والأجداد أكثر أمانا لهم بل وهي اولى بهم مما سواها من البلدان ً.لذلك ظهر مثل اردني يعبر عن هذه الحالة وهو : ( الديرة طلبت اهلها )ولا يقولون الاهل طلبوا الديرة , باعتبار ان للاردن جاذبية خاصة تجذب اهلها اليها ولو بعد حين , ولا زال هذا المثل الاردني سائرا الى يومنا هذا . فالديار الاردنية صارت امنة وبالتالي فالامان / اي الديار تطلب الناس للعودة الى مضاربهم وديارهم , وكذلك كان .

وبذلك عادت الحياة إلى الأردن مرة اخرى ، وتم إعمار المدن والقلاع والقرى والقنوات وإصلاح مصادر المياه، وزراعة أشجار البلوط والبطم والسنديان مرة أخرى , وانتعشت الحياة الزراعية والتجارية والرعوية مرة أخرى، وتوقفت القوى المتصارعة في بغداد والقاهرة عن إلحاق الأذى بالأردن لأنه صلة الوصل إلى الديار المقدسة وبوابة الفتح لجزيرة العرب ومصر والشام وفلسطين، وكل يريد المرور والعبور الامن دون أن يمنع الطرف الآخر، أو أن يمنعه الطرف الآخر، وصار الأردن كمنطقة محايدة لردح من الزمن.فاستفاد الاردنيون من ذلك واستفاد الاردن من ذلك ايضا . وتعلموا ان اعلان العداوة او الولاء الى طرف ما انما يعني دفع الثمن غاليا, لذلك فهم يرحبون بالجميع ( واللي بالقلب بالقلب ) وايضا ( خلي لك بالقوم صاحب ) وايضا ( اجرح قد ماتقدر تجرح ولكن خلي للصلح مطرح ) وايضا ( خلك صاحب / صديق للجميع ) وقد انتشرت هذه الامثال الاردنية لدي الشعوب المجاورة فيما بعد . ولم تاتي هذه الامثال عن عبث ابدا , بل هي محصلة تجارب اردنية مرة دفع الاردنيون ثمنها عبر الايام .

ظهر السلاجقة الأتراك في بغداد وقد هيمنوا على جميع الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية فيها ، وصار الخليفة العوبة في أيديهم لا قيمة له، إلا القيمة الاسمية ووضع اسمه على العملة، وخطبة الجمعة.

خليفة في قفص بين وصيف وبغا

يقول ماقلا له كما تقول الببغاء

واما وصيف وبغا فهما وزيران اعجميان عند الخليفة العباسي في العصر المتأخر

وكانت هذه القبائل السلجوقية قد جاءت من أواسط آسيا، واعتنقت الإسلام وحاربت أبناء جلدتها الأتراك ممن بقي منهم على الكفر، وانتصرت عليهم وتوسعوا إلى بغداد بعد أن اجتاحوا بلاد فارس واجتازوها .

وفي عام 1076م قام السلاجقة باحتلال سوريا وفلسطين دون أن يدخلوا الأردن الذي صار مرة اخرى ملجئاً للعشائر النازحة من هذين القطرين طلباً للأمان، وهدفا لعودة العشائر الاردنية التي كانت نازحة منه ان تعود اليه مرة اخرى لانه الاكثر امنا في غياب العباسيين . وصارت الاردن بلادا تستقطب العشائر من ابنائها وممن سواهم , سواء أكانت من أصل أردني، أو أنها قبائل سورية أو فلسطينية . واحتل السلاجقة بيت لحم وبيت المقدس، حيث كانتا قبلة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا.

كان السلاجقة يعانون من عقدة العداء مع الكفار من أبناء عرقهم التركي في أواسط آسيا، والذين قاموا أصلاً بطرد السلاجقة من معاقلهم وبلادهم الأصلية، فصارت عندهم عقدة الكره ضد كل من هو غير مسلم، والحقد على الكفار بشكل عام.ونضبت قلوبهم من التسامح العربي الذي كان سائدا في هذه الديار من قبل , وهم لايعرفون العلاقة العربية بالنصرانية ومدى تلاحم عشائر هذه الديار بغض النظر عن عقيدتها ودينها .

مارس السلاجقة أساليب البطش والإهانة ضد الحجاج المسيحيين إلى بيت المقدس، بعكس ما اعتاده هؤلاء الحجاج أيام الحكم العربي من التسامح والاحترام منذ العهدة العمرية زمن سيدنا عمر الفاروق إلى هذا العصر ( القرن الحادي عشر الميلادي ) . وقد كان العرب المسلمون يساعدون الحجاج المسيحيين ويدلونهم على الأماكن المقدسة وعلى أداء المناسك، وهذا كان مثالاً فريداً من تسامح العرب ليس تجاه أبناء جلدتهم من النصارى فحسب ، بل ومع المسيحيين من شتى الأعراق والجنسيات.

وانتشرت الأخبار في أوروبا أن التسامح العربي قد توقف وأن الإهانة صارت رديفاً لأداء الحج المسيحي إلى بيت المقدس حتى إذا ما حل عام 1094 أي بعد حوالي عشرين عاماً من ممارسات السلاجقة العدائية والوحشية في القدس، ذهب بطرس الناسك لزيارة القبر المقدس في كنيسة القيامة بالقدس، وهنا رسخت في ذهنه الصورة السلبية المنقولة إليه أصلاً ممن سبقوه من الحجاج المسيحيين ، وشعر بالمهانة والمذلة، وتألم لما يعانيه أبناء جلدته ودينه من تعسف وظلم على يد من يملكون مقاليد الأمور، وارتفعت أصوات النصارى عالية تبكي على أيام العرب حيث كان المسيحي يقوم بطقوسه ومناسكه بكل حرية وبدون تدخل أو تحوير أو تغيير , لا بل وبدلالة من العربي المسلم .

لم يدرك بطرس الناسك أن العرب من مسلمين ونصارى كانوا يعانون من هؤلاء الأعاجم الحكام على مدار اليوم والليلة والسنة وأن ما رآه بطرس من تدخل ليس مقصورا على مناسك حجه، وانما يتعداه لتدخل هؤلاء الاعاجم في كل شأن من شؤون الحياة عند العرب المسلمين منهم والنصارى . من هنا بدا العرب جميعا يفقدون الحرية والكرامة والعدالة بغض النظر عن دينهم , حيث أن تحكم الأعجمي بالعربي مطبوع عادة بالإهانة والحقد على الدم العربي وليس على الدين وحده ، بينما لا يفعل العربي ذلك إذا حكم الأعجمي او تحكم به .

كانت الأجواء في الشرق العربي والغرب المسيحي مهيأة للصراع والتعبير عن الثورة الداخلية كل في مكانه ومجاله. وحمل بطرس الناسك مشعل إعلان الحرب الصليبية المقدسة ضد المسلمين والعرب ، وطردهم من القدس وبيت لحم وفلسطين، وأن تقوم دولة صليبية متعصبة فرنجية لحماية هؤلاء الحجاج عند الذهاب والزيارة هناك. وقد استمع إليه أفواج الحجاج الأوروبيين الذين وجدوا في دعوته هذه تعبيراً عن آلامهم وامالهم وطموحاتهم . وقد ساعدت الأوضاع الأوروبية الدينية والسياسية والاقتصادية والأمنية على دعم هذه الدعوات:

ولا بد هنا من ذكر بعض النقاط الهامة التي تبيِّن الأوضاع الأوروبية العامة وساعدت على قيام الحروب الصليبية:

1. كانت الكنيسة في اوروبا تهيمن من خلال الوقف الكنيسي على مساحات واسعة من الأراضي الخصبة والإنتاج الوفير، فضلاً عن سيطرتها على عقليات ونفسيات الناس، وأنها يمكن أن تعطي صكوك غفران للشخص أن يدخل الجنة، وتنقذه من النار. وبالتالي كانت أوامرها مقدسة إلهية وطاعتها تعطي المطيع مفاتيح الجنة، وتعطي العاصي مفاتيح النار، وبالتالي فإن كلمة من البابا كانت ستغيِّر التاريخ السياسي والاجتماعي في أوروبا برمتها .

2. وزاد من قوة الكنيسة أنها كانت كنيسة واحدة وهي الكاثوليكية المرتبطة بالبابا في روما، ولها لغة رسمية واحدة وحضارة واحدة، ولها ثأر تاريخي احد موحد مع المسلمين والعرب منذ معركة مؤتة وطبقة فحل واليرموك إلى ما وصل إليه الحال في حينه.

3. وكان النظام العام في أوروبا منقسماً بين نظام إقطاعي كنسي، ونظام إقطاعي للأمراء المحليين، وكان كل واحد يخشى سطوة النظام الآخر خفية ويتظاهر باحترامه . وبذلك صارت الدعوة لحرب صليبية مقدسة متنفسّاً لتفريغ شحنات الكنيسة وأمراء الإقطاع كليهما على حدِّ سواء.

4. وجد الأمراء في دعوة الكنيسة فرصة لهم للسيطرة على ثروات الشرق، وإقامة إمارات وممالك هناك وبخاصة أن الكنيسة اعترفت لهم سلفاً بامتلاك الغنائم والامتيازات التي سيحصلون عليها وان ذلك سيكون مالا حلالا زلالا ومشروعا لانه نهب من الكفار ( المسلمين والنصارى العرب ؟؟؟؟ ) مما حدا بكل أمير أن يطلق سراح السجناء الذين عنده ويحوّلهم إلى جيش إجرامي , ولكن ليس بحق مجتمعه بل بحق العرب والمسلمين في الديار المقدسة، وهذا ما وجد أيضاً ترحيباً من المجرمين والمطلوبين ومحبي المغامرات والإجرام، وعصابات الاشرار , وأصحاب النزعات الشريرة والصعاليك الهاربين للغابات، والأبناء الذين لا يرثون لأن الميراث كان محصورا عادة بالابن الأكبر للحفاظ على عدم تجزئة الملكية والثروة. وأما الكنيسة فكانت تعطي هؤلاء المجرمين صكوك غفران من الذنوب ودخول إلى الجنة وأن أعمالهم الشريرة ضد المسلمين هي نمط من الثواب المؤدي إلى جنة الفردوس.

5. تطلع الأمراء الأوروبيون للسيطرة على الموانئ وخطوط التجارة في البلاد العربية لزيادة ثروتهم.

6. حولت الدعوة للحرب الصليبية الصراع المحلي بين أمراء الإقطاع بعضهم بعضاً، وبينهم وبين الكنيسة إلى عدوّ وهمي أكبر، وهو عدوّ للجميع. إنه العالم الإسلامي. وقد أدرك البابا والكرادلة والأمراء أن شنّ هذه الحرب سينقذ الكنيسة والأمراء من الانهيار.

وبناء عليه تبنى البابا أربان الثاني عام 1095 إعلان الحرب الصليبية المقدسة ضد المسلمين وتطهير البلاد من المسلمين والعرب (من نصارى ومسلمين)، وأن على جميع النصارى الأوروبيين تخليص كنيسة القيامة من أيدي المسلمين. وأشار البابا إلى توافر فرص تأسيس الممالك والإمارات الأوروبية الصليبية في بلاد العرب، وحرّض الجميع على القتل مقابل الغفران والثواب والجنة. وأعلن البابا أن هذه الحرب هي إرادة الله، فصاحت الجموع باللاتيني Deus vult ـ الله أرادها. وأمر البابا بلبس شارة الصليب كإشارة على هذه الحرب وهدفها، ومن هنا سميت: الحروب الصليبية. وسارت الجموع الأولى عام 1097م ووصلوا إلى أنطاكيا (شمال سوريا) حيث أقاموا فيها أول دولة صليبية.

واحتلوا القدس عام 1099م، بعد أن كان الفاطميون انتزعوها من السلاجقة، فطارت من أيدي الطرفين السني والشيعي معاً. وقد قام الصليبيون بقتل الناس دونما تمييز يقتلون كل عربي مسلم ونصراني واعتباره في عرفهم مسلماً يجب قتله وتحرير القدس منه، وامتلأت المدينة بالجثث من الرجال والأطفال في مذابح إبادة حقيقية. وقد نقل المؤرخ اللاتيني المعاصر فوتسيه دي شارتنر تفاصيل هذه المذبحة. ووصف ابن خلدون همجية الإفرنج في حصارهم للقدس لمدة أربعين يوماً، دخلوا المدينة بعدها من الشمال وقتلوا في المسجد الأقصى سبعين ألفاً أو يزيدون فيهم العلماء والزهاد والعُبّاد، وأخذ نيف وأربعين قنديلاً من الفضة وحاجات ثمينة أخرى كانت في المسجد الأقصى. ووصل صريخ الناس إلى بغداد.

في عام 1100 صار بلدوين ملكاً صليبياً على القدس وسيطر على الساحل الفلسطيني , وهرب الأحياء إلى الأردن كملاذ آمن، فتنبه الصليبيون إلى أهمية هذه المنطقة ( ماوراء الاردن / شرق الاردن ) وخشيتهم من تجمع المسلمين فيها وشنّ هجوم على القدس، فقام بلدوين بحملة إلى بيسان (وكانت أردنية) واحتلها وأريحا (وكانت أردنية أيضاً) واحتل الكرك شرقي البحر الميت وكانت تسمى كرك مؤاب، ثم تحرك نحو الشوبك في مطاردته للعربان والفرسان وحط رحاله فوق القلعة الأدومية المؤابية النبطية وهي الشوبك ورفع جدرانها وأسوارها وحيطانها، وأتم ذلك عام 1115م وسماها مونتريال Mons Regales Mont Royal أي الجبل الملوكي. وذلك لأهداف كثيرة منها السيطرة على الطريق الصحراوي الذي يربط الشام بالحجاز والأردن ومصر , وبقاء العربان بعيدا عن الكرك .

ثم امتد نفوذ الصليبيين إلى العقبة على البحر الأحمر، وبذلك صارت غالبية الأردن تحت الاحتلال الصليبي، وخلدت القبائل إلى السكينة . وجدت القبائل الاردنية القريبة من مراكز التحصين الصليبي انهم مهددون وان هؤلاء الغزاة ماكثون طويلا , وانه لايلوح في الافق اي بارق امل لقوة اسلامية يمكنها ان تدحر هؤلاء المحتلين , بل ان الصراع السني الشيعي كان في اوجه ايضا , وان العنصر العربي بعيد عن القرار بسبب سيطرة السلاجقة على مقاليد الامور في بغداد .

كانت الكرك تشمل من جملة ماتشمله : المناطق من جنوب العلا الى ساحل البحر الاحمر الى معان والشوبك في الجنوب . اما العشائر في منطقة الكرك وابرزها انذاك : فروع جذام , وفروع قضاعة وفروع بلي وفروع الانباط , وبقايا والغساسنة ( بفرعيهم المسلم والنصراني ) وبلقين , اقول كانت هذه العشائر ممن بقي منهم او عاد بعد فترة الاضطهاد العباسي والتشتيت العباسي للعشائر الاردنية كما سبق وقلنا , امام الخيارات التالية :

== مقاومة الصلبيين وهو امر متعذر لانهم عربان امام جيش الغزاة الذي يتسلح باحدث الاسلحة في حينه , وبالتالي فان المقاومة كانت تعني الانتحار والابادة وبالتالي خدمة الاغراض الصليبية بتفريغ البلاد من اهلها .

==والخيار الاخر هو شن حرب استنزاف كما فعل اجدادهم مع اليونان والرومان , ولكن وجود قلعة الشوبك الصليبية في اعماق البادية الاردنية , وقلعة ايلة في العقبة والسيطرة على بعض الجزائر في خليج العقبة ووجود حاميات صليبية في هذه القلاع حال دون ذلك .

== الخيار الاخر هو الالتجاء الى قوة عربية والتي كانت معدومة في تلك المرحلة .

== الاندماج مع الصليبيين وذلك يعني الردة عن الاسلام والانسلاخ من ثوب العروبة وروحها وهي امور مستحيلة جدا , بل انه حتى النصارى الاردنيين كانوا يعانون من اضطهاد الصليبيين لانهم عرب فكيف بالمسلمين ؟

== الاقرار بالاحتلال الصليبي مما سيضفي عليه شرعية الوجود وهو امر مرفوض اردنيا بشكل كامل من المسلمين والنصارى ,ويعرض من يؤمن به الى لعنة الاجيال والتاريخ .

وهناك فرق بين الصمت والمداراة وبين اعطاء الشرعية .

== اذن كان الخيار الوحيد هو المهادنة ( الا ان تتقوا منهم تقاة ) , مهادنة عدم تبادل الاعتداء والاذى وانما تبادل المصالح والتفاهم وتبادل الانتاج , وبالتالي توقيع هدنة مع القوة الغازية ان يتركوا العربان وشانهم على ان يتصرف العربان بالطريقة نفسها الا يقاوموا او يدعموا اية مقاومة . كانت فروع الغساسنة وجذام والانباط وقضاعة والادوميين قد عادوا الى الديار مرة اخرى . واتفقت هذه العشائر على هدنة عدم اعتداء مع مملكة الاحتلال الصليبي بالكرك ، مما وفر لهذه الفروع فرصة الاستقرار في ديارهم الكركية انذاك ،وحماية اموالهم واعراضهم وديارهم وانتاجهم . وقد كانت عشيرة العبابيد من ابرز من وقع معاهدة عدم اعتداء مما اثار حفيظة صلاح الدين ( فيما بعد ) فأمر بترحيلهم الى مصر ولكنهم رفضوا مغادرة بلدهم الاردن , ووافقوا على الرحيل الى البلقاء حول السلط وعمان بعد اشتراكهم مع العشائر الاردنية في معركة حطين . وقام صلاح الدين بحرق قرى وزروع القبائل الاردنية في مناطق الكرك لاتهامه اياهم بالصداقة والعمالة مع الصليبيين , . كانت مهادنتهم مع الصليبيين نمطا من الصراع من اجل البقاء , ووسيلة في منتهى الذكاء للتخلص من اذى الاحتلال في غياب الدولة العربية الاسلامية التي يمكنها ان تحميهم . كانت هذه العشائر عاشقة لوطنها , وتعود اليه مجرد ان تلقى بصيص امل من الاستقرار في هذه الديار , والمبدا هو : الدولة دولة والناس ناس

تعرض اليهود في فلسطين للقتل والتعذيب على ايدي القوات الصليبية , لاتهامهم بقتل المسيح عليه الصلاة والسلام , وبالتالي صار كل من في فلسطين ( من مسلمين ونصارى عرب ويهود ) هدفاً للسيف والموت الصليبي. وكانت الظروف في البلاد العربية مناسبة جداً لنجاح الصليبين في هذه الجبهات، وهذا ما نذكره في النقاط التالية:

1. انقسام منصب الخلافة إلى ثلاثة كما قلنا ، سنية ضعيفة في بغداد تحت وطأة الأعاجم، وليس لها الا الاسم في الخطبة وعلى صكوك العملات، وخلافة شيعية فاطمية في مصر، واندلسية من عامة العرب بعد ابادة بني امية عن بكرة ابيهم , وكل منها تريد القضاء على الأخرى، رغم اقتراب الخطر الصليبي منهم ، فإن الفرحة لا بد وانتابت السلاجقة بدحر خصومهم الفاطميين من فلسطين.اما الخلافة في الاندلس فتحولت الى طوائف متناحرة متنافرة للاسف الشديد .

2. كان الشعب العربي منهك القوى، بسبب ارتفاع الضرائب، وتفشي الخوف والرعب الذي استمر مئات السنين على ايدي العباسيين ثم لحقه الرعب الذي ادخله الصليبيون الى قلوب الناس . فكل القوى الغريبة على شعبنا لاتتعامل معه الا بلغة السيف ضد هذا الشعب المنكوب . ، وبالتالي تدني الإنتاج، وصعوبة العيش والحياة. وكان الحقد الشعبي على قياداته وسوء الإدارة وعدم احترام الناس واضطهادهم قد أوجد بونا ً شاسعاً بين الحاكم والمحكوم إلى درجة أن كل واحد لم يعد مهتماً بمصير الآخر، لانشغاله بنفسه عمن سواه , كما هو حال الناس هذه الايام .

3. كانت القوة والسيادة ومراكز القرار بأيدي الأعاجم، ولم يكن للعرب حيلة، وكان هؤلاء لا يسمحون للناس بالتدرب على السلاح، ولا يسمحون لهم بالتنظيم خشية انقلابهم ضد الأعاجم، فعندما جاء العدو الصليبي وجد أناساً عُزّ?Zلاٌ من السلاح، ضعفاء، يسيطر عليهم الرعب من دولتهم ومن الصليبيين في آن واحد. فكانوا لقمة سائغة لسيف الصليب، فصاروا كهشيم المحتضر.

4. صارت الأردن منطقة استقطاب للهاربين من بؤرة الصراع ودوائر الخطر بفضل سياسة العشائر الحكيمة فضلا عن الاسباب التي ذكرناها سالفا . وبالتالي خشي الصليبيون من تشكيل جبهة حربية مناوئة، فتقدم بلدوين الأول واحتل بيسان ثم وصل إلى الكرك فالشوبك وبذلك حقق الأهداف التالية:

‌أ. فرض هيبة الدولة الصليبية الجديدة في أعماق البرية والبادية الاردنية مفتاح الشام والجزيرة ومصر وفلسطين . مما يتضح أنه فهم أهمية الأردن وأهمية السيطرة عليه، وأنه قد يكون جبهة الخطر لإسقاط مملكته مثلما هو جبهة القوة لحمايتها .

‌ب. سيطر بذلك على طريق القوافل ما بين الشام ومصر والحجاز، وعلى طريق التحركات العسكرية التي قد تسير ما بين مصر والشام والعراق .

‌ج. سيطر على طريق التجارة القادم من اليمن والحجاز. ولإكمال مخططه التجاري والعسكري والأمني سيطر على العقبة (أيلة) حيث نقطة التقاء الأردن وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا وجزيرة العرب من اليمن والحجاز.

‌د. تطلع بلدوين إلى سهول حوران في شمال الأردن وجنوب سوريا وعقد اتفاقية مع حاكم دمشق، حيث تنازل حاكم دمشق عن ثلث واردات الأراضي في حوران وشمال الأردن لصالح بلدوين. ولكي يؤمِّن بلدوين انتظام هذه الواردات بنى في عام 1110م (504هـ) قلعة الحابس التي تقع على الضفة الجنوبية لنهر اليرموك، قرب قرية الشجرة، فكانت هذه أول حصن بناه الصليبيون في الأردن، بنوا بعده حصن الشوبك عام 1115 كما ذكرنا سابقاً. وبالمقابل قام حاكم دمشق بتحصين جرش مقابل تحصين الصليبيين لهذه القلعة ( قلعة حابس ) .

وفي عام 1111م (505هـ) قام بلدوين بمحاصرة صيدا، مما أضعف جيشه وحامية حابس، فقام حاكم دمشق باحتلال هذه القلعة، ولكن بلدوين لم يتمكن من استعادتها، واستعاض عن ذلك بهجومه على قافلة تجارية كانت تسير إلى جنوب البحر الميت وهو على رأس مائتي جندي، ففتكوا بالقافلة وسلبوها، وذلك عام 1112م. (506هـ)، وقد أدرك الصليبيون أهمية جنوب الأردن ووادي عربة، ودور هذه الديار في خطوط المواصلات والتجارة والحملات العسكرية بين مصر والحجاز والشام والقدس، وأن السيطرة على هذا الجزء سيحمي مملكة القدس من الهجمات العربية التي قد تسلك هذه الطريق. فكانت خطوته ببناء قلعة الشوبك عام 1115م (508هـ) كما قلنا.

تقع قلعة الشوبك قرب خرائب العيص وهي الموطن الأساس للنبي أيوب الأدومي العربي الاردني عليه السلام , الذي له سفر في العهد القديم باسمه "سفر أيوب" ومكتوب بلغة جميلة وفصيحة بما يدل على اصل النص العربي فيه ، وقد قام بلدوين وفرسانه بزيارة شخصية لجنوب الأردن بدءاً بقلعة الشوبك (1116م ـ 509هـ) ثم ذهب إلى البتراء، ثم إلى أيلة العقبة، ثم إلى طور سيناء حيث لم يجد الترحيب اللازم من رهبان الدير هناك. فعاد إلى القدس عبر الخليل حيث أدرك بلدوين أهمية الأردن وجنوبه، ووجد أن الاحتفاظ بهذه الديار يعني حماية ظهير مملكة القدس الصليبية، فأصدر أوامره بتصليح القلاع القديمة ومنها قلعة الصويت في وادي موسى ـ وبناء قلعة في جزيرة فرعون، والطفيلة ومعان والوعيرا في جبال الشراة.

وبذلك أسفرت هذه الزيارة عن زراعة مخافر صليبية لتكون مراكز للحاميات العسكرية التي قرر بلدوين أن ترابط في الأردن، وأنه بدونها لن ينام قرير العين في القدس، ولكن الموت أراح الناس من شر بلدوين إذا مات عام 1118م (511هـ) عندما كان راجعاً من حملة حملها على مصر وقد خلفه على العرش ابن أخيه بلدوين الثاني.

وبموت بلدوين الأول، بعد بنائه للقلاع في الأردن، تركزت الأضواء الإقليمية على هذا البلد، حيث أن حاكم دمشق، وما أن علم بموت بلدوين الأول , حتى حشد جيشه وسار باتجاه الأردن لتحريره من الصليبيين، وإبقائه منطقة ملاذ آمن، أو ضمه إلى دمشق، وصل إلى طبريا (وكانت أردنية تحت السيطرة الصليبية) ونهبها ثم إلى عسقلان حيث انضم إليه الجيش المصري المرابط هناك. وبعد أن بثّ الذعر في أنفس الصليبيين، وبسبب وضعه الداخلي المهلهل انسحب إلى دمشق، عازفاً عن احتلال الأردن أو تحريرها من الاحتلال الصليبي اوتحويلها الى ملاذ امن .

وهنا وجد الصليبيون الفرصة لتوكيد قبضتهم على الأردن، حيث جمعوا جموعهم وزحفوا إلى شرق الأردن، فاستعادوا قلعة الحابس من قوات حاكم دمشق ثم تغلغلوا في حوض اليرموك وحوران ووصلوا إلى بصرى حيث تغلبوا على ابن حاكم دمشق الأعجمي، ثم عادوا إلى القدس.

وبذلك نجد أن كلاً من الصليبيين وحكام دمشق في حينه كانوا يتحركون لتحقيق أهداف تكتيكية قصيرة المدى لإظهار القوة وفرض الهيبة، ثم ينسحبون، وليس من أحد منهم قادر أو مستعد على التوغل عميقاً في مملكة الأخر. فالصليبيون كانوا يخشون إثارة الممالك الإسلامية وأن تتنادى للتوحد إن هم تجاوزوا الحدود، والأمر نفسه بالنسبة لحاكم دمشق في تعامله مع الأعداء في أن الامارات الصليبية قد تتحد ضده من أنطاكية حتى العقبة .

وفي سنوات 1119 حتى 1121 (515هـ) وقعت حملات متبادلة بين حاكم دمشق وبلدوين انتهت باحتلال بلدوين لمدينة جرش وتدمير قلعتها، ثم غادرها إلى القدس، ولكن مصير بلدوين كان إلى الأسر بأيدي قوات حاكم دمشق، وثم إطلاق سراحه عام 1125م (519هـ)، ثم قاد جيشه إلى شرق الأردن والتقى طغتيكن حاكم دمشق قرب مرج العفر وشاء الله النصر للمسلمين على بلدوين فانسحب متقهقراً إلى القدس. وقد تنفس بلدوين الثاني الصعداء لموت طغتكين عام 1128م (522هـ)، كما آلت الشوبك إلى رومان دي بوي Roman De Puy، وسميت مونتريال الكرك، وسمي حاكمها أمير بلاد ما وراء الأردن، ولكنه تمرد على الصليبيين وآزره ابنه، فانشق عنهم فحوكم وتم عزله عن الإمارة وتعيين باين Payen الملقب بالسكير عوضاً عنه.

ورغم التقلبات على العرش الشوبكي، واحتلال وتحرير القلاع الشمالية، إلا أن الأردن نعمت بهدوء، وصار الناس يعيشون وهم لا علاقة لهم بالسياسة، وهذا استمرار لثقافة أردنية منذ زمن الوثنية أن يعيش الأردني حياته بعيداً عن تقلّبات السياسة وأنظمة الحكم بمقولة تاريخية العرب عرب والدولة دولة People are People and state is state ( apart from people ). وازدحمت البلاد بالناس وسكت الصليبيون لأن السكان لا يخلقون لهم أية مشاكل، ولا يمارسون حرب استنزاف ضدهم، وصار ميثاق التفاهم أن كل طرف يعمل ما يحلو له دون أن يتدخل أو يؤذي الطرف الآخر ةmutual understanding of interest and benefit .

مثل هذا الوضع جعل الأمراء يتفرغون للصراع فيما بينهم، سواء الأمراء المسلمون، أو الأمراء الصليبيون، وصارت جبهة الأردن بالنسبة لكل طرف جبهة مسالمة , وصار الاردنيون لا يقاومون من يأتي اليها ، ولا يبكون على من يذهب منها ، ويرحبون بالمحتل، وينسون الحديث عن المنهزم، يتفرجون كأنهم يشاهدون مصارعة ثيران، أو أبطال فيصفقون للفائز، ويسخرون من المنهزم، هذه الحقيقة المرة كالعلقم ، ولم يكن للاردنيين من خيار غير هذا ابدا .

انتهى الصليبيون من إعادة بناء قلعة الكرك عام 1142م (537هـ) أي بعد بناء الشوبك، وبذلك صارت جبهتهم الأردنية منيعة لا يعكر صفوها السكان الذين سئموا الحياة مع العنف، وكرهوا الحرب والقتال، ويريدون العيش الكريم في ظل أي حاكم كائناً من كان. وأصبحت الكرك أمنع حصن صليبي في شرق الأردن . وقد تم بناؤها فوق قواعد القلعة المؤابية التاريخية. وأطلقوا عليها اسم حجر البادية La Pierre De Desert. وتم البناء زمن فلك Fulk of Anjou الذي كان في كفاح مستديم مع ابن زنكي ملك حلب ولكن فلك Fulk مات عام 1143م (538هـ) وخلفه ابنه الأكبر المسمى بلدوين الثالث، وحيث كان طفلاً يافعاً، فقد قامت أمه ميلسند Melisend بإدارة شؤون مملكة الكرك الصليبية وبرهنت على حكمة وحنكة هائلة في أمور الدولة، وحافظت على الحلف مع حكام دمشق، ولم يكن ما يعكر صفوها من أهل البلاد.

كانت قلعة الوعيرا في وادي موسى بأيدي المسلمين، ولكن القوى الصليبية حاصرت هذه القلعة عام 1144م (539هـ) وهددت بقطع أشجار الزيتون في تلك المنطقة التي كانت وافرة في وادي موسى.

فسقط حصن الوعيرا، وصارت جنوب الأردن بالكامل تحت السيطرة الصليبية وقد صارت هذه الديار في الجنوب هادئة، وانصرف السكان الاردنيون للزراعة والرعاية والإنتاج، إلى درجة أن الزيتون كان كثيراً جداً في وادي موسى، وأن أهله كانوا يعتنون به، وقد تنفسوا الصعداء بوقوع قلعة الوعيرا بأيدي الصليبيين لأن ذلك أنقذ أشجارهم المتوارثة عبر الآباء والأجداد منذ اجدادهم الانباط .

في عام 1161م (555هـ) أصدر ملك القدس إرادته في 31/7/1161 بتعيين فيليب دي ميلي Philippe De Milly الذي صار فيما بعد رئيس فرسان الهيكل، أقول تم تعيينه أميراً على الشوبك (دي منتريال) والكرك (حجر البادية) ومعان (أهمان) والوعيرا (وادي موسى) وسهول الشراة ومؤاب، ثم ضمّ?Z الخليل إلى إمارة الكرك الصليبية، وبذلك صارت هذه الإمارة أهم الإمارات الخمسة التابعة لمملكة القدس، وكان لها أسطولها في العقبة مرتبطة بالتاج الصليبي في بيت المقدس.

كانت واردات إمارة الكرك وما حولها كافية وغنية من خلال الإنتاج الزراعي والرعوي للعربان، ومن الرسوم المأخوذة من القوافل التجارية بين الشام ومصر عبر الأردن، والحجاز واليمن مع العقبة (أيلة) ثم إلى مختلف مناطق العالم المجاور. وكانت مواد التجارة تتألف من الحبوب (مختلف الأنواع) والبلح والخمر، والصّباغ (حجر خاص موجود في جنوب الأردن من الرمل الملون بالأحمر والأخضر والأبيض) أما الخمر فكان من كروم العنب التي كانت تملأ سفوح مؤاب وروابيها، وقصب السكر الذي كان ينبت في الجزء المحاذي لقلعة الشوبك في وادي عربة، إذ كان يتم استخراج سكر ناعم عالي النوعية والجودة ونقي التكوين، وكان يسمى سكر الكرك ومونتريال، وكانت تتم زراعته في هذا الجزء الغوري من وادي عربة، حيث التربة الخصبة والماء العذب، وحيث أصبحت طواحين للسكر لهذه الغاية، ولا تزال آثارها قائمة إلى الآن، كما توجد آثار لطواحين السكر في غور فيفة (الكرك) وأخرى في الغور الشمالي وصفتُها وكتبت عنها في كتاب: في ربوع الأردن جولات ومشاهدات. أما الحبوب فإن سهول مؤاب مشهورة بها وكذلك سهل البلقاء حول عمان ومادبا. وكان العسل والزيت والأعشاب البرية والصوف والشعر والجلود واللبن الجاف والمواشي بانواعها من مواد التجارة، وهي نفسها التي كانت منذ أقدم العصور إلى هذا العصر الصليبي.

ومن الملفت للنظر ـ بالنسبة لي ـ أن الصراع بين حكام دمشق وسوريا من جهة والصليبيين من جهة أخرى، لم تكن على المدن والشعب الأردني، وسكان الأراضي التي يجتاحها الجيشان أو أي منهما، بل كان على القلاع، والإنتاج، وكل يريد كسر شوكة الطرف الآخر. فنجد هذا الجيش يسير ويبني قلعة هنا، ثم يحتلها الخصم، ثم يدمرها قبل الانسحاب منها وهكذا دواليك، ونجد أن هذا القانون الحربي ينطبق على جميع القلاع على الأرض الأردنية من أيلة/ العقبة، إلى الوعيرا ومعان في ديار البتراء، إلى الشوبك، ومن ثم الى قلعة الحابس على نهر اليرموك شمالاً، وقلعة جرش على ضفاف نهر الزرقاء.

كانت الجيوش تجتاح هذه البلاد وتنهب المحصولات، ولا تجد مقاومة من الناس، لأن وقوفهم إلى جانب جيش سيعني سحقهم من الجيش القادم، وإنما يقفون موقف الحياد على مبدأ: اللي يبرِّد أمي هو عمي whom he abduct ( marry ) my mother becomes my legal uncle, (even it this abduction legal or illegal)،

وأيضاً مبدأ، خبي راسك عند مصارع (مصاكل) الدول

once conflict takes place between powers around you, dont take part in that, but hide your head and just enjoy looking and observing،

وأيضاً دولة وتعدِّي، أو أيام وتعدِّي

it is a matter of patience and time, them sooner or latter we will get red of this state who is practicing suppression or invasion.

لم تكن هذه الأمثال تأتي من فراغ أبداً، وإنما كانت محصّلة تجارب قاسية مرّ?Zت بالأردنيين أو مروا بها، ووجدوا أن العيش في الأردن يحتاج إلى فلسفة خاصة تختلف تماماً عن العيش في سوريا أو مصر أو فلسطين أو الحجاز، وأن فهم وممارسة هذه الخصوصية الأردنية هي من أسرار بقاء هؤلاء الناس في ديارهم.

1. يتوقع من يعيش هنا في أي وقت أن تدخل عليه جماعات أو مجتمعات عابرة من أية جهة باتجاه الجهة الأخرى، وربما تستقر وتؤسس لنفسها مجتمعاً أو إمارة أو مملكة لأن الأردن بلد ممر ومستقر.

2. كون الأردن ملاذا آمنا منذ أقدم العصور فإن القادمين قد يكونوا باحثين عن ملاذ آمن فلا يدخلوا في الصراع، أو محتلين فيسيطرون على البلاد والعباد , ومن الملفت للنظر أن غالبية المجتمعات التي رحلت إلى الأردن شكلت فيه دولاً منذ الأدوميين ، والمؤابيين، (وقبلها الحوريون، والكفتاريون) والعمونيين (وقبلهما الزمزميون) والباشانيون، والحشبوسيون، ثم الأنباط، وبعدهم الغساسنة، (وقبلهم قضاعة ـ الضجاعمة وبنو سليح ـ شكلوا ممالك). إذ أن هجرة المجتمع من أعلاه إلى أدناه تعني هجرة لغته وثقافته وعاداته وتقاليده، فيجد أرضاً خصباً، وعدم مقاومة من السكان، فيستقرون ويبنون وينشئون لهم دولة على هذه الرقعة أو تلك.

3. أن الأردن معرّضة باستمرار لهجمات البدو سواء أكانوا قادمين من جزيرة العرب أو الرافدين أو البادية السورية، أو تلك العشائر الأردنية التي غادرت البلاد طلباً للأمان وهروباً من انعدام الامن ، ثم تحولوا إلى بدو، وعادوا للهجوم والنهب وهم يعرفون بلادهم جيِّداً ويعرفون مواطن الخصب والجدب.

4. هناك ميزة تاريخية واضحة في أهل الأردن، أنهم لا يقاومون أي احتلال جديد لبلادهم اذا كان يفوقهم عددا وعدة وكنهم يتربصون به الدوائر , ويتحولون الى قساة جداً جداً، على الدولة التي تسقط أو التي ترحل إذا عرفوا أن هذا هو سقوطها النهائيٍ، أو رحيلها إلى غير رجعة، وأن ما فعلوه باليونان والرومان والصليبيين والأتراك فيما بعد في الأيام الأخيرة لهذه الدول ليدل على أن الأردنيين يخزنون حقدهم وكرههم لهذه الدولة أو تلك ثم ينفجر انفجاراً واحداً في لحظة واحدة، وإذا انفجر كان ذلك أبدياً، ولا تعود الدولة التي تسقط في الأردن إليه إطلاقاً، وهذا التاريخ بين أيدينا، اللهم إلا إذا كان هذا السقوط في حالات السجال بين الكرّ والفرّ، والاحتلال والتحرير وصراع القوى.

5. وهناك ميزة أخرى أن الاردنيين إذا أرادو الحرب أو الغزو لا يفعلون ذلك إطلاقاً إلا تحت راية قائد يسمونه "عقيد" Leader، ويتميزون بالطاعة للقائد الذي يحظى بثقتهم ، وإذا تحرك أي فرد من أتباع القائد أو الشيخ فإنه يطلب الشرعية من شيخه أو عقيده لكي يعطي الشرعية على ما يقوله أو يفعل هذا الشخص. والميزة الأخرى أنه إذا تجمهر الخصمان: الأردني ومن هو ضده، فإن الأردنيين ينتظرون طويلاً قبل الهجوم إلى أن يتقدم شخص منهم أو من الطرف الآخر طالبا المنازلة ، فإن كان من عدوهم أو غير مؤهل من طرفهم وكان شؤماً عليهم، أسموه: محراك الشرّ stirring up of devil، وإن كان منهم وكان شجاعاً أو قائداً أو عقيداً أو شيخاً سمّوه: قلطة brave knight (fighter)، وهو الاصطلاح الذي يعطونه للقاضي العشائري المشرع لأنه يقلط/ أي يتقدم ويجرؤ whom he dares to على حل مشكلة ليس لها سابقة، فيضع حلاً يصبح سابقة للقضاة من بعده في هذا الإطار.

ان هذه الطرق وسيلة ذكية من وسائل الصراع من أجل البقاء، ولو أن الأردنيين انشغلوا فقط في مقاومة من يأتي ديارهم، فإن الفناء سيكون نصيبهم، لكنهم شعب مضياف، وطيب، ويحتوي من يأتي، وهم مجتمع قوي، وتستمر الحياة وهم شعب قادر على التكيف مع جميع الظروف القاسة والسهلة معا ..

6. إن الشعب الأردني شعب غير دموي، يكره العنف والقتال، وإذا حدث على مستوى فردي كانت عادات الطيبة أو الصلح conciliation، وإذا كانت بين العشائر، أسموها حفار ودفان على ما غبا وبان

dig and hide all enmities between conflicted parties, and should become friends instead of being enemies, and intimacy instead of hatred

7. ولا شك أن الدموية في أي شعب عادة سيئة، وتجر الويلات للأطراف المتصارعة أو المتخاصمة، أما التسامح، فهو يبقي على الود بين الناس وأولاد الناس، لذلك نجد الأردنيين يبحثون دوما عن أي مخرج ليحل الوئام بدل الخصام. وهكذا استطاعوا الاستمرار في هذه الديار المعرضة للخطر والاحتلال والاجتياح من كل زاوية وركن، طمعاً فيما هي عليه وفيه من خيرات وموقع استراتيجي، أو جسر للمرور إلى غيرها من البلدان المجاورة.

ذكرنا هذه الصفات في الشعب الأردني ليعرف القارئ أن غياب الدور الشعبي الأردني في الصراع مع الصليبيين، غياب واضح، لأن الشعب كان مشغولاً بحياته، وهو ينظر فقط إلى هذه الجيوش وهي تتصارع، فالحكام في دمشق وكانوا من الأكراد العراقيين كانوا بالنسبة للأردنيين غرباء ومن غير هذه الديار، وإذا حكموا , او حكم الصليبيون، فانهما ورغم اختلاف العرق والدين، لم يكن لهما او لاي منهما سوى جمع المحاصيل والمال، وأخذ العيال أسرى أو مقاتلين، لذا ربما كان الأردنيون أحياناً يرون أن هذا الصراع يخدمهم أكثر من هيمنة طرف واحد منهم على الساحة ، لأن هيمنته ستعني أخذ أولادهم للقتال، أما أخذ المال والناتج والمواشي فهي حالة سائدة ليس أي طرف صليبي أو إسلامي براء منها. وكلهم في هذا سواء ولكن احدهم يأخذها باسم الاسلام ويأخذها الثاني باسم الصليب . والنتيجة واحدة والخاسرون هم الاردنيون .

كان هذا السائد لدى الأردنيين، وانطبق الأمر على قبيلة بني عوف القضاعية سكان مناطق عجلون وأحراشها المتشابكة الجميلة، فبعدما دمّر بلدوين الثاني قلعة جرش عام 1121 (514هـ)، وجد نفسه أمام غابات عجلون المتشابكة، ويبدو أنه كان قرأ التوراة حيث قام ملك عمون بقتل اليهود في هذه الغابات وقلع عين كل واحد منهم، وكيف كانت المعركة في هذه الأحراش صعبة ومؤذية لبني اسرائيل ، وبالتالي وجد أن دخوله إليها سيعني الكارثة لجيشه كما كانت كارثة على الجيش اليهودي في العصور الغابرة . ويبدو ان التفكير نفسه كان يساور طغتكين حاكم دمشق، فتركوا بلاد عجلون (بلاد عوف) تجنّباً للمخاطر والصعوبات التي لا تستحق التضحيات الكبيرة، ليس هذا فحسب، بل أن أهلها كما هو شأن بقية العشائر الأردنية بقوا على الحياد التام، فلا يعترضون أي طرف، ولا يقاومونه ولا يؤيدونه، لانها اطراف ( مراقة طريق / اي عابرة طريق ) بل إن كلا الجيشين المتخاصمين، لم يسجّلوا حالة خروج من بني عوف على وحدات أي منهم. والأمر نفسه انطبق على شمال شرق الأردن كله حتى اليرموك.فالاردنيون كانوا كلهم قارئون على شيخ واحد هي المعاناة المشتركة عبرالسنين .

استفاد بنو عوف ومن حولهم من هذا الموقف الحيادي، وتوجهت جهود الجيشين المتخاصمين كل منهما لضرب الآخر وهدم قلاعه، وقتل رجاله، وذلك يعني سلامة أبناء العشائر الأردنية. على مبدأ: لن سلم راسي الله أكبر once my head (i.e. My self) is safe, we praise Allah) وقولهم :

( اضرب العرص بالعرص ما يظل ضدك ولا عرص )

Give way for wicked person to kill another

Wicked, this will smash all wicked group from your road.

نعود للقول، أن هذه الأمثلة الحكيمة هي محصّلة أجيال وصراعات وتجارب وتحفظها الأجيال ورحلت إلينا، رغم عمقها في جذور التاريخ، وإن اختلفت التعبيرات من حين إلى حين.

وعندما التقى جيش بلدوين الثاني ونور الدين زنكي في معركة على الجسر الخشبي الذي كان على نهر الأردن بجوار بحيرة طبرية من جهة الجنوب، لم يقف الاردنيون في تلك الديار مع جيش نور الدين لأنه غريب عليهم مثلما هو الجيش الصليبي، ولأن نور الدين وقادته لم يعطوا الأهمية للمجتمع القبلي الاردني المحلي، وكان همهم ( جيش نور الدين ) فقط أخذ المؤن من اقوات الناس ، وكانت النتيجة هزيمة نور الدين أمام بلدوين الثاني الذي عاد إلى القدس، وعاد ذاك إلى دمشق، ولم يقم بلدوين الثاني بملاحقة نور الدين بسبب وعورة البلاد، وخشيته من أن تكن هذه خطة استدراج له، ولو لحق به لانتهى جيش بلدوين وانقطع عن خطوط إمداده. اما الاردنيون فقد راحوا يتفرجون على المعركة بين الطرفين الغريبين كما يتفرجون على صراع بين غزلان لايصلون الى لحمها , اوخنازير محرم اكلها بنص القران الكريم .

كان هناك صراع بين االامراء المسلمين انفسهم ايضا , وهو ماكان بين حكام حلب ودمشق، ودخول نور الدين الزنكي إلى دمشق بمساعدة شيركوه عم صلاح الدين، ثم دعم نور الدين للوزير شاور وزير الخليفة الفاطمي ضد خصمه الوزير ضرغام، وإرسال صلاح الدين إلى هناك حيث استوزره الخليفة الفاطمي، وأعطاه لقب الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن أيوب، وإرسال نور الدين كتاباً لتثبيت صلاح الدين في هذا المركز وانطلاقه في طموحاته من هناك، ولكن هذا ليس من شأننا في تفاصيله لأن سيرته تطول، وهو في خارج الأردن وكتابنا عن الاردن .

ولسنا معنيين بتاريخ أرناط الشرير ملك الكرك، أو أميرها الذي بدأ سيرته زوجاً للأرملة الحسناء وريثة عرش إمارة أنطاكيا، ثم أسره من قبل نور الدين الزنكي وزجه في سجن قلعة حلب سبعة عشر عاماً من 1160 ـ 1176م، (555هـ ـ 571هـ). وعودته إلى أنطاكيا ثم القدس حيث استقبلوه استقبال الفاتحين، ثم زواجه من بارونة الكرك التي مات عنها زوجان من قبله خلال سبع سنوات، وصار بذلك أميراً للكرك من خلال زواجه من الأرملة اتينيت دي ميلي Etienne de milly حيث زوّجه ملك القدس منها عام 1177م (572هـ)، وإسناد إمارة الكرك إلى أرناط الشرير مما شكل نقطة تحوّل خطير في دور الكرك السياسي والاقتصادي.

وليس هذا مكان صعود صلاح الدين الذي ولد في عام 1138م (532هـ) في تكريت بلد الزعيم صدام حسين في القرن العشرين، ولا الحديث عن والده نجم الدين، ولا النقاش فيما إن كان عربيّاً عاش مع الأكراد أو كردياً عاش مع العرب وساد عليهم (؟!)، ولسنا بصدد الحديث عن والده أيوب الذي كان عاملاً على بعلبك وعقد هدنة مع ملك دمشق فصار في بلاطه وارتقى إلى مرتبة قائد جيوشه، حتى إذا ما سقطت حلب بأيدي نور الدين أمضى صلاح الدين سنوات عدة في بلاط حلب ثم سار مع عمه شيركوه إلى مصر.

وإنما نقفز إلى الأحداث الخاصّة بالأردن، حيث برزت الكرك كنقطة لاستقطاب الصراع الإسلامي الصليبي، وأن السيطرة على الكرك باتت تؤرق صلاح الدين طمعاً فيها، وتؤرق أرناط الشرير للاحتفاظ بها، وأن سقوطها بيد صلاح الدين سيعني تهديداً مباشراً وقوياً وخطيراً لمملكة القدس الصليبية، وبالتالي للوجود الصليبي برمته في شرق الأردن وفلسطين، وبنفس الوقت قوة لصلاح الدين والمسلمين في لحمة الجبهة العربية الإسلامية من الموصل إلى حلب إلى دمشق إلى الكرك إلى القاهرة وهذا طوق خطير على الصليبيين.

كان الملك الصليبي في القدس يعاني أيضاً من ضعف مملكته بسبب انقسام البارونات، من جهة، وبسبب عدم القدرة على مزيد من التوسع في أراضي العرب والمسلمين من جهة اخرى . وعندما أسند الكرك لأرناط، كان يهدف:

1. للارتياح منه لأنه صار رئيساً لحزب المتطرفين في القدس، وبالتالي يقود الأمراء والقادة الذين يشقون عصا الطاعة على الملك الصليبي في ديار الاحتلال .

2. إن زواج أرناط من دي مللي هو نوع من محاولة تخفيف طموحاته الجامحة، فهي امرأة أرملة ومات عنها زوجان سابقان ولها بنات منهما , وقد فقدت عنفوانها، ولعلّها تريد من زوجها أن يهيئ لها سبل الراحة مع الاحتفاظ بالكرك. ولكن ذلك لم يتحقق ولم يتعلم أرناط من سجنه بقلعة حلب عند العرب سبعة عشر عاماً، بل ازداد حقداً وكراهية للعنصر العربي والإسلام ويريد أن يثأر لنفسه ولصليبيته الحاقدة على الإسلام والنصرانية معاً.

3. كانت بارونية الكرك من أهم البارونيات الخمسة التابعة لمملكة القدس الصليبية للأسباب التالية:

‌أ. المركز الاستراتيجي الطبيعي الهام ما بين مصر والشام والحجاز وفلسطين، حيث أنها كانت تراقب تحركات المسلمين بين جناحي الدولة الإسلامية ـ الشيعية في القاهرة والسنية في دمشق، فضلاً عن مراقبة قوافل الحجيج والسيطرة عليها. وأن مراقبة مثل هذه التحركات كان استطلاعاً هاماً، يعرف الصليبيون من خلاله نوعية التحركات وقوتها وأهدافها ومدى قوتها .

‌ب. المركز الاقتصادي الغني حيث كانت أكبر بارونية يرد منها الدخل للدولة الصليبية في بيت المقدس , من خلال جمع الضرائب على محاصيلها الوافرة، وإنتاجها الحيواني الكثير والرسوم على القوافل التجارية والبضاعة الواردة والخارجة والمارّة عبر أراضيها . لقد كانت القلب الاقتصادي النابض وسلة غلال مملكة القدس.

4. المركز العسكري حيث كانت تطل على أية تحركات عسكرية، كما تشرف على مساحات واسعة جداً شرقا وغربا , ويمكن بالمراقبة البصرية رصد أية تحركات عسكرية، والتأهب للمقاومة والحصار قبل أن تصل هذه القوات إليها. كما أن الاحتفاظ بها يُبقي قوات الصليبيين فيها محصّنة، ويُبقي بالمقابل قوات المسلمين مكشوفة ومعروفة العدد والعدة والعتاد والتحركات.

5. إن استمرار قلعتي الكرك والشوبك بأيدي الصليبيين يبقى عائقاً أمام المسلمين الذين لا يمكن لهم استعادة بيت المقدس إلا بعد استعادة الكرك. وهذا ما كان يراه صلاح الدين أيضاً?Z، مما اضطره إلى توحيد الجبهة الإسلامية، وأن أول قائد عربي في هذه الفترة أعطى الأهمية للجبهة الأردنية هو صلاح الدين، ذلك أنها طريق التوحيد بين جناحي دولته في مصر ودمشق، ففلسطين تحت الاحتلال أما الاحتلال في الأردن فهو احتلال قلاع ومواقع مثل قلعة الحابس في اليرموك، والكرك والوعيرا (وادي موسى) والشوبك ومعان والعقبة كما أن سكان الأردن اصبحوا غير متعاونين مع الصليبيين بشكل مرضي ولم يجاهروهم العداء ، وكانوا يسمحون لصلاح الدين أن يعبر مثلما يسمحون لأعدائه.

حاول أرناط الشرير أن يثبت شجاعته، وأن يعوِّض عن سنوات الأسر السبعة عشر التي قضاها في سجن حلب، فاشترك مع مؤاب ملك القدس في معركة تل الصافية ضد صلاح الدين، حيث عانى المسلمون من هزيمة مرة، وكان أرناط لا يتقيّد بالعهود والوعود والمعاهدات، ويتصرف كما يحلو له، وبخاصة حينما يجد أن الفرصة مواتية للانتقام والنهب . من هنا كان لا يتوانى عن التصدي لقوافل الحجاج ونهبها وقتل ضيوف الرحمن ويتصدى لقوافل التجار أيضاً، ولا يضبطه قانون أو شرف أو أخلاق او معاهدات ، رغم أنه كان يتقاضى ضرائب عن مرور هذه القوافل عبر أراضي بارونة الكرك وقد أدى هذا إلى ضياع الأمان لدى التجار والحجاج كليهما.

من هنا فإنه عندما طلب ملك القدس بلدوين الرابع عقد الهدنة مع صلاح الدين، رحّب الأخير بها ترحيباً كبيراً، وذلك لوضع حدّ لتعديات وأعمال أرناط الشرير، وعقدت المعاهدة في شهر أيار 1180م (576هـ)، ولمدة سنتين، وكان أهم شروطها هي: ضمان حرية التجارة والتنقل في المنطقة الأردنية بالذات، لأنها نقطة تلاقي الطرق والاتصالات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وسواء أكانت القوافل إسلامية أو مسيحية، ولكن الحقيقة أنها كانت جميعاً قوافل عربية إسلامية.

لم ترق هذه المعاهدة لأرناط، وهو يرى الطرق الأردنية تعج بالقوافل الرائحة والغادية بين البلدان المجاورة، وما معها من أحمال ثمينة، مما أثار شهية أرناط وجشعه، فاستغل مطلع عام 1181 وكان عاماً ماطراً كثير الخبرات والأعشاب والأمطار، واندفع في كانون الأول وكان ذلك مواتياً لشهر رجب عام 577هـ , أقول اندفع حول قافلة عبرت الأردن قادمة من دمشق متجهة إلى مكة المكرمة، ووافاها عند تيماء في شرق البادية الأردنية ونهبها، من ظفر به من رجالها دون أن يجد رادعاً أو قوة تحول دون عمله الشرير.

بعد أن حقق أرناط ما حققه على القافلة، وضع في رأسه غزو المدينة المنورة ونهبها ونهب جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وجلبه للكرك لاستيفاء رسوم عالية من المسلمين لقاء ذلك. وهنا يظهر لنا البرهان الناصع أن أرناط وسائر الصليبيين كانوا أعداء لسيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام، إذ أن عيسى بن مريم لا يمكن أن يقبل نبش قبر أخيه محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين. بل إنه وفي نص القرآن الكريم أن عيسى يتبرأ من هؤلاء يوم القيامة، لأنه أمرهم بعبادة الله، ولكنهم عبدوا عيسى من دون الله.

شاء الله أن تخيب آمال أرناط، فتحرك نائب صلاح الدين من دمشق لملاحقة هذا الشرير، وسار مسرعاً، إلا أنه (حاكم دمشق) قد أوقع الأضرار في ممتلكات الأردن وهو في طريقه، إذ نهب ودمّر كل ما وقعت عليه يده في طريقه إلى الجنوب ويبدو أنه فعل ذلك لتقاعس الأردنيين عن ملاحقة أرناط ومهاجمته. وبذلك كان الأردنيون بين نارين، فإن هم هاجموا أرناط انتقم منهم بجيوش صليبية جرارة، وإن هم تركوه وشأنه غضب عليهم حاكم دمشق و/أو مصر. ومع هذا فإن الضرر الذي يلحق بهم من الجيش العربي الإسلامي أخف وطأة مما يلحقهم من الصليبيين.

عاد أرناط فوراً إلى الكرك خشية أن يحتلها نائب صلاح الدين، وكان (أرناط) يحمل معه الغنائم الكثيرة الوفيرة، لكنه فشل في تحقيق مأربه في الوصول إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك يقول الشاعر ابن الوردي رحمه الله:

ق?Zص?Zد البرْنُس مكيدةً ع?Zظُمت

 

فانحار عنها خاسراً خاسي

أيخافُ خيرُ الخلق من أحد

 

والله يعصمه من الناس؟

وعندما توكد حاكم دمشق أن أرناط الشرير عاد إلى وكره في الكرك، عاد ذاك إلى دمشق، فالوقت لم يكن مناسباً بعد للحرب والقتال، وإنما فقط لضبط الأمور، وليبقى كل واحد في مكانه ومجاله إلا أن تتبدل الأحوال .

على أثر ذلك، تحرك صلاح الدين من مصر باتجاه الشام عبر الأردن لإجهاض الاتحاد ما بين حاكمي حلب والموصل الأمر الذي سيعيق مخططه في تحرير البلاد من الصليبيين , فضلا عن ان هذا الاتحاد سيصدع الجبهة الإسلامية. وكانت الأوضاع كلها مضطربة في الدولتين الإسلامية والصليبية كليهما على حد سواء , إلا أن أرناط المهووس كان لا يحسب للعواقب حسابا , فقام يحشد قوات صليبية كبيرة وكمن لصلاح الدين في الطريق، قاصداً نهب التجارة والتجار والجيش وكلهم برفقة صلاح الدين.

كان للأردنيين دور في اجهاض مخطط ارناط , إذ تناقلوا خبر تحركه بصمت ونقلوه إلى صلاح الدين الذي قسّم القافلة إلى قسمين: قسم التجار والبضاعة وقد سلكوا الطريق الصحراوي إلى معان فالجفر فباير ثم شمالاً إلى الأزرق حيث نقطة اللقاء، وقد كانوا يسيرون بأدلاء من أبناء العشائر الاردنية , وبذلك أبعد المال والتجار عن متناول الخطر الصليبي وأنجاهم الله سبحانه وتعالى.

أما القسم الثاني فهم الجيش المقاتل الذي بقي، معه، حيث ذهب جزء منهم لحراسة القوافل وقد بقي الجيش بقيادة صلاح الدين، بينما كانت القافلة التجارية بقيادة أخيه تاج الملوك بدري . وجد صلاح الدين الفرصة مواتية لاستطلاع الأوضاع في شرق الأردن، ومعرفة القوى العسكرية لأعدائه، ومشاعر الناس فسلك طريقاً إلى النقب غربي معان ثم إلى وادي موسى، فالقرين وهي قرية في جبال الشراة إلى الغرب من معان، ثم إلى عنيزة شرقي الشوبك فالحسا فالقطرانة فالموقر فالأزرق. حيث التقى أخاه تاج الملوك بدري الذي وصل قبله.

وبذلك أخذ صلاح الدين طريقاً متعرِّجاً في جبال الشراة ثم في وسط الأردن، لاستطلاع المنطقة بشكل دقيق، ولم يلاقي أية مشقّ?Zة، وكان لا يتوانى عن إتلاف المحصولات التابعة لأرناط أو لحلفائه من العربان من العشائر الاردنية ، واستغرقت رحلته أسبوعاً قبل أن يلتئم بأخيه في قلعة الأزرق، حيث واصلا معاً السير إلى دمشق، ووصلا بأمان.

وهنا نتوقف قليلا : فقد كانت القبائل الاردنية ثلاث فئات :

1= قبائل غادرت( بالكامل) الديار الاردنية هربا من بطش العباسيين ثم من ملاحقة الصليبيين وعدم مهادنة هذه القبائل للعباسيين وقوات الاحتلال الفرنجي , فمنهم من توغل في شمال جزيرة العرب ومنهم من ذهب الى بلاد الرافدين ومنهم من التحق بالاندلس ومنهم الى شمال افريقيا ومنهم الى مصر في المحافظات الشرقية والصعيد والنوبة ومنهم الى السودان ومنهم من عاد الى اليمن ومنهم من ذهب الى شمال العراق والجزيرة في سوريا وحلب والاناضول وديار بكر . كان كل منهم يريد البقاء ويبتعد بعرضه وروحه عن مكامن الخطر . وقد اخذت مثل هذه التحركات مئات السنين زمن العباسيين وزمن الاحتلال الصليبي كما قلنا , ولم تكن بين عشية وضحاها .

2= قبائل اخرى نجد فيها جزء من القبيلة قد غادر وبقي اخر في الاردن وتجول بعيدا عن مكامن الخطر ومنهم من غير اسمه , ومنهم من التحق بعشائر قوية مثل عنزة وشمر وكندة نجد وطي في باديةالعراق وشماله , ومنهم من التحق بعشائر اردنية ليست مطلوبة للعباسيين .

3= قبائل بقيت بالاردن متجولة من ديرة الى اخرى حيث يجدون الامن والحماية مع الماء والكلاء . وهنا حدث التداخل حيث نجد قبيلتي بني كلب وجذام اكثر القبائل المستهدفة والمضطهدة عباسيا دخلت في القبائل الاخرى وغيرت اسماءها واخذت الاسماء الجدية في العشائر الجديدة . لذلك نجد من هاتين القبيلتين الى الان بالاردن اجزاء مشتتة في سائر العشائر الاردنية الاخرى , وقد فعل اجدادهم ذلك من قبل من اجل البقاء والحماية ليس الا . فهم حلفاء بني امية المخلصين وقد تغيرت الدول والزمن وعليهم ان يتكيفوا معهما وكذلك كان.

واما من بقي بالاردن من القبائل زمن الاحتلال الصليبي فقد هادنوا الصليبيين كما قلنا مما ادى الى غضب صلاح الدين ومؤرخيه وقادته على اهل الاردن فامر بحرق مزارعهم وهدم بيوتهم ومصادرة اموالهم بما لم يفعله الصليبيون ضدهم .

لابد ان زعماء هذه العشائر الاردنية الموجودة والمتضررة انذاك اجتمعت وتدارست الامر بعضها مع بعض وماذا عساها فاعلة امام هذا الحقد الايوبي الذي كان امتدادا للحقد العباسي . وعندما ارسلوا الى ارناط وامارة الكرك الصليبية يخبرونهم عن خسارتهم جراء مهادنتهم للصليبيين , قال لهم ارناط وقادة امارته : اذهبوا واخرجوا شوككم بايديكم فانتم مسلمون وعرب تضربون بعضكم بعضا , وذلك ليس من شاننا ( وبطيخ يكسر بعضه ) . وعلى اثر ذلك ارسل شيوخ ووجهاء القبائل الاردنية في الجنوب كله الى صلاح الدين وقادته يسالون عن سبب حرق زروعهم وقطع اشجارهم ونهب مواشيهم وهدم دورهم ,واسر رجالهم , وهو مالايتفق مع شرع الله , فكان جوابه لهم اتهامهم بالعمالة للصليبيين ضد الاسلام والمسلمين .

وهنا كان كلام زعماء العشائر الاردنية واضحا وقويا امام صلاح الدين / ماذا عسانا فاعلين ونحن عربان وهذه قوات تحمل احدث الاسلحة ( في حينه ) ولديها جيش منظم ومدرب وهم في قلاع محصنة تعجز عن اجتيازها القوات العربية المنظمة بما فيها قوات صلاح الدين نفسه؟ وماذا عسانا فاعلين الان واكثر من نصف قبائلنا مشتت في الجزيرة العربية والفراتية ومصر والعراق وشرقا وغربا وجنوبا وشمالا ؟ وماذا عسانا فاعلين ونحن لانجد في القادة العرب والمسلمين الا التناحر والتنافر على الكراسي , وهم يتركوننا طعاما سائغا للخنازير الصليبية ؟ وماذا عسانا فاعلين وكان على صلاح الدين ان يتصل بنا اولا ويرى نوايانا قبل ان يؤذينا هذا الاذى ويصب حقده بهذه الطريقة ؟ وماذا عسانا فاعلين ونحن عانينا من الاضطهاد العباسي مالم نعانيه حتى من الصليبيين انفسهم ؟ فلماذا نعاني من قوات المسلمين الجديدة ؟ هل تريدوننا ان نرحل ونترككم والصليبيين بدون مساندة وظهير ؟ ياصلاح الدين هذه ديار ابائنا واجدادنا منذ الاف السنين وهؤلاء الصليبيون ليسوا الا كسائر المحتلين الذين استمروا واستقروا قرونا ثم ذهبوا الى غير رجعة وسيذهب هؤلاء الى غير رجعة اجلا ام عاجلا . اننا نراهن على الزمن ليس الا ولا بد ان يقيض الله قائدا لهذه الامة وحينها سيجدنا جند الحشد والرباط في تحرير الاردن والقدس والدفاع عن الاسلام والمسلمين . وقد وجد صلاح الدين في كلام زعماء العشائر الاردنية منطقا وحجة , تستحق الالتفات اليها . وجرى البحث والتداول في اسلم الطرق للتعاون .

كانت شكوى العشائر الاردنية امام صلاح االدين تتركز ايضا على النقاط التالية :

1= انهم كعرب يتعرضون لصنوف الكره والاذى من الاعاجم من جنود صلاح الدين , وان الدين المشترك وهو الاسلام لم يمنع الاعاجم من ايذاء الاردنيين , وان الاعاجم والصليبيين كلاهما وجهان لعملة واحدة فيما يخص التعامل والاذى ضد الاردنيين . وبالتالي فان ذلك ينعكس سلبا على موقف الاردنيين من القوات الايوبية .( الاعاجم يكرهون العرب )

2= ان ابناء غير البدو من قوات صلاح الدين من العراق والشام ومصر يكرهون العشائر الاردنية لانها عشائر بدوية , وبالتالي فان ذلك لايشكل فارقا كبيرا بين جيش الايوبيين والصليبين في هذا الاطار ( غير البدو يكرهون البدو )

3= ان من يحمل الفكر العباسي يحمل معه الحقد على العشائر الاردنية . وبالتللي فلا فرق بالنسبة لعشالئرنا بين جميع هذه القوى رغم اختلافها في المذاهب والددين والعرق . وان معاناة الاردنيين واحدة

4= وبناءا عليه فان الاردنيين ارادوا خوض الجهاد كمتطوعين وليس جيشا نظاميا , واشارت اليهم كتب المؤرخين بكلمة المتطوعين فقط . وهذه الكلمة تطلق عادة على من يتطوع لوجه الله تعالى دون انتظار الراتب او المكافأة . كما ان المتطوعين عادة مايكونون من المناطق القريبة من مناطق الصراع والقتال وليس من المناطق البعيدة . واما ابناء مصر والشام والعراق فكانوا مع الجيش النظامي الذي يتقاضى رواتب من صلاح الدين . وبناءا عليه , وتجنبا لانشقاق العشائر الاردنية وابتعادهم عن ساحة الصراع ورغبة من صلاح الدين باحتوائهم ,

صار الاتفاق بين صلاح الدين وزعماء عشائر شرق الاردن على مايلي :

= التنبيه على العساكر بالتوقف عن الاذى وممارسة مايثير العشائر الاردنية ولو مؤقتا وظاهريا على الاقل .

= ارسال مندوبين من كل عشيرة الى قسمها النازح خارج الديار الاردنية ليعودوا الى الاردن ارض الاباء والاجداد , ولهم الامان من السلطان صلاح الدين على اموالهم واعراضهم وارواحهم , ولهم ارضهم التي كانت لهم قبل النزوح . وذلك في خطة متفق عليها للتعبئة للجهاد لتحرير الاردن والقدس وفلسطين , وان الموجودين وحدهم لاطاقة لهم بهذه المهمة المقدسة . وبالفعل قامت العشائر الاردنية بالاتصال كل مع اقاربه في المنفى وشجعوهم على العودة الى ارض الوطن وكل الى جسم عشيرته الاصلية .

=تزويد العشائر الاردنية بالسلاح للدفاع عن انفسهم امام الصليبيين وتدريبهم على ذلك وعلى الفروسية ايضا .

= فتح باب التطوع والتجنيد للاردنيين في قوات صلاح الدين للقتال ضد الصليبيين وضد الخونة من الامراء والحكام الاخرين في الشام والعراق ومصر . وقد تم تنظيمهم ليكونوا الفرق المتطوعة لمساندة الجيش النظامي وعمل حروب الاستطلاع والعصابات التي برع فيها الاردنيون عبر التاريخ .

=عدم التعامل مع الصليبيين الا من خلال مايتفق عليه صلاح الدين ضمن المعاهدات المعقودة مع ارناط او بلدوين ملك القدس او قادة الصليبيين الاخرين .اي ان ذلك يعني الاعتراف من القبائل الاردنية في ان صلاح الدين هو ولي الامر وقائد الامة , وان الاردن من مملكته والاردنيين من رعيته .وهذا يقويهم ويقوي صلاح الدين معا , وينهي حقد قوات صلاح الدين على الاردنيين , بل ويتحول حقده هو وجيشه الى محبة , وعداوته الى تحالف مع الاردنيين , وهذا ماحدث .

= توقيف الامر السلطاني الذي اصدره صلاح الدين بترحيل بعض القبائل وبخاصة عشائر عباد الجذامية ( كان القرار بترحيلهم الى مصر ) وبقائهم حيث يرغبون على الارض الاردنية ارض الاباء والاجداد . وبالفعل فان عشائر عباد رفضت الرحيل الى مصر اصلا مع ماكان سترتب عليه من ردود فعل قد تعوق مخططات صلاحالدين وتقلب العشائر الاردنية ضده , فتركهم لخيارهم داخا الاردن فاختارت البلقاء ( منطقتي السلط وعمان ) ورحلت اليه بعد الانتصار العربي الاسلامي في معركة حطين التي شاركت عباد بها مع سائر العشائر الاردنية كما سياتي ان شاء الله ,

ويمكننا معرفة حجم النزوح الذي حدث للعشائر الاردنية من خلال احداث العصر الحاضر حيث شاهدنا النزوح في فلسطين والعراق وافغانستان ودارفورد وباكستان والصومال واليمن والعرب الاسبان من قبل . فالنزوح شيء طبيعي في البشر عندما تتحول ديارهم الى منطقة صراع او احتلال او ارهاب الدولة او الحروب الاهلية او هيمنة الخونة الذين يبيعون الشعوب على موائد القرار , فيضطر الناس للبحثن الملاذ الامن . ولكن قبائلنا الاردنية كانت على اتصال مستمر مع بعضها البعض طيلة النزوح والاجيال , حتى اذا ماعادوا الى ديارنا عاد كل منهم الى قبيلته الاصلية وقيل حينها ان هذا من مصر وذاك من الشام وغيره من جزيرة العرب وما الى ذلك وهم في الحقيقة ابناء الوطن وعادوا اليه . والحقيقة انهم من بعضهم وانهم غيروا الاماكن والاسماء من اجل البقاء , وانهم تحركوا حيث يكون : (في الحركة بركة ) كما يقول الاردنيون , وحيث يعودون الى رائحة البلاد ( مااحلى ريحة بلادي )

نعود الى السياق ونقول :

في هذه الاثناء بدات العشائر الاردنية التي كانت بالاردن بالاتصال (عبر المراسيل ) مع اقاربهم المهاجرين الى خارج الوطن واخبروهم ان ساعة الانتقام من الاحتلال الصليبي قد حانت , وان ساعة الانتقام للكرامة الاسلامية والعربية والاردنية قد ازفت , وانها الفرصة لتحيري الاردن من الصليبيين كما كان الامر في الازمنة الغابرة فعاد كثير منهم من العلا ومن وادي السياح ومن وادي زيد ومن مدائن صالح ومن نجد ومن عنزة ومن شمر ومن كندة نجد ومن مصر ومن الشام ومن جزيرة الفرات ومن طي ومن فلسطين ومن الاناضول ومن جزيرة الفرات ومن شمال افريقيا , والتام شمل العشائر هذه مرة اخرى مع حدوث التداخل من جديد لاسباب او لاخرى . لقد عادت فروع جذام وقضاعة والغساسنة وبلي والانباط وبني عاملة ولخم والادوميين وبني سليح وبني كلب والازد والثموديون ( اهل الجبل فيما بعد ) وغيرهم كثير . وبقي منهم من بقي الى ان عاد للاشتراك في معركة عين جالوت كما سياتي ان شاء الله .

ومن الملفت للنظر ان البعض عندما يتحدث عن عشيرته يقول انهم جاءوا من مصر او شمال جزيرة العرب او سوريا او العراق دون ان يعرف القصة التي ذكرناها توا . انه التئام العشائر الاردنية مرة اخرى وليس انها غريبة وجاءت على ديار غريبة . وقد ايقن صلاح الدين انه لايمكن تحرير القدس بدون الكرك ولا يمكن له ان يحررهما ويطرد الصليبيين بدون العشائر الاردنية , وهذا ماسنراه في معركة حطين لاحقا ان شاء الله والتي هي معركة الاردنيين بامتياز . فالاردن هي ارض الحشد والرباط واهلها يغتنمون الفرصة للانتقام من الصليبيين ومن الاستعمار ومن كل الغرباء .

كان المخطط ان العشائر الاردنية في مناطق الكرك خففت نشاطاتها الظاهرة تارة , وتوارت عن الانظار تارة اخرى متحركة باتجاه الشراة ومعان والشرق والشمال , لكي يخدعوا الصليبيين ان هذه العشائر غادرت البلاد هروبا من الوقوع بين فكي كماشة الصراع الاسلامي الصليبي , وانها اصبحت حيادية في مجريات الصراع . فرح ارناط بذلك وانطلت عليه الحيلة وراى ان يتحرك الى الفخ اي الى مواجهة قوات صلاح الدين في غور الاردن وفي معركة حطين حيث الفخ الحقيقي هناك , لانه امن على الشوبك والكرك حيث لم يعد يرى رجالا وقتالا من الاردنيين , وربما عمل الاردنيون اتصالات مع ارناط زيادة في خدعته انهم يريدون الابتعاد عن مسارح المعرك لكي لايجبرهم صلاح الدين على القتال , وهذا من خدعة الحرب ومقتضياته .

وبناءا عليه تحرك أرناط على رأس جيش صليبي من قوات الكرك والقدس، مما جعل مملكة القدس الصليبية بدون حامية للدفاع عنها لذهاب جنودها مع أرناط على أمل القضاء على صلاح الدين ومن معه، ونهب ما سبق وأشرنا إليه، إلا أن الهزيمة والخيبة قد حلت ليس بأرناط وجيشه فحسب، بل وتعدته إلى القدس، حيث قام حاكم دمشق (قبل أن يصل إليه صلاح الدين) باستغلال كشف جبهة الصليبيين في شمال الأردن بالتعاون مع العشائر الاردنية في الشمال الذين وجدوها فرصة لضرب الجيش الصليبي , واحتل حاكم دمشق , اقول احتل قلعة حابس على ثغر اليرموك والمتحكمة به، وقفل عائداً إلى دمشق، يجر ألف أسير صليبي وعشرين ألف رأس من الأنعام.

عند وصول صلاح الدين ومعرفته لحقيقة مجريات الأمور ومدعوما من العشائر الاردنية في مناطق الجبهات , أرسل إلى بلدوين الرابع ملك القدس يطالبه بفك اسرى المسلمين والتعويض عما سلبه أرناط من قافلة تيماء، وحيث عجز الملك عن تلبية ذلك أمام رفض أرناط،, اعتبر صلاح الدين أن الهدنة بين الطرفين لاغية. وكان على صلاح الدين قبل أن يشن هجوماً أن يزيل عوامل الفرقة والانقسام في الجبهة الإسلامية الداخلية فلجأ إلى أسلوب المهادنة مع أرناط الشرير، وأرسل الأموال لأرناط مقابل ترك الجبهة الأردنية ممرّاً آمناً للقوافل بين شقي مملكة صلاح الدين في دمشق والقاهرة، وبذلك اصطلح مع أرناط خدعة وسياسة , وكان أقرب الناس لا يعرف كم يدفع صلاح الدين لأرناط مقابل سكوته عن القوافل والاتصالات وصار بينهما صلح يشترط: أن المسافرين يسافرون والقفول (أي قوافل التجارة) لا تنقطع والتجار لا تتعوق (أي لا تجد عقبات تعوقها من الصليبيين) من الشام إلى مصر.

لا نجد هنا إشارة إلى سكان البلاد من الأردنيين الذين تظاهروا بعد اتفاقهم مع صلاح الدين بأنهم لازالوا كما كانوا دائماً خارج اللعبة، منشغلون بحياتهم ووجودهم واستمرارهم.وبذلك خدعوا الصليبيين . ومن الواضح أيضاً أن أرناط لم يقم بالاعتداء على العربان الأردنيين لأن من مصلحته بقاؤهم على هذه الحال إذ كان لازال يعتقد انهم لا يشكلون عليه خطراً ولا يعينون عليه أحداً، ولا يتدخلون ضده إذا هاجم قافلة عابرة. لأن الأمر لا يعنيهم.قالمثل الاردني القديم بقي ماثلا ومطبقا : ( الشعب شعب والدولة دولة . وخبي راسك عند مصاكل الدول) .ولكن ماكان يجري وراء الكواليس من العشائر الاردنية كان امرا اخر فالحرب خدعة اتقنها الاردنيون فعلا . وهم الان مع السلطان صلاح الدين بانتظار الوقت المناسب .

من هنا نجد أن الاتفاق شمل حماية القوافل، وليس حماية العربان في بارونية الكرك، لأنه يبدو لي أن ارناط كان لازال يعتقد ان الأمور ( حماية العربان ) كانت مغطاة بين أرناط والعربان ضمن تفاهم عدم اعتداء أو إعانة المعتدين من أي طرف ضد الآخر.ولكي تكتمل الخدعة تظاهر صلاح الدين بالاتفاق مع زعماء العشائر الاردنية , بان الامور لازالت كما كان يتصورها ارناط بالنسبة لاهل الاردن / اي انهم حلفاء له . وكان صلاح الدين وأرناط كل منهم يتربص بالآخر. فصلاح الدين يريد تهدئة جبهة الكرك الأردنية ريثما ينتهي من القضاء على الفتن الداخلية وأرناط ساكت لما يحققه من مكاسب مادية , ولإعطائه وقتاً لتجهيز حملة إلى المدينة المنورة واستخراج جسد رسول الله الطاهر صلى الله عليه وسلم .

وهنا لا بد من العودة إلى ذاكرة التاريخ عندما حاول الرومان السيطرة زمن الجاهلية على الحجاز واليمن. وكانت الأولى حملة رومانية برية انطلقت من الأردن وقادها جاليوس عام 24 ق.م مستهدفة اليمن والحجاز فباءت بالفشل وتبددت آمال الرومان فيما يتطلعون إليه. وأما الحملة الثانية فكانت في العهد البيزنطي عندما حاولوا السيطرة على التجارة القادمة من المحيط الهندي، وبسط نفوذهم السياسي على بلاد العرب واليمن والحجاز بمؤازرة حلفائهم الأحباش الذين احتلوا اليمن عام 525م أدى فيما بعد إلى قيام أبرهة الاشرم الحبشي بغزو الكعبة ونتيجته المخزية بموته وموت جيشه من حجارة من سجيل التي كانت ترميها طير من أبابيل كما وردت في سورة الفيل .

ولا بد من الإشارة إلى العصر اليوناني 330 ق.م عندما توجه الإسكندر المقدوني للسيطرة على الحجاز وجزيرة العرب ولكنه مات قبل أن يبلغ هدفه، وانقسمت دولته بين البطالمة في مصر، والسلوقيين في الشام. وبذلك نجد البرهان أن الديار المقدسة لها حرمة عند الله عبر العصور، لا يمكن أن يحقق أحد من الكفار غزوة عليها او احتلال لها , لأن الله يحميها . فكما قال عبدالمطلب لابرهة الاشرم ( للبيت رب يحميه ) .

وحيث فشل أرناط في حملته البرية إلى المدينة المنورة ، وعرف أن الطريق صعب، فقد وجد أن يحاول حملة أخرى انطلاقاً من الأردن، ولكن عبر خليج العقبة، حيث كان للصليبيين أسطول في أيلة العقبة، ولكن أرناط عزز هذا الأسطول مرة أخرى، وسار في حملته في شتاء عام 577هـ/ 1181م، وذلك لكي لا يتعرض لقسوة الصحراء والحرّ. ومع ذلك أخفق مرة أخرى، واستبدل إيابه الخاسر بالذهاب إلى تيماء ونهب قافلة تجارية وعاد ليجهّز لحملة أخرى إلى المدينة المنورة باستخدام أخشاب الكرك الوافرة آنذاك في بناء أسطول ضخم في أيلة وأعدّ قوة برية تسير بحذاء الساحل تعزيزاً للأسطول الذي يمخر عباب البحر. وهكذا سار الفرنج براً وبحراً لتملك الحجاز بسفن مصنوعة من خشب اردني كركي , وابحارا من ميناء اردني هو ايلة ؟؟؟؟ .

كانت هذه الحملة جادّة وخطيرة، وكان أرناط يهدف إلى تحقيق عدة مآرب:

1. تحويل الكرك من بارونية إلى مملكة تتبع لها الحجاز والأردن، وتستقطب المسلمين لزيارة جسد الرسول صلى الله عليه وسلم , بعد نقله من المدينة إلى الكرك. وبذلك يتحقق هدف روحي، أن تكون المناسك الإسلامية تحت إشراف صليبي، ولقاء ضرائب عالية جداً. ولا شك أن هذا الكافر الشرير لا يعرف ما ورد في القرآن الكريم في مخاطبة الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، بقوله سبحانه (والله يعصمك من الناس ) فجاءت العصمة على إطلاقها، والناس على إطلاقها دون تحديد عرق أو دين أو لغة أو دين، او كيفية او زمن او جهة , ودون أن تقتصر هذه العصمة على حياة رسول الله ، بل إنها امتدت لتشمل حياته ومماته ولتكون حماية من الله سبحانه من كل بني البشر , دون أن تقتصر هذه على فئة أو دين او وقت محدد.

2. هناك هدف عسكري واقتصادي، وذلك بالسيطرة على الملاحة العسكرية والاقتصادية في البحر الأحمر، واحتلال اليمن والحجاز، ووضع جميع هذه المناطق تحت النفوذ الصليبي، وكان يفكر وكأن البلاد خالية من أية مقاومة أو حمية دينية أو قومية. وهذا مقتل خطير للصليبيين أنهم خططوا دون أن يأخذوا بعين الاعتبار وجود قوة إسلامية مضادة، أو حتى مشاعر إسلامية قد تتأجج، وتتحد معها الممالك المتنازعة ضد الخطر الغريب الذي جاء به أعداء المسيح.

3. إضعاف سطلة صلاح الدين لأنه كان يعاني من مشاكل داخلية ويتعذر عليه مجابهة الصليبيين وهو لم يوحد الشام وحدها، فكيف بتوحيد مصر والشام؟ وقد استفاد صلاح الدين من اجتذاب المدن الإيطالية للتجارة مع مصر، مما وفّر له مردوداً هائلاً، يريد أرناط حرمانه منه وتحويله إلى واردات للكرك الصليبية بدلاً منها إلى مصر والمسلمين . وإذا ماتحققت هذه فإنه سيكون قادراً على إنهاك صلاح الدين عسكرياً واقتصادياً.

4. كان ينوي هدم الكعبة المشرفة دون أن يعتبر مما حلّ بأبرهة الأشرم عام الفيل، وهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تكون الصليبية قد سيطرت على مقدسات المسلمين الثلاثة. مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس ( هذا المخطط الذي باء باذيال الخيبة ) .

عمل أرناط على تجهيز جيش وخطوات عملية حقيقية لتنفيذ مخططه هذا ، فأبحر إلى عيذاب التي كانت أهم الموانئ المصرية على البحر الأحمر، والتي كانت مقرّ البضائع القادمة من الهند، واستولى على المراكب التجارية، ومراكب الحجاج وعلى المؤن التي كانت معدة لإرسالها إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، وواصل مسيره إلى شواطئ اليمن والحجاز وأحرق جميع السفن الإسلامية التي التقوها في طريقهم وملأوا سفنهم بالغنائم وعادوا لتحقيق الهدف في المدينة المنورة ثم في مكة المكرمة.

أدى هذا إلى تأجيج المشاعر الإسلامية وتوحيدها، وهو ما لم يكن في حسبان أرناط الشرير، فدعوا للجهاد المقدس، وتخليص الديار المقدسة من الخطر الصليبي الداهم، وادى ذلك الى تداعي العشائر الاردنية ان يعودوا الى ديارهم للقيام بدورهم في المساهة في حماية الاسلام والكعبة المشرفة وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأوعز صلاح الدين ببناء أسطول في الإسكندرية ونقله على الجمال إلى العقبة براً وهناك أُعيد تركيبه. وكان أول ما فعله لؤلؤة قائد صلاح الدين حرق السفن الصليبية التي تحاصر جزيرة فرعون وفك الحصار عنها. بينما وصل أرناط إلى ميناء رابغ حيث أسر التجار المسلمين، وترك الصليبيين مراكبهم في الميناء، وتحركوا براً إلى المدينة لهدم المسجد النبوي الشريف واستخراج جسد الرسول الكريم الطاهر، واقترب حتى صار على مسافة يوم منها، إلا أن لؤلؤة ( قائد صلاح الدين ) وصل الميناء وأحرق السفن الصليبية وما فيها وقتل حراس الأسطول وأطلق سراح الأسرى ولحق بأرناط الذي كان يدله الى المدينة المنورة عدد من الأعراب. قام قائد صلاح الدين باعادة إلى الأسرى ما كان أخذه أرناط منهم ثم ركب في متابعة الشرير وأدركه قبل الوصول إلى المدينة وقتل رجاله، فهرب أرناط إلى تبوك وعاد إلى الكرك حسيراً كسيراً مهاناً فاقداً لكل ما كسبه وقد فقد جيشه بين قتيل وأسير ولم يبق معه إلا القليل.

أما لؤلؤة قائد صلاح الدين فقد حمل الأسرى الصليبيين المائة والسبعين مكبلين وأخذهم إلى القاهرة حيث طاف بهم المدينة، ثم جرى توزيعهم على مدن مصر وجرى قتلهم هناك، لتقوية الروح المعنوية للناس بعد إهانتهم بركوبهم بالمقلوب على الجمال والطواف بهم في كل مدينة، وفي هذه الحملة يقول القاضي ابن الوردي شعراً:

لقد طمع البرنس بمستحيل

 

فجرّ?Z لقومه سفك?Z الدّماء

ولو ترك النبيّ بلا دفاع

 

لدافع عنه أملاك السماء

وكان من نتيجة هذه الحملة الصليبية أن حكام حلب والموصل خجلا من الفرقة ومن تعاونهما مع الفرنجة ضد المسلمين وضد صلاح الدين، فسارعا للتفاهم مع صلاح الدين والتفافهم حوله. فصار صلاح الدين رمزاً للمسلمين وذاعت شهرته، وصار أمل العروبة والإسلام لتحرير الديار من الصليبيين . بالمقابل فإن الحملة الرعناء قد صدّعت صفوف الصليبيين انفسهم ، وأثبتت فشل مطامعهم التوسعيّة في بلاد الشرق الإسلامي. وصارت هذه الحملة سبباً للتصميم بتحرير القدس، ولكن ذلك لا يكون إلا من الكرك / الاردن ومن ااعشائر الاردنية .

لقد أصبحت الكرك هي الخطوة الأولى للتحرير، وبدونها فإن الأمر متعذر جداً. وأصبح وضع أهل الأردن أساسا في المعادلة، وعادوا الى معادلة القوى , وعليهم أن يغيِّروا مواقفهم الصامتة التي لا لون لها إلى مواقف جادة تدعم المسلمين وتحارب الصليبيين. ونظر المسلمون أن خطة ارناط السابقة ,انها وان فشلت هذه المرة ، فستكون في أذهان قادة بارونية الكرك عاجلاً وأجلاً، وبالتالي فإن تحرير الكرك والشوبك امر لابد منه وهو يحقق الاهداف التالية :

1. يؤدي إلى ضعضعة وزعزعة مملكة القدس ووضع الفرنجة بشكل عام.

2. إزالة الخطر ضد الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والخطر ضد الكعبة المشرفة، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

3. يزيل الخطر العسكري على التحركات والقوافل العسكرية الاسلامية ، وتجنيد أبناء الأردن الذين أمضوا فترات طويلة من عشرات السنين وهم في راحة بال لا يتدخلون مع أية قوة ولا ضدها، وإنما يتفرجون وهم منصرفون لأعمالهم وحياتهم وبقائهم.

4. إزالة الخطر الاقتصادي حيث أن نسبة كبيرة من الإنتاج الخصب الوفير في الديار الأردنية يذهب لبارونية الكرك والقدس، فيتحول حينها لدعم موازنة المجهود العربي الإسلامي. كما تتم إزالة الخطر على القوافل التجارية ويصبح ريع التجارة لموازنة الدولة الإسلامية فقط.

5. فرض هيبة الدولة الإسلامية، ومعاقبة أرناط على ما اقترفته يداه من الجرأة على الله ورسوله، والذهاب إلى تلك البقاع المقدسة، وقتله للمسلمين التجار والحجاج، ونهب ما في أيديهم، وهم أناس مسالمون غير محاربين، ولا علاقة لهم بما يجري ولا رأي لهم فيه أصلاً.

6. تحرير البحر الأحمر من الهيمنة الصليبية، ليكون بحراً إسلامياً عربياً بمائه وشواطئه وتجارته وموانئه ، وأوّل نقطة في هذا هو تحرير أيلة/ العقبة الأردنية ثم التحرك نحو عيذاب الميناء المصري وجزيرة فرعون الاستراتيجية.

كان لا بد من تحقيق هذه الأهداف، ومن المتعذر تحقيقها بدون تحرير الكرك، بل إن تحقيقها سيؤدي إلى تحرير الكرك، وبالتالي تحرير بيت المقدس.

ولتحقيق هذه الأهداف تحرك صلاح الدين من دمشق عبر حوران ثم إلى قرية فوعرا (من محافظة إربد الآن) وهي شمال (إربد) ثم إلى نهر الأردن عند خروجه من طبريا، ثم عاد إلى القصير في غور الأردن الشمالي وفيها طواحين السكر التي تحدثنا عنها في كتابنا: العشائر الأردنية الأرض والتاريخ والإنسان عام 1987، ثم هاجم الصليبيين في بيسان، وطبريا وعين جالوت ( وكلها كانت اراضي اردنية ) . وكان كلما حل في مكان التقى زعماء العشائر الاردنية التي تداعت لترتيب الصفقة الجهادية معه ولكي يتخلصوا من الكابوس العباسي الذي ادركهم بالشقاء والذل . وهنا أرسل أرناط بارون الكرك قواته لنجدة الفرنجة في بيسان، فقتل صلاح الدين منهم الكثير، وأسر الكثير أيضاً، وصارت قناعة صلاح الدين أن بارونية الكرك قد تحولت إلى شرطي شرير وقوات ردع سريع التدخل لإنقاذ أي موقف واهن عند الصليبيين في أي مكان بالأردن أو في فلسطين , وتعويق اي موقف عربي قوي في المعادلة او التحرك العسكري او التجاري . وعاد صلاح الدين إلى دمشق ومعه الغنائم والأسرى.

من هنا صار برهان جديد عند صلاح الدين على ضرورة احتلال الكرك، وبالتالي لابد له من دعم العشائر الاردنية والتودد اليهم , فتحرك إلى الأردن ليسلك الطريق عبر سيف البادية الارنية , حيث عبر إلى قلعة الفدين (المفرق / شمال الاردن ) ثم إلى قلعة شبيب (على رأس نهر الزرقا)ء ثم إلى قلعة حسبان في البلقاء ثم تجاوز مادبا وذيبان عبر الموجب إلى ربة مؤاب (منطقة الكرك)، ومن هناك شن هجومه على مدينة الكرك المنيعة وكانت محاطة بسور حول التلة كاملة، إذ لا تزال بقاياه وجدرانه ظاهرة إلى الآن. وتحاط تلة المدينة والقلعة بوادي سارة غرباً، والوديان من كل جانب، ما عدا الباب الرئيس من جهة الشمال حيث تنفصل القلعة عن المدينة بخندق عميق لا زال قائماً حتى الآن ويتم العبور فوقه إلى القلعة على جسر ممدود كان متحركا زمن الصليبيين .

يبدو أن وصول صلاح الدين كان في وقت غير مناسب لأرناط وقرينته حيث حضر عندهما ضيوف من أعيان المملكة الصليبية للمشاركة في زواج الأخت الصغرى لملك بيت المقدس، من همفري ابن الأرملة بارونة الكرك زوجة أرناط. وقد أعدّ البارونان احتفالاً فخماً بهذه المناسبة يليق بأمير وأميرة، في الكرك / عروس البادية الأردنية، المطلة على جبال الأردن والغور وجبال فلسطين والبحر الميت. ولم يكن المعازيب يعرفون بتحرك صلاح الدين إلا بعد إكمال الاستعدادات والدعوات وحضور المدعوين من أعيان الفرنجة، والمغنيين والموسيقيين والراقصين. ولكن المفاجأة كانت محاصرتهم من قوات صلاح الدين، وصبّ جام غضب الجيش الإسلامي من قذائف المنجنيق والقار والبترول الحارق إلى القلعة، فتحول الفرح الصليبي إلى مأساة ونكد وسوء طالع.

ولم يستطع أرناط ولا زوجه ولا العروسين ولا المدعوين الإفلات والنجاة وأيقنوا الهلاك، بل إن التحرك ما بين مدينة الكرك المسوّرة، والقلعة المحصّنة، صار صعباً. ووجد الفرنج أن يستمروا باحتفالات الزواج وترك النتائج للأقدار تحت وابل من قذائف المنجنيق المنصوب عند أقدام أسوار القلعة. وهنا وجدت البارونة أم العروس أن ترسل إلى صلاح الدين تخبره بالزواج والاحتفال، فأرسل إليها أن تخبره في أي برج تتم المراسم، فأخبرته ـ عبر المراسيل ـ فأمر بعدم قصف ذلك البرج احتراماً للزوجين وأمهما، وفي ذلك يقول الشاعر في وصف الشؤم الذي هيمن على العروسين:

غدا بعلها الأبرنس يلعن عُرْسه

 

بها وهي لا تنفك من لعنة البعل

وقد رجمتها المنجنيقات إذ رمت

 

لشيخ لعين كافر جاهل ر?Zذُلِ

شعر أرناط بالخطر المحدق، وتخوف من نهاية مؤلمة له ولضيوفه وجيشه وإمارته، وهنا تبرز أهمية بناء القلاع في شرق الأردن، وكيف أن الصليبيين اتخذوا الطريقة الأردنية في تبادل المعلومات والرسائل عبر النار ليلاً، والدخان نهاراً .

وقبل الحديث عما فعله أرناط لا بد من القول أن من العادات الأردنية السائدة منذ الممالك القديمة وأيام الوثنية، بناء القلاع والحصون أو المناطر (مفردها منطرة) وهي التي يجلس فيها حراس أو نواطير، وتشابه في عصرنا أكشاك الشرطة، أو نقاط المراقبة البصرية، على رؤوس التلال لمعرفة تحركات الأعداء . وكانوا إذا شعروا بالخطر نهاراً أوقدوا نارا وخرج الدخان من نوع معين، فالأسود يعني قوة العدو وقربه، والأبيض يعني أن العدو في طريقه إليهم، فتتأهب جميع مراكز وقلاع البلاد خلال ساعات، وتتحرك جيوش من مكان إلى آخر لغايات النجدة والتعزيزات والدفاع أو الهجوم.

وفي الحروب القبلية قصص عن مثل هذه عندما يقوم الجاسوس أو العين لقبيلة معيناً، بإيقاد النار ليلاً لتحذير الطرف الآخر الذي يخصّه ويكون هو في مضارب المعتدين، فتفهم القبيلة الأخرى أن التحركات قد بدأت من الأعداء فيكمنون لهم أو يرحلون من مكانهم ، وتفشل حملة النهب أو القتل.

كانت هذه الصورة في الكرك، حيث أن حصنها يطل على حصن البحر الميت، ومشرف بحيث يمكن مشاهدته من حصون القدس، فأشعل أرناط ناره ليلاً، وكانت عبارة عن طلب النجدات والتعزيزات من مملكة بيت المقدس، وهو ما لم يتوانى ملك القدس عن تقديمه احتراماً لزواج أخته على الأقل، وبذلك هرعت القوات الصليبية لنجدة أرناط بالكرك، وتحركوا نحو أريحا الاردنية انذاك التي تبعد مسيرة يوم من القدس، وكانت مدينة عامرة بأنواع الإنتاج الزراعي الفاخر من قصب السكر والفواكه والموز والنيل والخضروات والقثاء، وهي كذلك إلى الآن ما عدا ما توقف من إنتاج قصب السكر والنيل.

عسكر الجيش الصليبي الذي جاء مددا وتعزيزا لحامية الكرك الصليبية ,اقول حط رحاله على سيل الوالة جنوب مأدبا وكانت من اراضي قبيلة جذام / بني حميدة . كان الوالة نهراً قوياً، غزير المياه العذبة، وارف الظلال من أشجار الدفلاء الباسقة، وكانت السفوح مليئة باشجار البلوط والبطم الاطلسي والخروب وسائر الفواكه التي كانت تنبت بشكل بري , وكان قائد حملة المدد الصليبي ذكيّاً، إذ أن هذه كانت رسالة لصلاح الدين لفك الحصار، وقد حققت غرضها، إذ أن صلاح الدين لم يكن لديه الجيش الكافي ولا المعدات الكافية للحصار والنزال في آن واحد، فانسحب إلى دمشق في كانون الأول عام 1183، الموافق شعبان 579هـ.

نظر صلاح الدين إلى قلعة الكرك على أنها القلب النابض والعين الساهرة والخندق المتقدم المحصّن للدفاع عن الممالك الصليبية، وأنه بدون سقوطها، فإنه يتعذر تحرير القدس وفلسطين وسائر بقاع الأردن من الاحتلال الفرنجي. وأنه بدون الهيمنة عليها، تبقى القوافل التجارية، وقوافل الحجاج العابرة للأردن في خطر التعدي والسيطرة والنهب والسلب من قبل أرناط الشرير أو من يخلفه، وتبقى المدينة المنورة ومكة المكرمة واماكن المشاعر الاسلامية في خطر , وهذا يدل على الاهمية العظمى للاردن وتاثيره على سائر الاقطار , وانه بدون التودد لعشائر الاردنية لايستطيع ان يحقق اهدافه هذه , كما ان تحركات جيش صلاح الدين في الأغوار الشمالية والوسطى ووادي عربة ستبقى تحت رحمة القوات الفرنجية، لأن إشارات النار كانت تحيط جميع الصليبيين علما بأي تحرك له، وأن عين الصقر الشاهق في الأجواء هي قلعة الكرك. كما أنه يتعذر عليه توحيد مصر والشام أو الاستمرار بتوحيدهما طالما أن شرق الأردن خارج سيطرته، ذلك أنه باحتلال الصليبيين لفلسطين، لم تبق أرض للوصل بين القاهرة ودمشق إلا الأرض الأردنية التي صارت من اليرموك حتى تبوك والعقبة ومن تيماء حتى البحر الميت، أقول صارت ضمن بارونية الكرك.

وجد صلاح الدين أيضاً أن قواته المتوفرة بين يديه في دمشق لا تكفي لحصار طويل أو معركة فاصلة مع بارونية الكرك، ورأى ان يجمع لها جيشاً عرمرماً من العشائر الاردنية اولا لانهم اهل البلاد واعرف الناس بشعابها واعرف الناس في كيفية التعامل مع الصليبيين , واصدق الناس بالتعامل ولا يحتاجون الى المال لان الامر يتعلق بالقتال من اجل بلادهم . اماالقادمون من الخارج فهم لن يفعلوا ذلك بدون رواتب شهربة لاداء هذه المهمات . كانت العشائر الاردنية هي السلاح الحقيقي المجاني في صراع صلاح الدين مع الفرنجة .وراى صلاح الدين ان يضم الجيش ايضا وحدات من عربان جزيرة الفرات وحلب ومصر وسوريا، وأن يغتنمها فرصة لتوحيد هذه الجيوش وصهرها في بوتقة جيش عربي إسلامي واحد ، وعشائر عربية متماسكة بقيادة عربية إسلامية واحدة وهي قيادة صلاح الدين . كان همه أيضاً أن تألف هذه القوات طبيعة المعركة وارض الأردنية التي ستكون مسرح العمليات , فهي من صحراء إلى بادية إلى جبال وعرة إلى أخاديد، إلى أغوار، إلى قلاع محصنة وعلى رأسها قلعة الكرك وستكون هذه المناورات والمعارك جميعاً مقدمة للمعركة الفاصلة لطرد الصليبيين من الاردن وفلسطين وسائر ديار العرب .

كان صلاح الدين يريد دخول التاريخ من أوسع أبوابه، وذلك بتحرير المسجد الأقصى والأردن وفلسطين والساحل السوري من الغزو الفرنجي والممالك الصليبية، وكان يرى أن المعركة الفاصلة تحتاج إلى دولة إسلامية موحدة برئاسته، مثلما كانت ممالك الصليبيين موحدة برئاسة ملك القدس، وكان يريد أن يكون مرجعهم الاعلى مثلما هو ملك القدس مرجعا اعلى لأبناء دينه وجلدته، وكان يريد شعباً عربيا موحّداً لمواجهة فرنجة موحدة، ويريد هلالاً عالياً لمواجهة الصليب الذي قام على الدماء والنهب والسلب والجرائم الصليبية التي لاعلاقة لها بالمسيح والمسيحية .

وبالمقابل كانت الكرك بالنسبة للصليبيين، الحصن الحصين، الذي لا يقل أهمية عن القدس، وأن سقوطها (الكرك ) يعني ما يلي:

1. سحق معنويات الفرنجة وملوكهم وأمرائهم وأعيانهم وبطارقنهم وجيشهم.

2. انقطاع الموارد الزراعية الهائلة التي كانت تكفي دولة المحتلين.

3. انقطاع موارد الضرائب، والأتاوات، والضرائب على القوافل التجارية، مما يعني ضرب خزينة الدولة في بيت المقدس.

4. تحويل الجبهة الأردنية إلى جبهة معادية، وهي أخطر عليهم في فلسطين من جبهة الشام ومصر، ذلك أن أي جيش يسير من الأردن نحو غربي النهر يصل في يوم أو في ليلة، دونما إرهاق أو تعب، ويجد الموارد على الأرض التي تكفيه مؤونة حمل الأرزاق والمسيرة أصلاً.

5. وهناك سبب، في أن أرناط إذا فقد الكرك فإنه سيطالب بالقدس، مما سيؤجج الصراع الداخلي بين أمراء الفرنجة، وتتصدع جبهتهم الداخلية مما يساعد صلاح الدين للانقضاض عليهم.

إذن كانت قلعة الكرك هي القاسم المشترك الأعظم بين الفريقين في الربح والخسارة، والنصر والهزيمة، والفرقة والاتفاق، وتحرير القدس أو البقاء فيها، وكان صلاح الدين يرى أن تحريرها سيجعل المملكة الإسلامية موحدة بجناحيها : مصر وسوريا، وأن المنطقة العازلة أو الفاصلة وهي الأردن، ستكون نقطة وصل إذا احتل الكرك وستكون نقطة فصل وقصم للظهر إذا بقيت بارونية الكرك صليبية، وبخاصة بوجود أرناط الشرير.

أمام هذا أرسلت المملكة اللاتينية بالقدس تعزيزات من سائر البارونات في بلاد فلسطين والساحل السوري والأردن، لتقوية مركز أرناط، وتعزيز مدينة الكرك وقلعتها ضد الهجمات الإسلامية بقيادة صلاح الدين، وقد سبقوا صلاح الدين إليها، ذلك أن القدس أقرب إلى الكرك من دمشق حيث تحرك العدو من الأولى، وتحرك صلاح الدين من الثانية . ولكن الصليبيين لايدرون ماهي المكيدة التي دبرها لهم الاردنيون , وهي الاخلاء من البلاد وبالتالي حسب افرنجة انهم الاسياد الحقيقية ؟

كان من ضمن اتفاق زعماء العشائر الاردنية ان يوافي الصليبيين بالمعركة بعد موسم الحصاد , حيث عملوا بالسرعة اللازمة على انهاء الموسم واستخراج الحبوب وتخزينها وكذلك المنتوجات الحيوانية . وكان الاردنيون يتفرغون للراحة بعد الموسم ولكنهم هذه المرة تفرغوا للجهاد , واوضحوا لصلاح الدين ان المعركة في الصيف ستجعل الفرنجة عطاشا وان الاردنيين سيشعلون النيران بالاعشاب اليابسة والعصف المأكول من يقايا الزروع الحبوب ( بقايا الزرع بعد حصاده واخذ حبوبه ) . ويبدو ان هذه الخطة مع زعماء العشائر الاردنية بقيت طي الكتمان حتى عن اقرب مستشاريه كما بقيت كميات النقود التي كان يدفعها لارناط طي الكتمان كذلك .

وعندما جاء الاجل المتفق عليه مع العشائر الاردنية اختار صلاح الدين شهر تموز عام 1184 للتحرك من دمشق إلى الكرك ذلك أن الأجواء في هذا الشهر تكون حارّة في الأردن، وبذلك اجبر العدو على التحرك الى المكان والزمان الذي لايطيقونه , ولكنها الحرب ولا خيار لهم بغير ذلك , ولزيادة الشقة على الفرنجة , نزل صلاح الدين عبر الغور الاردني حيث حرارة الأجواء لا تطاق في هذا الشهر، مما يزيد من إجهاد الصليبيين . وبالمقابل أمر صلاح الدين إرسال جيش مصري لتعزيز الجيش الشامي على أن يلتقوا قبل الوصول إلى الكرك، وكانت المراسلات عبر الحمام الزاجل لا تنقطع، والأخبار تصل بسرعة لا تتصورها أجيالنا الحاضرة.

كانت نقطة تجمع القوات الشامية وعلى رأسها صلاح الدين في منطقة "رأس الماء" في حوران، ثم زحف في تموز كما قلنا باتجاه الكرك، حيث سلك طريق قلعة الفدين (المفرق) ثم عبر وادي الظليل فالزرقاء فعمان فالرقيم فزيزياء فوادي الموجب فاللجون ثم إلى ربة مؤاب حيث استراح وجيشه عدة أيام بانتظار تكامل قواته القادمة من مصر التي وصلت في 19 ربيع الأول (580هـ)، في نهاية شهر تموز 1184. وكانت العشائر الاردنية تنضم اليه للجهاد وتدله لعبور افضل المسالك وايسرها . لقد وجد الاردنيون فرصة حقيقية لتحرير بلادهم من الفرنجة , وشجع القبائل الاردنية التي طوح بها الخوف على اعراضها واموالها وارواحها ان تعود حيث القبور جذور وهي قبور الاباء والاجداد السالفين .وبدات تتوالى القبائل النازحة عائدة وهي تتميز غيضا من اجل الجهاد ومقاتلة الصليبيين .

اكتملت الجيوش الثلاثة ( جيش الشام وجيش مصر ومتطوعوا العشائر الاردنية التي كانت تشكل الجيش الرديف والمهم والاكثر عددا والاقل كلفة , لانهم كانوا يجاهدون بدون مقابل فقط لتحرير بلادهم من الفرنجة فاشار اليهم المؤرخون بكلمة المتطوعين ) , وكان الجميع من الجيوش والعربان تعترف بقيادة صلاح الدين، وتقدم بهم جميعا لمحاصرة الكرك .

كانت الكرك تتالف من قسمين رئيسين هما : المدينة المحاطة بالاسوار من حولها والتي لازالت بقياها ماثلة الى الان , وقلعة الكرك وهي القلعة الحالية . بدا صلاح الدين بمدينة الكرك فضربها بالمنجنيق فسقطت المدينة، ثم تقدم نحو القلعة الحصينة الاسوار , وتقدم نحو الباب الرئيس والوحيد لها ( للقلعة ) من جهتها الشمالية، وإذا يفصله عن المدينة خندق عميق وعريض يتعذر اجتيازه ( يفصل القلعة عن المدينة) , وينتهي بطرفيه إلى واديين سحيقين واحد من الجهة الغربية واخر من الجهة الشرقية , وتنتهي طرفاه الى انحدار عميق جداً، ولم يكن من سبيل لدخول الحصن إلا بتجاوز هذا الخندق بعد ان قام ارناط بازالة الجسر المتحرك الذي يربط القلعة بجسم المدينة . كان لابد من طمر الخندق بالحجارة والتراب، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً.

أمر السلطان بإحضار الحجارة والتراب والخشب وأية مواد متوفرة، وإلقائها في الخندق ومع هذا كان المنجنيق يقصف، والرماة يرمون القلعة بالسهام. وقام الجيش الإسلامي ببناء جدار على الطرف الخارجي للخندق وذلك لاستخدامه حاجز حماية للرماة لضرب القلعة، وتقدم الكثير من الجنود المسلمون بالدبابات التي تشبه حصان طروادة، ومفردها دبابة، وكانت في تلك العصور من آلات الحصار، ويتم بناؤها من الخشب والجلود واللباد المنقوع بالخل لكي لا يحترق من قذائف البترول. وكان الرجال يجلسون فيها وتحميهم من ضرب السهام، وتوضع على عجلات ويتم تحريكها في أي اتجاه تقتضيه المعركة.

تمكن الجيش من ردم جزء واسع من الخندق، وصار طريقاً للرائح والغادي وصار سهلا على الجنود التحرك فوقه، واستمر المسلمون في قصف الأسوار بحجارة المنجنيق، وانهدمت الأبراج المقابلة للمهاجمين، وارتفعت خسائر الفرنجة، وساءت أحوالهم. مما جعلهم يدافعون باستماتة في لحظات يكونوا فيها أو لا يكونوا ، واستنجدوا بواسطة النار بمملكة القدس، حيث تحركت النجدات الصليبية وعلى رأسها ملك القدس نفسه.

وفي اللحظات الحرجة حيث شارف صلاح الدين على احتلال القلعة، اضطر للانسحاب للمواجهة مع الجيش الصليبي قبل أن يصل إلى القلعة وتكتمل عناصره من داخل القلعة وخارجها،فيقع الجيش الاسلامي بين فكي كماشة داخلية وخارجية . واتجه السلطان نحو حسبان التي كانت وما حولها مركز قبائل العجارمة الجذامية التي صارت فيها وفيهم زعامة وامارة جذام وسط الاردن في حينه ( المسماة البلقاء انذاك )/ الامير نوفل العجرمي , وخيّم فيها قريباً من معسكر النجدة الصليبية، وحاول استدراج الاعداء إلى وادي الوالة لكن الفرنجة انسحبوا إلى بلدة ماعين المطلّة على الشعاب الوعرة المحاذية للغور، وكانوا لا يرغبون المواجهة مع صلاح الدين والعربان .وكانت ماعين مركز بني كلب البلقاء ( العوازم / زعامتهم في ابو وندي ) ولكن الجيش الصليبي نجح في خداع صلاح الدين، فتحرك تحت جنح الليل باتجاه الكرك ودخلها بعد أيام. وعندما أصبح الصباح ولم يجدهم صلاح الدين أدرك الخدعة التي لجأوا إليها، وأنهم يريدون المواجهة من خلف اسوار القلعة ، وليس في الأرض المفتوحة .

وفي الوقت الذي تعززت فيه قلعة الكرك بالنجدة الصليبية إلا أن مملكتهم بالقدس صارت مكشوفة لصلاح الدين، حيث صارت بدون حماية ولا حامية، وهنا اغتنم صلاح الدين هذه الفرصة وتحرك وجيشه ومعهم المتطوعون من اتلعشائر الاردنية إلى فلسطين عبر الغور، ثم إلى نابلس فأحرقها ونهب نواحيها وأكثر السبي فيها، وفعل الأمر نفسه في جنين، ثم عاد إلى دمشق حيث رأى أن الوقت لم يكن مناسباً للمعركة الفاصلة حول القدس. وكانت هذه فرصة للعشائر الاردنية لنهب الفرنجة وعملاءهم وحرق مايتقون به من المزروعات والانتاج .

أدرك صلاح الدين أن التحصينات في الجبهة الأردنية غير كافية، وأن القلعة الصليبية في كوكب الهوى في فلسطين تشكل خطراً على مسيره وقواته في الأغوار وفلسطين وشرق الأردن، حسث ترصد كل شيء وتوصله عبر الدخان كما سبق وقلنا . لذا رأى ضرورة بناء قلعة قبالةفي الجبهة الاردنية قلعة كوكب الهوى في الجبهة الفلسطينية ، فأوعز إلى أحد قواده وهو أسامة بن المنقذ أن يبني قلعة الربض/ عجلون في بلاد بني عوف، وهم قبيلة أردنية من قضاعة من اقدم القبائل الاردنية على هذه الارض ولا زال احفادهم يعيشون على تراب بلاد عجلون الى الان ( ومنهم القضاة والفريحات وعشائر خيط اللبن وغيرهم ) اذ لازالوا يعيشون في مناطق عجلون الى الان عبر عشرات القرون .

كان الهدف من بناء قلعة الربض في عجلون يتضمن عدة نقاط:

1. لفرض توازن القوة مع كوكب الهوى، بما فيه تعادل الاستخبارات والاستطلاع.

2. لحماية القوافل التجارية الاسلامية , والمزارعين الاردنيين .

3. ولتكون محطة للجيش الإسلامي المتحرك إلى المنطقة أو عبر هذه المنطقة في الجبل والغور الاردني .

4. منع أي توسع إفرنجي نحو بيسان أو الكرك أو شمال الأردن او الى شرقه من تلك الثغرة .

5. رصد أية تحركات صليبية لعبور الأردن أو للتوجه نحو أية بقعة من الديار الأردنية أو الشامية.

6. أن تكون أحد المنطلقات الهامة للقوات الاسلامية المسلحة عندما يعدّ العدة النهائية للمعركة الفاصلة مع الفرنجة.

رفض بنو عوف / قضاعة / القبيلة القوية الشرسة انذاك اهالي جبل عجلون ( واحفادهم لازالوا اهل المنطقة ) , اقول رفضوا بناء القلعة، لأن وجودها يعني إدخالهم وديارهم في خضم الصراع الإسلامي الصليبي ويجعلهم عرضة للهجوم الوحشي من الفرنجة. وكانوا يفضلون الحياد في هذا الصراع الى ان ينجلي غبار الازمة . وأن القلعة ستعني أيضاً أن أولادهم سيكونوا في متناول يد القوة الإسلامية وسوقهم إلى التجنيد الإجباري وهم كسائر العشائر الاردنية نات بنفسها عن التدخل في خضم الصراع بين القوى الغازية اسلامية كانت ام صليبية , لانه ليس صراع يوم وليلة وينقضي , ولا صراعا محسوم النتائج , بل هو صراع على مدى الاجيال والقرون بحيث لم يعد لديهم طاقة للتحمل او المشاركة .

عمل أسامة على دعوة شيوخ بني عوف , وأقنعهم أنه إنما يبني هذه القلعة للدفاع عنهم وعن ديارهم التي غدت مستهدفة من الفرنجة رغم أنوفهم، وأن الجيش الإسلامي سيتولى الدفاع عنهم، فقبلوا بناءها، وعندما انتهى منها دعاهم إلى وليمة فلما انتهوا من الطعام أودعهم سجن القلعة، وما أفلتهم إلا أن بعد وقعوا على الموافقة على إقامتها وعدم إيقاع الأذى فيها , او التحالف مع الاعداء , فوافقوا، وبقيت القلعة إلى يومنا هذا. وهناك رواية تتحدث عن قتل من رفض واعتباره عميلا او مساندا للفرنجة .

أما أموال مملكة القدس الصليبية فكانت في اضطراب بسبب ضعف الموارد، وتعرضت مصادرها في الأردن لحركات جيش صلاح الدين، وتعذر خروج قوات الكرك الصليبية بتحصيلها خشية القبض عليهم من القوات الإسلامية، كما ان العربان لم يعملوا على تقديمها الى قلعة الكرك، حيث أن جيش صلاح الدين أهلك المزروعات والأشجار المملوكة ممن سماهم : العملاء والخانعين، رغم انهم انما فعلوا ذلك ضمن سياسة الصراع من اجل البقاء . كما هلك وحرق كل ماكان وقفاً لأرناط وبارونيته , فضلاً عن أن ما حدث في فلسطين من التدمير الذي أجراه جيش صلاح الدين من الاذى على المنتوجات كان مشابها للوطأة التي اصابت الاردنيين , بل مطابق لما حدث للمحصولات والقرى في الأردن،وهو اذى وقع على العرب الذين هادنوا الصليبيين من الاردنيين والفلسطينيين , وبذلك انقطعت موارد مملكة القدس او شحت , وصارت تعيش في تعثر مالي.

ولهذه الأسباب الاقتصادية بالنسبة للصليبيين , والاقتصادية العسكرية بالنسبة لصلاح الدين اتفق الطرفان على هدنة لمدة أربع سنوات وكانت في ربيع الأول سنة 581هـ (1185م) وبموجبها استؤنفت حركة التجارة بين مصر والشام والعراق والساحل الفلسطيني، وكلها صارت عبر الأردن، مما أتاح فرصة لصلاح الدين للتفرغ لحلّ مشكلة الموصل ( شمال العراق ) ، حيث نجح في عقد صلح مع أهلها، وأصبح جنودها يشكلون جزءاً من جيشه في قتاله للفرنجة.

ثم وجد الفرصة مواتية لتقسيم مملكته بين أولاده، وأن ما يهمنا هنا، هو وضع الأردن التي صارت من مملكة دمشق التي أقطعها لولده الأفضل بن صلاح الدين. كما قام بتحييد بيزنطة وإيطاليا من خلال اتفاقيات تجارية، لكي لا يتدخلوا لدعم مملكة القدس عند الحرب، أما أمراء القدس فقد تفرقت كلمتهم بموت ريموند الخامس، وبذلك تهيأت الأسباب للفتح العظيم الذي كان يتطلع إليه صلاح الدين بعد أن وحد الجبهة الإسلامية، وصارت الجبهة الصليبية ممزقة , وصار يديرها أرناط الشرير المهووس.

بدأ تحرير القدس من الكرك / من الاردن ,وبقوات قوامها العشائر الاردنية من الشمال الى الوسط الى الجنوب , وذلك عندما نقض أرناط بارون الكرك الاتفاقية المشار إليها أعلاه، في وقت كان صلاح الدين جاهزاً للمعركة، والعشائر الاردنية قد اكتملت وتلاحقت من الداخل والخارج والتام شملها , ولحسن حظ الجميع ان قام الشرير بالاعتداء على قافلة غنية للمسلمين في سنة 582هـ (1187م) كانت تعبر أمام أسوار قلعة الكرك حسب الاتفاقية، وهي في طريقها من مصر إلى الشام، فانقض أرناط عليها بعساكره ونهبها وأسر رجالها، وقال كلمته المثيرة: "قولوا لمحمدكم أن يخلصكم" وزاد في تعنته ان رفض طلب صلاح الدين بإطلاق سراحهم والتعويض لهم عما نهبه منهم، فنذر صلاح الدين أن يقتله بنفسه، وأعلن الجهاد الإسلامي الأعظم، في جو توحيد الجبهة الإسلامية من الموصل إلى الجزيرة إلى دمشق إلى الأردن إلى مصر.

بدأت القوات العربية الاسلامية تتوافد إلى دمشق من بلاد الهلال الخصيب، ثم تحرك إلى حوران، حيث قسّ?Zم جيشه إلى فريقين الأول بقيادة ولده الأفضل ملك الشام وأمره أن يقيم على رأس الماء في حوران، والأخر صار بقيادته هو وتحرك إلى بصرى، منتظراً عودة الحج الشامي وقوافل مصر التجارية، والتحاق المتطوعين الاردنيين بقواته , ثم تحرك عبر بلاد الأردن، وقد وجد الدعم من أهلها , بينما لم يجد مقاومة من القلاع الصليبية فيها، وذلك أن الأردنيين قد شمروا عن سواعد الجد وارادوا تحرير بلادهم ,فقد كانوا من قبل لا يريدون الدخول في صراعات لا أحد يدري نتيجتها , لكنهم ادركوا هذه المرة ان تحرك صلاح الدين جدي ويستحق الدعم . فوقفوا معه ودعموه بالرجال والمؤنة والاسعاف وغارات الاستنزاف ضد الصليبيين .

وصل صلاح الدين إلى ديار الكرك وكان أول ما فعله هو تخريب مزروعاتها وقطع أشجارها التابعة وقفاً للبارونية، أو للمهادنين للصليبيين من العشائر الاردنية ، وخرب الديار، وهدم القرى، وأحرق الغلات، وقطع الثمار وأزعج أهل البلاد، وأمر بإجلاء العربان من حول الكرك خشية مؤازرتهم للصليبيين، وقطع الكروم والزيتون وهذا عكس كاكان وعدهم به واتفقوا معه عليه , ويدل على عدم ثقته بالعشائر الاردنية . ونعود للقول ان الاعجمي لايحب العربي في تلك الحقبة وان غير البدوي كان يكره الاردنيين وان الصليبيين والجيوش الاعجمية تعمل الاذى نفسه ضد الاردنيين , للاسف الشديد .

ولم يجرؤ أرناط على إرسال قوات خارج المدينة أو القلعة لمجابهة صلاح الدين, او لحماية حلفائه , بل بقي متحصّناً في القلعة وترك غلات الوقف الباروني وغلات العملاء والحلفاء للأقدار. وهذا مصير كل مماليء للاعداء ، ففي اللحظة الحرجة يتخلى عنه أسياده في العمالة، وزاد الطين بلة ضد أرناط وجيشه وصول الجيش المصري إلى الكرك، وهو الذي أسند ظهر صلاح الدين ورفع من معنويات جيشه ومؤيديه، وقد عسكروا في قرية القرين من قرى الانباط الواقعة قرب طف النقب / غربي معان ، وهي الآن من أراضي عشائر الحويطات إلى الغرب من معان.

كان أمام صلاح الدين قلعة الشوبك وقلعة الكرك، وكلاهما غني ومحصّن وصليبي ، وكلاهما لا يجدون عداءً من العربان من حولهم، ولكن صلاح الدين قسّم جيشه الذي معه الشامي والمصري إلى قسمين، واحد لمهاجمة الشوبك والثاني لمهاجمة الكرك، وأمر بدكهما بالمنجنيق، وكان نصيب الكرك شهرين من القصف والحصار، ومع هذا بقيت صامدة، ولكنها والشوبك صارت في حياد عسكري تام عن جبهة مملكة القدس اللاتينية.

هنا قام صلاح الدين بإصدار أوامره لابنه الأفضل أن يتحرك من رأس الماء في حوران وأن يفتح جبهة جديدة ضد مملكة القدس. ولا بد من التذكير هنا أن طبرية وبيسان وشمال الأردن وغور الأردن من جنوبه إلى طبرية والجليل كانت تتبع بارونية الكرك. حيث عبرها الأفضل وعاث بها خراباً ودماراً وهدماً وحصل على الغنائم والسبايا. وقتلوا من الفرنجة خلقاً عظيماً في الأغوار وبيسان. وقد اضطرب الفرنجة لما حدث، إذ أنها المرة الأولى التي يحاربون فيها على جبهتين معاً، والأولى التي يواجهون جيشاً موحداً ودولة إسلامية واحدة، وأقطاراً عربية إسلامية موحدة , وقيادة واحدة , والمرة الاولى التي يجدون فيها اهل الاردن وعشائره ينقلبون على الصليبيين وينضمون الى صلاح الدين .

وهذه أمور لم يكن للفرنجة قدرة مالية أو عسكرية أو سياسية أو بشرية لمجابهتها وملاقاتها.

وكانت معركة صفورية في شمال فلسطين رائعة إذ انتصر الملك الأفضل على الصليبيين وسارت البشائر إلى صلاح الدين بالكرك، فسحب قواته من جبهتي الكرك والشوبك وأسرع نحو الشمال، ليقوم بتنظيم قواته من سائر الأقطار العربية ومعهم عربان الاردن ، وخيم في قرى الكفارات شمال إربد، ومن هناك شاهد فلسطين والغور جزءاً جزءاً، ومن هناك من على التراب الأردني خطط لمعركته الفاصلة، ووجد أن الأنسب هو الغور، وأن يكون الماء والحر والعطش سلاحه الذي يدعم السيف والقوس والنشاب والرمح والجيش.في الكفارات التقى صلاح الدين بزعامات العشائر الاردنية في الشمال ومنها :

بني كلب ( العزام والسرحان ) وبني قضاعة (ومنهم بنو عوف وفروعهم) , وبني عتمة ( العتوم فيما بعد ) والجنيد ( المومنية فيما بعد ) والصمادي وبني كنانة وبني عبيد والزيادنة ( وكانوا يسمون قبل العباسيين الازد ثم غيروا من الازد الى الازايدة ( مادبا ) والزيادنة ( جرش ) للتخلص من اضطهاد العباسيين وهم من اهالي منطقة جرش انذاك والان متفرقون في العشائر الاردنية ) والزعبية والغزاوية , وكندة ( السردية والمقدادية وفروعهم ) والملكاوية والزناتية وطي الاردن ( ومنهم العيسى فس شمال الاردن ) والثموديين ( ومنهم اهل الجبل فيما بعد ) وبني كنانة وبني عبيد والوسطية والكفارات وعشائر خرزة اربد وغيرهم كثير , والتزموا له بمساندته في معركته الفاصلة ضد الفرنجة وتحرير الاردن وبيت المقدس , كما التزموا باستقبل زعماء العشائر الاردنية ومتطوعيهم في ام قيس المطلة على ارض المعركة / حطين . ثم التحقت بهم زعامات العشائر الاردنية قطبة فيما بعد ( كما سنرى بعد قليل ) .

أمر صلاح الدين ترك الأثقال في قرى الكفارات في شمال الاردن بحماية عشائر المنطقة اعلاه ، ذلك أنهم صاروا الان حلفاء وهم امناء والجبهة الرديفة التي تحمي ظهر جيشه . كانت الطريق وعرة، ويتعذر حمل الاثقال من السلاح والمنجنيق وادوات الحرب المختلفةالى الغور عبر الطريق الوعرة . وهنا تقدم وجيشه بدلالة عشائر الكفارات واجتازوا الجسر القائم جنوب طبرية إلى الضفة الغربية من نهر الاردن .ويبدو ان الصليبيين شعروا بالخطر بتحالف الجبهة الاردنية التي لم تعد وادعة وهادئة كما كانت من قبل , اقول تحالفها مع صلاح الدين فعملوا على توحيد جبهتهم الصليبية على عجل، لأن مصيرهم جميعاً صار على كف عفريت، وأسرع أرناط وجيشه، واجتمعوا جميعاً في عكا التي كانت تابعة لبارونية الكرك لانها كانت جزءا من الاراضي الاردنية ، ثم تقدموا إلى حيث استدرجهم صلاح الدين، إلى صفورية لمواجهته في حطين وما أدراك حطين، وهي تربة بين طبرية وعكا، تقع في غور الأردن، وكانت آنذاك من أعمال بارونية الكرك اي من الاراضي الاردنية .

وبالمقابل اجتمع زعماء العشائر الاردنية من العلا الى هضبة الجولان ومن تيماء ودومة الجندل شرقا , الى اريحا وبيسان وطبرية غربا , اقول اجتمعوا في ام قيس . ولام قيس قصة فهي عنوان هام من عناوين الاردن اذ قرر الاردنيون فيها خوض معركة حطين مع صلاح الدين ومنها انطلقت بشائر الفتح المبين والنصر العظيم . وفي ام قيس ايضا كان اجتماع زعماء الحركة الحركة الوطنية الاردنية الحديثة عام 1919 واتفقوا على بنود تاسيس امارة شرق الاردن وشرحنا ذلك مفصلا في كتابنا : العشائر الاردنية : الارض والانسان والتاريخ / منشورات المحتسب 2004 عمان .

في ام قيس اجتمعت زعامات العشائر الاردنية وقاموا يلقون خطابات ناتي على مختصراتها / استنتاج الكاتب

قال احدهم : هذا يوم له مابعده فاما ان نكون او لانكون , ولن نكون الا اذا اتحدنا يدا واحدة

قال الاخر : لقد مر علينا احتلال واستعمار وصبرنا وقامونا , وعندما شعرنا بقرب زوال كل منهم ساندنا من بعده وارتحنا منهم جميعا , واننا نرى ان شمس الصليبيين قد الت الى الافول , وان شمس الاسلام تعود بقوة فدعونا نضرب ضربتنا , وان المثل الاردني يقول : ( اذا درت ناقتك احلبها ).

قال الاخر : كنا نهادن الصليبيين في غياب القوة الاسلامية من اجل بقائنا لا من اجل بقائهم , اما وقد توفرت القوة العربية الاسلامية , فلا يسجل علينا التاريخ اننا تقاعسنا عن الجهاد او تعاملنا مع قوى الكفر والاحتلال . هيا بنا نحرر بلادنا وقد جاء من يدعمنا . فنحن وطنيون اردنيون بطبعنا ومتجذرون في بلادنا منذ زمن الوثنية والنصرانية والاسلام , ويجب ان نقتلع من عمل على اقتلاعنا وطردنا من بلادنا . الثار الثار وطاب الموت يااردنيين .

قال الاخر : ان التاريخ يتغير على الارض الاردنية مثلما كان الامر في مؤتة واليرموك وطبقة فحل والحميمة العباسية ومروان بن الحكم دعونا نغير التاريخ بايماننا وعملنا وسيوفنا وارادتنا بعد ارادة الله فقد حانت لحظة الثار الجهادي , المهم اننا نقف بنيانا واحدا مرصوصا

قال الاخر : لقد اساء صلاح الدين ظنه فينا وحرق مزارعنا لاتهامنا بالعمالة في سائر الاردن وبخاصة في الجنوب / الكرك والشمال . وحيث ان الاردنيين ماكانوا عملاء ذات يوم فاننا نريد الاثبات له اننا لسنا عملاء لاحد ,. وانما نحن وطنيون نحب بلادنا وكما يقول المثل الاردني : ( ايد فوق ايدك بوسها وادعي عليها بالقطع ) . فان تخلينا وانتصر صلاح الدين فسوف يحاربنا على اننا صنف اخر من الاعداء , وان فشل فان الصليبيين سيقتلوننا وتكون علينا سبة العرب الى يوم القيامة . والحل هو ان نقف مع الجهاد وان المنية ولا الدنية , واننا اذ نرعى الابل والضان خير لنا من ان نضع تيجان الصليبيين على نواصينا , وان يسوقنا صلاح الدين بالسلاسل خير لنا من ان يستقبلنا الفرنجة على الطنافس والحرير

قال احدهم : كل منا يجب عليه قيادة قبيلته ونتحرك باتجاه ارض المعركة في حطين , وهناك نحرق الزروع والاعشاب اليابسة ونمنع العدو من الوصول الى الماء ونقتل كل هارب صليبي , ونجهز عليهم , ونحرك الغبار والدخان لكي تصبح الرؤيا معدومة او شبه معدومة عندهم . انه يوم اما ان نسجل الاجر عند الله سبحانه ونكون من جنود الله جل وعلا , والا فاننا سنكون من جنود الشيطان وهو مالا نقبله ابدا .

قال احدهم : نرتب انفسنا في كمائن بين الاشجار والتلال ونقذفهم بالنشاب ونقتلهم بالسيوف . ونلقي الرعب في قليوبهم لتكون الارض نارا والسماء دخانا والاشجار نبالا وصيحات لتلقي في قلوبهم الرعب

احدهم : تعالوا نتفق ونخبر صلاح الدين وذلك على النقاط التالية :

== ان عشائر الاردن من العلا ومدائن صالح جنوبا الى الهضبة شمالا ومن الجوف شرقا الى اريحا غربا , ممثلة في هذا الاجتماع من بادية وحضر وهم اصحاب قرار واتخذوا قرارا بالجهاد وبكل مانستطيع من قوة .

== نجلب من المؤن والمواشي وروايا الماء لتزويد المتطوعين الاردنيين بالميرة والتموين وقرب الماء لاسقاءالجيش واسعاف الجرحى المسلمين

== تنظيم المتطوعين حسب عشائرهم كي لاينهزموا ومن ينهزم يلحقه العار هو وعشيرته . وان وجود الشخص بين عشيرته في القتال تجعله يستميت بالقتال كي لايعيره اهله بالجبن فيما بعد

== نتحرك تحت جناح الليل ونخبر صلاح الدين بحركتنا ومخططنا لحصول الانسجام وتحقيق الاهداف .

وبذلك انضم الاردنيون باعداد كبيرة بين متطوعين وفرسان وقوات الاحتياط والمساندين والمساعدين في حرق الاعشاب والزروه لحجب الرؤيا عن الصليبيين

وبعد ذلك التقى زعماء العشائر الاردنية هؤلاء مع صلاح الدين وعاهدوه الى الجهاد حتى النصر او الشهادة , وكل شيخ معه رجاله المجاهدين وميرتهم وماءهم وسلاحهم : واخيرا صار تجمع العشائر الاردنية قبيل المعركة وقد شاركت العشائر الاردنية التالية في معركة حطين :

استدعى صلاح الدين المقاتلين من العشائر الاردنية وحضرت عشائر الانباط المتمثلة في الحويطات وبني عطية وبني ليث , وحضر الغساسنة بفروعهم وبطونهم من المسلمين والنصارى , وحضرت جذام ومنهم العبابيد ( بني عباد ) والحمايدة ( بني حميدة) واخوتهم بنو حماد ( الجد الاعلى للشريدة وبني يونس وابناء عمومتهم) + ويعتقد ان حماد جد بني حماد وحميدة جد بني حميدة انهم اخوان ومن اهالي الكرك سابقا ومن المؤكد انهما من جذام ) ولا زال اسم وادي بني حماد يحمل الاسم نفسه الى الان في منطة الكرك .

) والصخور ( بني صخر ) وبني عقبة ( العمرو ) والادوميون ( بني حسن حيث غيروا اسمهم زمن العباسيين من بني حدد الى بني حسن للتخلص من الاضطهاد العباسي ) , ومن الادوميين الذين شاركوا في معركة حطين ايضا : الشوابكة والمحيسن والنعيمات ) وبني كلب في الطفيلة ( اهل الطفيلة ومنهم الجوابرة والحميدات ( واصبحت فيما بعد زعامتهم في العوران ) ) والشوابكة ( اهل الشوبك بفروعهم ) وبني عجرم ( العجارمة ) والبلقاوية ( بلقين سابقا بفروعهم ) , وبني مهدي/ بطن طريف /جذام , وبني جرم ( وهم الجرمي / الجرمية / الجروم من عباد من جذام وكانوا في جنوب الاردن ) والدعجانية ( الدعجة ), وبني كندة ( السردية والمقدادية وفروعهم ), وبني كلب الشمال والوسط ( العوازم والسرحان والعزام ), وبني طي ( العيسى ), والثموديون ( اهل الجبل ), والجنيد ( المومنية فيما بعد ), وبني عوف ( في جبل عجلون ومنهم القضاة والفريحات ), والعمرية والجراح والشرمان وبني كنانة وبني عبيد والزعبية والملكاوية ولخم ( ابو الغنم بضم الغين وسكون النون ) و وبني عتمة ( العتوم ) والغزاوية والزناتية وعشائر الكفارات والوسطية ودير ابي سعيد , وعشائر السلط ( واهمهم انذاك بني عاملة ) , والزيادنة ( جرش انذاك / من احفادهم عشيرة الرقاد / حاليا البلقاء وهم في اكثر من موقع بالعشائر الاردنية والزيادنة هم اصلا من الازد اليمنيين من الاردن قبل الفتوحات وغيروا اسماءهم زمن العباسيين الى اسمين : الزيادنة والازايدة ( مادبا ) وقضاعة ( ومنهم القضاة في الكرك وقضاة بني صخر ) وعشائر ارابيلا ( خرزة اربد فيما بعد وهم سبع عشائر ) , وحمير ( وكانوا ن عشائر الكرك وصاروا بعد المعركة : ابو حمور بالسلط والحموري في شمال الاردن والحموري بالخليل ) , ومن العشائر التي شاركت في حطين : الدهامشة وكانوا من بني صخر وبعد المعركة ذهب منهم اناس الى عنزة واخرون الى الساحل الفلسطيني وعندما عادوا من عنزة الى بني صخر حسبهم البعض انهم من عنزة والحقيقة انهم كانوا احد اثلاث بني صخر ( اي القواعد الثلاثةلعشيرة بني صخر ) وهم : البواسل / منهم خضير , وبني محمد ( وزعامتهم في الخرشان ) والدهامشة ( وصاروا فيما بعد من ثلث الطوقة ) وبقية العشائر الاردنية .

اجتمع زعماء هذه القبائل وجنودهم في ام قيس كما ذكرنا سابقا . واذا كان الشيء بالشيء يذكر فان ذلك الاجتماع قد قرر مصير الصليبيين في بلادنا كما ذكرنا اعلاه , وان ام قيس عنوان اردني تاريخي في مفاصل التاريخ الاردني . فقد تكرر مثل هذا الاجتماع في عام 1920 وجمع عددا من زعامات الشمال من احفاد الذين اجتمعوا للمشاركة في معركة جطين , وقرروا عام 1920 وثيقة ام قيس التاريخية التي نشرنهاها وشرحناها في كتابنا : العشائر الاردنية ( الارض والانسان والتاريخ ) ( منشورات النحتسب 2004 . ومن ام قيس خرجت القوات الاردنية للمشاركة في حطين , ومنها خرجت الوثيقة التي بموجبها تم تاسيس الاردن الحالي .

وصلت الاستعدادات ذروتها باكتمال اهل الاردن واجتماعهم في ام قيس قبل حركتهم الى حطين في الغور , وهنا طاف بصلاح الدين طائف التاريخ , فهذه العشائر هي نفسها التي وقفت مع معاوية من قبل ومع مروان بن الحكم في مرج راهط وتغلبت على القيسية الذين كانوا يفوقون اهل الاردن بعدة اضعاف عددا وعدة , وفي ذلك قال الشاعر

لولا الاله واهل الاردن اقتسمت يوم الوقيعة نار المرج نيرانا

وتذكر صلاح الدين انه كان يجب ان يعتمد على اهل الاردن منذ البداية , فهم صادقون مخلصون وهو لايعطون ماعندهم الا لمن يحبونه ويثقون به , ومن هنا ندم على مافعله بهم من سوء , وعمل جهده لارضائهم وتطييب خواطرهم . اما بقية الجيش الاسلامي فهو من العراق ومصر والموصل وحلب وهم اقوام متنافرة , بينما اهل الاردن اقوام متئالفة وهي تحارب على الارض الاردنية وتريد تحرير بلادها من الاستعمار الصليبي . كانت معركة حطين اردنية بامتياز حيث ابلى فيها الاردنيون بلاء حسنا وعظيما . انهم يعرفون ان هزيمة المسلمين ستعني تشردهم مرة اخرى وربما الى الابد وان نصرهم سيعني ثباتهم واستقرارهم بالاردن وعودتهم اليه وربما الى الابد .انها معركة الموت اوالحياة , يكونوا او لايكونوا , وبذلك كانت القوات الاردنية ترفض تاني صلاح الدين عن التاخر عن خوض المعركة , فالمثل الاردني ( اذا درت ناقتك احلبها ) . وايضا ( ان الارض تهوش / تقاتل مع اهلها ) ويقولون ( من هالمراح مافيه رواح ) ويقولون ( المنية ولا الدنية / ياموت ياحياة / البلاد بلاد ابونا واجو الغرب وطحونا وعلينا ان نطحاهم الان / اي نطردهم ) وكانوا متعودين على العطش والصيف والحر اكثر من اية قطاعات عسكرية اخرى في جيش صلاح الدين .

يــتبع ............. الحلقة السادسة صباح الاحد المقبل



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد