الحلقة الاخيرة

mainThumb

18-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (الحلقة الأخيرة) ... المهمة لم تنجز ... وهدف ديك تشيني إعادة تشكيل المجتمع العراقي من الصفر
 

الحياة - 17/07/07//

سافرت إلى العراق لأول مرّة قرابة الوقت الذي تولّى فيه بول بريمر منصبه كرئيس لسلطة الائتلاف الموقتة، في الأسبوع الثالث من أيار (مايو) 2003. وقد استقللت في جولة بالمروحيّة أنا وبريمر فوق بغداد. كان ذلك في وضح النهار. وكان باب المروحية مشرعاً، وأنا أنظر إلى الخارج في أثناء التحليق. وأذكر أنّني فكّرت فيما كنّا ننساب في الفضاء في مقدار دقّة العمل العسكري الأميركي. على الأرض، كانت البيئة متساهلة في شكل مدهش، بالنظر إلى أنّ جيشاً أجنبياً غزا العاصمة للتوّ وأزاح الديكتاتور الذي حكم البلد مدة طويلة.

تخلّل الإحساس نفسه بالتفاؤل محطّتنا في بغداد. نصف الناس هناك من الشبان والشابات الذين أنهوا تعليمهم. وبينهم خليط من الكبار الذين عركتهم الحياة والمتقاعدين الذين عادوا إلى العمل كمتعاقدين. كنت أعرف الكثير من المحاربين القدامى من أماكن غريبة في كل أنحاء العالم. وهم الآن في بغداد للمساعدة في إنهاء عمل بناء أمة ديموقراطية جديدة.

عندما عدت إلى العراق في شباط (فبراير) 2004، كان المحيط قد تغيّر في شكل ملحوظ. طرنا نحو بغداد ليلاً، إذ إنّك لا تستطيع المجيء في أثناء النهار. وقد أجرت طائرة سي - 17 التي أقلّتنا هبوطاً قتالياً كاملاً - انحداراً حاداً وسريعاً نحو الأرض. كنت جالساً على مقعد متقدّم جداً، وأنا أرتدي سترة واقية وخوذة. لم نشاهد مناظر هذه المرة. طرنا إلى المنطقة الخضراء على ارتفاع منخفض جداً وهبطنا في الظلام، على مدرج غير مضاء.

في ذلك الوقت، كان حضور «سي آي أي» في العراق توسّع كثيراً. وقد حضر كثير من رجالنا الاجتماع الذي رتّبه كبير ضباطنا في بغداد. جاء الجميع تقريباً مرتدين دروعاً واقية. لم أشاهد البتة من قبل هذا العدد من الشبان المجهدين مجتمعين في مكان واحد. وقد بقيت ثلاث أو أربع ساعات وأنا أتحدّث معهم. وبعد ذلك قفلت عائداً.

في الأشهر العشرة التي انقضت بين الزيارتين، أصبحت بغداد مكاناً مختلفاً تماماً، لكن، ليس بالطريقة التي كانت تريدها الحكومة الأميركية. لكن كيف سلكت الأمور هذا الطريق؟ من خلال سلسلة من القرارات، التي تبدو إذا عدنا إلى الوراء، مثل حادث اصطدام سيارة يُعرض بالحركة البطيئة.

< بدأت المشاكل في الواقع قبل الحرب بكثير. لم يجرِ التخطيط كثيراً قبل الغزو لإعادة الإعمار المادي الذي يمكن أن يلي. لكن في ما يتعلّق بإعادة بناء العراق سياسياً - كيف يدار البلد وما الدور الذي يلعبه العراقيون، إذا وجد، في تحديد مستقبلهم السياسي - فقد أجري الكثير من النقاشات الحيوية بين الهيئات، على أعلى المستويات في الغالب. كان نائب الرئيس وكوندي رايس مهتمين كثيراً بالأمر وغالباً ما شاركا بصورة مباشرة. وكان نواب المديرين ووكلاء الوزارات يمثّلون في الغالب هيئاتهم. وتقاسم ذلك الواجب من جانبنا جون مكلوغلن وبوب غرنيير، وهو ضابط كبير لعمليات «سي آي أي» و «مدير مهمّتنا» في العراق.

كانت المناقشات تنقسم عادة تبعاً للخطوط المألوفة: وزارة الخارجية و «سي آي أي» ومجلس الأمن القومي يفضّلون مقاربة أكثر إشراكاً وشفافية، يجتمع بموجبها العراقيون الذين يمثّلون مختلف القبائل والطوائف والمجموعات ذات المصالح في البلد معاً للتشاور وإنشاء نوع من الجمعية التأسيسية التي تنتقي بعد ذلك مجلساً استشارياً ومجموعة من الوزراء لحكم البلاد. لم يدعُ أحد إلى الإدخال الفوري للديموقراطية الجفرسونية، لكن كان العديد يؤمن بوجوب تشجيع العراقيين على المشاركة في العملية التي تساعد بسرعة في تحديد القادة الحقيقيين للعراق الديموقراطي في المستقبل - وتضفي الشرعية عليهم.

غير أنّ نائب الرئيس والمدنيّين في البنتاغون دعوا إلى نهج مختلف تماماً. بدلاً من المخاطرة بعملية سياسية مفتوحة يمكن أن يؤثّر عليها الأميركيون لا أن يتحكّموا بها، كانوا يريدون التمكّن من تحديد السلطة العراقية واختيار العراقيين المشاركين. وذلك يعني عملياً أحمد الجلبي وحفنة من المعارضين المعروفين المنفيين منذ مدة طويلة، إلى جانب زعماء المناطق الكردية التي تحظى بحكم ذاتي أساساً. كان الاختلاف بين الأسلوبين واضحاً ومعبّراً عنه بجلاء. وقد أجمل نائب الرئيس نفسه المعضلة: كان الخيار كما قال بين «السيطرة والشرعية». وعبّر دوغلاس فايث بوضوح عن إيمانه بأنّ ليس من الضروري أن يضفي المنفيون العراقيون الشرعية على أنفسهم: «بإمكاننا إضفاء الشرعية عليهم»، من خلال مساعدتنا الاقتصادية والحكم الصالح الذي توفّره الولايات المتحدة. لكنّهم لم يكونوا يدركون قط أنّ السيطرة تعتمد جوهرياً على موافقة المحكومين.

لم يتمّ التوصّل إلى إجماع، ولم توضع خطة واضحة. غير أنّ في أوائل كانون الثاني (يناير) 2003، وقّع الرئيس بوش أمر الأمن القومي الرئاسي الرقم 24، الذي يعطي بموجبه وزارة الدفاع المرجعية الكاملة والتامة عن العراق بعد الحرب. لم ندرك الأمر تماماً في ذلك الوقت، لكن في النهاية، كان الأمر 24 يحدّد من يتخذ القرارات النهائية بشأن هذه المسائل الخطيرة، ويحدّد اتجاه إعادة الإعمار بعد الحرب.

--> كان يحوم حول هذه العملية بأكملها شخص أحمد الجلبي - نادراً ما اعتُرف به ولا يُذكر البتة تقريباً. فكم من مرة في الأشهر المؤدية إلى الغزو وبعد ذلك بأشهر، طرح ممثّلو نائب الرئيس ومسؤولو البنتاغون أفكاراً مغلّفة تغليفاً رقيقاً بمساعي تعيين أحمد الجلبي مسؤولاً عن العراق بعد الغزو. قبل الغزو مباشرة، اتخذ المسعى شكل اقتراح، قُدّم بإلحاح وفي شكل متكرّر، لإنشاء حكومة عراقية في المنفى، تتكوّن من المنفيين والزعماء الأكراد. وبعد ذلك ينصّب هؤلاء المنفيون كحكومة جديدة عندما تسقط بغداد. أصيب زملائي في «سي آي أي» بالدهشة. وكما ذكر غرنيير لاحقاً، بدا الأمر كما لو أنّ رجال وزارة الدفاع ونائب الرئيس يريدون استحضار المقارنة مع الغزو السوفياتي لأفغانستان، عندما خلعت القوات الروسية الحكومة القائمة ونصّبت بابراك كارمال الذي أحضروه معهم من موسكو.

في اجتماع لمجلس الأمن القومي عقد قبل نحو ثلاثة أشهر من الحرب تقريباً، سأل الرئيس بوش الجنرال طومي فرانكس ما الذي سيفعله بشأن الأمن والقانون والنظام في المناطق الخلفية. قال فرانكس للرئيس، «جرى الاهتمام بالأمر يا سيدي، سأعين ضابطاً أميركياً يتولى شؤون كل مدينة وبلدة وقرية». لم يكن ذلك ما حدث لاحقاً. ولا يمكنني أن أقول إذا كان ذلك جزءاً من تخطيط القيادة الوسطى المبكّر أم لا. من الناحية العملية، كانت القوة العسكرية الأميركية كافية لإلحاق الهزيمة بالجيش العراقي، لكنّها غير كافية البتة للمحافظة على السلام - مثلما توقّع الجنرال ريك شنسكي، رئيس أركان الجيش السابق.

قبل أن تبدأ حرب العراق، أعد موظف في مجلس الأمن القومي تقديراً لعدد القوات المطلوبة لإقرار الوضع في العراق بعد الحرب. كان الجواب: 139000 إذا كان النموذج أفغانستان؛ وأكثر من 360000 إذا كان النموذج البوسنة، و500000 على الأقل إذا كان النموذج كوسوفو. أي من النماذج كان العراق؟ لقد أخطأ الاستراتيجيون الأميركيون في اختيار نموذج أفغانستان عندما ذهبوا إلى العراق، ونحن ندفع الثمن منذ ذلك الوقت.

كان الرجل الذي عيّنه البنتاغون مسؤولاً عن العراق «بعد النزاعات الكبرى» الجنرال المتقاعد جاي غارنر. انتُدب غارنر لهذه المهمة قبل أشهر من الغزو، ثم أرسل إلى الكويت لجمع فريقه وإعداده. عندما وصل هو وفريقه إلى العراق في 18 نيسان (أبريل) لتولي مسؤولية مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية، تبيّن بسرعة أنّ المهمّة التي يتعيّن على غارنر الاضطلاع بها هائلة الحجم، وأنّ التخطيط المسبق كان غير كافٍ بصورة يرثى لها. أقيم مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية في أحد قصور صدام المهجورة، لكنّه وجد نفسه من دون اتصالات كافية، ويفتقر إلى ما يكفي من الناطقين بالعربية، وتنقصه الصلات مع الشعب العراقي. كان غارنر رجلاً جيداً ذا مهمة مستحيلة. وكان يتولّى المسؤولية من دون سلطة، وتحوّل الموقف السيئ إلى أسوأ على الفور.

حاولت «سي آي أي» المساعدة. عقدوا اجتماعات مع شريحة من التكنوقراطيين العراقيين المهمين - أشخاص يمكنهم المساعدة في تشغيل البلد - وجمعوهم مع كبار الضباط الأميركيين. غير أنّهم واجهوا صعوبة على الفور. سئلوا هل تضمّ المجموعات التي نحشدها أعضاء من حزب البعث؟ بالطبع تضمّ. لا يمكنك أن تتقدّم في عراق صدام إذا لم تلتحق بحزب البعث. ومثلما كان على الحكومات الديموقراطية الجديدة في أوروبا الشرقية أن تضمّ حتماً أعضاء من الحزب الشيوعي، فإنّ أي مجموعة من البيروقراطيين الماهرين في بغداد يجب أن تضمّ أشخاصاً كانوا ذات يوم أعضاء في حزب البعث. لم يشكّك أحد في ذلك في البداية، لكن الفهم الذي كان واضحاً بالنسبة إلينا لم يكن كذلك بالنسبة إلى مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية، وذلك ينذر بمشاكل أكثر خطورة ستنشأ.

نشأت مشاكل مماثلة عندما بدأت الولايات المتحدة تبحث عن مرشّحين لملء الحكومة العراقية الموقتة. واصل المسؤولون الأميركيون البحث عن «محمد جفرسون»، كما عبّرت عن ذلك الوكالة، لإطلاق الديموقراطية الجفرسونية في العراق. والمشكلة هي أنّ صدام حسين قتل منذ مدة طويلة كل من ينطبق عليه الوصف بدقّة.

--> في ربيع 2003، بدأ جاي غارنر، بمساعدة مدير مجلس الأمن القومي زلماي خليل زاد، عملية عقد مؤتمرات في مناطق العراق على أمل الاعتراف بمركز السلطة المختلفة والاستفادة منها. ووفقاً لضباط «سي آي أي» الذين كانوا معه، كان خليل زاد يعتقد بأنّ من الضروري أن يضفي العراقيون الشرعية على أنفسهم. كانت هناك مخاطر ملازمة لذلك. يمكنك أن توجّه مثل هذه العملية لكن لا يمكنك السيطرة عليها. وذلك في النهاية هو جوهر الديموقراطية التي ندعو إليها. وكان من الضروري لاستقرار البلد في المستقبل أن يرى العراقيون أنّ الأشخاص الذين أقرّوا بأنّهم يشكّلون مراكز ثقل يشاركون في العملية السياسية. لم يحدث ذلك. فقد توقّفت فجأة عملية إضفاء العراقيين الشرعية على أنفسهم، واستُبعد خليل زاد وغارنر.

كان الافتراض الذي تعمل الحكومة الأميركية بموجبه أنّ الأمر سيكون مثل احتلال ألمانيا، بلد منبطح تحت أقدامنا ونستطيع أن نعيد تشكيله بالطريقة التي نختارها. وكانت الولايات المتحدة ستقضي تماماً على حزب البعث. وفي رأي وولفوفيتز وآخرين، بإمكانك أن تستبدل كلمة «بعثي» بكلمة «نازي». وسرعان ما تبيّن لنا وللعراقيين بوضوح أنّ هدف الغزو الأميركي هو أساساً إعادة تشكيل مجتمعهم.

في أوائل أيار 2003، تلقّيت مكالمة من كولن باول يسأل عما أعرفه عن بول بريمر. قلت: «إنّني لا أعرفه حقاً». ومما سمعت، كان بريمر سفيراً سابقاً حازماً ترأس لمدّة من الزمن مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية. «لم أسمع بالتأكيد أي شيء سيئ عنه».

--> تابع باول ليقول إنّ الإدارة تفكّر في بريمر للحلول محل جاي غارنر. وبعد بضعة أيام، أذاع البيت الأبيض الخبر بشكل رسمي: اختير بريمر لقيادة مسعى إعادة بناء البنية التحتية العراقية والمساعدة في إنشاء حكومة جديدة. وعلى رغم أنّ بريمر كان مبعوثاً رئاسياً، فإنّ وزير الدفاع سيكون المسؤول المباشر عنه. وأعطيت هيئته اسم «سلطة الائتلاف الموقّتة». بعدما أنشئت سلطة الائتلاف الموقّتة، أمرت كوندي رايس لجنة الهيئات المشتركة التي أقيمت للتعامل مع قضايا التخطيط لما بعد الحرب بأن تنهي أعمالها. لكن لم يمضِ وقت طويل، كما أخبرني أحد المسؤولين في البيت الأبيض، حتى «اختلطت الأمور واضطررنا إلى الاعتماد على البريطانيين لإبلاغنا بما يجري لأنّنا لم نكن نحصل على تقارير سياسية من سلطة الائتلاف الموقتة». فأمرت رايس عندئذ بإعادة انطلاق عملية مجلس الأمن القومي ثانية. لكن، في ذلك الوقت، كانت قرارات أساسية في شأن تسريح الجيش واجتثاث البعث اتخذت بالفعل. وكانت الأخبار المبكّرة عن سلطة الائتلاف الموقّتة تشير إلى أنّها تعمل بسلاسة.

كانت الأخبار مثيرة للقلق. وكنت قلقاً أيضاً من ألا تكون سلطة الائتلاف الموقّتة مزوّدة، بالأشخاص الذين يمتلكون المهارات المطلوبة لتمكينها من النجاح. كان العديد منهم يمتلكون المؤهّلات السياسية الصحيحة لكنّهم غير مدرّبين على الطرق المعقّدة السائدة في الشرق الأوسط. كان العراقيون بحاجة إلى مستعربين وضباط في الجهاز الخارجي يدركون الولاءات القبلية للبلاد، أو يميّزون على الأقل بين السنّة والشيعة. بدا أنّ سلطة الائتلاف الموقّتة تستقدم أشخاصاً متلهّفين لإقامة بورصة بغداد، وتجربة نظام ضريبي موحّد، وفرض عناصر أخرى من مدرسة البنية الاجتماعية الرأسمالية الديموقراطية. عاد أحد ضباطي من رحلة إلى العراق بعد شهر أو اثنين على تولّي سلطة الائتلاف الموقّتة وقال لي: «المكان يدار كحلقة دراسية جامعية، لا أحد منهم يتحدث العربية، ولم يزر أي منهم سابقاً بلداً عربياً، ولا أحد يتخذ القرارات سوى بريمر».

نقلا عن // الحياة //



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد