«يا إشعيا .. أُخرج قليلًا من دَمي»

mainThumb

27-10-2023 06:27 PM

 


يريدُ نتنياهو، رئيس وزراءِ الاحتلال، أن يُحقّقَ نبوءة إشعيا أو (إشعياءْ بالهمزة المهملة)، في حربهِ الوحشيِّةِ ضدَّ "الحيواناتِ التي في هيئةِ بشر"، ولإشعيا نبوءاتٌ كثيرة كلُّها ملطّخة بالدّم والقتل ومذابح ربّ الجنود، وأستحضر درويش: «أنادي إشعيا: أُخرج من الكتب القديمة مثلَما خرجوا، أزقَّةُ أورشليم تُعَلِّقُ اللّحم الفلسطينيَّ فوق مطالِعِ العهدِ القديمِ، وتدّعي أنّ الضحيةَ لم تُغيِّر جِلْدَها...أٌخرج قليلًا من دمي..».
لا شكَّ أنّ نتنياهو يعلُنُ الحربَ الدينيّة، وهو يعنيها لو استطاعَ، لكنّ الحقيقة أنَّ "خطابه" موجّه لـ"سُكّان" الكيانِ المحتل، إذْ يستمرُّ باستحضارِ المرجعيّة الدينيّة للحروبِ والإبادة التي يقوم بها، قصدَ حشدِ أكبرِ تأييدٍ ممكِنٍ باستغلالِ "عاطِفة" الدّين أو التّدين، (ما الذي أوصَلَ "اليهود" إلى فلسطينَ أصلًا سوى ما اتّخذته الحركة الصهيونيّة من ادّعاءاتٍ دينيّة توراتيّة أصلًا)، ولا شكَّ أنّ مشروع الحركة الصّهيونيّة مبنيٌّ على التوسّع والامتدادِ إلى حدودِ النيل والفراتِ، فهم دائمًا ما يستحضرونَ نبوءاتِ إشعيا، بنفسِ قدرِ استمرارِ استحضارِ عقدةِ الضّحية والسّبي والتّشتت والمحرقة، ورغبة الانتقام:«يا إشعيا... لا تَرْثِ بل أُهْجُ المدينةَ..».
أمامَ هذا، وعدد الشّهداء يصلُ، وقتَ كتابة هذا المقال، أكثر من سبعةِ آلافٍ وثلاثمئةِ شهيدٍ نصفهم من الأطفال، يصبحُ الحديث صعبًا عن أيّ شيء، ولكن من المؤسِف أنّ أيّ حديث عقلانيّ عليه أن يواجه لازمة عربيّة فلسطينيّة جديدة "مِشْ وقته"، فيصبحُ كلّ شيء مؤجلًا إلى الأبد، ومنذورًا للنّسيانِ. لا أحدَ يريدُ أن يخوضَ في شيء، وتكفي "البكائيّات" القصيرة والمريحة، و"البكائيات السياسيّة" لرفع العتب أمامَ دعواتِ "الفُرجة"، واستمرار تقديم "الخذلان" بدعوى المؤامرة على أنّه "ذكاء سياسيّ" و"فنّ الممكن".
... وببطء يُسدل السّتار على غزّة، ويتعبُ المتابِعونَ من "البَعيد"...، (فيما لا يتعبُ الجنديُّ الإرهابيُّ القاتِل، ولا شيءَ يُساوي تَعَبَ الفلسطينيِّ تحتَ صوتِ كلِّ قصفٍ بينَ احتمالاتِ الموتِ)..، (ويعترضونَ على مشاهدة الصّور القادمة من هناكَ حتّى..) وتصبِحُ مواصلة الحياة في على بُعدِ كيلومتراتٍ قليلة انتصارًا للوجودِ المهدّد أصلًا، واستمرارًا للبِناءِ المقوّض والمنتهك، وتختَزلُ القضيّة في بضعِ شاحناتِ مساعداتٍ؛ كي يموتَ المهجَّرونَ الجُدد الفلسطينيونَ بشكلٍ "لائق"، وتختزلُ الحُروب في "فتوحاتِ" مجلسِ "العبث" الدّوليّ، الذي وبعدَ هذا الجري الماراثونيّ في الفَشَل، إنْ استطاع اعتمادَ قرار، فسيكونُ قراره (دعوةً) لوقفِ إطلاقِ النّار، وتلكَ السّاعة ابحثوا عمَّن يستجيب لهذه الدّعوة.
حالة الهشاشة الفكريّة الحقيقية فضحتها هذه المواجهة، فما بينَ شعارات "عدم ضياع السرديّة الفلسطينيّة"، وبينَ الهتافات العاطفيّة، وبينَ شعوب وأفراد ومثقفين لا يبحثون (ولم يكونوا يبحثوا) عن موقف مستند إلى التاريخ والسّياسة والفهم، يستمرّ تداول الوضع الفلسطينيّ كأنّه وليد الأمس، أو كأنّه حرب بين طرفين، أو كأنّه نزاع طبيعيّ على "جيب" انفصاليّ، أو كأنّه قضية إنسانيّة عابرة.
إنّ المطلوبَ لوقفِ عدوانِ الاحتِلال يأتي على مستوياتٍ، ما يُطلبُ من الفردِ.. ليسَ نفسه ما يحتّمه الواجبُ على الجماعة، وليسَ نفسه على الحكوماتِ والدّول. وما يطلبُ من الفلسطينيين ليسَ نفسه ما يحتّمه الواجبُ على "العرب".. لذا؛ على الفلسطينيين أن يتخذوا مواقفَ متقدّمة تحدثُ فارقًا في هذه اللحظة غير العقلانيّة.. التي نتعرض فيها لإبادة جماعيّة، هذه الإبادة التي لن تتوقّف في غزّة. لا أحدَ يبحثُ عن (توريط) الإقليم بحربٍ إقليميّة، بل نبحثُ عن توريطِه باتّخاذ موقف سياديّ احتجاجيّ ضدّ امتهانِ واحتقارِ كلّ ما هو عربيّ، وضدَّ اعتبارِ كلّ هذه الدّول غير موجودة أصلًا ضمنَ حساباتِ الاحتلال والغرب والولايات المتّحدة، وضدَّ استمرار التّنكر لحقوق "مرحليّة مدنيّة" لشبه دولة، بأنْ يوقف إمدادات النّفط والغاز.. أو أيّ إجراء من شأنِهِ الضغط لوقف العدوان، أو من شأنه أن يقول: "نحنُ هنا".. بدل استمرارنا في تقديمِ مواقف "مُريحة ومُرَيِّحة" ترفع اللّوم عن كلّ الحكومات أمام شعوبها، إنّهم يقولون: "هذا موقف الفلسطينيين أنفسهم، هل نأخذ موقفًا متقدمًا عليهم؟"..
... هذه اللحظة ربما تكونُ الأخيرة... وشئنا أم أبينا فإنّها أعادت القضية الفلسطينيّة إلى الواجهة بما لا يقبل الشكّ أنّ هذه القضية لن تموت ولن يجري حلّها بالتّجاهل وباعتبارها مُتجاوَزة... هل سيستمرّ الموقف الفلسطينيّ بـ"الفُرجة"؟.. على الأقل... "البريغماتيّة" تُحتّم "الاستثمار" في اللّحظة... هذه لحظة مؤسِّسة... إذا لم يهتزّ فينا شيء الآن فلَنْ... ونستمر بالتّرديد أنّ "هذه مؤامرة كبيرة" ("غزّة تآمرت على نفسها مع العدوّ" أقتبس هذه الجملة التّهكميّة من عبد الرحيم الشيخ).. وفقط.. السؤال الأساسيّ والبسيط: ماذا نفعل حيالَ هذه "المؤامرة" المزعومة؟..

«أُنادي إشعيا: أخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا
أَزقَّةُ أورشليم تُعَلِّقُ اللحم الفلسطينيَّ فوق مطالع العهد القديم
وتدّعي أن الضحية لم تُغيِّر جلدها
يا إشعيا... لا تَرْثِ
بل أُهْجُ المدينةَ كي أُحبك مَرَّتين
وأُعلنَ التقوى
وأَغفر لليهوديِّ الصبيِّ بكاءه..
اختلطتْ شخوصْ المسرح الدمويّ:
لا قاضٍ سوى القتلى
وكفُّ القاتل امتزجَتْ بأقوال الشهودِ،
وأُدخل القتلى إلى ملكوت قاتلهم
وتمَّتْ رشوةُ القاضي فأعطى وجهه للقاتل الباكي على شيء
يُحَيِّرُنا...
سَرَقْتَ دموعنا يا ذئب
تقتلني وتدخل جُثَّتي وتبيعها..
أُخرجْ قليلاً من دمي حتى يراك الليلُ أَكثر حُلْكَةً!
واخرجْ لكي نمشي لمائدة التفاوض، واضحينْ كما الحقيقةُ:
قاتلاً يُدلي بسكَّينٍ،
وقتلى
يدلون بالأسماء: صبرا، كفر قاسم، دير ياسين، شاتيلا!» (مديح الظل العالي، درويش)

 

* كاتب فلسطينيّ

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد