تاريخ الاردن وعشائره / الحلقة الثانية عشرة : بروز قوة العدوان وصراعهم مع بني صخر وبني عباد

mainThumb

09-01-2010 12:00 AM

توضيح من المؤلف

يشكل التاريخ عقدة لمن لا تاريخ له , وتشكل العشيرة عقدة لمن لاعشيرة له , وتشكل الاصالة والاصل والعائلة العريقة عقدة لمن لا اصل له ولا اصالة ولا عائلة محترمة , وتشكل الاردنية عقدة لمن لا جذور له بالاردن , ويشكل المفكر عقدة لمن لا فكر عنده , ويشكل العقل المشقي بالنعيم عقدة لمن هو جاهل وينعم بجهله , ويشكل المتنور عقدة لمن فقد نور البصر والبصيرة ولمن اثر حياة السائمة على حياة الانسان المكرم ( بتشديد الراء ) , ويشكل الذوات عقدة للنكرات , ويشكل الرفيع عقدة للوضيع , ويشكل الموصول عقدة للمقطوع المفصول .

صورتان متناقضتان فلا يستوي فيهما الظل ولا الحرور ولا الظلمات ولا النور , ولا الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولا الجاهل والعاقل ولا الاصيل والدخيل ولا فاقد الشرعية مع من يمنح الشرعية ولا فاقد الكرامة مع من لديه كرامة , ولا فاقد الشيء مع من لديه الشيء .

فلقد رايت اثناء نشر هذا الكتاب العجب العجاب , ورايت كيف ان البعض فقد ذاته وشخصيته وهويته وقرنها بالكلمات والاقوال وليس بالافعال . ورايت ان مسيلمة الكذاب لو عاد الى الحياة لوجد من هو اكذب منه , وان الوليد بن عتبة لو عاد لوجد من هو اكثر منه عتلا وزنيما ( عتل بعد ذلك زنيم ) . هناك فئات منتفعة لا يهمها التاريخ ولا العشائر ولا الاردن ولا الدولة ولا امن الاردن ,ويعتبرون ان هذه الامور هراء رغم انهم ابناء عشائر اومن مثلث الغم . فالحياة عندهم مكسب شخصي

عندما استمع الى كثير من هؤلاء اشعر بالغثيان وانا اصغي اليهم يكررون على مسامعي كلمات الخط الاحمر والخط الاخضر والخط الاصفر . وبدل ان يذكرون الله ويسبحون بحمده , فانهم لا يقولون الا ما يستفيدون منه شخصيا ولو كان زورا وبهتانا , ويريدون ان ينقل عنهم انهم مدحوا فلانا وعلتانا وهم يشهدون لبعضهم كل في غياب الاخر ضمن شهادات المنفعة المتبادلة وتوزيع المهمات من اجل المكاسب , وهم يعتقدون ان الاخلاص انما هو الذي يكون بالهراء والصياح وليس بالفكر , وبالاقوال وليس بالاعمال , لانهم لايفهمون فكرا ولايتقنون عملا , وانما يتقنون مسح الجوخ فقط .

ولكنني اقول لهم دائما ان الاردن والعشائر الاردنية خط من جهنم يحترق بها من يتجاوزها من الاعمى والبصير ومن في الظل ومن في الحرور ومن في الظلمات ومن في النور , وكلما اعتقد النكرات ومثلث الغم انهم اطفاؤا هذه النار او جذوتها , وحسبوا ان العشائر اختفت , كلما تاججت نارها بقوة كبيرة واندفاع يفوق ماكانت عليه .

هؤلاء ومثلث الغم ينظرون إلينا إننا مجرمون بالجينات / بالفطرة , وأننا ولدنا ضد الوطن لانهم ليسوا مع الوطن ولا من الوطن , وأننا أعداء الدولة ونحن من بناتها وأبنائها وقامت على أكتافنا واكفنا , لأنهم لا يحبون الدولة وانما يحبون انتفاعهم منها فقط . وهم لا يقبلون منا المشاركة وانما يريدون منا كلمات الطاعة ولو كان ذلك كذبا ونحن لا نكذب . وعندما قلنا سمعا وطاعة عن صدق وقناعة , قالوا لا يكفي وانما نريد الخضوع , ومن بعد الخضوع لابد من التبعية وبعدها الى العبودية , وحتى العبودية مرفوضة منا وانما ان نكون سائمة في سوق النخاسة . والحقيقة اننا لا نستطيع ذلك ابدا ولا اي من هذه اطلاقا , ولا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم .

اشعر بالغثاء والتقزز عندما يبتليني القدر بجلوسهم معي في مناسبة او لقاء عابر او مراجعة ,فهم لا يذكرون الله ولا يسبحون بحمد الله وإنما بحمد البشر , ويفتخرون أنهم يعبدون البشر والحجر والشجر ويفعلون ما يؤمرون بلا سؤال ولا نقاش . أنهم يكررون علي بالجلسة الواحدة مرات المرات الا تجاوز الخطوط الحمراء , ويعتبرونني مجرما ومعارضا وخائنا وغير مخلص وانا عكس ذلك تماما , وصار اسمي بالنسبة لهم مرعبا واخطر عليهم من اسلحة الدمار الشامل . كلما جلس واحدهم او قام , كرر قوله انه مخلص وانني غير مخلص , بل انني خائن في نظره لانني احترم نفسي وكلامي . فماذا قدم هؤلاء للاردن الا الدمار والداء والبلاء وصاروا مدرسة عظيمة في النفاق والشقاق ويعتبرون عبادة البشر والبقر هي الطريق المثلى لتحقيق الهدف ونيل السعادة في الدارين . ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .

في هذا الجو من التخوين لنا ومن التقزيم لعملنا ومن بخسنا لحقنا , ومن حملات التصفية السياسية لنا على مدى ثلاثة عقود مستمرة , وفي هذا الجو الذي يعتبر كتابة تاريخ الاردن وعشائره جريمة يعاقب عليها قانونهم , بل خطيئة تعني في عرف هؤلاء القطعان انها تجاوز للخطوط والمالوف والعروف , وفي هذا الجو من قطعان المنافقين وحقول الغام التخوين وتنفير الناس مني , فانني قد قلصت علاقاتي واتصالاتي الى ادنى الدرجات / الى الدرجة الملحة جدا وادنى من الضرورية , فانا بطبعي لا انافق ولا اكذب ,ومخلص لبلدي ولشعبي ولقضيتي وكياني , وقلبي لا يعرف الكره ولا الحقد ضد احد اطلاقا والحمد لله وحتى الكارهين لي الحاقدين علي فانني لا اكرههم ولا احقد عليهم , لان الكره والحقد حمل ثقيل على الانسان وقلبه نفسه ودماغه , ولان سلامة القلب مريحةجدا جدا ولو جربها هؤلاء لاحبوها على القلوب المليئة بالخطايا .

وومع كل هذا فانا مقتنع ان ايا من مثلث الغم ومن هؤلاء القطعان الضالة لن يحبني مهما ابتسم لي , وانه لا يتواني عن استمرار طعني وهو ياخذني بالاحضان , ولا ينفك عن الغمز من قناتي وهو يدعي انه ناصح لي امين . انني اعرفهم جيدا وهم يكرهونني ولا يمكن ان يحبونني لانه لايستوي الخبيث والطيب ولو اعجبك كثر الخبيث , ولا تستوي الحسنة والسيئة , ولا الايمان والكفر .اما انا فلا اكره احدا , فليس في قلبي اي حيز للكره ابدا والحمد لله ( يوم لاينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم ) .

يسالني واحدهم ويكرر السؤال : انت مخلص ؟ اقول : نعم انا مخلص طبعا مخلص . ثم يسال ثانية وثالثة وعاشرة ومائة في جلسة لا تزيد عن نصف ساعة. واقسم له انني مخلص , ومع هذا لا يصدق قولي ولا يميني , لان مصلحته ابقائي عدوا وهميا مضخما يعلق علي كل ما يخطر بباله ما ينفعه انني مصدر الاخطاء والاخطار . لذا فانني لا استطيع بحث اي موضوع مع هؤلاء لانهم يعيشون رعب عقدة الشعور بالذنب مما يقولونه ويرمونني به , ورعب الجلوس مع احمد عويدي العبادي / العدو المضخم والمعارض الخطير ؟؟؟؟؟ او الاتصال معي او تلقي الاتصال مني , ويعتبرونني من اصحاب الذنب والخطيئة التي لا تغفرها توبة ولا يمحوها زمن , ويقولون ( ترى قعدتنا معك محسوبة علينا ) لم اسمع منهم كلمة ( قعدتك معنا ) ففي الاولى تكريس للدونية التي يعيشونها في اعماقهم انهم الادنى ويجلسون مع الاعلى , وفي الثانية لا يستقيم الامر لانني لا اجلس معهم وانما هم يجلسون معي ,فهم اهل اليد الدنيا وان رايتهم في بهرجة او متاع قليل وانا صاحب اليد العليا دائما ان شاء الله .

وفي مثل هذه الاجواء مطلوب مني كتابة تاريخ الاردن وعشائره . بالله عليكم هل يمكن لشخص ان يكتب ذلك لولا ايمانه بقضيته ووطنه وعقيدته الدينية والسياسية واخلاصه لها ؟ لولا ايمانه ان الاردن وعشائره هي خط من جهنم لمن ارادها بسوء , وهي جنة خضراء لمن ارادها بخير ؟ .بالله كيف يمكن لشخص ان يبدع في جو الارهاب الفكري والقمع الذي يقوم على جميع الاشكال والاحوال لولا ايمانه بقضيته ؟ وكيف يمكن لشخص يعتبر خطيرا اينما ذهب ولا يجرؤ مسؤول ان يجلس معي الا بعد ان يعود الى مراجعه ، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . يا جماعة انا مسلم عربي اردني بدوي بسيط جدا , ولكنني صادق وشجاع وصاحب حجة ومخلص لبلدي وكياني وامن بلدي وشعبي دونما طمع في مغرم او هروب من مغرم , وانا تعبت على نفسي , فالثقافة ليست قرصا من الدواء تاخذه مرة وتتحول الى عبقري لا مثيل له , والكتابة ليست مجرد صف حروف , لانها فكر وابداع قبل ان تتحول الى كلمات وعبارات وكتاب .

قال لي احدهم : ماذا استفدت من المعارضة ؟ فقلت ماذا خسرت من المعارضة ؟ فقال راحت عليك المناصب وحلت بك المصاعب , فقلت نحن لسنا جزءا من زريبة للحيوانات وانما نحن جزء من وطن وشعب وقضية وهوية وتاريخ وكيان , ونظرتي ليست ان يعيش الشخص كانه واحد من قطيع الابقار والاغنام , وانما نحن اصحاب رسالة ونصنع التاريخ ونكتبه , وهذا ما استفدناه ونسال الله الاجر والثواب امين يارب العالمين , اما انتم فقد سمنتم كالخراف بانتظار الجزار الذي يريد اللحم ولا يريد الفكر , ونحن لا لحم عندنا وانما فكر في سجلات التاريخ .

فالطريق الى الحقيقة ليست واحدة , وانما متعددة لان قطرها دائري ويمكن لك ان تدخلها حيث تسلك طريقها مما يليك .والطريق الى التاريخ ليست باللحم والشحم , وانما عبر المواقف والانجازات وقبلها وبعدها عبر الفكر والقلم , وقد اتانا الله ذلك والحمد لله رب العالمين . نقول هذا لعل صرختنا في واد سحيق يكون لها صدى يخدم الاردن واهله , والا فقد ادينا الرسالة والامانة بحسب قدراتنا , ونسال الله القبول . ( ان الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا مابانفسهم )

 

تاريخ الاردن وعشائره / 12

تاليف المفكر والمؤرخ الاردني

د . احمد عويدي العبادي

الصراع بين ابن مهدي والعدوان : بروز قوة العدوان وصراعهم مع بني صخر وبني عباد

أما في وسط الاردن . فقد آلت زعامة البلقاء برمتها إلى ابن مهدي ألجذامي بعد ان عينه السلطان الظاهر بيبرس , وبدات امارة نافع العجرمي بالانحسار امام تخلي الدولة عنه ولانه كان محسوبا على الايوبيين سياسيا , وان الايام دول ولكل زمان دولة ورجال .

وأعلن بن مهدي نفسه مالكا للأرض كلها من وادي الموجب الى سيل الزرقاء ، متحولا الى اقطاعي , وان ما سواه من العربان يعملون عنده حيث يأخذ الشخص مساحة من الأرض يحرثها لقاء حصة له وأخرى لابن مهدي نفسه , اما الاراضي فصارت كلها مملوكة لابن مهدي فهو الامير وهذه امارته , وان مفهومه بالامارة ان الارض وما عليها وما فيها للامير ؟؟؟ . وكان له مخازن للغلال في عراق الأمير والبصّه ووادي الشتاء( منطقة وادي السير ) وماحص وناعور وحسبان وصياغة والمخيط وماعين وذيبان وعمان . وكان يتقاضى مبلغا في كل عام من السلطات التركية لقاء عدم الاعتداء على موكب الحجاج المار عبر الاردن ؟ وقد صار ياوي كل شارد أو طالب للحماية أو مطلوب للدم في عشائر أخرى.وبذلك تحول الى زعيم اقطاعي كبير وماوى للاشرار والاخيار , وسحق بقية الشيوخ ولم يعد لهم مكان او مكانة على الساحة او عند الناس . وصادر اراضي العبابيد التي كانت من سيل الزرقاء الى سيل ماعين , ولم يبقى لهم الا جزءا يسيرا منها .

وهنا لابد من الحديث عن علاقة بن مهدي بعشيرتي العجارمة وبني عباد وكلاهما جذامي وهما ايضا من بطن طريف من جذام وهو البطن الذي ينتمي اليه ابن مهدي . واضح ان رسالة التكليف التي وجهها السلطان بيبرس الى ابن مهدي وعينه اميرا على عربان وسط وجنوب الاردن قد بقيت منهجا لذرية بن مهدي في تعاملهم مع الناس . وهنا نجد ان دور كل من اقاربه بني عجرمة وبني عبادي قد تقلص الى درجة التلاشي ( تلاشي الدور ولا اقول تلاشي العشيرة ) وصارت اسماء العشائر التابعة لامارته تذكر لدي كل من المؤرخ القلقشندي والمؤرخ بن فضل الله العمري المعاصرين له على انها جزء من ال مهدي / بني مهدي . وهذا خطا تاريخي يبين عدم فهم هؤلاء المؤرخين للثقافة البدوية الاردنية تحديدا وجهلهم للعشائر الاردنية وتصديق رواية واحدة هي رواية بن مهدي الذي كان يصنف هذه العشائر انها فروع من بني مهدي , ليوهم الدولة ان قبيلته كبيرة وانه ليس اسرة , وهذا يزيد من موقفه وقوته لدى الادارة في مصر , لكسب مزيد من الامتيازات التي يسعى للحصول عليها لنفسه وليس للناس .

. لذا فليس صحيحا ان ماذكره هؤلاء المؤرخين من اسماء العشائر انها بطون من بني مهدي او فروع منها , بل كانت عشائر خاضعة بموجب الامر السلطاني لابن مهدي خضوعا عشائريا وسياسيا . فمن المعروف ان العشائر تنسب كل من يتبع الشيخ انهم جماعته وهم ليسوا ابناءه بل اتباعه . فالقبائل بطبيعتها تنسب القوم الى زعيمهم او شيخهم ( عرب فلان / قوم فلان / عربان فلان / جماعة فلان ). وبالتالي فان ماورد من اسماء هذه القبائل انها من بني مهدي في كتب المؤرخين ليس صحيحا , وانما ان هذه القبائل هي ممن يخضعون له ولمشيخته ومن عربانه ولكنهم ليسوا بطونا او افخاذا من اسرته كما يصور لنا المؤرخون . فهو الذي يذكر الاسماء عند ديوان السلطنة ولا حضور لاي ممثل لهؤلاء العربان عند اعطاء المعلومات او اخذ الاعطيات وهو وكيل عنهم والوي الشرعي عليهم لدى السلطة . انها الحقيقة المتوارثة ان الشيخ اذا تحدث عند السلطة ادعى انه الشيخ الاعلى للعديد من العشائر , رغم ان بعضها لايعترف به ولا بمشيخته ولا يحترمه . فالشيوخ تعرف ان الكيانات السياسية لاتحترم الا القوة ( المال والرجال ) , وبالتالي فانهم اعتادوا اظهار انفسهم انهم اقوياء ليحصلوا من السلطة على مايريدون , وهي الثقافة التث لازالت موجودة الى الان .

اما عشائر عباد وبني عجرمة وهي في الامارة اقدم من بني مهدي الذي لم يصبح اميرا الا زمن الظاهر بيبرس . فقد كان نوفل العجرمي اميرا قبله على البلقاء وجذام , وكان الشيخ سليمان العبادي واحفاده من الشيوخ الذين حملوا اسمه موجودين زمن الصليبيين وزمن الايوبيين والمماليك . بل ان الظاهر بيبرس قد عين الامير الجرمي العبادي اميرا مساندا للامير المهداوي وادني منه درجة . كما ان امارة احفاد نوفل العجرمي بقيت لمدة من االزمن بعد تعيين المهدي اميرا على البلقاء, وتحول العجرمي من امير للبلقاء الى شيخ للعجارمة , وتحول الجرمي من امير مساند للمهدي في البلقاء برمتها الى شيخ لعباد وحدها . وتقلصت اراضي عباد التي كات تمتد من سيل الزرقاء الى سيل ماعين لتصبح من ناعور الى سيل الزرقاء فقط . وتقلصت اراضي العجارمة مقتصرة على حسبان والمشقر وناعور حتى مادبا جنوبا وبرزين شرقا مطلة على ام العمد , وصارت اراضي بني صخر في واجهاتهم الحالية مع مادبا , وشمالا الى الرمثا وشرقي اربد وشرقا الى اعماق البادية وكان شيخهم الاعلى ابن زهير في زمن المماليك .

ولكن هذه القبائل الجذامية كلها ( المذكورة اعلاه ) كانت تحت امرة ( الامير ) ابن مهدي لفترة طويلة والذي كما قلنا عينته الدولة ولم تنتخبه القبيلة , فزعماء العشائر شيوخ اما ابن مهدي فامير وهو اعلى من الشيخ . ولا بد من التنويه ان كلا من هذه القبائل تنتهي واجهات اراضيها الى سيل عمان الى ان تمت مصادرة واجهاتهم واراضيهم من الاتراك لاعطائها للشراكسة عند مجيئهم في حوالي 1888 وما يعدها . وكانت جميع الاراضي التي فقدها العبابيد والعجارمة من السيل الى السيل ( من سيل الزرقاء شمالا الى سيل زرقاء ماعين جنوبا ) قد صارت للمهداوي فقط ( من قبل ) .لذا نسمع المثل العبادي ( عباد من السيل الى السيل ومن الزرقاء الى الزرقاء ) والمقصود هو مابيناه توا وكانت هذه ديرتهم بناء على اتفاقهم مع صلاح الدين كما سبق وذكرنا من قبل في هذا الكتاب .

وعندما ثار الشيخ حمدان ( راعي الضبطا) بن عدوان على المهداوي كما سياتي , وقف العبابيد مواقف الحياد تجاه مايلاقيه المهداوي من ضربات موجعة من العدوان واتباعهم ضد مشيخة ابن مهدي , رغم انهم ( عباد والمهداوي ) يمنيون وكلهم من بطن واحد / هو بطن طريف , وتركوه لحراب العدوان والبلقاء والثائرين عليه مما ادى الى زواله من الامارة والساحة والبلقاء كلها بعد صراع طويل وقف الحظ فيه مع العدوان بشكل واضح .

فعباد وبترتيب ناعم من ابن ختلان وهو ضيغمي استطاع ان يعيد بناء عشائر عباد مرة اخرى بعد موت الشيخ سليمان العبادي , وان يستعيد الاراضي في االعرضة فسميت عرضة عباد الى الان , واسمها ايضا ام عباد لان العبابيد انطلقوا منها جميعا , وفيها مرج اسمه ابو عباد على انه المكان الذي كان العبابيد يسكنونه . فالمرج اسمه مرج ابو عباد والعرضة برمتها ( والمرج جزء منها ) اسمها عارضة / عرضة عباد / وتلفظ بالالف وبدون الالف . وعندما احتدم الصراع بين ابن مهدي وابن عدوان وقف العبابيد متفرجين , ولكن موقف العجارمة انشق الى ثلاثة اتجاهات هي : احدهما معادي لابن مهدي لاخذ الثار للامارة التي اخذها منهم فانضموا الى العدوان ,واخرون وقفوا مثل عباد موقف المتفرج والحياد واخرون ازروا ان مهدي باعتباره زعيمهم وجذامي ومن بطن طريف . وعندما انتصر العدوان انضموا الى حلف البلقاء القيسي رغم انهم يمن , بينما استقل الصحور في وقت مبكر عن امارة المهداي منذ ان بدا التتار يغزون بلادنا . واستطاعوا ان ينتزعوا من المهداوي حماية قوافل الحجاج في القرن الثامن عشر بعد ان كانت للمهدي , على يد ابن الخريشة الذي صار زعيما لنبي صخر بدلا من بن زهير .

وباختصار تأقلم الأردنيون مع الأوضاع والمستجدات لهم بما يضمن لهم البقاء , وانحدر الوضع الاقتصادي إلى أدنى درجاته في سني الجدب، وارتفع في سني الخصب. وكان الزعماء العشائريون يملكون قرى كثيرة يزرعها فلاحون جيء بهم من فلسطين، ويقوم الشيخ بتخزين القمح وأيضا توزيع قسم كبير منه على السائل والمعتر( الجائع ؟ ونضرب على ذلك أمثله: كان لابن عدوان قرى الأغوار الوسطى من وادي الشونة سويمة. وكان العربان يقدمون إليه في نهاية شهر أيار حيث الحصاد في الغور يتقدم شهرا عنه في الجبال المحاذية، ويقوم بتزويدهم بحاجاتهم مجانا وبدون مقابل، بغض النظر عن عشائرهم سواء أكانوا من العدوان أو حلفائهم أو أعدائهم واستمرت هذه السنة الحميدة الى الثلث الاول من القرن العشرين زمن الشيخ سلطان والد ماجد رحمهم الله جميعا .

والأمر نفسه كان يقوم به ابن فايز ( بني صخر في أم العمد ) منذ زمن الشيخ فندي الى زمن الشيخ مثقال بن سطام الفايز حتى الثلثالاول من القرن العشرين . فقد روى لي والدي المغفور له باذن الله المرحوم الحاج صالح العويدي رحمه الله، إن الناس كانوا يذهبون ومعهم الإبل أو البغال أو الحمير ويحلّون وقت الكيل ( أي الانتهاء من الحصاد ودرس البيادر) فيطلبون من ابن فايز أو ابن عدوان قمحا أو شعيرا ليطحنوه ويطعمون أولادهم فيأمر لهم الشيخ بذلك دون أن يسألهم من أي عشيرة هم , ولا ياخذ ثمنا لما يعطيهم الله من عنده .

انه مفهوم الصراع من اجل البقاء، كل يعين ( يساعد ) الأخر فهذا زعيم من زعماء بني صخر يغزوا الفلاحين لينهب الحبوب والمواشي، حتى إذا ما توفرت لديه جاد ( من الجود) على الآخرين بدون مقابل ولا منّة ولا طلب للثمن. وعلى هذه الطريقة سار هؤلاء الزعماء في حينهم . وبانعدام هذا الكرم والعطاء فقد أولادهم وأحفادهم بريق الزعامة التي كان يتمتع اجيال الرعيل الاول الذين كانوا يتحملون العبء الاكبر في مساعدة الناس . أما ألان فإن العبئ يقع على الدولة بالدرجة الأولى التي تقوم بمهمة حماية الأفراد والجماعات والمجتمع. ويمكن القول أن وسائل الصراع كانت متعددة لكنها تصب في حوض واحد هو البقاء والبحث عن البقاء والاستمرار .

أما وقد تحدثنا عن جنوب الأردن وشماله. فإننا نتوقف هنا للحديث عن وسط الأردن وهي البلقاء التي تمتد من نهر الزرقاء شمالا إلى وادي الموجب جنوبا . كانت البلقاء نقطة الوسط بين الشمال الخصب الأهل بالسكان الذي يستقطب الناس من سائر أنحاء الأردن، وبين الجنوب الذي صار يتعرض لسنوات جفاف عجاف متتابعة أتت على الزرع والضرع، وصارت مسرحاً للغزوات والصراعات العشائرية من اجل البقاء . وأينما تجد الصراعات والمعارك، تجد القحط يلازمها أو دعنا نقول: قلة الإنتاج، وذلك لانعدام الأمن عند الناس وبالتالي الانحراف عن العناية بالزراعة والرعاية، إلى خوض المعارك والصراع مع الآخرين.

لذا فإننا نشهد حركة هجرة واسعة من الجنوب إلى الشمال، ونجد نسبة عالية من عشائر الشمال ترتبط بجذور في جنوب الأردن وبعضها بجذور في وسط البلاد ( البلقاء) وقد كانت زعامة البلقاء كمنطقة جغرافية, ومجموعات سكانية متركزة في عشيرة العجارمة وأسرة نافع العجرمي من أبائه إليه إلى أبنائه إلى أن جاء المهدي وانتزع منه إمارة البلقاء بقرار من الظاهر بيبرس فعاد ليكون (أي العجرمي) شيخا وليس أميرا على الديرة والعشيرة.

كان ابن مهدي ألجذامي شيخاً مهمّ?Zا في جذام، ولكنه استطاع التوصل إلى سلاطين المماليك. وطرح نفسه أميرا لجذام في الجنوب والوسط والشمال على انه الأقوى، بل والاقدرعلى خدمة الدولة في الكرك والقاهرة والتخلص من اتباع الايوبيين . وبالفعل صدر أمر بذلك كما رأينا زمن الظاهر بيبرس الذي وضع حدا لزعامة ابن عقبة(ألعمرو) والعجرمي , الذين كان لديهم بدورهم مراسم بذلك من الأيوبيين، ؟ ثم ارتحل ابن مهدي إلى البلقاء حيث البلاد أكثر خصبا. والناس أكثر طاعه، كما الموقع بعيد عن متناول الدولة وبالتالي بعد يد الدولة عنه فهو بعيد عن تنفيذ الأوامر مما يجعل قراره هو الأعلى والأنسب في أمارته.

لم يستطع ابن مهدي أن يطّور أمارته ولا أن يوسعها بل انه تقلصّ مع الزمن , وحمل في طياته عناصر الفناء عندما وقف موقف العداء مع اقاربه العبابيد باخذ اراضيهم , والعجارمة باخذ الامارة منهم , وثلاثتهم من بطن واحد وهو طريف كما قلنا مرارا وتكرارا . وصارت في زمن احد أحفاده جودة المهداوي عبارة عن بيت هش?Zّ أضعف من بيت العنكبوت والناس كارهون له متآمرون وحاقدون عليه , لما كان عليه من العسف والظلم . وكانت النتيجة إنهاء إمارته وقيادته وسيادته وحلّ ابن عدوان محلّه بعد معارك طاحنة بين أتباع كل منهما. وتم ترحيل ابن مهدي الى شمال الاردن ( المهيدات الان ) والى شمال فلسطين , والى القنيطرة وغرب سوريا حيث لازالوا هناك الى الان . وبقي من اتباعه عشائر انضم بعضها الى عباد مثل : النعيرات والعمايرة والعودات / المحاميد والحوارات . وانضم اخرون من اتباع المهداوي الى ابن عدوان مثل : ابو ريشة , وابو حيدر ( الحيادرة ) والعنيزات ( ومنهم فرع في قرى عجلون شمال المدينة ) , والحجاج , وابو تتوه وغيرهم .

لقد أسس نوفل العجرمي إمارته بدعم الدولة الايوبية بعد أن عاد وأقاربه من نجعة طويلة تحرك زمن الاحتلال الصليبي واقاربه من البلقاء إلى العلا التي كانت اردنية طلبا للامان من العسف الصليبي . وكانت العلا نقطة التجمع الجنوبي للعشائر الاردنية، على أنها أيضا أقصى مركز يتبع قلعة الكرك في أعماق شمال جزيرة العرب. ويبدوا أنه استطاع جمع المال من هناك أو اكتساب المزيد من المواشي، بحيث عندما عاد وحط رحاله في ديار ابائه وأجداده وهي البلقاء أعلن نفسه أميرا عليها وعلى أهلها بدون منازع بدعم الايوبيين الذين كانوا غاضبين على بني عباد , وحيث انه جذامي وان غالبية سكان البلقاء كانوا من جذام فإن دعم الايوبيين له اميرا للبلقاء لقي ترحيبا واسعاً،واختفى الشيوخ الذين يمكن أن يعارضوه أو يقاوموه وصار له نصيب مما تدفع الدولة الأيوبية من المال لقاء حماية قوافل الحجاج العابرة للأردن ذهابا وإيابا.

كانت البلقاء حصنا هاما لإمارة العجرمي زمن الايوبيين وصدر المماليك حيث الأراضي جبلية تغطيها الغابات وهي وعرية مما يشكل حماية طبيعية له ولأتباعه إذا ما أداهمهم خطر من الأخطار وخصوصا الاجتياح الخارجي. كما أن السهول خصبة مما يشكل موردا اقتصاديا كبيرا له، حيث سهول مادبا وحسبان وغرب عمان وشفا بدران والبقعة والأغوار. لذلك لم يكن نوفل بحاجة للدعم المادي الرسمي رغم تلقيه له، وإنما كان يحتاج دائما إلى التزام من سلطات القاهرة ان تتركه وشأنه وكذلك كان.

ومن الواضح أن المماليك لم يكونوا مرتاحين لإمارة العجرمي لنزوعه نحو الاستقلال، والتمرد، ولانهم اعتبروه صنيعة الايوبيين وقد يصبح ملجأ لهم اذا ارادوا احتلال الكرك او التمرد على المماليك . وخشي المماليك من دعم العجرمي لاخلاصه للايوبيين , لذلك دعموا ابن مهدي ليكون زعيما لجذام ومن ثم ندّ?Zا لنوفل في الان نفسه ، ثم يتغلب عليه فيما بعد بدعم من سلطات المماليك. وهذا الذي حدث كما يبدو . لقد وافق ابن مهدي على شروط المماليك وصار واحدا من صنائعهم أما العجرمي فهو من صنائع الأيوبيين، ونحن نعرف أن لكل زمان دولة ورجال وان الله سبحانه يداول الأيام بين الناس.

انزاح العجرمي عن الطريق، وصار ابن مهدي زعيم البلقاء بدون منازع، وطغى وتجبّر وذكرته كتب تلك الفترة التاريخية وكتب الأنساب التي من بينها نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للنويري. وعددت الكتب العشائر التابعة لابن مهدي ومن بينها عباد، وبني صخر، والعجارمة وبني حميدة، وان جاءت هذه تحت مس?Zمّ?Zيات أخرى. فقد أعتاد الأردنيون تغيير الأسماء حسبما هي الحاجة للحماية والبقاء وبالتالي تحدثت بعض الكتب عن أسماء لم تعد موجودة ألان، وظهرت أسماء لنفس العشائر لم تكن موجودة آنذاك.فالتغيير كان في الاسم ليس باختفاءالعشيرة . انها وسيلة اردنية للصراع من اجل البقاء .

توسعت عائلة المهداوي ( ابن مهدي) وأطلق عليهم اسم الامارى أي الأمراء ؟ لان لفظ شيخ وأمير كان يطلق عند العرب على كل ولد من أولاده وذريته الذكور، ويطلق لقب أميرة وشيخة على كل من كانت له من ذريته الإناث . كما أن الأمر نفسه انتقل إلى الأيوبيين والمماليك في تسمية الذكور, إذ أطلقوا كلمة ملك على كل ذكر من أبناء الملوك وأحفادهم. وأطلقوا اسم خاتون على كل أنثى من بناتهم وحفيداتهم وزوجاتهم. ولا أعرف معنى خاتون، لكنها كلمة أعجمية – تركية أو كرديه أو فارسية تعني السيدة المبجلة.

وقد أدت كثرة الأمراء في الاسرة المهداوية إلى تراخيها ، وتنازعهم وتناحرهم على السلطة، وأن مجموع ما جرى قتله في مجزرة شجرة الفحيص على أيدي العدوان ونصارى الفحيص ضد الأمراء قد تجاوز الأربعين أميرا ثم دفنهم في بيادر وادي السير إلى الشمال من مثلث الإشارة الضوئية المؤدية إلى مدرسة الصناعة، وقد أزيحت بالجرافة، وتم بناء عمارة تجارية عالية في مكانها وكانت تسمى قبور الامارى: أي قبور الأمراء ولا يقال : مقبرة الأمراء.وقد أشار إليها ألرحاله كوندر عام 1881 في كتابه: أعمال المساحة في شرق الأردن؟ وزالت القبور والجذور إلى غير رجعة. فسبحان الله ربّ العرش العظيم .

لم يطور نوفل العجرمي إمارته في البلقاء ولم يوس?Zّع منطقته ولم يستقطب مزيدا من الناس، واكتفى بلقب امير شانه بذلك شان بقية الاردنيين عبر التاريخ عندما يهدا واحدهم اذا مااخذ لقب امير او شيخ او باشا ,اما حديثا : دولة معاي , عطوفة , سعادة , لان هذا بالنسبة له نهاية المطاف ولو كان المانح لهذ اللقب سلطة غريبة وقوامها الغرباء . فكما قلنا ان لقب الشيخ والباشا له سحر قاتل للاردنيين , فكيف بلقب امير .؟ انه قد ادى الى الكارثة .

واذا استثنينا الامارة الطائية ( طي ) والغزاوية ( بني عوف / قضاعة ) والزيدانية ( الزيادنة / الازد ) فان كل مانجده من الإمارات العشائرية في سائر أنحاء الأردن هي من قبيلة جذام ( العجرمي , المهدي , الجرمي , بني عقبة / العمرو ) ، وان بني صخر الذين سادوا الأردن مئات السنين هم من جذام أيضا وان الكثير من العائلات والعشائر التي غادرت البلقاء شمالا أو جنوبا داخل الأردن أو غربا إلى فلسطين ومصر أو شرقا إلى العراق أقول أكثرهم من قبيلة جذام. بل انه ورغم أن بني حسن هم أكبر قبيلة عددا ألان بالأردن إلا أننا لو جمعنا اعداد جذام أيضا في سائر أنحاء الأردن لزاد عددهم على أعداد بني حسن. ولو أننا أعدنا الجذاميين من خارج الأردن وجمعناهم مع جذام الموجودة لتجاوز عددهم نصف سكان الأردن قاطبة.

ما نريد الخلاص إليه أنه رغم عراقة جذام وكثرتها وسعة ديارها، الا أن أميرها نوفل العجرمي الذي انحدرت الإمارة في نسله حتى نافع العجرمي الذي نزل عليه ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري في البلقاء في مناطق ناعور الحالية. أقول لم يتمكن من تطوير أدارته وإمارته للقبيلة والبلقاء إلى أمارة مستقرة ذات سلطة مركزية لها جيش ومؤسسات إدارية. وهذا ما جعل الإطاحة به أمرا سهلا من قبل أبن قبيلته وهو ابن مهدي ألجذامي أيضا.

ولو نظرنا إلى الممالك الاردنية في أزمان الوثنية لوجدناها أكثر قدرة على بناء الدولة بمفوهمها آنذاك من المشيخات أو الإمارات الهشّة التي نحن بصدد الحديث عنها . وقد حاول الشريدة / بن حماد / جذام ( دير أبي سعيد) والخزاعي / بني عوف / قضاعة في عجلون) أن يبني كل منهم إمارة صغيرة، إلا أنها لم تعم?Zّر طويلا بل كان مصيرها في النهاية ان عادت الأمور إلى مستوى الشيخة في هذه العائلة أو تلك .

وبذلك بقي الأردن بدون أمير تتجمع حوله الناس ليكونوا له رعية وبالتالي بقي بدون كيان سياسي يوحد اجزاء الكيان الجغرافي والكيان الاجتماعي ضمن وطن واحد وشعب واحد وكيان سياسي واحد . واقتصر الأمر على الشيخة فقط. لذلك فان كل شيخ كان يتعاون مع المحتل الوافد لكي لا تتاح الفرصة للشيخ الأخر أن يهيمن على الديار والناس والمشيخة , ولكي يبقى الشيخ العميل حاملا هذا اللقب السحري ولو على خازوق من خشب السنديان . وكان كل شيخ لا يهمه الا بقاؤه على الكرسي الهش وهذا يعتقد أنه أوسع من الدنيا وما فيها، وكما قال المتنبي :

ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله: واخو الجهالة بالشقاوة ينعم.

كان بامكان ابن مهدي وهو يحظى بالدعم المطلق من المماليك ان يتوسع في الديار الاردنية ليسيطر على الشمال والجنوب ويوحده مع الجنوب والوسط ، الا أن مفهوم التوسع والتوحيد بين أجزاء الوطن واجزاء الشعب لم يكن موجودا ولا متوفرا في ذهنه على مايبدو , وكان يعتقد , شانه بذلك شان كل مسئؤل متخلف وطنيا وفكريا , ان كرسي الامارة دائم له الى يوم يبعثون , وكانه لايؤمن بتطور الاحوال وتبدلها وتداول الايام بين الناس . لذلك تسلّط على الناس إلى درجة أن واحدا من أحفاده ( جودة المهداوي ) أراد الزواج من فتاه نصرانية من الفحيص وهو أمر لم يوافق عليه أبوها، ولا وجوه قومه، وركب راسه فكان ما كان من تحالف أهل الفحيص مع ابن عدوان وفرسانه والقضاء على من يسمى الامير وصحبه ذوي التسمية بالامراء . وهذا يذكرنا بما حدث فيما بعد في مصر عندما قام محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر بدعوة المماليك والقضاء عليهم على وليمة ايضا , وكذلك ما فعله السلاطين المماليك على الدوام من قتل الأمراء المماليك من أتباع المملوك الخصم أو المنافس. فهذه عادة كانت سائدة عند العرب وهي الدعوة إلى الطعام ثم قتل المدعو لياكل الموت بدلا من اكل الطعام . وهو ما حدث للعمرو ( جذام في الكرك على ايدي اهل الكرك فيما بعد ، وللرشدان على أيدي الشريدة في الشمال).

ومثلما كان أفول نجم الأيوبيين ملازما لبزوغ نجم المماليك فإن هذه هي سنة الحياة. يفنى شيء ، ويظهر شيء اخر ، وتستمر الحياة، ويخرج الحي من الميت , ويخرج الميت من الحي , ذلك أن الكيانات السياسية او الإمارة عندما تبقى على وتيرة واحدة بدون تحديث وتطوير فإنها تبدأ بالذبول.وان عدم ظهور قيادات تجدُد الإمارة وطريقة بنائها حسب المستجدات يجعلها قديمة بالية، وتتطور الأمور من حولها وتتحرك وتتركها في ركام الكسل وحطام الفشل. وقد آلت في حالة حديثنا، أقول آلت الإمارة إلى الأمير جودة المهداوي، والذي وصل وسط ركام وجبال من ترحيل المشاكل المستعصية , ومنها انه كان حوله عشرات الأمراء، أي من نسل اسرة ابن مهدي الأول، وصار كل واحد يدعي الإمارة لنفسه لقبا وعملا، وبالتالي منافسا لمن يجلس على كرسي الامارة والذي قد يكون اخاه او ابن عمه . وحيث يتعذر عمليا اعطاء الامارة لكل امير ,صار كل واحد يسمى : الأمير متوهما أنه الأولى بالإمارة من سائر الأمراء ومن الأمير المعاصر له نفسه , وبالتالي كان كل واحد يمهمه ان يضحي بالاخر لينجو هو من الهلاك , وكل واحد يهمه الاطاحة بالامير الحاكم متأملا ان تكون الامارة له وحده .

ولو أن الأمير جودة أوكل إليهم مهمات للبناء والعطاء، والاستقرار والازدهار , بدل ان يتركهم عاطلين عن العمل مع حمل اوزار اللقب وتراكماته وعقده , لصار التكاتف بينهم ولصاروا سدّا منيعا كالبنيان المرصوص , ولصاروا امارة ذات مؤسسات وليس مجرد امارة ذات القاب يعيش فيها من يسمون انفسهم الامراء عالة وطفيليات على بقية الناس وعلى حساب الفقراء والارامل والايتام والمستضعفين .

. وهنا يسوقنا الحديث إلى الفارق بين وراثة الإمارة، وصناعة الإمارة، فمنهم من يرثها عن أبيه , لكنه يبني ويشيد ويعطي مزيدا من الازدهار لها، ومنهم من يرثها وينام على الوراثة ويترك الأمور كما هي تسير بقوة الاندفاع , ولا يهمه الا التبجيل له والحديث الوهمي عن إمارته, فيصاب بداء الادمان على سماع الثناء دون الاهتمام بالبناء والعطاء . بل ويعطي الأولوية لمدحه بما لم يفعله وليس بفعل ما يستحق الثناء. وهم بهذه الحالة لا يتوقعون نمو طرف أخر يتطلع للشيخة وإزاحة هذا الشيخ وتدمير أسرة الإمارة , لانهم يعتقدون انهم اصحاب الحق بالامارة وان الاخرين موجودين لخدمتهم والتبعية لهم ليس الا . وهذه عقدة تطيح بالكيانات السياسية عبر التاريخ , عندما يعتقد هؤلاء انهم اصحاب الحق الطبيعي بالامارة والسيادة وانه لايحق لاحد ان ينافسهم على ذلك .

إن من يصل الإمارة وينام مسرورا بها دون أن يخطر بباله أن هناك الكثير الذين يفكرون كيف يطيحون به ويجلسون مكانه , أقول من يفكر هكذا، فانه لا يستحق الإمارة، ذلك أن الوصول إلى الموقع أو المنصب قد يكون سهلا، ولكن الحفاظ عليه هو العملية الصعبة المكلفة . وفي هذا السياق قال الشاعر المعتمد بن عباد

من بات بعدك في ملك يسر به فانما بات بالاحلام مغرورا

ومن المؤسف أن الأردنيين يعيشون دائما على الأمجاد الوهمية القديمة بدل ان يبني واحدهم لنفسه مجدا حقيقيا حاضرا ومستقبلا زاهرا . وينام على الأمجاد الوهمية وليس على بناء الحقيقية . ولا يستيقظ على تحرك الذين يظهرون له المودة والابتسامة، ويبطنون له السيف البتار والثأر والدمار. وقد عبرّ?Z الشاعر البدوي عن ذلك بقوله: لو يضحكوا لك ضحكهم سمّ?Z حيّ?Zه.؟

كان الشيخ يطرب لحداء الجياع والمدافعين الذين يتقاضون أجرا لذلك طعاما لأولادهم في سني القحط، أو دريهمات لجيوبهم في سنيّ?Z القلّة، وهم يرددون :

يا شيخ حنا عزوتك: جلابيبك يوم المبيع

وان ما بعت حنا نبيع بأرخص ثمن لأرواحنا؟

وبقيت هذه انشودة يرددها الناس كجزء متوارث نت ثقافتهم , الى ان اختفت في الثمانينات من القرن العشرين , عندما ذهب الجيل الذي تشربها بعقله ودمه او اصبح غير قادر ان يغنيها او يرددها . وكنت اعلق على ذلك في حملاتي الانتخابية من 1989 – 2003 م ان على الاردنيين ان يتوقفوا عن ترديد هذه الاهزوجة المهزلة التي صارت تحمل عناوين سياسية , ويترتب عليها ضياع الوطن ونحن ننظر باعيننا . وكنت اقول : ( لسنا جلب ولا جلايب ) ولسنا فدى اي شخص من الناس الاحياء على هذه الارض , نحن فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى , وكنت اجد اذانا صاغية وانا انبه الى خطورة هذه الاهزوجة . ولكنها ارث قديم كان يطرب له الشيوخ ويتعاملون مع العربان انهم جلايب لهم يوم المبيع . والانكى من هذا ان هذا الشيخ اذا لم يضحي بهم فهم جاهزون للتضحية بارواحهم وبارخص الاثمان متطوعين حتى ولو انه لايريد بيعهم ويريد الحفاظ عليهم ( وان مابعت حنا نبيع = بارخص ثمن بارواحنا ) لقد اختفت هذه وحل مكانها : (بالروح بالدم ) وهي وان كانت مهينة ايضا الا انها اقل شرا , لان البيع يعني العبودية ( جلايبك يوم المبيع ) / اي يوم الحروب ويوم الصفقات السياسية . وكانت هذه الانشودة هي قسم الموالاة والاخلاص للشيخ : ( جلايبك يوم المبيع ).وفي الحقيقة انها غالبا ماتكون ضحكا على الشيخ للاستفادة منه ليس الا .

وإذا ما سمع هذا الأمير الوهمي الكرتوني مثل هذا الكلمات عضّ على غليونه نشوانا ونظر في السماء معتقدا ان ذلك سيستمر الى الابد , دون أن يعرف أن هذا ان الايام دول وتداول , وان هناك من يعمل تحت الأرض أو من وراء الكواليس للإطاحة بهذا الشيخ أو الأمير أو سمه ما شئت. وعندما يراهم وهم يرقصون تلعب شواربه طربا وهم انما ينتظرون قص هذه الشوارب ونتفها شعرة شعرة ولو بعد حين . وكما يقول الشاعر البدوي :

حنا نعد الليالي والليالي تعدنا + والعمر ينقص والليالي تزيد

من سوء طالع جودة بن مهدي أنه كان الأمير الأضعف في سلسلة من ورث الإمارة المهداوية عبر مئات السنين , وورث تراكمات الضعف وترحيل المشاكل والازمات ممن سبقوه . ومن سوء طالعه أنه أراد الزواج من فتاة نصرانية رفض أهلها تزويجه إياها ومخالفا للعرف الاردني بعدم تزوج النصراني من المسلمة او المسلم من النصرانية الا في حالة تغيير الدين . وعندما أصرّ على الزواج قدموا له الداء في الدواء، وتحالفوا مع خصمه وهو ابن عدوان الذي كان مطرودا من الأمير جودة إلى مناطق مادبا بعيدا عن بؤرة الصراع ومناطق الخطر على الامير , لينجو كل منهما من الاخر . بل أن سوء طالع الأمير جودة أنه تزامن طلبه للفتاة النصرانية مع الخصومة مع حمدان بن عدوان بن فايز. كان حمدان رجلا شجاعا صاحب رؤيا بعيدة وطموحات واهداف ليحل محل ابن مهدي في امارة البلقاء ، وعاش في كنف الأمير جودة ومن سبقه فعرف طريقته في إدارة الإمارة وطريقة تعامله مع الناس وعرف قدرات الأمير الشخصية والاقتصادية والسياسية وميوله، وما يحب ويكره، وعرف نقاط ضعفه فدخل فيها، ونقاط قوته فتجنبها. بل واستقطب الناس المظلومين من حول الأمير جودة واشتراهم بالمال الذي وجده حمدان على الناقة الضبطا عندما هجم والأمير ورجاله على موكب الحج في إحدى السنين، فكان نصيبه ( اي ابن عدوان ) الناقة التي تحمل خرج المال الذي هو مال الموكب كله او مال امير الحاج .

لقد أسس حمدان مجد العدوان في البلقاء لذلك فالمقولة حول بناء مجد العدوان تقول: ( العدوان انتهوا بماجد وبدأوا بحمدان ) والمقصود من حيث المجد الساسي والعشائري والسطوة . أما المغفور له الشيخ ماجد فهو ابن سلطان بن علي ذياب العدوان وهو من رجالات الأردن وزعامتها في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ومات ودفن في ظروف غامضة، وكان قاد ثورة ضد الإدارة البريطانية عام 1922م ، وتم قمعها بالقوة .( تفاصيل وظروف وفاته في كتابنا / في ربوع الاردن جولات ومشاهدات / الجزء الاول ).

بدأت قصّة حمدان بالمال عندما حصل على خرج الذهب على الناقة كما قلنا. وصار يعطي الساخطين على الأمير جودة، مالا سرّا?Z لشراء سلاح بصورة سريّة وتحسين وضعهم أيضا حتى شكل جيشا سريّ?Zا، في ظاهرة أنه من رجال الأمير جودة، وفي حقيقتة مخلص حتى النخاع للشيخ حمدان بن عدوان او مخلصين للمال الذي يجدونه عند حمدان ولا يجدونه عند جودة المهداوي , كما أنهم ايضا أرادوا الثأر لكرامتهم , لما كانوا يلقونه من مهانة وإهانة على يد الأمير جودة، مقابل المال والعطف الذي يلقونه من حمدان بن عدوان .

لقد تدرّب حمدان ورجاله على الفروسية والغزو في كنف الأمير جودة أيضا وكانت أم حمدان من الأميرات المهداويات أيضا، وبالتالي كان موضع الثقة المطلقة , فهو في كنف اخواله , ولم يخطر ببال جودة المهداوي ان ( الملك عقيم لايعرف ابا ولا اخا ) وانه من مامنه يوتى الحذر .وقد أتقن حمدان دوره في التخفي والمكتومية على مايريد حتى وصل إلى مرحلة كان إذا خرج جودة ورجاله، خرج معه حمدان ورجاله يأتمرون بأمره هو ،ولا يطيعون أوامر سيدهم الاعلى جميعا وهو الامير جودة. وهنا وبعد فوات الاوان تسّ?Zرب الخوف إلى قلب الأمير المهداوي , وشعر أن هناك قوة واضحة قد تطيح به , فوجه سؤاله الى حمدان قائلا : ياابن اخي ( اي ابن اختي / ياخال ) من أين لك هؤلاء الرجال لا يسمعون إلا لك ولا يطيعون بشراً سواك ؟. فقال حمدان يا خالي الأمير لقد استقرضتهم من مختلف العشائر ( ومن هنا اسموهم : المستقرضة ¸ ثم تم تغيير الاسم واسموهم : القرضة ) . فقال جودة لحمدان : انك تريد شنّ?Z الحرب عليّ إذن. فقال حمدان : .معاذ الله أيها الأمير، وانما أنا عون لك، لاعون عليك.وسلاح معك لا سلاح ضدك، وعضد لك لاعضد عليك , وسترى مدى إخلاصي لك. فاقتنع جودة واستمر على عادته في تقريب حمدان منه الذي صار يتدخل في إدارة الناس ويشارك الأمير بهذه المهمات والقرارات . ولم يكن جودة يعلم ان مال الحجيج الذي نهبه كان على ظهر الناقة الضبطاء التي كانت من نصيب حمدان وحده دون ان يعلم جودة انها تحمل المال الذي تكتم حمدان عليه ولم يخبر به ( بالمال ) احدا . وفي جو الظلم والفقر عمل هذا المال عمله في تقليب القلوب الحاقدة اصلا وزاد سوادها ضد جودة وصارت بيضاء طيعة تجاه حمدان بن عدوان .

وبالمقابل بدأ جودة يعدّ العدّة سرّ?Zا , تحسبا لقوة حمدان , وجند ( جودة ) رجالا مخلصين له خشية اعلان ابن عدوان الحرب ضدّه، وصارت لدية ( اي جودة ) قوة أضعاف ما عند حمدان بن عدوان وصار جودة يتودد للناس لأنهم سنده، ويغير من سلوكه ويخفف من ظلمه للناس كي لا يتجاوزوه إلى احضان حمدان. وقسّ?Zم الناس بين فئتين فئة مخلصة له ولها كل الاحترام والتقدير والامتيازات والمساعدات , وفئة عدوّة، وعليها صبّ جام غضبه إلى درجة أنه أحد أفراد هذه الفئة عجز عن تقديم ثورين للحراثة، وقدّم ثورا واحدا ، فما كان من الأمير جودة إلا وأمر بربط هذا البدوي من الفئة المغضوب عليها تحت الطرف الثاني من النير، والحراثة عليه وعلى الثور معا طيلة اليوم. وكانت هذه اخطر حماقة اقترفها جودة , وبمثابة عود من الكبريت في حقل زرع يابس مغرق بالبنزين الحارق في يوم قائض .

اثارت الحادثة اشمئزاز الناس جميعا، وغضبوا بين مرعوب وهو مطيع، وبين خائف وهو متمرد , فلجأوا إلى حمدان بن عدوان الذي كان في غاية الذكاء والدهاء فقد نزلت عليه هذه الحادثة هبة من السماء مستغلا اياها , معلنا انه يناصر المظلومين ويرفض استعباد الناس , والاساءة الى كرامتهم , وطلبهم ان يتبعوه في الانقضاض على سيده والانتقام منه شريطة مبايعته بالإمارة بدلاً من المهداوي. وصارت المبايعة لحمدان على الإمارة / الشيخة . الا أن حمدان لم يكن يعرف ما كان جودة اعده في الخفاء من تجهيز مقاتلين يزيد عددهم على المستقرضة ( القرضة ) اتباع حمدان أضعافا مضاعفة، فتصّدوا لهجوم حمدان ورجاله وطردوه ( طردوا حمدان ) إلى وادي الموجب وعطروز ( في أراضي بني حميدة) جنوب مادبا ، ودارت الحروب لعشرين عاما بين الطرفين , آلت إلى قتل حمدان وعددا من قياداته الشّ?Zجعان وبقي الأمير جودة على قيد الحياة .

ولكن حمدان عقّب ثلاثة أولاد من زوجته القرضية وهم : عدوان ونمر ومحمد حيث تتعدد وتختلف روايات العدوان حول تسلسل الأجداد، فمنهم من يرى وجود عدوان الأول والثاني، ومنهم من يرى أن حمدان هو ابن فايز وهو والد عدوان، وانه لا يوجد عدوان الأول . ومهما يكن فإنا ارى ان عدوان الاول هو ابن فايز , وان حمدان هو الأساس الذي بنى المجد للعدوان في البلقاء لما كان عليه من الحظ والشجاعة وبعد النظر والتطلع لحكم البلقاء والمال الذي كسبه من على الناقة كما ذكرنا .

وفي رأينا أنه لو دامت لحمدان فإنه كان أقدر الفرسان والشيوخ في زمنه على بناء إمارة أردنية تشمل الجنوب والوسط والشمال، الا أن القتل عاجله وترك لأولاده الثارات مع الأمير المهداوي والذي بدوره أنفق كثيرا مما في خزائنه لاستمالة الناس لصالحه ضد العدوان ، فتغيّ?Zرت أوضاعهم، وأعلنوا الإخلاص الصادق للمهداوي . وصار معهم أكثر لطفا واحتراما. وقد نجح في إبعاد ذرية حمدان العدوان إلى مسافات بعيدة وتفرق الكثير من رجال حمدان عنه، وعفا عنهم الأمير جودة المهداوي الذي بدا أكثر قوة مما كان عليه هو أو أي من أبنائه واستطاع الصمود أمام ثورة حمدان المدعومة بالمال والسلاح والرجال وشجاعة حمدان وبعد رايه وحصافتة واستطاع ان يطرد حمدان من حدود الامارة المهداوية الى المصلوبية جنوب مادبا مرة اخرى .

دعا الأمير جودة إلى تحالف جذام، وانضمت إليه عشائر عباد حيث كانت بني صخر في البوادي متنقلة تجوب البلاد من سواحل سيناء غربا إلى الجوف وتيماء ودومة الجندل شرقا، ومن العلا جنوبا إلى جزيرة الفرات شمالا، كما أن الحرب ما بين رجال حمدان والمهداوي كانت موضعية في مناطق البلقاء، ولم تخرج شرقا أو غربا أو شمالا. وكان أقرب الجذاميين إلى اتون المعركة هم : العبابيد، العجارمة، والحمايدة، والدعجة.

أما الدعجة فقد نأوا بأنفسهم عن الصراع ثم انضموا فيما بعد إلى ابن عدوان، وأما العبابيد وبني حميدة فقد أبت عليهم جذامتهم إلا دعم أميرهم أو أمير جذام في هذه الديار وهو المهداوي , او على الاقل رفض الانضمام الى العدوان , حيث تحول الصراع الى قيسي ( بزعامة العدوان ) , ويمني ( بزعامة المهداوي ) ، وأما بقية العشائر فقد وقفت حيادية , على االطريقة الاردنية المتوارثة , بانتظار ما ستسفر عنه الصراعات ومن ثم يتركون المنهزم المغلوب وينضمون إلى الغالب الذي كان العدواني. وأما العجارمة فقد انقسموا إلى ثلاثة اقسام كما قلنا : قسم تعصّ?Zبوا لجذاميتهم وانضموا للمهداوي في حربه وبقوا معه ونزحوا فيما بعد نتيجة هذه الحروب إلى الجولان وغرب دمشق (واسمهم ألان عشائر السلّوم وجاءهم الاسم بسبب سلامتهم من الموت بعد أن غادروا البلقاء أرض الآباء والأجداد) . وقسم اثر الحياد ويقفون مع المنتصر , واما القسم الثلث فهم الذين منهم نوفل ونافع العجرمي فقد وجدوها فرصتهم للثأر من المهداوي الذي كان اجداده اخذوا الامارة من جدهم نافل العجرمي قبل مئات السنين ¸ وانضموا للعدوان في هذا الصراع، وتركوا جذاميتهم اليمنية، وانحازوا إلى حلف القيسية الذي تزعمه ابن عدوان فيما بعد , للاخذ بالثار بد عدة قرون , وهذا يبين ان الاردنيين لاينسون الثار ولو بعد قرون , وليس ولو بعد حين فقط .

وكان ظهور ابن عدوان في البلقاء نقطة تحوّل في تاريخها , وبخاصة في غياب الدولة التي اعتادت ان تعين الامراء وتحدد الامارات , والتي صارت هذه الامارات او المشيخات الان تنتزع بالقوة والحروب , مما اجج الصراع العشائري بين العشائر الاردنية , كل يريد ان يكون صاحب السيادة الهشة على الضعفاء والفقراء من سائر العشائر من حول , حيث لاتوجد اية عناصر غير اردنية في طول البلاد وعرضها , وكل يريد ان يكون هو الامير او الشيخ ولو على حساب اكوام الجماجم والدماء والنهب والسلب وترك الجثث في الفلاة للوحوش والطير.

كان من نتائج ظهور وسيطرة ابن عدوان على البلقاوية وطرد المهداوي , انه :

(1) أنهى الإمارة الجذامية التي استمرت حوالي اربعة قرون واستبدلها بإمارته او بمشيخته , وصار يحارب اية بوادر لظهور اية امارة جذامية في البلقاء , وبالتالي اراد ان تدين له جذام وعلى راسها بني عباد الذين رفضوا ذلك فاشتعلت الصراعات فيما بينهما ( بين عباد والعدوان ) , واستمرت المعارك حوالي ثلاثة قرون انتهت في نهاية القرن التاسع عشر .

(2) انحازت العشائر لمصالحها وليس لعرقها وأصلها، وصار العجرمي الجذامي منهم من انحاز للمهداوي مؤكدا يمنييته , وأخر أراد الثأر وانحاز لابن عدوان متحولا الى القيسية .

(3) تشكيل حلف القيسية برئاسة ابن عدوان ضد اليمنية برئاسة بني صخر القبيلة الجذامية والارنية الاقوى في هذه المرحلة .

(4) بدء الصراع والحروب وتجددها في البلقاء مدة ثلاثة قرون أخرى، وانتهت في نهاية القرن التاسع عشر. وأسفرت عن وضوح الانتماءات العشائرية واستقرار كل واحدة ضمن ديرة محددة أو واجهه عشائرية محددة حافظت عليها بالسيف والدماء الى اواخر الستينات من القرن العشرين , عندما تدخلت الدولة باعادة ترتيب الامور .

(5) استجلاب الإدارة العثمانية إلى السلط عام 1864م. ثم إلى الكرك عام 1889 ميلادي كما سنرى فيما بعد إن شاء الله.

(6) البرهان على الغياب والفراغ الكامل للسلطة العثمانية طيلة هذا الصراع والقرون الثلاثة، وان البقاء كان للأقوى وان كل عشيرة كانت حريصة على البقاء في الديار الاردنية, وانهم حتى وان ذهبوا خارجها عادوا اليها . فقد نزحت عشائر العدوان الى فلسطين ونزلت كوكب الهوى ونابلس ثم عادت , ونزحت عباد بعد ذلك الى بيسان ثم عادت , وكل عاد بالقوة , وكل منهما نزح بسبب قوة الطرف الاخر ومن يتحالف مع السطية يبقى ومن يعاديهم يغادر لان السلطية كانوا نقطة التوازن في هذا الصراع , وينتصر ويثبت من يميلون معه . كان صراع الضعفاء الفقراء وغياب الدولة وغياب نقاط التوازن السياسية

(7) ظهور عشائر عباد كمناوئين للعدوان بعد سبات عبادي طويل دام مئات السنين بعد أن أمر صلاح الدين بترحيلهم من ديار الكرك إلى ديار البلقاء وبعد سقوط امارتهم الجرمية . وكانوا موضع غضب السلطان وما تلاه من آل أيوب ، ومات شيخهم القدير الذي كان يوحدهم وهو سليمان العبادي، صاحب النظر البعيد، والدهاء في كسب ودّ جميع القوى بما فيها الصليبية، بحيث سلمت القبيلة من القتل والخسارة الا من قبل صلاح الدين الذي انتقم منهم اشد انتقام .

(8) عودة حروب اليمنية القيسية من جديد، وهي التي كانت بدأت في زمن الأمويين في عهد مروان بن الحكم، وبقيت تظهر من حين إلى حين وتحدث عنها الفرزدق في شعره، حتى خبت مع غياب دولة الأمويين.

وهنا لا بد من التفريق بين القيسي والقيسية. أما القيسي فهو اسم عشيرة وتحالف عشائر بهذا الاسم وهم من عشائر الخليل والعراق , وهو لفظ مفرد يطلق على المفرد والجمع معا وان كانت لهجة جذام تجمع الاسم باللفظ التالي: جيسية؟، بتحويل القاف إلى جيم. وهي لهجة العبابيد أيضا. لذلك فإن حلف القيسية المعروف تاريخيا لا علاقة له بعشائر القيسي في الأردن وفلسطين والعراق، كما أن عشائر حلف القيسية لا تحمل اسم القيسي أصلاً، مثلما أن عشائر حلف اليمنية لا تحمل اسم اليماني أو اليمني في الان نفسه . فهذه شيء والخيال شيء اخر .

فالعدوان هم زعماء وشيوخ حلف القيسية العربي القديم الذي عاد زمنهم الى الاردن , وليس الحلف القيسي ولا يوجد اسم القيسي مع اسم أي عدواني أو أية عشيرة من أتباعهم في هذا الحلف او الصف . كما أن بني صخر زعماء حلف اليمنية ولا يوجد صخري أو عبادي او حميدي او عجرمي او اي جذامي أو أي من حلفائهم ضمن الحلف اليمني من ينتهي اسمه باليماني أو اليمني. وإنما هو استمرار لما درج زمن الأمويين. لذلك فلا داعي أن يتوهم أحد أن كلمة القيسية في بحثنا هي إشارة لعشيرة معينة أو مرتبطة فيها, وانما هو اسم الحلف العشائري السياسي ليس الا , وقد راينا توضيح ذلك .

(9) إعادة صياغة التحالف العشائرية في الأردن حيث صار الملاك / شيوخ الصقور في بيسان والبلاونة في الغور الشمالي ( تل السعيدية) والمسعودي في الجفتلك وطوباس ونابلس حلفاء للعبابيد ضد العدوان، ومن الواضح أن الملاك من السردية / مقدادية يمنية , واما البلاونة فهم من بلي وبلي التي هي من من قضاعة أصلا، أي من القبائل الاردنية اليمنية. كما انقسمت السلط إلى قسمين هما: حاره وأكراد. وتالف أهلها من أناس يؤيدون القيسية والانخراط في تحالفها، وأخرين يؤدون اليمنية والانخراط في فلكها، فإذا آلت المشيخة بالسلط إلى مؤيدي القيسية صار هوى السلط قيسيا أي مع العدوان، وإذا استلم الشيخة مؤيدوا اليمنية او من اصل يمني صار هواها يمنيّا، لذلك نعمت السلط بحالات من الوئام والصداقة مع كل من تحالف العدوان من جهة، وتحالف عباد - بني صخر من جهة أخرى.

واستفادت السلط من هذه الحالات فهي وان كانت في حرب مع طرف فإنها في سلم مع الطرف الأخر، وأسواقها عامرة، وثمارها يانعة، في الحالين , وتبقى السلط المحروسة أمّ?Zنا جميعا، رعاها الله أمين. واستفاد أهلها من الحرب والسلم في أن واحد. ومع هذا فإن أهلها أقرب مودة مع بني عباد، أكثر من أية عشيرة خارج السلط. بسبب كثرة سنوات المودة والسلام بينهم والتزاوج بين العائلات السلطية والعبادية , الأمر الذي لا زال سائدا ومستمرا حتى يومنا هذا. ولا تخلواعائلة في عباد أو السلطية من مصاهرة مع الطرف الأخر منذ أجيال سابقة. وأكثر ما انتشر زواج شباب العبابيد من بنات السلطية في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين بسبب انتشار التعليم بين ذكور العبابيد وقصوره بين إناثهم انذاك ، فيضطر الشاب العبادي للزواج من فتاة سلطية بسبب انتشار التعليم لدى السطية في حينه , اما الان فاتعليم متيسر للجميع والحمد لله .

أما في الثمانينات وما بعدها، فقد صار الجميع على قدم المساواة من التعليم من ذكور وإناث، من العبابيد والسلطية، وارتفعت نسبة زواج شباب العبابيد وشباب السلطية من الفتيات العباديات بسبب مستوى التعليم الذي شمل الجميع بدرجة واحدة .

نعود إلى قصة العدوان والمهدواي/ ابن مهدي . فقد حسم جودة المهداوي الامر لصالحه وصار ابن عدوان مع مجموعة محدودة في المصلوبية جنوب مادبا بعيدا عن مراكز المهداوي الذي نعم بالامن والسلام , ولكن ابن عدوان كان صاحب حظ , اذ لاحت له الفرصة الذهبية باصرار الامير جودة على الزواج من ابنة خوري الفحيص . وهنا اتصل اهل الفحيص بالعدوان للانقضاض على المهداوي بصورة حاسمة واتفقا على ذلك . وبناءا عليه قام أهل الفحيص بدعوة الأمير المهداوي جوده ومعه أربعون أميرا إلى حفل غداء تحت شجرة قديمة في الفحيص وذلك بدعوى الترحيب بالمهداوي ليتزوج الفتاة النصرانية ابنة الخوري , متزامنا ذلك مع اتفاقهم مع العدوان ان ياتوا الى الفحيص ويختبئوا بعيدا عن انظار الامير ورجاله , ثم يهجمون عليهم ( اي على الأمير جودة ورجاله) وهم على المائدة ، وكذلك كان , وهنا تتعدد الروايات التي تتحدث عن الموضوع , ولكن فحواها العام انه تم إرخاء أحزمة سروج خيول الامراء من المعازيب او من غيرهم وتم جمع سيوف الضيوف.

فلما قام المهداويون على الطعام وذاقوه واذا به لاملح فيه وهي عادة اردنية قديمة تعني البوق والغدر اللذين لايجوزا بمن ياكل من طعامك المملح . وهنا برز العدوان من مخابئهم وهجموا على المهداوية الذين كانوا في حالة استرخا , ووجدوا احزمة خيولهم مرخية وكلما اعتلى منهم امير او فارس السرج وقع ووقع السرج ليلقى ضربة سيف تودي بحياته . كان العدوان على سرعة وعجلة من امرهم بحيث لم يتمكن معها الأمراء من سيوفهم ولا من خيولهم ولا ان يشدوا احزمة السروج . ونجا هاربا عدد قليل من الامراء بينما لقي اربعون فارسا اميرا منهم من خيرة واشجع فرسانهم مصارعهم بسيوف العدوان . ولقي العريس المرتقب أو المنتظر جودة المهداوي حتفه، وتم نقل جثث الأمراء ودفنهم في بيادر وادي السير كما ذكرنا أعلاه. وبذلك عادت قوة العدوان على حساب ضعف المهداوية ,.

وتعادلت القوة او تعادل الضعف .وصار بين الفريقين كسر عظم وصراع وجود وليس صراع حدود . فاما ان يكون المهدي ويخضع للعدوان ذليلا , او يقوم المهداوي يقتل العدوان ويبيد اتباعهم ,. بل انه لا يرضى حتى ان يعودوا اتباعا له كي لاتتكرر الماساة مرة اخرى وتظهر منهم قيادة تطيح باولاده واحفاده .

وبالفعل لم تتكرر المأساة لانها انتهت بطرد المهداوي ومن تبعه وبقي معه نهائيا من البلقاء , الا من قبل على نفسه ان يصبح تبعا لابن عدوان ومن رجاله مثلما كان ابن عدوان تبعا للمهداوي ومن رجاله . فقد انقلبت المعادلة وهذه سنة الحياة والوجود . وبقي منهم من انضم الى بني عباد ليحارب معها ضد العدوان ليثأر لنفسه , حيث استمر الصراع بين العبابيد والعدوان ثلاثة قرون تقريبا اخرى بعد ذلك ( للاسف الشديد ) . ورغم ان المهداوي انكفأ تاركا البلقاء الى غير رجعة الا ان عباد صمدت امام قوة بن عدوان الجديدة واتباعه الذين صاروا جميع عشائر البلقاوية , اي انه ورث ماكان للمهداوي من السبادة والقيادة والارض والمواطنين ( اتباع ورعية ) من العشائر الاخرى وكلها يمنية وحولت موالاتها الى القيسية من اجل البقاء ولغياب قيادة اخرى يمكن ان تنهي قيادة العدوان من الساحة و تنافسها انذاك .

وقد خلف الأمير ضمان الجوده والده القتيل في أوضاع مأساوية بفقدان فرسان المهداوية الاشاوس , وبالتالي انقلاب الموازين وثورة الناس ضد الأسرة المهداوية , فالناس كما هي عادة الاردنيين عبر التاريخ لاتركب في قارب ايل للغرق ولا تتبع شيخا او اميرا او دولة منهزمة او مغادرة , وان امارة المهداوي قد غشيها الغرق الابدي في البلقاء , فانقلب الناس عليهم وتفرقوا عنهم بين من التحق بعباد ومن التحق بالعدوان ومن التحق ببني حميدة , وراحوا شتاتا حتى قيل : راحوا مثل قطع ( بتشديد الطاء ) بني مهدي ) اي تشتتوا في البلاد مثلما تشتت بنو مهدي , كل يبحث عن النجاة بنفسه . واما ضمان الجودة فأضطر للرحيل إلى الغور تاركا الجبال المنيعة، والمخازن المليئة لابن عدوان وعباد والصراع بينهما , ليصبح بعضها وما تحويه ملكا لابن عدوان ورجاله , والبعض الاخر ملكا للعبابيد وهم بزعامة ابن ختلان , مما كان سببا ( ولا اقول السبب الوحيد ) من اساب الصراع بين الفريقين ( بني عباد والعدوان ) .

ومع هذا لم يترك العدوان ضمان الجوده في الشونة والرامة والكفرين ونمرين , لانه قد يعيد ترتيب نفسه ويشن غارات على العدوان عاجلا ام اجلا , اي انه مصدر تهديد محتمل في اية لحظة . وهنا قرر ابن عدوان ان يستثمر الفوز وان يجهض على المهداوي ويجتثه من ديار البلقاء غورا ووعرا وسهلا وجبلا . وهنا شن العدوان واتباعهم غارات على ضمان الجودة في االغور ودارت هناك رحى معارك حامية الوطيس ليس صراعا من اجل البقاء وانما صراعا من اجل الفناء , كل طرف يريد افناء الطرف الاخر .

وفي هذه المعارك لقي أحد فرسان المهداوية الشجاع مشهور المهداوي مصرعه . وتم دفنه في راس تل في غور الرامة سمي باسمه الى الان : ضرس مشهور / والضرس هنا هو مارتفع من الارض على شكل الهرم او الضرس من اللثة التي لااسنان فيها غير ذلك الضرس ، ولا زال يحمل هذا الاسم إلى ألان. ومشهور هذا هو ابن ضمان، وحفيد جودة القتيل . كان مقتل مشهور اكبر انتكاسة على والده الامير ضمان الجودة وشعر ان الحياة هنا لم تعد ممكنة , وان البقاء يكمن في الرحيل الى ديار ليس للعدوان بها وجود ولا تاثير . ليس هذا فحسب بل ان الناس ملت الحرب التي استمرت الى الان اكثر من ثلث قرن , وانفرط عقد الناس من حوله حيث لم يعد لديه مال يوزعه على رجاله , وهذا الحال المتكرر عبر التاريخ مع الاردنيين , فعندما تنضب جيوب وخزائن السلطان او الشيخ او الامير من المال يتفرق الناس عنه , وكذلك كان مع ضمان بن جودة , الذي وجد انه لا طاقة له بمقاومة العدوان او الاستمرار في مقارعتهم ,وقد انقلب الناس عليه وورث اسوأ تركة من الاحقاد المتراكمة من رعاياه وتخلت عنه عباد وبنو صخر وجميع حلف اليمنية، فرحل إلى غور أبي عبيدة لعلّهُ يلتقط أنفاسه أو يود?Zّع البلقاء إلى غير رجعة، محتميا بابن عسرة شيخ البلاونة.

اما عباد فقد استطاع ابن ختلان ان يعيد تنظيمهم وان يضم اليهم جميع العبابيد العائدين من الشتات والذين صارت لهم نفس الحقوق في الارض والرعي والمكاسب وعليهم نفس الواجبات , وقد صاروا قادرين على الصمود امام العدوان ولكن ليس طردهم من البلقاء , ولم يستطع اي طرف اجتثاث الاخر رغم الصراع بينهما . وبقي الصراع سجالا لم يستطع بن عدوان ومعه سبع قبائل من البلقاء ويفوقون العبابيد بسبة اضعاف عددا , اقول لم يستطع القضاء على عباد او طردهم من ديارهم التي استقروا فيها منذ زمن صلاح الدين الايوبي اي قبل العدوان بخمسة قرون .

كانت هذه النتائج زمن الجيل الثالث من الصراع بين العدوان والمهداوية، ذلك الصراع الذي استمر ما يزيد على نصف قرن منها ثلث قرن او يزيد من المعارك الحقيقية كما قلنا ، وكان جيل كايد وصالح العدوان قد صاروا رجالاً محاربون متزوجون. وتم تقسيم تركة المهداوي ، فصارت شونة نمرين من نصيب صالح العدوان وإخوته من أمه أما أخوه الأكبر كايد فكان نصيبه غور الرامة. بينما أخذ قبلان وأخوته أبناء نمر غور الكفرين, وذلك ضمن توزيع تركة المهزوم لصالح المنتصر , مثلما هو الامر في اية دولة في العالم .

كان الغور آنذاك ديارا خصبة كثيرة الينابيع المتفجرة من السيول وأقدام الجبال، وكان فيها أشجار السدر وكانت مراعي خصبة وممتازة للماشية ولم يقنع كايد بحصته واعتبرها أقل الحصص رغم أنه الأخ الأكبر من أبناء عدوان، فقال له والده إذا أردت مزيدا من الأراضي فعليك أن توقف فرسك في تل السعيدية وهي أرض البلاونة. فأقسم كايد أن يفعلها فقام وإتباعه باللحاق بالمهداوية الذين لم يجدوا من يدعمهم الا ابن عسرة/البلاونة والتقى الطرفان عند نهر الزرقاء فيما يسمى ألان الصوالحة ومعدي وديرعلا، وفي هذه المعركة لقي من العدوان حتفهم كل من كنعان السكر وكنعان الفاعور، أما كايد فكان نصيبه جرحا برمح مسموم على يد بن عسرة فقال له كايد: خسئت أن تقتلني يابن عسرة ، فقال ابن عسرة أرميك على الحول؟ وذلك يعني انه سمّ بطئ لكنه قاتل. وهذا ما تحقق فعلاً.وبن عسرة هو من بني الاعسر الذين كانت لهم امارة في جبل عجلن وتحدثنا عنها سابقا , وتحول بعد ضياع امارته من امير الى شيخ .

أما مكان مقتل كنعان العدوان فسميت مخاضة كنعان على نهر الزرقاء وعلى أثر وفاة كايد بعد عام شنّ العدوان هجوما على ابن عسرة وقتلوه واجبروا رجاله على الهروب من غور أبي عبيدة، فما وجد ضمان الجودة المهداوي من نصير، وغادر البلقاء إلى غير رجعة قائلا: سلام عليك أيها البلقاء سلام لا لقاء بعده. ونزح إلى بيسان وبحيرة طبريا وبحيرة الحولة، وكانت آنذاك تعتبر من الأراضي الاردنية وتوطدت أقدام العدوان في البلقاء. وحاولوا تأسيس إمارة حقيقة ضمن مشروع وطني في البلقاء وتوسيعه إلى سائر أنحاء الأردن شمالا وجنوبا الا ان صراعهم مع العبابيد وبني صخر قد اجهض مشروعهم هذا اجهاضا كاملا , وبقت طموحاتهم منحصرة بالزعامة العشائرية البلقاوية ليس الا ..

تميز العدوان بظهور فرسان منهم في كل جيل، وقد استطاع رجل برأسه وهو حمدان أن يؤسس مشيخة لذريته أخذت مكانها بين القبائل وفي الأردن وتاريخ الاردن , ولا تزال تحتفظ بشيء من هيبتها وشكميتها حتى يومنا هذا. ولا شك أن حمدان كان رجلا في منتهى الذكاء والطموح وبعد النظر ، وكان يرى أن الهدف الأول لتحقيق كلمة السيادة على هذه الديار يأتي بالقضاء على الأمير المهداوي.وكان محقا بذلك لان امارة المهداوي تحولت الى عجوز شمطاء لاتنفع معها عمليات التجميل مهما كانت . وكان ابن عدوان يطمع بالبلقاء كقاعدة انطلاق , لان ذلك سيجعل بقية القبائل في البلقاء والشمال والجنوب تخضع له وتصبح وأراضيها وديارها تابعة له ضمن امارة تستفيد من اخطاء ابن مهدي وابن عجرم والجرمي وابن عقبة ويبني امارة ذات كيان وياخذ من الدولة العثمانية فرمانا سلطانيا بذلك . ولكن ذلك لم يتحقق الا بشكل محدود في مناطق وسط الاردن , ذلك لان مقتل حمدان أصاب هذا المشروع الوطني بنكسة كبيرة، ولم يستطع من بعده تحقيقه لانشغالهم بالحروب مع العشائر اليمنية( الصخور وعباد) بدل التحالف معهم.

لقد حال دون تحقيق حمدان في مشروعه الوطني كما نرى عدة عقبات منها:

(1) موت حمدان نفسه كما قلنا وهو الذي كان يحمل المشروع الوطني في ذهنه ويبدو انه كان مشروعا واضحا لديه .

(2) الخلافات بين ابنائه واحفاده فيما بعد، إذ أن كل واحد منهم يريد الشيخة لنفسه فدخلوا في صراعات داخليه استنزفت قواهم وأشغلتهم عن مشروع جدهم الوطني في تشكيل إمارة بلقاوية ثم إمارة شرق الأردن.

(3) تعاملهم مع القبائل القوية بلغة القوة والتحدي والحروب وليس بلغة السياسة والملاطفة ، فخاضوا حروبا استنزفت قواهم واستمرت مئات السنين مع عباد وبني صخر للاسف الشديد , وكان عليهم لكي ينجحوا في مشروعهم الوطني أن يتحالفوا مع العبابيد أولا لانهما متشاركان في ديرة واحدة ولان عباد كانت الركن الجذامي الذي يحاددهم بالارض والديار ، وأيضا كان يجب التحالف مع السلطية والصخور ولو حدث هذا لتغيرّ?Z تاريخ الأردن، وتاريخ عشائره إلى مسار مغاير للمسار الذي وصل الينا او الذي وصلنا اليه .ولكن وللاسف اذا مات صاحب المشروع مات المشروع معه . هذه حال الاردن عبر التاريخ في غياب التدوين وغياب كتابة التاريخ .

(4) الانشغال بالحروب والصراعات مع المهداوية ثم لمئات السنين مع الجذاميين/ الصخور وعباد وبني حميدة. ومع هذا لم يشكلوا تحالفا مع عشائر البلقاء كلها وانما كانوا المشيخة القوية لدى عشائر البلقاوية وليس في البلقاء كديرة , ولو تحالفوا واتحدوا لصارت امارة اردنية قوية , وحتى تحالف البلقاء بزعامة اتلعدوان قد تفسخ ( بتشديد السين ) عندما قام الشيخ ماجد بن عدوان بثورته عام 1922 .

(5) لقد ذكرت بالتفصيل كيف دخل العدوان إلى الأردن في جزء: التاريخ السياسي للعشائر الاردنية بالانجليزية .وقد ذكر بيركهارت في كتابه ملحوظات عن البدو والوهابيين. الذي قمتُ بترجمته إلى العربية. أقول ذكر عشيرة اسمها العدوان في عام 1814 من سكان شمال الحجازية ولا شك أنهم ليسوا عدوان الأردن. ولكن ذلك برهان من جهة أخرى أن هناك علاقة بين العشيرتين قد تكون نسبية ( أي النسب) , ومهما يكن فالعدوان قبيلة أردنية ذات تاريخ عميق وعريق وسطوة ومكانة بالأردن وظهر منهم رجالات وطنيون نحترمهم ونجلهم .

وهنا لا بد من وضع نبذة من المقارنة بين اوضاع عشائر عباد, واوضاع عشيرة العدوان.

والسؤال لماذا لم يتمكن العبابيد من الهيمنة على البلقاء وعشائرها مثلما هيمن العدوان على البلقاوية والجزء الاكبر من البلقاء ؟ ولماذا كانت عباد تستعين ببني صخر في صراعهم من أجل البقاء؟ رغم أن بني عباد أقدم في الأردن بحوالي خمسة قرون بالبلقاء من العدوان؟؟ ولماذا دخل العدوان في التاريخ بعد ظهور جدهم حمدان اكثر من ظهور ودخول العبابيد ؟

( صحيح أن العبابيد ظهروا في الوثائق الآشورية زمن الإمبراطور شلمناصر وأنه قاتلهم وكانت منازلهم ما بين مدائن صالح ومعان عام 715ق. وأنهم لم ينهزموا من قبل على يد اية قوة اخرى قبل قوات الامبراطور الاشوري ، كدليل على قوتهم وكثرتهم. وصحيح أنهم انتصروا على اليهود في هيرموكس ( موقع معركة اليرموك فيما بعد) عام 103ق.م وصحيح أنهم شاركوا في الفتوحات الإسلامية في سوريا وشمال أفريقيا والأندلس وشكلوا هناك مملكة اشبيلية العبادية وعلى عرشها المعتمد بن عباد وصحيح أنهم أصابهم وأصاب ملكهم وزعيمهم وشيخهم المعتمد رحمه الله ما أصاب أهل الأندلس من الشتات والشمات والتفرق في البلاد، وموجودون منذ ذلك الحين إلى ألان في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر واسبانيا نفسها وامريكا الجنوبية .

صحيح أنهم عقدوا اتفاقية وهدنة عدم تبادل الاعتداء مع الصليبين وان صلاح الدين غضب عليهم وأجبرهم على الرحيل من ديار الكرك إلى البلقاء وهذا يدل على قوتهم وكثرتهم وصحيح انهم كانت لهم الامارة الجرمية التي اعتمدها الملك الظاهربيبرس كما سبق وذكرنا , وصحيح انهم شاركوا في معارك حطين وعين جالوت ومقاومة التتار والمعركة الفاصلة مع التتار في زمن المماليك , وشاركوا في تحرير القدس الشريف وفلسطين من الاحتلال الصليبي , الا ان انتهءا امارتهم الجرمية قد ادى الى فقدهم للقيادة والسيطرة , ونحن نعرف ان القوم مهما كثروا لاقيمة لهم بدون قيادة قوية , وانهم مهما قلوا عددا فان القيادة القوية تجعل من الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة , اذا ان العدوان رغم قلتهم في البداية الا ان قيادة حمدان كانت من الشجاعة وبعد النظر والدهاء بحيث شكل مشيخة لاسرته ومجدا لهم لاينكره الا كل جاحد .

الا ان ماحدث لعباد انهم وبعد فقدانهم الامارة االجرمية تفرقوا في البلاد داخل الأردن وخارجه. فقد ذهب الكثير منهم إلى مصر والى فلسطين وسوريا والعراق مرة اخرى بالاضافة الى من سبق وذهب بعد المعركتين والتحقوا باقاربهم السابقين في تلك الديار , وغيرّ?Z الكثير منهم اسمه، وانسلخ عن اسم العبادي، ولم يبقى من هذه القبيلة الواسعة القوية الكبيرة الكثيرة الا عائلات قليلة وصفها بيركهارت في رحلاته في كتابه : رحلات في سوريا والأراضي المقدسة؟ إنهم مجموعة أبيات صغيرة من الشعر . فقد بلغت بنو عباد بعد رحيلهم من الكرك وانتهاء إمارتهم الجرمية ( إمارة الجرمي) , وانفصاله عنهم إلى ضعف هذه العشيرة فصارت كبقايا الشجرة التي أصابها السوس والتعفن , وصارت عناصرالفناء عند عباد متفوقا على عناصر البقاء .

كانت عشيرة العدوان في مطلع ظهورها اسرة صغيرة عميدها الشيخ حمدان , تملك عناصر البقاء متفوقة على عناصر الفناء ,بوجود المال الذي كان معدوما عند ابن ختلان شيخ عباد , وكان لحمدان اتباع وجنود بشكلون له درعا بشريا ويفتدونه بارواحهم بسبب المال ولانه يريد ان ينتقم لهم ممن ظلمهم وهو المهداوي , وهم بين خيارين اما النصر والغلبة او سيف المهداوي الذي لم يكن ذكيا في هذه ولم يصدر عفوا عنهم اذا عادوا بل استخدم السيف واضطروا هم للدفاع عن انفسهم باقصى درجة من الشجاعة والاستبسال . وكانت شخصية حمدان جذابة اذ يبدو انه يمتلك صفات القائد البدوي ضمن ثقافة الناس في ذلك الحين .

من هنا زاد حزبه من القرضة وصار يهرب اليه كل مطلوب للمهداوي وتنضم اليه كل عشيرة تسعى للتخلص من الامير المهداوي وحزبه , وصاروا جميعا ينظرون اليه انه القائد والزعيم والشيخ والبديل للامير المهداوي , مما جعل العدوان عشيرة كبيرة بعددها من شتى العشائر والاشخاص , بينما لايزيد عدد ابناء فايز ( نسبا ) عن مجموعة صغيرة . وهنا لابد من التفريق بين لفظ : ابن عدوان وتعني من هو من ذرية عدوان نسبا , وبين كلمة العدوان وتعني ذرية عدوان ومن لف لفهم من القرضة والاجراء والعبيد والمزارعين والرعاة , فهؤلاء جميعا هم : عرب العدوان , ثم البلقاوية وهم العشائر الاخرى الحليفة للعدوان والتي يكون ابن عدوان شيخها وزعيمها . لذا عندما كانوا يخاطبون ايا من ذرية فايز ( الجد الاعلى ) يقولون : ياابن عدوان , واستطاع العدوان خوض المعارك التي مارسوا فيها دور القيادة والسيطرة ,لذا فان ال فايز اقل العائلات الشيوخية التي اصابها القتل , حيث يهتمون بالامن الشخصي وكان كل واحد منهم محاط بمجموعة من المقاتلين يشكلون له درعا بشريا . وقد نجح ابن عدوان في قيادة العربان والحفاظ على ذرية العدوان وتحقيق النصر كلها معا, اقول نجح في هذه ايما نجاح . فازداد نفوذ العدوان وقوتهم وشوكتهم , ومن ثم دب الصراع بينهم على من يكون الشيخ الاول في العائلة ,لان ذلك يعني انه شيخ مشايخ البلقاوية , وسنجد كيف صار الصراع بين الاخوة وبين العائلات من ابناء عدوان وذريته من اجل المشيخة

وبالمقابل كانت عشائر عباد وصلت مرحلة الهشاشة والهرم بعد اكثر من ثلاثة الاف سنة متواصلة بالاردن تقلبت بها من المشيخة الى الامارة الى اقامة مملكة في الاندلس . نعم لقد كانت هشّه هرمة تلقط أنفاسها وكانت في طريقها إلى الاندثار والتفرق بين القبائل , لولا ان قيض الله لها الشيخ شديد الضيغمي الملقب ابن ختلان والذي استطاع أن يعيد بناء هذه العشيرة واستقطاب فرسانها وفروعها المشتتة في الارض داخل الاردن وخارجه , الذين التحقوا بها من كل حدب وصوب , فصارت وتوسعت وقويت بسرعة نتيجة القيادة الحكيمة لابن ختلان ولعقيلته العسكرية والسياسية القديرة بالنسبة لعصره آنذاك , واستطاع الصمود امام ابن عدوان وحلفائه من البلقاوية واتباعه من المستقرضة ( القرضة ) , رغم ان ابن ختلان لايملك المال ولكنه كانت لديه عقلية استراتيجية وقدرة على التكيف في الصراع من اجل البقاء , وساعده في ذلك عودة فروع العبابيد والتحامهم بالعشيرة الكبيرة تحت اسمهم السابق وهو : بني عباد , بينما اقتصر اسم العدوان على ابن عدوان ( النسب والذرية ) واللامة ( اي الاتباع من القرضة ) , اما البلقاوية فقد بقي اسمهم البلقاوية.

كان اتحاد مكونات اسم العبادي مهم في تماسكهم امام حلف البلقاوية الذي لم يكن دائما الى جانب ابن عدوان , بينما بقي العبابيد الى جانب شيخهم ابن ختلان ومطيعين له حتى مابعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي . اي بعد عودتهم من السيبة/ بيسان 1863 , وقد حسب بعض الرواة ان كثيرا من فروع العبابيد الذين صاروا عشائر فيما بعد , عندما التحقوا بالعبابيد انهم ليسوا من هذه القبيلة اصلا, والحقيقة انهم عبابيد اصلا , وعادوا الى اهلهم عندما توفرت لهم ظروف العودة والامان , او عندما احتاج الامر للدفاع عن انفسهم امام خطر البلقاوية بزعامة ابن عدوان , خطر الوجود وعدم الوجود , خطر الفناء وزوال البقاء , ومن جملة من التحق بالعبابيد اناس من عبابيد الاندلس الذين عادوا بعد سبعة قرون الى ديار الاباء والاجداد .

كان ابن عدوان يملك المال كما قلنا فاشترى الرجال (استقرضهم) وكان ابن ختلان لا يملك مالا، وصاحب المال دائما أقدر على البناء والاستقطاب من الفقير المعدم. واستعان ابن عدوان بتحالف البلقاء الذي صنعه هو من: بني حسن والسلطية والدعجه والعجارمه والمشالخه والغنيمات والبلقاوية والشوابكه فضلا عن التحالف مع أهل جبل عجلون وجزء من أهل نابلس، وبذلك وطد علاقته داخل وخارج الأردن والبلقاء . أما العبابيد فرغم عداوة الصقر والبلاونه مع العدوان، الا أن العبابيد لم يستغلوا هذه العداوة لصالحهم الا بعد جيلين أو ثلاثة في زمن كايد الختالين الذي عاصر علي ذياب العدوان .

من هنا كان الصراع بين عشيرة لديها مقومات عناصر البقاء قوية( العدوان) اكثر من عناصر الفناء , وعشيرة لديها عناصر الفناء قوية(عباد) اكثر من عناصر البقاء ,وبين عشيرة اصابها الهرم والشيخوخة بعد استمرار دام اكثر من ثلاثة الاف سنة في الاردن وهي عباد , وبين عشيرة ظهرت مع عناصر نماء القوة والشباب .ومع هذا فان تحالف عباد مع بني صخر وكلاهما من جذام , وقد شكلت اعادة تحالفهم وتالفهم عمقا عسكريا واستراتيجيا وعشائريا كل للاخر , ساعد كلا منهما على البقاء والاستمرار والصمود في وجه العدوان وتحالف البلقاء والتغلب عليهم في أغلب الأحيان.

ونقطة أخرى أن السلطة في العدوان تتركز في يد الشيخ، وصارت المعارضة ضده بين الابناء وابناء العم ,وحدث بينهم قتل وثارات ودماء من اجل الشيخة , أما لدى عباد فلم تكن تتركز في يد ابن ختلان، بل كان لديه معارضة قوية، ولديه مجلس عشائري وليس بينه وبين بقية العبابيد اية ثارات وكانت المشاكل لاتزيد في تطرفها عن الاحتجاج والزعل . وكانت السلطات تتوزع بين العديد من الشيوخ فقد كانت مهمته سياسية وعسكرية أما القضاء ( التقاضي) والرأي وما إلى ذلك فقد كان لكل مجموعة شيخ عليهم مرتبط بابن ختلان، ولم يكن ليأخذ الرأي وحده بل بالمشاورة مع مجلس الشيوخ الذي يشكلون رؤساء عشائرهم ، أما لدى العدوان فكان الرأي في رأس شخص واحد مما يجعل الأمور أكثر سرعة وحزما، حتى ولو كانت أقل أمانا وضمانا من الرأي الجماعي، كما ان الانفراد بالراي عند ابن عدوان ادى الى الصراع بين الاخوة وابناء العم .

ونتيجة لسياسة ابن ختلان في استقطاب الناس كانت عباد تزداد عددا وقوة حتى صارت بعد قرن من الصراع والموت والقتل عشرات أضعاف ما كانت عليه عددا وعدة في بداية الصراع ,/ وحتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها واستقرت الأمور صارت هذه العشيرة الصغيرة ثاني أكبر عشائر الأردن عددا بعد بني حسن . وبذلك بدأ العدد أقل من أعداد العدوان وإتباعهم بكثير، وانتهى إلى أن صاروا أكثر عددا من العدوان واتباعهمم مرات مضاعفة.

وكانت قوة العدوان تكمن في أمور عديدة من أهمها أنهم في النهاية أبناء جد واحد , وأن من لف لفهم يطلقون اسم العدوان على أنفسهم لكنهم نسبا ليسو من العدوان , ومع هذا فان العدوان نسبا يبقون هم أصحاب القيادة والسيادة على غيرهم ممن يعتبرون من أتباع العدوان , أما العبابيد فالكل يسمي نفسه العبادي، ويعتبر نفسه مساويا وموازيا لأي شخص أخر في عباد في الاصل والحقوق والواجبات . وبالتالي تضيع القيادة والسيادة عندهم لان كل واحد منهم يعتبر نفسه رأسا وقائدا , وهذا ماعانى منه ابن ختلان . وبعد موت المرحوم كايد الختالين فان عباد لم يتفقوا على شيخ لهم حتى ولا من الختالين انفسهم, واما العدوان فبعد موت المرحوم ماجد بن سلطان العدوان فلم يتفقوا على شيخ عام لهم ايضا . لقد ادى وجود الدولة الى مايسمى بالمساواة وصارت الدولة هي التي تحمي الاشخاص وليس الشيخ او الانتساب الى العشيرة , وهذا امر نظري على الاقل ولا اقول انه عملي بالكامل .

وقد بقي العدوان في الساحة عبر الأجيال أما العبابيد فقد أصابهم السبات بعد موت كايد بن ختلان في عام 1774، ولم يعودوا إلى مجدهم إلا بعد أن ظهر جيلنا ، فعاد للقبيلة بريقها مرة أخرى بعد سبات دام أكثر من مائة عام ودخلت بقوة على المعادلة العشائرية والوطنية .

كانت صراعات العدوان مع المهداوي لا تتعدى حدود البلقاء الا ما ذكرناه من هجوم كايد بن عدوان على تل السعيدية في غور اربد، وهناك أصيب بالرمح الذي رماه به ابن عسرة وقتله بعد عام من إصابته به . وكانت بنو صخر هي سيدة موقف العشائر في الأردن القديم أي من العلا جنوبا حتى الجولان شمالاً. الملحوظ ان اسم جذام وتحالفهم اختفى من الخارطة وظهرت اسماء العشائر فقط : عباد , بني صخر , بني حميدة .. الخ ولم يظهر اسم جذام بقوة مرة اخرى الا من خلال كتاباتنا ومنها هذا الكتاب , وهنا استذكر الجيل الجديد ماكانت اجيال الاباء والاجداد تعيشه من الوئام الجذامي والهيمنة على الاردن عشائريا .

ورغم أن بني صخر من اليمنية من جذام فإنهم لم يساندوا المهداوي ولم يقفوا إلى جانبه ضد العدوان ، ويبدو أنهم كانوا يرغبون بتدمير القوتين الرئيستين في البلقاء من غير بني صخر : قوة المهداوي الهرمة، وقوة العدوان الواعدة ، فلا يريدون من الأولى تجديد نفسها ولا من الواعدة أن تقوى لتنافس بني صخر في سيادتها للديار الاردنية. لذلك نظروا كموقف المتفرج لما يحدث بين الطرفين وكانه يحدث في كوكب اخر .

كما أن المهداوي لم يطلب الاحتماء ببقية قبائل جذام، ويبدوا أنه إما كان مغرورا أو جاهلا، أو على يقين انه سينتصر على العدوان , وبالتالي لا يريد أحدا أن يشاركه فرحة النصر واستثمار الفوز. كما أن الصخور كانوا يتجولون في نجعات طويلة تستغرق أشهرا وأسابيع وأيام للرحلة الواحدة. وكانت اهتماتهم لا تتضمن دعم المهداوي وانما في البحث عن الماء والكلأ لمواشيهم، وفرض هيبتهم على بوادي الأردن وفلسطين وسوريا والعراق وشمال نجد والحجاز والمناطق الشرقية من مصر ودجلة والفرات ( بلاد الرافدين ) اما اتباع المهداوي , وكما قلنا سابقا فقد لجأو إلى خيارات جديدة تشكل لهم الحماية المطلوبة من أجل البقاء.

ونعرج ثانية الى جانب من موضوع ابن مهدي ، وادّعاء الجميع أنهم من ابنائه وكأن بقية رعيته ليس فيهم من يتزوج النسا او ينجب الابناء , فتحول هؤلاء الاتباع بقدرة قادر من الادعاء الذي لادليل عليه ولا سند له , اقول تحوّ?Zلوا إلى أولاد له نسبا، أو أنهم جفت أرحام نسائهم فلم يلدوا ولدا، وان خصب أرحام النساء قد صار كله في نساء ابن مهدي فأدّعى الجميع أنهم أبناؤه. وهنا لا بد أن نتوقف قليلا، لان ذلك جزءا من تاريخ الأردن وعشائره.

إن جودة المهداوي قد لقي حتفه في مأدبة الفحيص في اللحظات التي كان يتصور نفسه انه سيكون عريسا ذلك اليوم أو بعده، ثم إن ولده ضمان قد حلّ?Z مكانه وعجز عن القضاء على العدوان أو مقاومتهم، وفقد ولده مشهور كما قلنا. كما أن أربعين أميرا من أبناء وإخوان جودة المهداوي قد قتلوا في مأدبة الفحيص أيضا وهذا ثابت في الروايات جميعها ولا خلاف عليها. وبالتالي لم يبقى من نسل الأمير إلا القليل ولو أننا سلّمنا أن جميع العشائر الموجودة في شمال الأردن وفلسطين وغرب سوريا ممن يدعون انهم من مهداوية نسبا وصهرا وانها من نسل الأمير جودة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أين نسل رجاله وأتباعه؟. الجواب هو عدم صحة الانتساب إليه بهذه الأعداد والكيفية والكمية.وان قضية وطريقة الانتساب الى ال البيت التي سبق وذكرناها ان يدعي الاتباع لكل شخص من ال البيت انهم ابناؤه , تتكرر هنا عند الحديث عن ابن مهدي او اي من الامارات الاردنية العشائرية الهشة القديمة , وكان ذريته تتكاثر كالجراد وذرية غيره اصابهم السم والعقم . لابد وان يكون هناك بقايا من ابناء الامير ضمان الجودة , ولكن لايمكن ان يكون ذلك بهذا العدد والحجم . وانني وكما دعوت سابقا بان من يدعي الانتساب الى ال البيت يجب ان يخضع لفحص خارطة الدم الوراثية ( الدي ان اي)

D N A فان كل من يدعي الانتساب الى ابن مهدي نسبا ودما ان يخضع لفحص الدي ان اي الذي ذكرناه , وبدون ذلك فان الامر لايتعدى الادعاء الذي يحتاج الى دليل يقنعني كمؤرخ ويقنع الاجيال القادمة . اما الانتساب اليه عصبا فهو ممكن , اي انهم من اتباعه وتزاوجوا عبر الاجيال .

ولا بد من التنويه هنا إلى قضية هامة، وهي أن نسبة القوم للشيخ أو لعائلة الشيوخ لا تعني انحدار هؤلاء القوم نسبا من الشيخ أو أسرته. فكلمة المهداوي تعني أسرته وأتباعه ممن لا يلتقون معه نسبا أو يلتقون معه في جدّ بعيد جداً. كما أن الناس اعتادت الانتساب للشخص المعروف ضمن مفهوم العصبية ( العصب) وليس النسب. فليس كل من يضع اسم عباد هم من جدّ واحد، ولا من يضع اسم الصخور أو الحويطات أو العدوان. لان الاسم الأعلى مظلّة للجميع، ومن حقهم الانتساب إليها والجلوس في ظلالها والاحتماء في أفيائها , واما عندما ياتي الامر الى النسب فالامر حينها مختلف تماما .

لذا فإن الحصول على رواية الجيل الحاضر على أن فلان أو عائلة فلان هم من نسل الأمير المهداوي، تبدوا باهتة أمام البحث العلمي وامام مؤرخ مفكر مثلنا ، لان ذلك لا يتفق مع المنطق والعلم ولا مع العقل ولا مع النقل الا بدليل حقيقي وليس مختلقا , فوضع المضابط والتوقيعات الحديثة عن موضوع قبل قرنين ونصف هو ضرب من الخيال الذي لايصمد امام المؤرخ , ونعتبره من باب اختلاق الادلة . ثم انه ليس كل من كان نسبا من المهداوي الأول، هو من أسرة الأمراء الذين انتهى بهم مجد المهداوي وهذا ما نراه في الأسر الحاكمة جميعها . إذ تبقى السلطة والسيادة في أيدي خط معين ويكون عادة في الابن الاكبر جيلا بعد جيل , ويبتعد الباقون مع تعاقب الأجيال، حتى يصبحون كبقية الرعية، ويصبح ممنوع عليهم الانتساب أو الادعاء بالحق في هذه الأمارة أو المشيخة . والأمر نفسه لا بد وينطبق على المهداوي الذي دامت الأمارة في أسرته أكثر من اربعة قرون.أي أكثر من عشرة أجيال صار الغالبية منهم على مسافة بعيدة من خط الإمارة لان من طبيعة وارث الإمارة أن يحصرها في نفسه وأولاده. ويحميها حتى عن إخوته وابناء عمه وربما يجردهم من لقب الامير او الشيخ :

واعتقد إن الأمور وصلت بالأمير المهداوي بعد هذه الفترة القرون الاربعة ونيف أن اعتبر بقاءه واستمراره من مسلّمات القدر وأنه ليس من حق احد أن ينازعه إمارة البلقاء أو يجروء على انتقاده أو الوقوف في وجهه. ولكنها سنة الله سبحانه في خلقه انه يأتي بالتغيير من رحم المعاناة ويعطي الدروس والعبر للبشر ان الظلم مرتعة وخيم , وان القوي إذا ظلم يظهر له ضعيف ويقويه الله عليه، بحيث لايكون القادم الجديد في حسبان الجائر القديم ، ثم ينزع الله سبحانه الملك من هذا القوي المتجبر ويعطيه لأضعف خلقه.

فالقوة والضعف هي بيد الله، والملك بيد الله ، وبالتالي شاء الله سبحانه بانتزاعه من المهداوي بعد أن دفع ثمن تجاوزاته، وراى ديرته وامارته تذهب من يده قطعة قطعة وجبلا جبلا. سبحانه: يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.ونخلص إلى القول أن الانتساب إلى هذا الأمير أمر لا تقرره شهادات الجيل الحاضر، وبخاصة في غياب الوثيقة التاريخية المكتوبة لهم , اللهم إلا إذا كان الانتساب إليه من باب الموالاة والعصبية وليس النسب والانحدار من الصلب.

وأما تحالف العشائر عند العدوان فإنهم قد صاروا ضمن فئتين : فئة أبناء حمدان وهم العدوان نسباً، وفئة من التف حول العدوان من القرضة أو غيرهم يحملون اسم العدوان في نهاية الاسم وأحيانا اسم العائلة. وقد تغيرّ?Z هذا النمط وصاروا منذ مطلع الثمانينات من القرن العشرين ينهون أسمائهم بأسماء عائلاتهم وليس باسم العدوان وحصلوا على قرارات رسمية بذلك .

فعندما كان هؤلاء الناس بحاجة لحماية العدوان لهم، وضعوا الاسم أما ألان وقد صارت حماية الأفراد والجماعات من مهمات الدولة، فقد تفسّ?Zخت العربان للأسف الشديد. أما في عباد فالأمر مختلف تماما , فاسم عباد ليس اسم شخص ونسب مثل العدوان، وانما اسم اصطلاحي ينتسب إليه من يصبح جزءا من عباد , لأن النسبة إليهم عصبية وليست نسبية وبالتالي فان كل شخص منهم صار يضيف اسم العبادي الى اسم عائلته , ويتسمى بالعبادي حتى ولو كان لايحمل الاسم في وثائقه الرسمية . وقد تحدثنا عن تفصيلات علاقات العبابيد والعدوان في كتابنا التاريخ السياسي للعشائر الاردنية بالانجليزية .

* التعليقات محجوبة بناء على رغبة الكاتب ومن كانت لديه ملحوظات موثقة ارسالها الى بريده الالكتروني : Oweidi2005@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد