«احذرْ أنْ تُزرعَ إسرائيلُ برأسِك»

mainThumb

11-10-2023 05:25 PM

ألاحِظُ منذُ بدء العدوانِ على قطاع غزّة أنّ عددًا من الأصدقاء يكتبون وينقلون بالإنجليزيّة والفرنسيّة وغيرِهِما، وهذا مهمٌ جدًا.. في مخاطَبة شعوب العالم كَيْ تعرفَ أينَ تصرفُ حكوماتُهم أموالَ الضرائب التي يؤدونها، وكي يعرفوا أنّهم أمام إعلامٍ يقدّم لهم حقائق مغلوطة وروايات مشوّهة تستند إلى المظلوميّة التاريخيّة ودور الضّحية. لكن من المؤسِف القولُ أيضًا إنّه أصبح علينا أن ننقل ونكتب بالعربيّة أصلًا، ليسَ ما يجري فحسب.. بل كلّ ما جرى منذُ الجريمة النّاقصة: النّكبة؛ لأنّ (بعضَ) المواطنين العرب ليسوا مُغيَّبينَ عن حقيقةِ ما يجري وجرى فحسب، بل إنّ «إسرائيل زُرِعت في رأسِهم» كما كانَ حذّر مظفر النواب، ولأنَّ بعضَ الكُتابِ والصّحفيين (بأسماء عربيّة وعقول إسرائيليّة) يؤدّون أفضل خدمة للاحتلال الإسرائيليّ؛ إذْ يأتي موقفهم متصهينًا أكثرَ من موقف الإسرائيليين أنفسهم، ولأنّ المنظومة الدّوليّة والإعلاميّة عملت بشكلٍ ممنهج وعبر سنواتٍ طويلة على تشويه وتتفيه القضيّة الفلسطينيّة وإبراز أخطائِنا، ومحو الذاكرة العربيّة.

أيضًا، يكثُرُ الحديثِ عن (استِجلابِ) الفلسطينيّ للحرب، أو (افتعالها) كأنّه كانَ يعيشُ حياةً سعيدة قبلَ السّبت. وهذا طبيعيّ؛ لأنّ هناكَ أناس جُبِلت بالذُّل واعتادت عليه، وإنّها لا تتصور كيفَ ينتفضُ شعبٌ ضدّ موتِه اليوميّ، وحصاره في سجونٍ داخِلها سجون غير متناهية، ولا تتصوّر كيفَ أنّ هذا الشّعب تكوّنت لديه ذاكرة قويّة للألم والدّم، وأنّه من المستحيل أبدًا وقطعًا أن يتجاوز ملكيّته لأرضه وادّعاء الآخرينَ وسرقتهم لها. والأناس الذينَ جُبلوا بالذّل ويعيشونَ بمبدأ (الحيط الحيط ويا ربّي السّلامة).. هؤلاءِ من الطبيعيّ أن يطلبوا من الفلسطينيّ الرضى بالموت والاحتلال كحتميّة وجوديّة وأن يتكيّف مع كلِّ هذا.
وأيضًا، إنّ الحديثَ عن قتل المدنيين والأطفال هو أمرٌ غير صحيح إطلاقًا. فليسَ هناك مدنيين داخل هذا الكيان الذي يقوم على أرضنا، وتقوم مستوطناته على أرضنا أيضًا (والتي تعترف الأمم المتحدة بها كأرضي فلسطينيّة ضمن حل الدولتينِ الذي أصبحَ مستحيل التطبيق تمامًا)، وإنّ كلّ مستوطنيه يدخلون الخدمة العسكرية ويرتكبون المجازر بحقِّنا، أمّا قتل الأطفال فالوحيد الذي يقتل الأطفال هو الاحتلال (60٪ من المصابين في غزّة من الأطفال والنساء حسب الصحة الفلسطينيّة)، وإنّ أول رسالة قالها «قائد القسام» للمقاومين: لا تقتلوا الأطفال. وهو ما أكّده المستوطنون بألسنتهم وعلى إعلامِهم (شاهدوا مقابلة القناة 12 العبريّة مع مستوطِنة دخل المقاومون إلى منزلها). وإنّنا أكثر إنسانيّة.. رغمَ أنّ للإنسانيّة والأخلاق "معايير جماليّة".. ورغمّ أنّها أصبحت من الادّعاءات الكاذبة والمنحازة. أذكُر علي طنطاوي في هتاف المجد يقول: "إنّ الإنكليزي أو الفرنسي، لا يتأخّرُ عن شكرك إنْ ناولته المملحة على المائدة ، ولا يقصر في الاعتذار إليك إنْ داس على رجلكَ خطأً في الطريق ، وإنْ رأى كلبًا مريضًا تألم عليه وحمله إلى الطبيب.. ولكنه لا يجد مانعًا يمنع رئيس وزرائه أن يأمُرَ فيصبّ النار الحامية على البلد الآمن، فيقتل الشيوخ والنساء والأطفال، ويدمر ويخرب ويذبح الأبرياء، ويفعل مالا تفعله الذئاب... ويدعي أنه هو المتمدّن"، ورغمَ أنّ لا حد يستطيعُ أن يلوم الضحية، أذكُرُ نزار:
"يا من يعاتب مذبوحـًا على دمِهِ ونزفِ شريانِهِ، ما أسهَـلَ العـتبَا
مَنْ جرَّبَ الكيَّ لا ينسى مواجِعَه ومَن رأى السُّمَّ لا يشقى كمن شَرِبَا"
أمّا الحديث عن أنّ ما تقوم به المقاومة سيُفقِد الفلسطينيّ التّعاطف الدّولي، فمن الجيّد أن نسأل ماذا فعل هذا التعاطف الدوليّ للفلسطينيّ؟، وماذا يفيده؟ وهل سيدفَعُ عنه قنابل الفسفور التي تنهال على رأسِه؟ وهل سيرجعُ له ولو واحد بالمئة من أرضه؟.. هذا العالم يربطُ الحقَّ بالقوّة.. "يا عبد الله مسدّسُكَ القانونُ الدّوليّ" قال مظفر النّواب.
أيضًا، مرّة أخرى "لا يُفتي قاعدٌ لِـ(مُقاوِم)"، ولا تفتوا بما لا تعلمون. ولا تلوموا الضّفة الغربيّة إنّها الآن مقطّعة الأوصال مقسّمة كلُّ قرية على حدةٍ، ومغلقة بالسّواتر الترابيّة، وتحاول بما استطاعت وسطَ إجراءات احتلاليّة مشدّدة، وبعد سنواتٍ طويلة جدًا عمل فيها الاحتلال على تحويل مدنها لقطع جغرافيّة معزولة يغلقها متى يشاء، وعملَ ويعمل، ومعَهُ مَن يشاركه، على إنهاء أيّ عمل فكرة لعملٍ مقاوِم. ولكنّها رغمَ كلّ هذا الذي ذكرته باختصار شديد جدًا تقاوم، إذْ من صباح السبت شهدت نحو 24 شهيدًا وعشرات الجرحى وأكثر من 400 عملٍ مقاوِم، وتحاول بكلّ ما أوتيَ الفلسطينيون من عزيمة وقوّة ورغبة في التّحرر.
مرّة أخرى، استطاع الاحتلال أن يُمَرّر لِلُغة الصحافة العالميّة والـ(العربيّة).. لفظَ «حَيَّدَ وتَحييد» (neutralized)، بدلًا عن قَتَلَ (killing). في محاولة ربّما للتّحايُل على فِعْلِ القتل (الذي يحمل دلالة عالميّة واضحة ومتداولة) وهو ما يقومُ به وبدمٍ باردٍ.. أو في ادّعاء أنّ (الشّهيد) كانَ يمثّل خطرًا عليه لذا قامَ بتحييدِه، أو لأنّه كما صرَّح يرانا "حيوانات بشريّة".. لا ترقى حتّى في لغته لفِعل القتل، وهو يستخدم فعلَ القتلِ في وصفِ ما يحِلُّ بجنوده. الاحتلال يقتُل ولا يُحيِّدْ.. وقتلانا شُهداء يا وسائل الإعلام.
... شكرًا دائمًا لكلّ الأصدقاء والمثقفين والشّعراء والشّعوب التي بكت من الفرح وبكت من الحُزن واتّخذت مواقفَ حاسمة وجديّة وواضحة.. هذا "انتصارٌ شعريّ" كتبَ صديق، وآخرونُ كُثُر جدًا.. جدًا. شكرًا لسيّدة تدقُّ باب البيت تسأل عن العائلة. شكرًا لأصدقاء يسألونَ عن تفاصيل ما يجري كي يفهموا جيدًا ماذا يحدث. شكرًا لكلّ الضّمائر التي مازالت حيّة وقويّة وتعرفُ الحقّ ولا تسكتُ عنه.. شكرًا لكلّ من بكى حتى بينه وبينَ نفسه.. كلّنا عاجزونَ أمامَ ثقل الفجيعة.. وكلّنا تختلط مشاعرنا... لكن في المقابل... من لم تسعفه إنسانيته وضميره باتّخاذ موقفٍ فليخجل وليصمت على الأقل.. لا نُريد شيئًا آخر. "الخجل عاطفة ثوريّة" كانَ قرّر ماركس.. القليل فقط.. من أجل أرواح الشّهداء، والأطفال. القليل منه والصّمتْ إذا ضاقَ الكلامُ لهذه الدّرجة.
مرّة دائمة، الكلام فائض عن الحاجة ولا شيء ومتوتّر وعاطفيّ أمام بلاغة الفِعل، فِعل الشّهادة المُقدّس. فليغفروا لنا، هؤلاء الشّهداء، ونحنُ نغرقُ في يوميِّنا، وليغفروا أشياءنا النّاقصة.. وتلعثُمَنا قُدّام أنفُسِنا.. كأنّ "شيئًا فينا يموت"، وننتبِهُ شاكِّين بفلسطينيّتنا حتّى، فنخجَل.. ونخترعُ طرقًا خاصّة للحداد، طرقٌ عاجِزة.. كأن نحفَظَ أسماءَهم لننقِذهم من ركضِ الأرقام.. كأنْ نشاهد جنازاتِهم وهي صاعدة إلى السّماء.. طرقٌ عاجِزة.. ونشكُّ أكثَرَ إنْ كُنا فعلًا نرفعُ العتب عن أنفُسنا أمامَ أنفُسِنا، ونشكُّ أنّا تحجّرنا.. وأنّهم كانوا ومازالوا من طينٍ طريٍّ فلسطينيّ له رائحةٌ وأثَرَ... لم تُحجِّره المرحلة.. لم توسِّخه المرحلة.. سلامٌ عليهم.. يُخفِّفون "وجعَ الأرض" الذي حملوه على أكتافِهم.. ويفطِرونَ قلوبنا...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد