ما بعدَ فلسطينْ

mainThumb

20-06-2023 07:23 PM

يُنظَر إلى فِعْلِ الأيْقَنة من "icon" كمعاكِسٍ موضوعيٍّ لفعل الشّيطنة. لكنّ الحقيقة أنّهما مُترادفان لدرجةِ بعيدة في الدّلالة والانحياز. أعني أنّه في مرحلة غِياب المُوجِّه والحِس الثّوري تمارِس "الجَماهير" فعل الأيْقَنَة تِجاه أي ظاهرةٍ أو شخصٍ أو موضوعٍ يُحفّز فيها ما يَنقُصها أو ما تريده ولا تستطيع فعله. فلسطينيًا؛ نجدُ، مؤخرًا، ظهور مصطلحات كــ (أيقونة النّضال، أيقونة القدس، أيقونة المقاومة، أيقونة.. إلى آخره). وفِعل الأيْقنة ينزِع عن الشّخص إنسانيّته وعاديّته ليضعه في مصافِّ المُقدّس الذي لا يُخطِئ، تمامًا كما هو فعل الشّيطنة ينزع عن الشّخص إنسانيّته ويضعُهُ في مصافِّ الشّيطان الذي لا يُصيب.
يبدو أنّه لا يُمكننا تقبّل فكرة الإنسان "العاديّ"، الذي يخطِئ ويُصيب، يناضِل ويزِلْ، فإمّا أنْ نضعَه في خانة الأبطال، والأبطال لهم صفاتٌ وأفكار وآراء وتصرفات مُقدَّسة، وإمّا في خانة الشّياطين، وهيَ الخانة التي يُرمى إليها البَطَل بعدما يُخْرجُ من "أُفُق التّوقع" الذي يَرسُمُه له المزاج العام، وتُنزع عنه صِفاته التي لم يَحمِلْها أصلًا ربّما.
هذه الفِكرة مُهمّة جدًا في فَهْمِ تحوّلِ رأيِ عام، أو مزاج عام الجماهير تجاهَ قضيّة ما أو شخصٍ ما، والمزاجُ العامُّ محلّ الهوى والمبالغة والتّظاهُر والتّبَطُّن، وهوَ هُلاميٌّ وعائِمٌ ومتقلّبٌ وعاطفيّ.
الفلسطينيّ، تمّت أيقنَتُهُ في فترة ما، فنَزَعَتْ عنه النّظرة الشّعبيّة العربيّة صفات الإنسان والخطأ والصّواب، وأصبحت تراه في صورةٍ واحِدة لا غير، هيَ صورة المُقاوِم الذي يحمل البندقيّة ويقف في جنوب لبنان أو غزّة أو..، وهي أيقنةٌ لها شرعيّتها المُستندة إلى قدسيّة وعدالة القضيّة الفلسطينيّة، وعندَ أوّلِ تَماسٍ بينَهم وبين الفلسطينيّ، وهو الإنسانُ العاديّ وهوَ ابنُ شعبٍ فيه الجيّد والسّيء.. الوطنيّ والخائِن.. الخلوق وغير الخلوق، أصيبوا بخيبة أمل وانتكاسَة فظيعة. فأثّر هذا على "أفق الانتظار" العربيّ من الشّعب الفلسطينيّ، وأفقده تصوّراته (لسنا هنا لنناقش صحّتها من خطئِها)، التي تناقلها جيلًا عبر جيل نتيجة احتكاكه بقادة ومناضلين فلسطينيين حقيقيين، وأثّر سلبًا فيما بعد على تعاطيه مع القضيّة ككل؛ لأنّ المواطنَ البسيط أو الإنسانَ عامّةً لن يستطيع/ لن يستَسيغَ الإيمان بما سُمِّيَ: عدالة القضيّة وفشَلَ المُدافعين.
أنا أحاول أن أفكّر فيها بصوتٍ عالٍ فقط، بعد موجة من الشّيطنة انعكست على القضيّة بحدِّ ذاتها وليسَ على الفلسطينيّ فقط، وعودةً إلى أساس الموضوع فإنّ عدم الأيْقَنة يعني عدم الشّيطنة مِن بعد، ويعني تقبّل ومدح وقبول تصرّفٍ ما ورفض ومعارضة تصرّف آخر للشّخص أو الحزب أو الشّعب، حسبَ الموقف والتّصرف والظّرف والهدف دون أنْ نُصابَ بخيبة أملٍ، أو انتكاسةٍ، أو صدمةٍ "عاطفيّة"؛ حين نجدُ أنفسنا فجأةً بلا "أيقونة".

مِن جهةٍ أخرى وفي نفس السّياق، لا بُدّ أن أشيرَ إلى أنّ وسائلَ التّواصلِ الاجتماعيّ أسهَمت في خفْض التعاطف/ الإيمان الشّعبيّ العربيّ مع الشّعب الفلسطينيّ تدريجيًا؛ نتيجةَ ما عكستْهُ وسائلُ التّواصلِ هذه من "أخبارٍ/ وممارساتِ/ وأفكارِ/ وخلافاتِ.. إلى آخره" الشّعبِ الفلسطينيّ، والتي عكستْ مواطنَ كثيرة من التّردي الذي لم يكن بهذه الحِدة من قبل، ولم يكُن بهذا الانتشار من قبل ربّما، فأصبح المستور مفضوحًا، والمجهول مُعلنًا. والأمثلةُ كثيرة لا يُمكن حصرُها: الانقسام الفلسطينيّ والتراشق الإعلاميّ أمام الجميع، وهذا أحدث شرخًا حقيقيًا في قناعة المواطن العربيّ، إضافةً لتدخّل الفلسطينيّ في قضايا وخلافاتٍ عربيّة- عربيّة، والممارسات القمعيّة للسلطتين الحاكِمتين في "الما تبقّى لنا" من الجغرافيا، والكثير الكثير من الأمثلة.
كُل هذا، وبجانب ما مارَسَته أنظمة وجهاتٌ إعلاميّة من تصيّد للأخطاء الفلسطينيّة وتهويل وتشويه للحالة الفلسطينيّة كَكُل، إضافةً للممارسات الدوليّة التي كانت تحاول تحضير الشّارع العربيّ العام، لهذه المرحَلة، مرحلةٌ يمكن تسميتُها بــ "ما بعدَ فلسطين"، وهي مرحلة بلا ملامح، تشبهُ ما بعدَ الحداثة، وما بعدَ البنيويّة، وكلّ ما يُشير إلى التّجاوز والاضطراب والنّزوع إلى الذّات وانهيار الإيمان بالسّرديات الكُبرى.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد