الحلقة العاشرة

mainThumb

18-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (10) ... شجعنا الجيش العراقي على الاستسلام واستعار أحمد الجلبي مسلحين من «قوات بدر»

الحياة - 16/07/07//

عملنا كاستخبارات مركزية أميركية انطلاقاً من شمال العراق وعبر حدود البلدان المجاورة إلى الجنوب والغرب. وأبلغنا العسكريين بشفافية تامّة بالاتصالات التي نجريها، وعرّفنا القوات الخاصة الأميركية على أفراد داخل العراق لديهم بعض الأمل في إقناع الوحدات العسكرية بالانشقاق عندما تبدأ الحرب البرية، إما بتبديل ولائها أو بالاستسلام.

وفي النهاية، لم ينشق الكثير من الوحدات، هذا إذا انشقّت، لكن لم نقابل أيضاً الكثير من وحدات الجيش النظامي. إذ لم يكن تغيير الولاء خياراً جذاباً بالنسبة إليهم. وغالباً ما كانت وحدات الحرس الجمهوري العراقي خلف قوات الجيش النظامية. فكانت تواجه الموت المرجّح إذا تقدّمت نحو الوحدات العسكرية الأميركية أمامها، والموت المحقّق تقريباً إذا شعرت قوات صدام الخاصة في الخلف بأنّها لا تساند النظام.

هذا الوضع جعلنا نشجّع خيار الاستسلام، وقد عمل ضباط الحالات لدينا مع المصادر السريين على إيصال الرسالة إلى الجيش العراقي. لكن، قبل بدء الحرب بقليل، سُحب هذا الخيار عن طاولة البحث، وكان السبب بسيطاً. كانت القوات الأميركية قليلة على الأرض بحيث إنّ نجاح حملة الحض على الاستسلام سيؤدي بسرعة إلى أن تفوق أعداد أسرى الحرب أعداد القوة الغازية.

كان الموقف الاحتياطي الاقتراح على وحدات الجيش العراقي أن تلقي سلاحها وتذهب إلى البيت. وبدأ الجيش الأميركي يلقي مناشير من الجوّ تحمل تلك الرسالة، وأخذ الجنود العراقيون الأمر جديّاً وانسحبوا بأعداد كبيرة عندما بدأت المعارك (في وقت لاحق، عندما حاول جيري بريمر تبرير أمره المثير للخلاف بحل الجيش العراقي في 23 أيار (مايو) 2003، قال إنّ الجيش حلّ نفسه بالفعل. صحيح، لكن الجيش فعل ذلك إلى حد كبير بناء على طلب الحكومة الأميركية، ولم يكن يتوقّع بالتأكيد أن يُعزل جنوده، حاملين سلاحهم معهم، من دون وسيلة في الغالب لإعالة أسرهم).

قمت بزيارة ضباط الـ «سي آي أي» في عدد من القواعد السرية في الصحراء في غرب العراق وجنوبه قبيل الحرب مباشرة. وقد أقيمت القواعد في أماكن بعيدة عن الحضر لتدريب الشبكات القبلية العراقية وتجهيزها بحيث يتمكّنون من معاودة الدخول الى البلد للمراقبة والتخريب، وإرسال البيانات إلى القوات الأميركية. كان الضباط الذين التقيتهم يقيمون في خيام منذ أشهر استعداداً للحرب، وكانوا متلهّفين على ابتدائها. كان كثير منهم شباناً - وكثير منهم في جولاتهم الأولى لأداء الواجب - وكنت مدير الاستخبارات المركزية الوحيد الذي عملوا بإمرته. كانت زيارتي تهدف إلى بثّ الروح المعنوية فيهم وإعلامهم بأنّني فخور بهم وواثق من قدرتهم على النهوض للتحدي. لكن لم يكن في وسعي، بيني وبين نفسي، إلا أن أقلق لأنّ العديد من هؤلاء الشبان والشابات يمكن أن يموتوا عما قريب.

في إحدى تلك الزيارات، التقيت بمفرزة بقيادة اللواء محمد عبدالله الشواني، وكان قائد القوات العراقية الخاصة في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. قدّم الشواني إلى الوكالة في سنة 1991، وسرعان ما أصبح من أكثر الشركاء في العمل ضدّ نظام صدام انتقاداً للحكومة الأميركية. كان الشواني صاحب بنية مهيبة بحجم لاعب هجوم في كرة القدم وقوته، وهو قائد بالفطرة لديه أتباع كثر داخل العناصر التقليدية وعناصر العمليات الخاصة في الجيش النظامي العراقي. تدرّب كطيار، واكتسب شهرة ونال أرفع الأوسمة العسكرية العراقية عندما قاد هجوماً محمولاً بالمروحيات على تلة يحتلها الإيرانيون في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية.

سرعان ما أصبح الشواني، أو «اللواء» كما كان يعرف لدى أتباعه العراقيين، مفتاح إنشاء شبكة قوية داخل العراق لمصلحة الوكالة. لكن أجهزة استخبارات صدام كشفت الشبكة في أواسط التسعينات ما أدى إلى تعذيب أبناء الشواني الثلاثة وإعدامهم. واصل الشواني عمله من دون كلل لإنشاء شبكة داخل العراق وساعد الوكالة في الاتصال بالقادة العراقيين القبليين والدينيين في الأشهر المؤدية إلى الغزو في ربيع 2003. وفي أثناء متابعة الحرب، ساعد الشواني في إنشاء وقيادة المجموعة شبه العسكرية العراقية التي ترعاها الوكالة وتعرف باسم «العقارب». كان أتباع الشواني كثراً في الجيش النظامي العراقي بحيث إنّه عندما توجّه للتحدّث إلى مجموعة كبيرة من الجنود العراقيين المسجونين في الكويت، تعرّف إليه على الفور عدد كبير من الضباط العراقيين الكبار الذين تأهّبوا وأدّوا له التحية.

بفضل الشواني وكثير غيره، تمكّنت فرق الـ «سي آي إأي»، في الساعات والأيام التي سبقت الحرب، من التسلّل إلى العراق والالتقاء بالشبكات القائمة لمحاولة منع الجيش العراقي من تدمير جسور عبور الفرات والوصول إلى بغداد. والتقت فرق أخرى عملاء يعملون على منع صدام من إحراق حقول النفط في الجنوب.

عند اقتراب الحرب، انتقل ضابطنا الكبير المعين في بغداد، «تشارلي س.» إلى الدوحة، حيث جلس إلى جانب الجنرال طومي فرانكس. أصبح تشارلي عضواً مهماً في الفريق العسكري. كان يقدّم على الدوام معلومات من شبكات مصادرنا عن الأهداف العسكرية المحتملة. بل كان في بعض الأحيان ينصح بعدم القصف. على سبيل المثال: عندما علمت القيادة الوسطى بمكان اختباء ضابط استخبارات عراقي كبير، كان ردّ الفعل الأول للعسكريين توجيه صاروخ توماهوك إلى إحداثيات المكان. غير أنّ تشارلي، كضابط ارتباط في قيادة طومي فرانكس، أقنع نظراءه العسكريين بالقيمة الاستخباراتية لأسر هذا الضابط حياً. وأثبتت جهود إيصال القوات البرية إلى موقع الضابط جدواها، على رغم صعوبتها، استناداً إلى المعلومات التي حصلنا عليها منه لاحقاً.

عملت فرق جهاز الارتباط في شمال العراق بشكل متواصل بعد تموز (يوليو) 2002، وكانت ظروف العمل شاقّة جداً، بعيداً من أي دعم عسكري، وتحت الخطر الدائم من قوات أمن صدام. مع ذلك حقّقوا بعض النجاحات الاستثنائية. فقد تمكّنوا من تجنيد شبكات بأكملها من العملاء العراقيين الملتزمين بمساعدتنا في إطاحة نظام صدام.

كانت إحدى المجموعات العراقية، الموحّدة بانتمائها الديني، على درجة عالية من الأهمية. فبعدما تمكنا من إقناع زعماء المجموعة بأنّ الولايات المتحدة جادّة هذه المرة بشأن التخلّص من صدام، وبعدما قدّمنا لزعمائها مليوني دولار لإثبات عزمنا، بدأوا في تقديم معلومات استخبارية عملية. كانت المجموعة تحضر أربعة ضباط عراقيين في الأسبوع ليستجوبهم فريق الـ «سي آي أي» في جهاز الارتباط في شمال العراق. وكان زعيم الطائفة الدينية، يشير إليه رجالنا باسم «البابا»، يجلس في هذه الاجتماعات. وغالباً ما كان المستجوبون يرفضون الإجابة عن بعض الأسئلة، قائلين إنّ ما نسأل عنه «حساس جداً». وفي كل مرة كان «البابا» يتدخّل ويوعز إليهم قائلاً: «ستجيبون عن السؤال»! وكانوا يطيعون. وأخبرنا كل عسكري استجوبناه أنّ صداماً يمتلك أسلحة دمار شامل بالفعل.

--> توصّلنا إلى اكتشاف مبكّر عندما سلّمنا أحد أعضاء المجموعة قرصاً مدمجاً يحتوي أساساً على لائحة بأسماء أفراد منظمة الأمن الخاص لصدام. فدقّقنا باللائحة مقابل بعض الأسماء التي نعرفها بالفعل. وتبيّن أنّها صحيحة ومكّنتنا من تحديد عدد من العملاء المزدوجين الذين حاول جهاز الاستخبارات العراقي زرعهم في أوساطنا.

وقدّم إلينا أفراد آخرون في هذه الشبكة معلومات عن مواقع منصات الصواريخ العراقية، وأبلغونا بدقّة متى تختبر البطاريات. وباستخدام طائرات الاستطلاع الأميركية، تمكّنا من التثبّت من دقة تلك المعلومات. كانت الصواريخ موجودة حيث أبلغتنا مصادرنا. ونتيجة لذلك، تمكّن الجيش الأميركي من القضاء على صواريخ صدام أرض - جو بسهولة عندما بدأت الحرب.

في الفترة المؤدية إلى الحرب، وعدت الولايات المتحدة بتسليم كمية كبيرة من الأسلحة إلى الفصيلين الكرديين الرئيسين في شمال العراق (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني) لينضما إلى القتال المقبل بفاعلية. لم يكن الحصول على الأسلحة يثير مشكلة، لكن إيصالها إلى هناك مسألة أخرى، فقد رفض الأتراك السماح بأن تعبر الأسلحة بلادهم.

استأجرت الـ «سي آي إي» طائرات نقل كبيرة، ولكن، رفضت البلدان المجاورة طلب منحها حقوق المرور في أجوائها، فغضب الأكراد من التأخير. وأخذوا يسألون مراراً وتكراراً، «أين الأسلحة التي وعدتمونا بها؟»، لم يكن لدينا جواب مرضٍ. أخيراً، في شباط (فبراير) 2003، قبل نحو شهر من بداية الحرب، قال ممثّل الاتحاد الوطني الكردستاني المحلي لطوم س.، رئيس فريق جهاز الارتباط في شمال العراق في مدينة السليمانية، «لا عليكم». ذهل طوم عندما شاهد شاحنات تصل إلى مستودع على بعد خمسين قدماً من مقرّه وأطناناً من الأسلحة التي سلّمها الحرس الثوري الإيراني إلى الأكراد.

بقي فريق الارتباط في شمال العراق على اتصال وثيق مع لانغلي، وأرسل مئات التقارير الاستخبارية إلى مقرّ القيادة. وأبقوا على اطلاع بدورهم على ما يجرى في واشنطن. وفي إحدى المناقشات، أبلغ ضباط العمليات في واشنطن الضباط الميدانيين عن تطوّر مهمّ في الوطن. لقد أصبح مقهى ستاربكس في مقرّ قيادة الـ «سي آي أي» يعمل لمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم. فخمّن الضباط الميدانيون بأنّ ذلك يشير إلى أنّ بداية الحرب أصبحت وشيكة، وكانوا مصيبين.

بدأت عملية حرية العراق قبل قليل مما توقّعنا بسبب معلومة من أحد أفضل مصادر فريق الارتباط في شمال العراق عن المكان المحتمل لعدو الشعب الرقم واحد: صدام حسين. كان بعض أعضاء المجموعة مشاركين في تأمين الاتصالات للمسؤولين العراقيين الكبار، بمن فيهم صدام. وكانت لوحة الحالة في مقرّ قيادة اتصالات النظام تضيء باللون الأخضر عندما تعمل الشبكات العراقية بشكل صحيح وباللون الأحمر عندما لا تكون كذلك. وتكون الأضواء خضراً على العموم. وقد لاحظ مصدرنا أنّ قوات أمن صدام تقطع الاتصالات دائماً في المناطق التي يوشك صدام على الانتقال إليها - لمنع العسكريين غير الموالين من كشف مكان وجوده أمام الأعداء.

غير أنّ القطع الموقّت للاتصالات يؤدي إلى ظهور الأضواء الحمر قرب المكان الذي يقصده صدام. وتمكّن مصدرنا من تأكيد شكوكه بمرور الوقت. كانت الأضواء الحمرء تنطلق، ثم يُعلم لاحقاً أنّ صداماً كان في الموقع. وعندما يغادر صدام تعود الأضواء الخضر. وبفضل هذا الخلل في النظام، كانت لوحة الحالة تبثّ أساساً مكان وجود صدام.

قبل يومين من الموعد النهائي الذي حددته الولايات المتحدة لامتثال صدام، تلقّى مصدرنا خبراً عن اجتماع محتمل في تلك الليلة في مزارع الدورا، وهي عقار تمتلكه زوجة صدام. وعلى رغم عدم اتضاح من سيكون حاضراً، كانت هناك دلائل تشير إلى أنّ أبناء صدام وربما العائلة بأكملها تعتزم الاجتماع هناك، لبحث ما يمكن أن يحدث إذا قامت الولايات المتحدة بالغزو.

نقل مصدرنا الخبر إلى فريق الارتباط في شمال العراق. فنقل الخبر بدوره إلى مقر القيادة وإلى ضابط ارتباط الـ «سي آي أي» مع طومي فرانكس في العاصمة القطرية الدوحة.

في الصباح التالي، 19 آذار (مارس)، أطلع ضابط الـ «سي آي أي» فرانكس على معلومة الليلة السابقة. وفي وقت لاحق مساء، اتصل مصدرنا ثانية. الأضواء الحمر تشير إلى مزارع الدورا ثانية. وكانت الاحتمالات أنّ الزعيم العراقي سيتوجّه إلى هناك ثانية في ذلك المساء. وسمعت مصادر بشرية أخرى تعمل في توفير الأمن قرب مزارع الدورا أنّ اجتماعاً كبيراً لعائلة صدام قد يعقد في المزرعة في تلك الليلة.

عندئذ طلبنا من الاستطلاع الجوي الأميركي تفحّص الموقع بدقّة. رأينا مفرزة كبيرة من عربات الأمن، من النوع الذي يسبق عادة تحرّكات صدام ويرافقها، مختبئة تحت الأشجار في المزرعة.

بدا السيناريو جيّداً جداً بحيث لا يمكن تفويته، لذا اتصلت بدونالد رامسفيلد وسألت إذا كان في وسعنا المجيء لإطلاعه على الفور على شيء قد يكون مهماً. فقال بكل تأكيد. جمعت جون مكلوغلن ورئيس مجموعة عمليات العراق وتوجّهنا إلى موقف السيارات. وفي الطريق التقينا بستيف كابس، الرجل الثاني في مديرية العمليات. فناديته قائلاً: «تعال?Z معنا، وسحبناه إلى المصعد. أدخلنا ستيف السيّارة المصفّحة بسرعة وانطلقنا خارجين من مجمّع «سي آي أي» قبل أن يعرف إلى أين نحن ذاهبون ولماذا.

عندما وصلنا إلى البنتاغون، دخلنا مكتب رامسفيلد الواسع على الفور. عرضنا الوقائع عليه بسرعة. فأدرك أهميّته بسرعة وقال: «علينا نقل ذلك إلى البيت الأبيض». وما هي إلا ثوانٍ حتى تحدّث بالهاتف ورتّب اجتماعاً لنا جميعاً مع الرئيس على الفور. عدنا إلى السيارة وأسرعنا إلى البيت الأبيض، لكن سبقتنا ليموزين رامسفيلد ومركبات الأمن المرافقة إلى هناك.

دخلنا على الفور لمقابلة الرئيس. وكان نائب الرئيس وأندي كارد وكوندي رايس هناك بالفعل، وسرعان ما طلب الرئيس أن ينضمّ إلينا كولن باول. وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة، ديك مايرز، حضر مع الوزير رامسفليد.

في غرفة الطعام الخاصة مقابل المكتب البيضاوي مباشرة، بسطنا بعض الخرائط وأطلعنا الرئيس على المعلومات الاستخبارية التي لدينا. كنا صادقين معه بشأن حدود معرفتنا. كنّا نعتقد بأنّ المعلومات جيّدة - جيّدة جداً بالنظر إلى كيفية حدوث الأمور - لكن لم يكن في وسعنا أن نضمن أنّ المعلومات لن تكون خاطئة. ولا أن نقسم أنّها لم تكن حيلة أو نثبت أنّ صداماً لم ينقل ميتماً إلى الموقع للإيقاع بنا والاستفادة من الكارثة في العلاقات العامة. وفي النهاية، لن يكون اتخاذ قرار بالضرب أمراً سهلاً.

أبلغنا الرئيس أنّ من غير المرجّح أن نحصل على مزيد من المعلومات للمساعدة في اتخاذ القرار. وبعد لحظات حصلنا على المزيد. فقد تلقّى مصدر يقوم بحفظ الأمن في الموقع اتصالاً آخر. قال إنّ هناك شائعات تتداول بين زملائه بأنّ صداماً نفسه قد يظهر بين الثالثة والثالثة والنصف صباحاً بتوقيت بغداد.

وسرعان ما ورد تقرير آخر. التقارير الاستخبارية الفورية التي تصل وسط أزمة ما تحدث طوال الوقت في هوليوود، لكن ذلك مستبعد جداً في الواقع. استدعي رئيس مجموعة عملياتنا في العراق إلى خارج المكتب البيضاوي لتلقّي مكالمة مؤمّنة في مكتب مُن?Zظِّم مواعيد الرئيس. وقالت أحدث المعلومات إنّ من سيحضر إلى هناك سيكون في ملجأ. وإذا كان الملجأ حصيناً فإنّ الصواريخ الجوّالة لن تتمكّن من اختراقه. وذلك يعني أنّ قاذفات يقودها طيارون مطلوبة أيضاً.

كان من الواضع أنّنا على وشك اتخاذ قرار خطير. لكن لم يتضح هل سيكون ذلك القرار جيداً أم سيئاً. يجب استخدام قاذفات بي - 2 قبل تحييد الدفاعات الجوية العراقية. وعلى الأطقم الجوية الاعتماد على التخفّي والمفاجأة للنجاة في مثل هذه المهمّة. وقد رفع ذلك المخاطر.

أخذ الرئيس كل المعلومات وسأل عن آراء الحاضرين. كان بوسعك أن تراه ينتقل من وضع جمع المعلومات إلى وضع اتخاذ القرار. ثم انتقل إلى وراء مكتبه في المكتب البيضاوي وأمر بتوجيه الضربة. بدأت كارن هيوز ودان بارتلت بصوغ ملاحظات الإعلان الرئاسي بعد بضع ساعات، وفيه يعلن عن الضربة وعن أنّ الحرب قد بدأت.

كانت القيادة الوسطى في الدوحة تعدّ خطة توجيه الضربة. كان يجب إطلاق الصواريخ الجوّالة قبل ساعات من وقت الصدمة المرغوب. وفي غضون ذلك، أرسلت الأهداف إلى طائرات بي - 2 التي تحلّق عالياً بالفعل وتحمل قنابل تخترق الملاجئ الحصينة. كانت مزارع الدورا مجمّعاً كبيراً يضمّ العديد من المباني. اتخذ طومي فرانكس قرار استبعاد الفيلا التي تقيم فيها زوجة صدام من لائحة الاستهداف. كان يخشى أن يكون المبنى مملوءاً بالنساء والأطفال ولم يشأ أن يزيد من احتمال حدوث أضرار جانبية غير مقصودة. انتظرنا بقلق نتائج الهجوم، على أمل أن تختتم الحرب بمعجزة بأقل قدر من الخسائر في الأرواح أو الدمار.

بعد ساعات، انفجر نحو أربعين صاروخاً جوالاً قنابل وعدّة من طائرات بي - 2 في المنشأة. وسرعان ما بدأت أول التقارير الاستخباراتية يرد من الموقع. قتل أحد مصادرنا في الهجوم ونجا اثنان آخران وهجرا وحدتيهما العسكريتين. (أفيد لاحقاً عن أنّ رجال صدام عذّبوا زوجتيهما). عندما انبلج الفجر في بغداد، أفادنا أحد مصادرنا الآخرين بأنّه لمح صداماً يخرج من بين الحطام مزرق اللون. وقد وضع ذلك الشخص في سيارة إسعاف نقلته على عجل. كان لدينا سبب يدعونا لمدّة ساعات للأمل بأن يتحقّق هدفنا بتغيير النظام في الثواني الأولى من الحرب.

لم يحدث ذلك للأسف. في صباح اليوم التالي أحضرنا صور مزارع الدورا الملتقطة من أعلى إلى المكتب البيضاوي. كان واضحاً أنّ الفيلا الكبيرة في المجمّع لا تزال سليمة. هل نجا صدام وابناه من الموت في مبنى واحد استبعد من لائحة الأهداف؟ أبلغنا بعد الحدث أنّه عُقد اجتماع لمسؤولي حزب البعث في مزارع الدورا في تلك الليلة، لكن يبدو أنّ صداماً لم يكن بين الحاضرين على رغم الأضواء الحمر التي ظهرت على لوحة الحالة. غير أنّ المصدر الثاني الذي أفاد بأنّه شاهد إخراج صدام من بين الحطام ربما كان ينمّق قصّته. وعندما تمكّن ضباط الوكالة من الوصول إلى مزارع الدورا بعد بضعة أسابيع، حدّدوا أنّه لم يكن في وسع المصدر أن يرى ما أفاد به من الموقع الذي فيه.

لو أعطيت المعلومات والظروف نفسها لأوصيت الرئيس أيضاً بأن يجيز الضربة. أما كيف كان يمكن أن يتغيّر التاريخ لو تمكنا من إزاحة صدام في الليلة الأولى من الحرب، فليس أمامنا سوى أن نطرح الأسئلة. كم من الأرواح كان يمكن أن تنقذ؟ وما مقدار الدمار الذي كان يمكن تجنّبه؟ ومن دون وجود صدام في الظلال، هل كان يمكن أن تزدهر الظروف التي أفرزت التمرّد؟ لن نعرف ذلك قط. نعرف أنّ العديد من أفراد الجيش العراقي أبلغونا أنّهم لن يعملوا معنا ما دام صدام حياً لأنّهم يخشون من عودته إلى السلطة أكثر مما يخشون من الولايات المتحدة.

بعد فشل مغامرة «قطع رأس النظام»، مضى غزو العراق كما كان مخططاً له. في مقرّ القيادة الوسطى وفي «سي آي أي»، لم تكن شاشات البلازما التي تدعى «متتبّعة القوة الزرقاء» تعرض مواقع القوات الأميركية والوحدات العسكرية الحليفة فحسب، وإنّما أيضاً ضباط «سي آي أي» في الميدان والمصادر العراقيين الذين يقدّمون المعلومات الاستخبارية الفورية للمقاتلين. وكانت هذه الشاشات التي تتحدّث صورها باستمرار تساعد في أن تتفادى القوات العسكرية الأميركية المهاجمة استهداف رجالنا المنتشرين في مواقع متقدّمة عرضاً.

من أهدافنا في الجنوب قبل الحرب العمل على إخراج فرقتين عراقيتين تواجهاننا من القتال. وكان ما يصل إلى 90 في المئة من هاتين الفرقتين من الشيعة. كان أحد العراقيين الشيعة الذين جنّدناهم للقيام بأعمال تخريب من المحاربين القدامى في حرب الخليج الأولى ولديه العديد من الصلات في هاتين الفرقتين. أرسلنا له، عبر شبكات التهريب، أموالاً وهواتف للاتصال بأقربائه وأفراد قبيلته. وقد سمح لنا الجيش بإبلاغ الفرقتين بأنّ الولايات المتحدة ستقدّم إشارة واضحة لا لبس فيها بأنّ الأعمال القتالية ستبدأ. وطُلب منهم عندما يرونها أن يغيِّروا بدلاتهم ويعودوا إلى بيوتهم.

كانت الإشارة واضحة بالفعل. فقد أُطلقت قنابل النابالم والمدفعية على قمة جبل سنام في جنوب العراق. وعندما تقدّمت القوات عبر مواقع الفرقتين العراقيتين ومعاقلهما، كانت تجد أسلحة ومعدّات وثياباً عسكرية متروكة. غير أنّ المقاومة التي واجهتنا في الناصرية جاءت من فدائيي صدام، وهم مجموعة من البعثيين الموالين لصدام. لم نحسب أنّ الفدائيين بالقوة التي أظهروها. فقد استبعدتهم مصادرنا وصلاتنا العراقية باعتبارهم قوة مقاتلة غير مؤثّرة.

حقّق الغزو نجاحاً ابتدائياً كبيراً. فقد ذابت المقاومة العسكرية العراقية، وتشتّت النظام، وبقي معظم حقول النفط من دون أن يلحق به الدمار. لكن تعالت الأصوات عندما تقدّمت القوات الأميركية والحليفة نحو بغداد ودخلتها. كان من الواضح أنّ الائتلاف يفتقر إلى أعداد القوات الكافية، وكان يؤمل بأن تؤدي سرعة التقدّم و»الصدمة والرهبة» التي خلّفتها الضربة إلى جعل قوات العدوّ وديعة، وأن يسمح العراقيون بحدوث السلام والاستقرار بعد تحرّرهم من نير الاضطهاد. لكن الواقع كان شيئاً آخر.

--> أفادتنا تقارير صادرة من شبكاتنا الاستخباراتية - عشرات من المصادر البشرية في مواقع رئيسة - بأنّ الحرب لم تحدث تأثيراً كبيراً على المواطن العراقي العادي. فقد كانت الدقّة العسكرية الأميركية جيدة جداً إلى حد ما. وكانت الضربات الجوية تتوخّى العناية الشديدة في الاستهداف بحيث اعتاد المواطنون العراقيون الإشارة إليها بأنّها «حرب ديزني» - كثير من الجلبة والأضواء لكن من دون إحداث تأثير كبير. والحقيقة أنّ كثيراً من العراقيين لم يصدّقوا أنّ ما يجري غزو كامل إلى أن ظهرت القوات الأميركية في بغداد.

أحمد الجلبي

يقول المثل القديم إنّ ما من خطة عسكرية تصمد أمام أول احتكاك بالعدوّ، غير أنّ أجزاء من هذه الخطة الأميركية حلّت قبل مدة طويلة. فقبل أشهر من بدء الحرب، زار عقيد في الجيش الأميركي مقرّ قيادة «سي آي أي» وأبلغ العاملين في مجموعة عمليات العراق أنّه مكلّف جمع قوة قتالية من المنفيين العراقيين - سماهم قوة الحرية العراقية. وقال هذا العقيد إنّ الخطة تقضي بتدريب وتجهيز فرقة كاملة، نحو خمسة عشر ألف رجل. وأبلغني بعض أكثر المساعدين العراقيين خبرة أنّ ذلك خيال، وأنّه يكون محظوظاً إذا استطاع الحصول على ألف رجل. أكّدوا لنا أنّ قوة من اثني عشر إلى خمسة عشر ألفاً يمكن جمعها إذا اهتمّت الولايات المتحدة بذلك، وقدّم لنا العقيد مرجعاً لذلك هو أحمد الجلبي.

الجلبي من الشخصيات الأكثر إثارة للخلاف في المسرح العراقي، وهو مهاجر غادرت عائلته العراق في سنة 1958 حين كان فتى. نشأ في بريطانيا والولايات المتحدة. لم يكن للجلبي أي أتباع تقريباً في العراق، ولكن، مؤيّدون كثر في بعض الدوائر في الحكومة الأميركية. والجلبي ذكي جداً يحمل شهادة دكتوراه في الرياضيات من جامعة شيكاغو، وهو بارع وجذّاب ومتحدّث ماهر. في أواخر الثمانينات حوكم ودين غيابياً بالتزوير المصرفي في الأردن. وفي أعقاب حرب الخليج الأولى، كان فاعلاً في إنشاء المؤتمر الوطني العراقي، بمساعدة «سي آي أي». لكن في السنوات التالية، وجدت «سي آي أي» أنّه شريك لا يمكن الركون إليه. وعلى رغم أنها كانت تأخذ كل ما تسمعه من الجلبي بجرعة كبيرة من التشكيك، كان آخرون يرحّبون بأفكاره، مثل نائب الرئيس وبول وولفوفيتز ودوغلاس فايث.

اقترح ضباط الوكالة ثانية التروّي على العقيد. سيقول لك كثير من الأشخاص إنّهم سينضمّون إليك في مثل هذه المغامرة، لكن عندما يصل الأمر إلى مغادرة منازلهم المريحة في أوروبا، والشرق الأوسط، والولايات المتحدة، فإنّ الواقع سيكون مختلفاً جداً. لكنّ ذلك لم يثنِ العقيد، لذا أفيد عن أنّ المؤتمر الوطني العراقي بدأ يوزّع في مساجد أوروبا طلبات للالتحاق بـ «قوة حرية العراق». وكان الردّ أسوأ مما توقّعنا، فقد تسجّل حفنة من الأشخاص فحسب. وفي خريف 2002 ، اقترح ضباط الوكالة على وزارة الدفاع التخلّي عن فكرة قوة مقاتلة من المنفيين العراقيين والتركيز بدلاً من ذلك على تحديد عدد معقول من الأشخاص - ربما خمسة وعشرين - يمكنهم القيام بشيء مفيد، مثل العمل كمترجمين تحريريين أو فوريين. وتعرّضنا للسخرية ثانية. وعندما بدأت الحرب، كان ما تصوّرناه فرقة من قبل بلغ سبعة وسبعين شخصاً سيّئي التدريب.

اعتقدت بأنّنا لن نسمع عنهم بعد ذلك، لكن لم يكن الحال كذلك. ففي 5 نيسان (ابريل) 2003 ، ذهلت عندما علمت أنّ الجيش الأميركي نقل جوّاً إلى جنوب العراق مئات من «قوة حرية العراق» بقيادة أحمد الجلبي. كنت أحضر اجتماعاً للجنة المديرين في مجلس الأمن القومي عندما أخبرنا أحدهم أنّ الجلبي حطّ في الناصرية، على بعد 230 ميلاً جنوب بغداد. إن كان جرى أي بحث لحكمة إدخال الجلبي ومفرزته في القتال الدائر، فإنّه لم يجرِ على مسامعي أو مسامع أي من ضباطي الكبار. وبعد فترة طويلة من مغادرتي منصبي سمعت أنّ الجلبي كان يضغط على كبار جنرالات القيادة الوسطى لنقله مع مؤيّديه إلى منطقة الحرب لكي يضفوا الشرعية على أنفسهم. رفض المسؤولون الكبار في القيادة الوسطى ذلك الطلب ليلة 4 نيسان. وعندما استيقظوا في 5 نيسان، وجدوا أنّ بول وولفوفيتز أبطل أمرهم في البنتاغون.

كان السؤال عن مصدر قوات الجلبي لا يقل غموضاً عن سؤال كيف وصل الجلبي إلى هناك. ووفقاً للروايات الصحافية، فجأة تحوّلت فرقة الجلبي الهزيلة المكوّنة من سبعة وسبعين محارباً إلى «مئات» من المقاتلين. وعلمنا في ما بعد أنّه دفع إلى العديد من عناصر «فيلق بدر» السابقين لزيادة صفوف قواته. (أنشأ عسكريون عراقيون شيعة سابقون انشقّوا في أثناء الحرب الإيرانية - العراقية في الثمانينات «فيلق بدر» وأصبحوا ميليشيا ناشطة في إيران بدعم وتأييد من طهران). وتبيّن أنّ «قوة حرية العراق» عديمة الكفاءة كقوة مقاتلة. غير أنّ بعض عناصرها تطوّر ليصبح ميليشيا خاصة للجلبي، وشرعوا في مصادرة الأملاك والسيارات والثروات ليستخدمها المؤتمر الوطني العراقي. لم نكن الوحيدين الذين ذهلوا من وصول جيش الجلبي الصغير الخاص. ففي ذلك الوقت، طرح أحد العراقيين على مسؤول كبير في «سي آي أي» سؤالاً مناسباً: «كنت أظن أنّ الجلبي يقود حزباً سياسياً؟ هل تمتلك الأحزاب السياسية في بلدكم ميليشيات خاصّة بها؟».

على رغم هذه الأمور المشتتة للانتباه، نفّذت خطة الاستيلاء على بغداد بدقة. ويستحقّ رجال ونساء القوات الأميركية وحلفاؤها، وضباط استخباراتنا ثناء كبيراً على مهارتهم وشجاعتهم وتعاطفهم وانضباطهم. دخلت فرق «سي آي أي» بغداد في 7 نيسان. وفي الثامن منه، لم تعد حكومة صدام موجودة. وعلى مقياس من واحد إلى عشرة، سجّلت خطة الاستيلاء على البلد ثمانية على الأقل. لكن، حقّقت خطة «اليوم التالي» اثنين مع السخاء.

نقلا عن // الحياة //



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد