»راسون«»المكان« ساحر تكسوه عباءة من الأشجار الخضراء. فبلدة »راسون« تبدو وقد افترشت الوادي بكل بجمال، هي إحدى قرى بلدية العيون /قضاء عرجان محافظة عجلون وتبعد عن عجلون ثلاث عشرة كيلو متر ومحاذية لمحمية عجلون وترتفع عن سطح البحر 800 م . راسون بلدة قديمة جدا تحدث عنها التاريخ وقد سكنها البيزنطيون , الرومان والأمويين وكان اسمها قديما (ريسون) مأخوذة من الكلمة البيزنطية (راسون)
الوصول الى »راسون« متعة حقيقية, لا تضاهيها سوى متعة الشعور بالانتصار على التعب و الكسل, فبإمكان المرء سلوك أكثر من درب, فللقادمين من عمان يمكن لهم سلوك طريق جرش فعجلون, ومن ثم شمالا باتجاه اربد, وعند مفترق طريق »ارحابا« الانعطاف الى اليسار باتجاه تجمع قرى »صنعار« و»المرجم« و»راسون« وبعدها الى »عين راسون«, ومن ثم الى الشمال الغربي يقطع المرء نحو ثلاثة كيلو مترات للوصول الى أسفل الجبل المستهدف, واما القادمون من اربد فبإمكانهم سلوك طريق اربد, »ايدون«, فقرية »صمد« الى مثلث »ارحابا«, وبشكل عام فان المسافة من عمان الى »المكان« بحدود تسعين كيلو مترا, ومن اربد تبلغ المسافة نصف الأولى.
الصعود الى »درب النجم«
لا يعكر صفو اشجار الحمضيات واللوزيات المتكاثرة في الاودية وسفوح الجبال في الطريق الى »درب النجم« سوى منحنيات حادة تكاد تأخذ بتلابيب السائق ومركبته وركابه أيضا, فكلما تخلصت من سحر شجرة صفراء على يمين الطريق تستلب لبك شجرة وردية أخرى على اليسار, وأخرى خضراء وحمراء, فسحر الطريق يدفعك لطلب الرحمة, فقلبك لا يستطيع احتمال كل هذه المتع - جمع متعة - ولكن كل ما مضى كان مجرد البداية, جبل »مضرب النجم« يبدو للرائين من السماء قمة عالية, بأجراف سحيقة من الجهات الثلاث ما يحول دون الوصول إليه الا من الجهة الرابعة, والجهة الرابعة شديدة الانحدار تكاد تجزم وانت تتأهب لارتياد التجربة انك لن تجتازها قط, وكلما توغلت أكثر في متاهة الصعود زاد شعورك بأنك تقتحم »مكانا« مختلفا, فالطبيعة تداعبك تارة بحجر منغرز في الجبل, ارتكزت عليه قدمك لنقل الأخرى الى نتوء او حجر آخر, فانخلع من مكانه تحت وطأة ثقلك, فكدت تهوي الى الاسفل مغامرة الصعود الى »درب النجم« جملية فأشجار البلوط والخروب والسنديان تكسو »المكان« بكثافة وأغصانها تتعانق بعنف من شدة الازدحام واما أشجار »القيقب« سيدة أشجار المكان-, فحمرة سيقانها وفروعها تستوقفك لتذكرك بحمرة وجنتي »البتول« لما تخجل, وبأوراق الأشجار في »العلم الكندي« واما أشجار الزيتون المعمرة فيكفيك منها ما تحدثك به تجاعيد سيقانها عن حكايات عمرها المديد.
البساط الأخضر
على سطح القمة يبدو لك »المكان« كبساط اخضر كبير يمتد على مدى الرؤية, فمن شدة كثافة الأشجار تلامس خضرة قمة هذا الجبل ذلك الذي يقابله وكأن الوادي بينهما قد اختفى, فقمم الجبال كانت في العصور القديمة متصلة كالبساط الواحد لكنها تكسرت بفعل الزلازل والحركات ال¯ »دكتونية«- حركات طبقات الأرض الداخلية- ما استوجب تشكل الأودية العملاقة, التي تتهدل مع بعضها البعض على كتهدل ماء الأنهار.
تفسير الظاهرة: الأسطورة
خلافا لمعتقدات السكان المحليين على مر العصور التي ترى ان جرما سماويا قد هوى وخفس الارض واحدث الهوة الواسعة العميقة في قمة الجبل فان التفسير انها ظاهرة طبيعية وليس هناك ادنى شك في ان امر »النجم« هو جزء من المعتقدات المحلية السائدة ليس الا, ولكن ما حدث في »المكان« وادى الى نشوء الهوة يختلف عن ظاهرة »مخفس« و»مضرب« النجم ففيهما تآكلت طبقات من الصخور جراء صعود غازات من باطن الارض باتجاه مستويات المياه الجوفية, ما تسبب في حدوث تجويف داخلي كبير, لم يتمكن مع مرور الوقت من احتمال ثقل الصخور التي تعلوه فخرت الصخور من الاعلى محدثة »مخفس« و»مضرب« النجم واما في »درب النجم« فان ما حدث يختلف عن الظاهرة السابقة.
ان الدراسات العلمية والفحوصات التي اجريت بالجامعة الهاشمية وفي جامعات عالمية كجامعة »فورت سبورغ« في المانيا, وجامعة »روما« في ايطاليا على عينات من التربة والصخور والمياه اخذها من »المكان« اكدت ان الحدث بدأ من الاعلى الى الاسفل وبعكس ما حدث مع »المخفس« و»المضرب« فالامطار الكثيفة التي تسقط سنويا ويصل معدلها السنوي الى 600 ملم, والثلوج التي تتراكم اياما طويلة احدثت اخاديد في الصخور فتشكلت مع الوقت ممرات لانسياب المياه باتجاه سقف »الدرب« قبل تشكله فالسقف قبل النشوء كان بمثابة صحن تجمعت فيه المياه ولكن كل ذلك لا يصنع ما حدث والا لانتشرت الظاهرة بشكل كبير في كل المناطق التي تكثر فيها الأمطار والثلوج.
ان وجود الماء بغزارة لا يكفي لتشكيل عناصر ضغط لإحداث »الخفس«, فلا بد من وجود عنصر »الكربون« الموجود في الصخور الجيرية لتتشكل ظروف مناسبة لحدود الظاهرة, فتفاعل الماء مع »الكربون« ينتج حمضا قويا له القدرة على إذابة الصخور الجيرية التي جاء منها »الكربون« وتآكلها رويدا رويدا وسنة تلو الأخرى تشكلت هذه الهوة او البئر الرأسية, بدليل ان الهوة تتسع عاما بعد عام, ومع ان الهوة تشكلت على مدى مليون عام تقريبا, لان معدل الإذابة في الصخور الجيرية لا يتجاوز 20 غراما لكل لتر, ما يحول دون رصد اتساع الهوة على مدى سنوات قليلة, الا ان الظاهرة موجودة على المستوى العالمي, وموصوفة بشكل علمي, وتعرف بظاهرة ال¯ »Karst«, و »الهوات« الموجودة في دول العالم الاخرى تتسع عاما تلو الاخر, كما هو حال »هوات« تم اكتشافها في القرن الثامن عشر في مناطق الاتحاد اليوغسلافي السابق, دول البلقان.
هوة »درب النجم« تتسع جوانبها السفلية عاما تلو عام بعد موسم المطر, الفوهة العلوية على شكل بيضوي لا يتجاوز قطرها 15 مترا, ولكن قعر الفوهة يتسع الى الجوانب موسما بعد آخر فاصبح مفلطح الشكل يصل قطر بعض اجزائه الى خمسين مترا, ولكن مياه الامطار التي شكلت الظاهرة تعمل سنة تلو الاخرى على الحد من عمق الهوة, فمع المياه تأتي رسوبيات طبيعية تجمعت مع الوقت في الاسفل, ما يجعل ارتفاع الهوة الان, وهو 25 مترا, ارتفاعا غير حقيقي ويعتقد ان ارتفاع الرسوبيات التي طمرت قعر الهوة يتجاوز المترين.
يبدو ان ظاهرة »درب النجم« قد استرعت انتباه واهتمام الانسان القديم, فاتخذ الهوة مسكنا, ففي »المكان« تنتشر قطع صوانية ترجع الى العصر الحجري الحديث, اي قبل 10 الاف سنة, كما تم تسجيل قطع فخارية في الهوة تعود الى العصر البرونزي المتوسط قبل 4.5 الف عام والعصر الحديدي قبل الميلاد بالف عام, بصدد اجراء دراسات اضافية على الرسوبيات في اسفل الهوة, لتحديد عمر »الابواغ« - جمع بوغ وهي حبوب اللقاح, وعمر »طلع النبات« وهو يأمل في العثور على بقايا انسان قديم مطمورة داخل الرسوبيات في قعر الهوة, كسن انسان او قطع عظمية لتحليل ال¯ »DNA« ومعرفة عمر اقدم انسان عاش في المنطقة, كما حدث في وادي »نيادر تالر« في المانيا حيث تم تحديد عمر انسان عاش في الوادي قبل 70 الف عام ولكن الامر ليس بهذه البساطة ويحتاج الى جهود كبيرة وتمويل ضخم.
تأهيل »المكان«
ان جمال الطبيعة وانفرادها في المنطقة التي تحيط بجبل »درب النجم« اضافة لغرابة ظاهرة الهوة, وجمال الإطلالة من علٍّ يخلق تحديا كبيرا امام المعنيين لتأهيل »المكان«, ورفع سوية الطرق المؤدية اليه, ووضعه على خارطة الاردن للسياحة البيئية, وتسويقه عالميا, ان انشاء طريق »وندارينغ« »wondering« - طريق للتجول على الاقدام - بحواف خشبية, وتركيب سلم معدني دائري للهبوط الى قعر الهوة للتمتع بمقاطع باطن الأرض, ومشاهدة الأدوات الحجرية والفخارية, من شأنه أحداث نقلة نوعية في »المكان«, وجعله مأما للسياح من الأجانب, كما ان من شأن انشاء محطة »تلفريك« لنقل السياح الى »المكان« واعادتهم والتنقل بين الجبال العالية والاستمتاع بجمال الطبيعة وبناء اكواخ خشبية لاستقبال السياح, خلق منتجع سياحي متميز من طراز فريد.