"إلّي بيجَرّب مجرّب .. " تقول الجدّات

mainThumb

26-07-2023 06:35 PM

مؤخّرًا، وبعدَ فترة طويلة من الهدوءِ أو اللامبالاة، أو السّماح للتّيار بتحريك الأمور كما يشاء بلا تدخّل منّي إطلاقًا، أصبحَ "خِلقي ضيّقًا" جدًا لدرجةٍ لا يُمكن تخيّلها. هذا الضّيق يسبب الاختِناق من البشر والأشياء والطاولات ولقاءات المثقّفين والشّعراء والوضع العامّ وموائِد المصالحة الوطنيّة.
وعلى ذكر الوطنيّة، فيبدو أنّ الأحزاب الفلسطينيّة لم تأخذ من التّراكم الفلسفيّ عبر التاريخ إلّا جملة تنسَبُ إلى راسل (Bertrand Russell) تقول: إنّ الوطنيّة هي الاستعداد أن تُقتَل أو تَقتُل أحدًا من أجل شيء تافه. وكان يقصد بالتّافه غالبًا امتيازات الوهم الوطنيّ.
بكل الأحوال، "إلّي بيجرِّبْ مجرَّبْ عقلُه مخرَّبْ" تقول الجَدّات من جيل ما قبل تيكتُوك، أمّا حديثًا فيبدو حتّى خبر التّجريب الجديد المنتَظَر على طاولة القاهِرة نهاية تمّوز (يوليو) الجاري، خبرًا بلا أيّ صدى أو انتشار في الشّارع وعلى الحواجز ونقاط الاشتباك؛ لأنّ ثمة أجيال جديدة تجاوزت هذا التّصنّم التاريخيّ الطويل، فلم يَعُد يهمّها إطلاقًا كلّ ما يقوله أو يفعله هؤلاء، ولأنّها على يقين مُطلق أنّ كُل هذا هو حِبر على ورق مقطَّع أصلًا، وأنّ أي "تَصالُح" فلسطينيّ لا يحتاجُ عواصم العالم، بل يمكن أن يُنجز في الميدان مباشرة ودون الحديث عنه أصلًا، وهي، الأجيال، تنحازُ إلى الميدان.
الحالة الفلسطينيّة كلّها مصابة بـــ"ضيق الخلق"، ومحتقنة ومضغوطة، وهي عرفت وتعرف طريقها وطريقتها التي تفرّغ فيها/ تعبّر فيها عن نفسها، وهيَ في أوجِ زُخرُفها حينَ أثبتت وتثبتُ، الآن ودائمًا، أنّ كُل سنوات الاحتلال، وكل الممارسات التي تهدف إلى التجهيل والتّتريك وقلب النّظام الاجتماعيّ وتغيير ملامح الأرض والجغرافيا والذاكرة ومحاولة خلق أجيال جديدة ليسَ لديها ذاكرة الألم، كلّ هذا، وفي كُل محافظات الوطن، انهار وينهار أمامَ قوّة وإصرار الفلسطينيّ الذي يعرف قدسيّة السّلاح دائمًا وأبدًا، وحتّى في الحاضنة الشّعبية المتعطّشة، في أغلبها، لمظاهر البطولة الوطنيّة بعد سنين عجاف.
لستُ متفائلًا أكثر من اللازم ولا متشائمًا ولا حتّى بينَ بين، أنا فقط أفكّر في التّكوين الفلسطينيّ الخاصّ والصّلب الذي ستعجَز كُل البشريّة عن فهمِهِ، كيفَ سيفهم النّاس أنّ طبيبًا، مثلًا (الشّهيد عبد الله أبو التّين)، درسَ في الخارج وعادَ وعمل في مشفى ولديه أطفال وعائلة، كانَ دومًا مستعدًا بسلاحِهِ لمواجهة اقتحام الاحتلال للمدن الفلسطينيّة المتبقيّة والمقسّمة والمعزولة، كيفَ وأينَ سيدرّسونَ هذا التكوين الفلسطينيّ. لا يهمّني إطلاقًا ما ستقوله محكمة الجِنايات حول استشهادِ طبيب فلسطينيّ، وهي لن تقولَ شيئًا، والتّرجي الدّولي لن يفيد شيئًا، بل يهمّني كيفَ الأجيالُ، نحنُ وغيرُنا، سننظُر إلى هذا النّموذج بوصفِهِ فعلًا وحقًا أنموذجًا فلسطينيًا خالصًا وحقيقيًا للبطولة، تقدّست صورته بسلاحِه وبزيّه الطّبيّ معًا. لا هو ولا غَيرُهُ ينتظرونَ مخرجات لقاء الأمناء العامّين للفصائِل، هو وغيره وأنا نعلمُ أنّ السّلاح يُوحّد، وأنّ المقاومة توحّد، وأنّ الخلاف على الوهم والفراغ وليسَ على فلسطين. تمامًا كما يعلم الاحتِلال خطر أيّ مواجهة مفتوحة في الضّفة الغربيّة؛ لأنّ المستوطنات قاب قوسين أو أدنى.
قلتُ دومًا إنّ هناك أكثر من فلسطين تولد في أرض فلسطين. ثمّة فلسطين التي يتخلّقُ في رحمِها، مازالَ، الصّوتُ الواضِحُ والاتّجاهُ الواضِحُ، تشتري ولا تبيع، وثمّة ادّعاءات وأوهام أخرى لا نَعرفُها، لا زالت تتناسَل مُتشوِّهَةً ومُشوِّهَة، وإنّ الأولى، بكلِّ ما أوتيت من قوّةٍ ووحدانيّة، تنفي الثّانية وتُبدِّدها، وتكشِفُ الوهمَ المفضوحَ أصلًا، وتُخفّف من وقعِ الإقامةِ في الهزيمة، تردّدُ دومًا ما قاله مظفّر النّواب: "أنا أنتمي للجموعِ التي رفعت قهرها هَرَمًا.. أنا أنتمي للجياع.. ومَن سيُقاتِل".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد