الحلقة التاسعة

mainThumb

18-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (9) ... وثيقة مجهولة الأصل عن العراق قدمها البيت الأبيض والألمان احتفوا بجاسوس عراقي سكّير

الحياة - 15/07/07//

آخر ما كنت أتوقّعه أن أكون عضواً في جوقة يونانية. لكن، كنت هناك على شاشات التلفزيونات الدولية، جالساً خلف كولن باول فيما كان يتحدّث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 5 شباط (فبراير) 2003. ولم ي?Zدُرْ في خلدي، فيما كان باول يقدّم تفاصيل ما كنّا نعتقد أنّنا نعرفه عن برامج أسلحة الدمار الشامل لدى صدام، أنّ الدراما ستتحول إلى مأساة.

كانت كلمته النتيجة النهائية لأشهر عدة من التخطيط، واستكمال المعلومات، والمفاوضات. إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤنا سيكسبون التأييد الدولي لغزو العراق، فلا بد من وجود محاجّة مقنعة تحوّل كتائب المشكّكين إلى «ائتلاف الراغبين». وقد ناقشت الإدارة من يمكنه إعداد مثل هذا العرض، ولمن يعهد بتقديمه، والأهم من ذلك، ما الذي سيقال.

في صبيحة يوم السبت بُعيد عيد الميلاد في سنة 2002، كان جون مكلوغلن وبول ولبول يحضران اجتماعاً آخر في البيت الأبيض. تحوّل الموضوع إلى محاولة تحسين العرض غير المرضي الذي قدّمناه قبل نحو أسبوع، في أثناء اجتماع «الأمر مؤكّد»، وكيف يمكننا تحسينه. اقترح موظفو مجلس الأمن القومي الاستفادة من تقدير الاستخبارات القومي لتعزيز المحاجّة العامة لإزاحة صدام. طلبت كوندي من ولبول تلخيص الأحكام الأساسية في التقدير. وبدأ يقوم بذلك انطلاقاً من مذكّرة تورد كل عبارات «إنّنا نقيّم» و «إنّنا نقدّر» التي ظهرت في الوثيقة.

قاطعته كوندي، «مهلاً يا بوب، إذا كنت تقول هذه مزاعم فيجب أن نعرف ذلك الآن». تلك هي الكلمة التي استخدمتها. «لا يمكننا أن نرسل القوات إلى الحرب استناداً إلى مزاعم».

قال ولبول بهدوء إنّ تقدير الاستخبارات القومي هو «تقويم» وإنّ هناك أحكاماً تحليلية. وأوضح أنّ الأجهزة ترفق مستويات معيّنة من الثقة بالأحكام المختلفة - لدينا ثقة عالية في بعض المسائل، ومعتدلة أو منخفضة في سواها - لكن، ثمة سبب يدعو إلى وضع كلمة «تقدير» في عنوان الوثيقة.

سألت كوندي عما يعنيه بمستويات الثقة. وقال ولبول إنّ لدى المحللين مثلاً «ثقة عالية» أنّ لدى صدام أسلحة كيماوية.

سألت «ماذا تعني الثقة العالية، تسعون في المئة»؟

أجاب بوب، «نعم، ذلك صحيح تقريباً».

فقالت كوندي، «ذلك أدنى بكثير مما نفهمه من قراءة الإطلاع الرئاسي اليومي».

بعد الحرب، وكجزء من مساعي الدروس المستقاة، طلبنا من المحلّلين مراجعة كل شيء كتبته الوكالة عن العراق وأسلحة الدمار الشامل. كنّا في الواقع أكثر توكيداً بكثير فيما نكتبه للرئيس عن بعض القضايا، مثل أنابيب الألومنيوم، مما كنا نصدره في بعض منشوراتنا الأخرى، بما في ذلك تقدير الاستخبارات القومي. أبلغها ولبول أنّ أقوى حجّة على أنّ لدى صدام الأسلحة المعنية هي الصواريخ. كان ولبول يدرك أنّ العراقيين أقرّوا للأمم المتحدة بوجود صاروخ الصمود. ودرس خبراؤنا البيانات وخلصوا إلى أنّ الصاروخ رديء التصميم ولا يصل إلى ما كان يُخشى منه سابقاً. وقال، «لكن لا يمكنك أن تذهب إلى الحرب بسبب صواريخ يتجاوز مداها ما يسمح به ببضع عشرات من الكيلومترات».

استناداً إلى المعلومات التي علمنا لاحقاً أنّها خاطئة، أكّد لها ولبول أنّ ثاني أقوى حجة هي الأسلحة البيولوجية. صحيح أنّ لدينا ثقة في شأن الأسلحة الكيماوية، فإنّ تلك الحجة، كما قال ولبول، تستند إلى الاستدلال التحليلي إلى حد كبير. وأوضح «أنّ الحجة الأضعف هي النووية». كانت هناك آراء بديلة ولم يكن لدى الأجهزة سوى ثقة معتدلة في الآراء التي تعبّر عنها.

نظرت مستشارة الأمن القومي إلى جون مكلوغلن وقالت، «لقد وضعتم (أجهزة الاستخبارات) الرئيس في موقف صعب جداً».

ذهل مكلوغلن ولم يكن سعيداً بالانتقاد. وعاد في ما بعد إلى لانغلي وأبلغني ما دار في الحوار. قال، «لقد وضعناهم في موقف صعب جداً»؟ لم تكن أجهزة الاستخبارات هي التي تكثر من الصخب عن الحرب في العراق. فقد كنّا مشغولين جداً بالحرب على الإرهاب.

في 6 كانون الثاني (يناير) 2003، حضرت اجتماعاً في مكتب كوندي إلى جانب مكلوغلن، وولبول، وستيف هادلي. لاحظ ستيف أنّ قضية الأسلحة النووية في العراق في الكلمة المقترحة، كانت عرضاً من دون مستمعين في ذلك الوقت، ضعيفة ويجب «تقويتها». ردّ ولبول أنّ المسوّدة ضعيفة لأنّ الحجة ضعيفة. ولذلك عبّر عن آراء بديلة عن القضية في تقدير الاستخبارات القومي.

في 24 كانون الثاني 2003، في اجتماع آخر، طلب هادلي من ولبول تزويده معلومات عما يحتاج إليه صدام إذا كان يريد الحصول على أسلحة نووية. فردّ ولبول بأنّ المعلومات موجودة في تقدير الاستخبارات القومي الذي نشر قبل ثلاثة اشهر.

قال هادلي، «جارِني، تقدير الاستخبارات القومي تسعون صفحة. هل يمكنك اقتطاف ذلك القسم وإرساله إلي».

أرسل ولبول في ما بعد بالفاكس أربعاً وعشرين صفحة من المواد التي طلبها هادلي. ومن خلال ذلك، وبعيداً من السياق، استغلّ موظّفو البيت الأبيض في وقت لاحق فقرة واحدة من أربع وعشرين صفحة من تقدير الاستخبارات القومي لتبرير إدراج راسب اليورانيوم في النيجر وطموحات صدام بالحصول على أسلحة نووية في خطاب الرئيس عن حالة الاتحاد الذي ألقي بعد أيام. لم يكن القيام بذلك يتجاهل تماماً السياق الذي كنّا نتحدّث به إلى رايس وهادلي وآخرين في تلك الاجتماعات فحسب، وإنّما أثار أيضاً «الست عشرة كلمة» التي أقضّت مضاجعنا بعد نصف سنة. -->

في أواخر كانون الثاني (يناير)، اختير كولن باول لعرض قضية الذهاب إلى الحرب أمام الأمم المتحدة. وقد فُوّض بإلقاء خطاب يبلّغ العالم لماذا بدأ الوقت بالنفاد أمام العراق. في إحدى المراحل، حثّت كوندي رايس وكارن هيوز باول على التحدّث ثلاثة أيام متوالية. كانت رؤيتهما أنّ يتحدّث في يوم عن العراق والإرهاب. ويتناول في اليوم التالي العراق وحقوق الإنسان. ثم ينهي الحديث بخطاب مطوّل عن العراق وأسلحة الدمار الشامل. رفض باول بحكمة تلك الفكرة، لكن كان واضحاً أنّ الخطاب سيكون شديد الأهمية.

طلب باول المجيء إلى مقرّ قيادة الـ «سي آي إي» إلى جانب عدد من كُتّاب خطاباته ومساعدين كبار لإعداد الخطاب والحرص على أن يكون قوياً قدر الإمكان. كنت أعتقد أنّ من الأسباب التي تدعوه إلى إعداد الخطاب في الوكالة الإحساس بأنّه داخل مجمع مقرّ القيادة المحاط بالأسلاك الشائكة، كنّا مستقلّين نسبياً عن تدخّل المحيط في واشنطن، على رغم أنّه لم يقل ذلك صراحة.

كان ذلك دوراً غير معهود بالنسبة إلينا. وكان لدينا خياران غير مرغوبين ننتقي منهما. أن نترك الإدارة تكتب نصّها، مع العلم أنّها قد تسيء وصف المعلومات الاستخبارية المعقّدة، أو نساعد في صوغ الخطاب بأنفسنا. وقد اخترنا الثاني.

اعتقدنا أنّ كولن باول سيستخدم الوثيقة التي تطوّرت عن العرض السيئ السمعة الذي قدّمه جون مكلوغلن في جلسة «الأمر مؤكّد»، بمثابة قالب لخطابه. كان بوب ولبول أرسل إلى مجلس الأمن القومي مسوّدة منقّحة قبل أسابيع تستند إلى تقدير الاستخبارات القومي، كما طلبوا. عندما وصل فريق كولن باول إلى مقرّ الـ «سي آي إي»، كانوا يحملون وثيقة من تسع وخمسين صفحة عن أسلحة الدمار الشامل افترضوا أنّها مألوفة لدينا. فقد افترض باول أنّ البيت الأبيض أعد الوثيقة بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات. لكن ما سلّمه له البيت الأبيض كان شيئاً مختلفاً تماماً، شيئاً لم نره من قبل ولم تأذن به الـ «سي آي إي». واصل فريق باول سؤالنا عن المعلومات الاستخبارية التي تقوم عليها عناصر المسوّدة، ووجد موظفو الوكالة أنفسهم يقولون في شكل متكرّر، «لا نعرف عما تتحدّث». أخبرني كولن باول لاحقاً أنّه رأى سكوتر ليبي وسأله، «ما الذي ترمون إليه من إعطائي مسوّدة كهذه»؟ وقيل إنّ ليبي نظر إليه نظرة وديعة وقال، «كتبته كمحام يقدّم إطلاعاً». فقال باول إنّ المسوّدة بدت أنّها «إطلاع من محامٍ وليست مُنْتجاً تحليلياً».

في النهاية، توصّل العاملون على الخطاب إلى أنّ جون حنا، وهو من موظفي نائب الرئيس، يعرف تماماً إطلاع أسلحة الدمار الشامل، لذا، على رغم الرغبة في حماية التدقيق في المعلومات من المتطفّلين، اضطروا إلى أن يطلبوا من حنا القدوم إلى لانغلي لتفسير أصول المواد الواردة في مسوّدة الخطاب.

وصل حنا حاملاً كدسة من المعلومات الاستخبارية الأولية، وكلما سئل عن بند يظهر بطريقة غامضة في مسوّدة الخطاب، كان ينقل قسماً من المعلومات. وكان المحلّلون في الـ «سي آي إي» يوضحون مراراً وتكراراً أنّ المعلومات التي اعتُمد عليها مجتزأة أو واهية أو ثبت خطأها سابقاً. في النهاية تمّ شطب العديد من الأسطر من مسوّدة الخطاب. وفي إحدى المراحل سأل حنا مايك مورل، وكان ينسّق مراجعة الخطاب نيابة عن الـ «سي آي إي»، لماذا لا تظهر قصة يورانيوم النيجر في المسوّدة الأخيرة. أبلغه مايك، «لأنّنا لا نصدّقها». فقال حنا، «كنت أعتقد أنّكم تصدّقونها». وبعد كثير من النقاش والوقت المهدور في تفسير الشكوك، فهم حنا لماذا نعتقد أنّ من غير الملائم أن يستخدم باول قصة النيجر في خطابه.

تحدّث بعض أعضاء فريق الوزير باول الذين شاركوا في إعداد الخطاب عن المحنة، وأعطوا الانطباع بأنّهم كانوا يقفون بمفردهم خلف المتراس محاولين استبعاد المعلومات الاستخبارية الرديئة. ليس ذلك ما يذكره المشاركون من الـ «سي آي إي». كنّا عهدنا إلى عدد من المهنيين الكبار في الاستخبارات التمحيص في دقة ما يقال ضدّ التقارير الاستخبارية، وكلّفنا آخرين تفحّص إمكان الركون إلى المصادر. ونذكر أنّ الـ «سي آي إي» والمسؤولين في وزارة الخارجية عملوا جنباً إلى جنب في تنظيف المسوّدة من الموادّ التي لا تصمد أمام التدقيق.

وكان هدفنا منذ البداية الإتيان بلغة تؤيّدها المعلومات الاستخبارية وجديرة بما أملنا أن يكون لحظة حاسمة. وعلى رغم جهودنا، وجدت الكثير من المعلومات الخاطئة طريقها إلى الخطاب. ولا يندم أحد أكثر مني على ذلك، لكن، غالباً ما تساءلت هل كان بوسعنا أن نكشف مزيداً من الأخطاء لو لم يضطر رجالنا إلى قضاء يومين في إخراج النفاية من مسوّدة البيت الأبيض التي لم نر?Zها من قبل؟

كان من المفترض أن يركّز خطاب الأمم المتحدة على أسلحة الدمار الشامل في المقام الأول. فقد كانت برامج أسلحة الدمار الشامل في «صندوق البريد الوارد» للأمم المتحدة، كما عبّر عن ذلك كولن باول ذات يوم - بعبارة أخرى، إنّها شيء معنية به ومسؤولة عنه - لأنّ صدام حسين أصرّ على تجاهل عقوبات الأمم المتحدة. غير أنّ موظفي البيت الأبيض كانوا حريصين على إدخال موادّ عن الإرهاب. فإضافة إلى معلوماتهم الخاصة عن أسلحة الدمار الشامل، زوّد سكوتر ليبي باول أربعين صفحة مجهولة الأصل بعنوان «دعم العراق الخطير للإرهاب» استبعدها وزير الخارجية على الفور. وواصلوا اقتراح لغة مبالغٍ فيها (مثل الإيحاء بوجود صلات عراقية بهجمات 11/9) بحيث إنّني انتحيت جانباً بفيل مود، نائب رئيس مركز مكافحة الإرهاب في الـ «سي آي إي» في ذلك الوقت، وطلبت منه أن يكتب بنفسه قسم الإرهاب في الخطاب.

قلت له، «من غير المألوف جداً بالنسبة إلينا ومن غير الملائم عملياً» أن نكتب خطاباً لصنّاع السياسة. «لكن، إذا لم نفعل ذلك، فسيقحم البيت الأبيض بعض الهراء الذي لن يصمد طويلاً». كتب مود قسم الإرهاب من الخطاب وأجاد. وعلى رغم بعض المشاكل، فإنّ ذلك القسم من ملاحظات كولن باول يبرز في حال أفضل بكثير اليوم مما يظهر عليه القسم الأكبر عن العراق وأسلحة الدمار الشامل.

كانت عملية إعداد الخطاب صعبة من البداية إلى النهاية. توجّهت أنا ومجموعة من محلّلي الـ «سي آي إي» الكبار إلى نيويورك في 4 شباط (فبراير) إلى جانب باول ورجاله وانضممنا إليهم، فيما كان يواصل تنقيح الملاحظات التي يعتزم تقديمها في اليوم التالي والتدرّب عليها. وقد تعطّل جهاز الفاكس الوحيد القادر على استقبال المواد السرية وإرسالها، وكافحنا للحصول على معلومات اللحظة الأخيرة من واشنطن ومن رجال باول في أنحاء المدينة. بقيت مستيقظاً حتى الساعة الثانية مساء في الليلة السابقة للعرض - صبيحة ذلك اليوم في الواقع - وأنا أعمل على قسم الإرهاب من الخطاب. وفي النهاية تمكنّا جميعاً من الاتفاق على النص. وبعد أخذ وردّ، اعتقدنا أنّنا أعددنا منتجاً قوياً.

لم يبلغني كولن باول ما إذا كان لديه أي تحفّظات في شأن إلقاء الخطاب. وبعد أن وافق على تولّي المهمة، أصبح عليه أن يقدّم أفضل ما لديه. في مرحلة متأخّرة من العملية، طلب مني كولن أن أجلس وراءه في الأمم المتحدة. كان ذلك آخر مكان أريد أن أكون فيه - كان مقرّراً أن أتوجّه في رحلة إلى الشرق الأوسط في ذلك الوقت - لكن باول ونائبه، ريتشارد أرميتاج، كانا من أقرب الزملاء إليّ في الإدارة. وإذا كان يريدني هناك، فسأجلس هناك، حتى إذا كان حضوري مستغرباً قليلاً كمدير للاستخبارات المركزية. -->

كان دخول الجمعية العامة للأمم المتحدة في صباح 5 شباط (فبراير) بمثابة لحظة سوريالية بالنسبة إليّ. جلست إلى جانب جون نيغروبونتي، المندوب الأميركي في الأمم المتحدة في ذلك الوقت. وبعد أن فرغ كولن مما اعتقدت أنّه كان أداء استثنائياً، وبدأ أعضاء المجلس الآخرون بالتحدّث، غادرت القاعة منهكاً فكرياً وبدنياً.

كان عرضاً عظيماً، لكن لم تصمد مادّته للأسف. فقد بدأت تنهار مختلف أركان الخطاب واحداً بعد الآخر، لا سيما برامج العراق للأسلحة البيولوجية والكيماوية. ونُشر وزير الخارجية في وقت لاحق أمام العالم بأكمله، وسقطت صدقية بلدنا.

ثمة قسم من الخطاب يحظى بسمعة رديئة جداً اليوم بحيث إنّه يستحقّ منحه اهتماماً خاصاً. تبدأ القصة في سنة 1998، عندما وُجد مهندس كيماوي عراقي هائماً على وجهه في مخيم للاجئين في ألمانيا. وخلال عام حصل على بطاقة الهجرة الألمانية بالموافقة على التعاون وتقديم معلومات إلى جهاز الاستخبارات الاتحادي الألماني. وأعطى الألمان الرجل اسماً سرياً ينمّ عن بصيرة غريبة: الكرة المنحنية.

وكما تفعل أجهزة الاستخبارات بجواسيسها على العموم، أبقى جهاز الاستخبارات الألماني المهندس طيّ الكتمان، لكنه تشارك في النهاية بعض المعلومات التي زوّده بها مع وكالة الاستخبارات الدفاعية. زعم «الكرة المنحنية» أنّ لدى العلماء العراقيين برنامج أسلحة بيولوجية موجودة في مختبرات متحرّكة يمكن نقلها للتملّص من مفتّشي الأمم المتحدة عن الأسلحة.

بما أنّ جهاز الاستخبارات الألماني كان يتكتمّ على مصدره، ولأنّ وكالة الاستخبارات الدفاعية مسؤولة عن المعلومات الاستخبارية المستقاة من اللاجئين العراقيين في ألمانيا، فقد أُبعدت الـ «سي آي إي» عن المصدر مرتين. ولم تسمح الاستخبارات الألمانية لوكالة الاستخبارات الدفاعية أو الـ «سي آي إي» بالوصول إلى «الكرة المنحنية» مباشرة. قالوا لنا إنّه لا يتحدّث الإنكليزية وأنّه يكره الأميركيين. (تبيّن لاحقاً أنّ لغته الإنكليزية جيدة جداً) لكن، أتيحت لنا فرصة مراقبته عندما فحصه طبيب أميركي يتحدّث الألمانية. لاحظ الطبيب أنّ الرجل يبدو سكران وعبّر عن شكوك تتعلّق بصدقية. تبدو تلك الشكوك تنبّؤية اليوم، لكن عليّ أن أقول إنّنا إذا استبعدنا كل ما نسمعه من مصادر تعاني من مشاكل من شرب الكحول، فإنّنا سنرمي بعض المعلومات الاستخبارية الجيدة من النافذة.

علمت بوجود جدل بين محلّلينا وجامعي المعلومات الاستخبارية في شأن هذه القضية. فبعض جامعي المعلومات من مديرية العمليات لم تعجبهم الطريقة التي بدت عليها القضية - كان لديهم شعور عميق بأنّ ثمة ما يعيب «الكرة المنحنية»، لكن يوجد القليل الذي يسمح بالمتابعة. واعتقد المحلّلون بأنّ العلم الذي يصفه «الكرة المنحنية» دقيق - دقيق جداً بحيث لا يمكن استبعاده. كان لديهم تفاصيل دقيقة عن تقرير «الكرة المنحنية» - من الواضح أنّه كان يعرف ما يبدو عليه المختبر الجرثومي المتحرّك - والقيمة المتزايدة لمعلوماته مع اشتداد البحث عن أسلحة الدمار الشامل لدى صدام.

على العموم، بغياب أي علامات إنذار أخرى من الألمان أو وكالة الاستخبارات الدفاعية، بدا «الكرة المنحنية» مصدراً قيّماً. لكنّه لم يكن كذلك. فكما أفادت لجنة سيلبرمان - روب، وهي لجنة رئاسية شُكّلت لتفحّص أخطاء المعلومات الاستخبارية عن العراق. في آذار (مارس) 2005، كان يجب أن تنطلق صفّارات الإنذار. لكن وجوب انطلاقها أو عدمه مسألة خاضعة لجدال حادّ.

ولكن، وصل قطار الشحن المسرع الذي يحمل الحرب في العراق في آذار (مارس) 2003. وكانت هذه الحرب بالنسبة إلى الـ «سي آي إي» مختلفة من كل الأوجه عن الحرب التي خضناها في أفغانستان. هناك، كنّا، بالتعبير العسكري، القيادة «المدعومة». وفي العراق كنا نحن «الداعمين». والاختلاف أكثر من دلالي بكثير - إنّه يتحدّث عن أدائنا في المسرحين.

في أفغانستان، أعدّت الـ «سي آي إي» الخطة إلى حد كبير. بل إنّنا كنّا نهيّئ الاستراتيجية وننقّحها قبل أشهر على وقوع هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، على أمل أن نحصل على الإذن بملاحقة «القاعدة» في ملاذها الآمن. وبمساعدة نفر قليل من القوات الخاصة وسلاح الجوّ الأميركي الهائل، تمكّنّا من قيادة قوى مختلف أمراء الحرب والفصائل القبلية لطرد «طالبان».

أبلغنا الإدارة منذ البداية أنّه يجب استخدام نموذج مختلف تماماً في العراق. فبعد قليل على تسلّم إدارة بوش السلطة، أطلعنا المسؤولين الكبار، لا سيما نائب الرئيس، أنّنا لن نتمكّن بالتأكيد من إطاحة صدام من طريق عمل الـ «سي آي إي» السري.

توصّلت الـ «سي أي إي» إلى هذا الاستنتاج من خلال التجربة المؤلمة في أواسط التسعينات، فقد ظهرت صعوبة محاولات تحديد قائد عسكري سني لديه الأتباع والقدرة على تولّي وحدات النخبة لدى صدام. كان صدام يبدّل الضباط الكبار بانتظام أو حتى يقتلهم على سبيل اللهو، وزاد ذلك كثيراً من صعوبة الوصول إلى الشبكات الصحيحة من دون التعرّض للخطر. وقد أدّى اجتماع قسوة صدام وأخطائنا إلى مقتل عشرات من العراقيين الذين استعملناهم.

لم يكن العمل السري ضدّ صدام في الماضي واسعاً أو جيّد التمويل على غرار نشاطاتنا في أفغانستان ضدّ الروس في أثناء الحرب الباردة. وقدّر بعض شركائنا المحتملين في المنطقة أنّنا غير جادّين بسبب قلة الموارد المخصّصة ولأنّنا لم نلزم أنفسنا بدعم العمل السري بالقوّة العسكرية. كان هناك دائماً احتمال مشاركة سلاح الجو متى تثبّتنا من إمكان اطاحة صدام. لكن، من الناحية العملية، كان تنفيذ مثل هذه الخطة شديد الصعوبة وبعيد الاحتمال.

تعلّمنا من أفغانستان أنّ العمل السري، مصحوباً بخطة عسكرية أوسع، يمكن أن يكون ناجحاً. وأبلغنا نائب الرئيس في ذلك اليوم أنّ الـ «سي آي إي» لا تستطيع اطاحة صدام حسين بمفردها، بل يجب التوفيق بين كل عناصر القوة الأميركية لتحقيق تلك الغاية. ربما اعتقد بعض الأشخاص أنّنا بهذا القول إنما كنّا أكثر من راغبين في المناداة بالحل العسكري، وبالتالي جعلنا الحرب محتومة. والحقيقة أنّنا كنّا ننقل الواقع انطلاقاً من تجربتنا التاريخية.

وهكذا في العراق، خلافاً لأفغانستان، اقتصر دور الـ «سي آي إي» على تقديم المعلومات إلى العسكريين عن أماكن قوات العدو وقدراتها، وتقويم البيئة السياسية، وتنسيق جهود شبكات المواطنين المحليين من المناصرين الذين يمهّدون الطريق أمام تقدّم القوات العسكرية، وينفّذون عمليات تخريب وما شابه. الدور التقليدي الذي تلعبه الاستخبارات، لكن لم يتحقّق أي من ذلك بسهولة.

كان أول عمل قامت به الوكالة في شباط 2002 هو إحياء فرق الـ «سي آي إي» في جهاز الارتباط في شمال العراق، وهم الضباط الذين يقيمون مع الأكراد في شمال العراق. عندما وصلوا في تموز (يوليو)، بدأوا مساعي مضنية لتجنيد العملاء وإنشاء شبكات من الأشخاص والقبائل الراغبين في جمع البيانات والعمل أيضاً. كنا نريدهم أن ينفّذوا أعمالاً جريئة لتحدي شرعية النظام أينما كان ذلك ممكناً، وتخريب محطات السكة الحديد الطرفية، وإحداث فوضى في عُقد المواصلات، ومهاجمة مقرّات قيادة حزب البعث.

نقلا عن // الحياة //



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد