قراءة في المشهد الحاليّ: الحل الإقليمي والمقاومة والمؤامرة

mainThumb

20-10-2023 11:57 PM

 

خاص بـ"السّوسنة"

في أغسطس (آب) 2022، وبينما كانَ الجميعُ منشغلًا بمحاولة التّقدّم الطبيعيّ في حياتِهِ غير الطبيعيّة والتي ترجعُ للوراء في قطاعِ غزّة، وبينما كانَ "إرهابيو الصّواريخ" كما أصبحَت تسميتهم حاليًا، نائمينَ، وكنتُ أنا أيضًا نائمًا في طريقي من الرّباط إلى الصّويرة، شنّت قوات الاحتلال عدوانًا (استباقيًا) على غزّة، راحَ ضحيّته عشراتُ الشّهداء والجرحى. هذا للتّذكير فقط، لأنّ لدينا ذاكرة سمك وأسوأ، ولن أذكُر أيًّا من الحروب السّابقة على القطاع، والتي تمّ أغلبها بنفس الطريقة، عندها لم يكن هناك "7 أكتوبر"، (بطولتنا وذريعتهم)، وذريعة بعضنا أيضًا من مُدّعي الإنسانيّة المشوّهة، الراغبينَ بحياةِ منتهكة، والذينَ يعيشونَ في طبقات معزولة ولا يعرفونَ ماذا يحصل لا في غزّة على مدار السّنوات ولا في الضّفة. أكتبُ هذا، للمرّة الأخيرة، موجهًا كلامي لنا، نحنُ العربَ والفلسطينيين، الذين نمتاز بأنّ لدينا قدرة خارقة على "فزلكة" الأمور، والتّفلسف فيها، ضمنَ نظريّة مؤامرة مخفيّة نعرفها وحدنا، ونتستّر عليها، ونلمّح إليها بالقول: "آآخ مؤامرة وبس.. خلينا ساكتين"، ونحنُ في الحقيقة.. لا نملِك سوى مجموعة آراء معلومة بالضّرورة مسبقًا، في كلّ مرّة نصدم فيها عندما تعود لتطفو على السّطح السياسيّ أو الإعلاميّ، ونظنُّ أنّها سرٌ نملكه وحدنا. لذا هذه نقاط أساسيّة:
أولًا: إنّ الحديثَ عن الحلِّ الإقليميّ ليسَ وليدَ اللحظة هذه، ولا حتّى وليدَ ما أسماه "ترامب" قبلَ سنواتٍ صفقة القرن، التي واجهناها بالدّعاء والشتائم، بل إنّه وليد مشاريع إسرائيليّة قديمة، وكثيرة عملت عليها وطوّرتها خلال عدّة سنوات وعلى مراحِل.. ابتداءً من مشروع "يغئال ألون" في السّبعينات، إلى الورقة التي تقدّم بها مستشار الأمن القوميّ السابق لدى الاحتلال "إغيورا آيلاند" (Giora Eiland) والصادرة عن مركز بيغن السّادات، والقائمة على فدراليّة مع الأردن، وتبادل 720 كم مربّع من سيناء مع النّقب باختصارٍ شديد. (وإذا كانَ "مُرسي" قالَ إنّ مشروع سيناء طُرح عليه، وإذا كانَ "مبارك" قبله قال هذا، فهو صحيح).
ثانيًا: إنْ سلّمنا أنّ الاحتلال عازم على تنفيذ هذه الخطة، علينا أن نسألَ نفسنا السؤال الأول وهو: هل هناك (فصيل فلسطينيّ) يقبلُ أن يكونَ الجسرَ لتنفيذ هذه الخطّة؟ و.. هل هناكَ حاجة لإشراك فصيل فلسطينيّ لخلق مبرّر لها؟.. لم يبحث الاحتلال ولا المجتمع الدّوليّ طوال حياته عن أيّ مبرّر لقتلنا وتهجيرنا. إنّه ينفّذ ثمّ يتذرع بحماية مصالحه و"حق الدّفاع عن النفس" وانتهى. وإذا كانَ هناك "تَغرير" بالمُقاومة لتدخل هذه الحرب، لأنّ هناكَ من سيُسندُها ثمَّ خُذِلت، فإنّه سيناريو ممكن، لكنّها دخلته بإيمان مطلق بفلسطين، وبدورِها.. وبأنَّ هذا الردّ الطبيعيّ على كلِّ ما يقوم به الاحتِلال؛ ولأنّ جحيم الحصار الخانق في غزّة والحروب المتكرّرة جعلت الحياة غير ممكنة، ولو سلّمنا أنّ هناكَ "تغريرًا" فلا أظنُّ أنّ لإيران أو روسيا أيّ مصلحة في تنفيذه، تمامًا كما أنّه يشكّل خطرًا على دول الإقليم بنفس قدر الخطر على القضيّة الفلسطينيّة، مَن يريدُ الحلَّ الإقليميّ وإنهاء الصّراع الفلسطينيّ وتحقيق سبقَ في هذا معروف تمامًا، والأردن ومصر تعرفِانه.. تمامًا، وتعيانِ ذلك في رأيي.
ثالثًا: المنزعِج جدًا من الدور الإيرانيّ في المنطقة، والذي يدعونا للتّفكير بطريقة مختلفة بإيران، أقولُ له إنّ تنامي الدّور الإيراني نتيجة طبيعية لوصول الدور العربيّ إلى أسفل سافلين، ووقوفه مواقف مخزية إلّا قلّة قليلة، وإنّ "الطبيعة" لا تقبل الفراغ. وإنّنا لم ننسَ أبدًا.. أنّ إيران وحلفاءها في المنطقة وأوّلهم سوريا (التي ينتهك طيران الاحتلال سيادة سيادتها) ساهموا في خرابٍ كبيرٍ في الوطن العربيّ، ولم ننسَ دماءَ السّوريين، ولم ننسَ أبدًا أنّ "حركة أمل" ساهمت في مجازر صبرا وشاتيلا، ولم ننسَ أيّ شيء متعلّق بالدور الإيراني، لكنّ إيران (وحلفاءَها) هم مَن قدّموا الدّعم للمُقاومة الفلسطينيّة حاليًا هذا من جهة، ومن جهة أخرى نفرح بكلّ رصاصة تُطلق على هذا "الكيان" ولو أطلقها عَبَدَةُ الشّيطانِ نفسه، وإنْ كانت "المناوشات" في الشمال الفلسطينيّ المحتل لا ترقى إلى الآن لربع الخطابِ الذي يتمُّ ضخُّهُ منهم.. وكانَ أقلُّ شيء يمكن فعل تحرير مزارع شبعا والجولان. والمنزعج من الدّعم الإيرانيّ وأنّه دعم مؤدلج له أهدافه، فليخبرني عن "الدّعم الأوروبي" واشتراطاته وإيدولوجيّته التي يفرضها بوقاحة في كلّ مرّة يقدّم فيها دعمه للسّلطة الرسميّة أو لمنظمات المجتمع المدنيّ (NGOs) في فلسطين، وفي الدّول العربيّة كافّة. وأيضًا.. المنزعج من الدّور الإيرانيّ في المنطقة فليُحاسِب الدّول التي تفتح أبوابها لهذا الدّور، وعلى رأسها الآن السّعوديّة التي (تصالحت) معه، والتي لا أحدَ يفهم ماذا تفعل حاليًا. ولا يأتي ليحاسب فصائِل تحرّر وطنيّ.. غُلِّقت في وجهِها كلّ الأبواب.
رابعًا: إذا كانَت المُقاومة الفلسطينيّة في غزّة، وإثر ضربتها القويّة جعلت الاحتلال تحتَ هولِ "الفجيعة" والهزيمة التي لحِقَت به يريدُ أنْ يُسرّع تنفيذ هذه الخطّة المزعومة للتّهجير، فإنّ هذا أمرٌ لا تتحمّل مسؤوليّته المُقاومة. وإنّ هذا الأمر نفسه لو عدنا في التاريخ تكرّر مع منظمة التّحرير الفلسطينيّة، عندما جاءَ القرار الإسرائيليّ مدعومًا بموافقاتٍ عربيّة على إبعاد المنظمّة تمامًا إلى أبعد نقطة جغرافيّة عن فلسطين التاريخيّة، فكانَ "خروج بيروت" خاتمة المشهد، وإبعادها عن أبعد نقطة عن فلسطين التّاريخيّة "فكانَ اغتيالُ قادة عسكريينَ عظام"، وأجبرت المنظمة على الدّخول إلى "مسارِ" التّفاوض، وكتبَ محمود درويش في 1982.. "وإذا استجابت للضغوط (أي منظمة التّحرير) فهل سيُسفرُ موتُنا عن دولةٍ أم خيمةٍ قلتُ ابتسم لا فرقَ بينَ الرّايتين"، هل يُمكننا أن نلوم منظمّة التّحرير على حِصار بيروت؟ هل يمكنُنا أن نلومَ أيّ بندقيّة فلسطينيّة.. قالت "بيروتُ لا".
خامسًا: إذا كانَت المُقاومة المُسلّحة "عبثيّة"، فإنّ قمّة العبثيّة أيضًا هو ما يأتي على الجهة المقابلة من هذا الفعل (فعل المُقاومة)، وإذا كانت لم تحقّق أيّ شيء للشعب الفلسطينيّ، فإنّ "التّفاوض" ليسَ لم يحقق فحسب، بل إنّه جعلَ الخساراتِ فادحة، في الأرض والموقف والتّاريخ والإنسان والجيل والفهم. وإذا كانت المُقاومة تشوّه صورتنا أمام العالم، فإنّ هذا العالم مشوَّه أصلًا، وماذا فعلنا بكلّ هذا الكمّ الهائِل من "استجداء" المجتمع الدّوليّ، الذي يستجدي نفسه، والذي يعتبرُ أنّ بيانَ إدانته حتّى كثيرٌ علينا...، وإذا كانت المُقاومة تُساهم في استشهاد الفلسطينيين.. فانظروا إلى الضفّة الغربيّة والشّهداء على الحواجز وفي بيوتهم والأسرى والهدم والتّفجير والانتهاك والمستوطنات، هذه ليسَت مرافعة..؛ ففكرة أنّ شعبًا يقاوم الاحتلال الذي يستمرُّ بقتله وسرقة أرضه وتقويضِ آماله فكرةٌ لا تحتاجُ لمرافعة أبدًا، ولستُ بحاجة إلى استدعاء تاريخ التّحرر الوطنيّ في كلّ دول العالم.
سادسًا: أمام استمرار العدوان الذي طالَ كلّ (المحرّمات) في الحروب، وفشل دولِ العالمِ كافّة في وقفه، ومُحاولة حصرِ الأمرِ برمّته في إدخال "عشرينَ" شاحنة مساعدات بعد نصفِ شهر لمليونينِ ونصفِ المليونِ إنسانٍ في غزّة، وأمامَ وقوفه تمامًا وبوقاحة مطلقة، وبلا أقنعة على وجهه، وبلا كذب متقن حتّى، مع ظلم الاحتلال.. يبدو السؤال ملحًا: كيفَ سيقوم هذا العالم بضمان قيامِ دولة فلسطينيّة على أساس حل الدولتين أو حلّ العشرة دول، وكيفَ سيعمل على تطبيق قرارات الأمم المتّحدة التي شاخَت، وكيفَ سيقوم بحماية شعبنا؟
سابعًا: في دولةِ الظّلم.. القائمة على الباطِل، والمريضة بعُقد القتل.. والمتلبّسة بدور الضّحية، يخرجُ مسؤولوها ليتحمّلوا فشلهم أمامَ ما جرى يوم السابع من أكتوبر، وليقولوا لـ"سكّانها" لقد فشلنا في حمايةِ "مستوطنات الغلاف".. في الجانِب الآخر.. جانب الحقّ الفلسطينيّ.. لم يتحمّل أحدٌ نتيجة أيّ فشلٍ مدقع نموتُ داخله، بل يتم استمرارُ النفخِ فيه وهو جثّة هامدة.
ثامنًا: أمامَ كلِّ هذا... وبدقيقة من المنطق والاعترافِ بالخذلانِ والعارِ المطلق والفشل لو بيننا وبينَ أنفسنا.. ماذا علينا أن نفعل؟.. أن ننتظر تهجير غزّة ليأتي دورُ الضفّة؟.. هل هذا الردّ المنطقيّ، أم نستمرَّ في وهمِ الدّولة وفقاعتها حتّى تدخل دباباتُ الاحتلال رام الله.. الأمر اليوم يحتاجُ قرارًا حادًا وجريئًا.. والاحتلال لا يُريد إدارة الضفّة.. وبيدنا أوراق كبيرة.. لو قرّرنا أن نصرخَ في وجه العالم.
تاسعًا: لا أحدَ لديه يقين مطلق حِيالَ ما تمَّ في "كواليس" الإفراج عن الأسيرتَين الأمريكيّتين. ورغمَ أنّي ربما ضدّ بادرة "حسن النيّة" أمامَ قنابل أمريكا التي تقصفنا، إلّا أنّ هناك أصدقاء ينقلونَ عن غضب عندَ المستوطنين جراء خروج الأمريكيين وعدم اهتمام الاحتلال بمصير جنوده وسكّانه. هذه وجهة نظر، ليسَ بالضّرورة أن نُعارض، وليسَ بالضّرورة أن نصفّق لكلّ شيء، لدينا عقول نحترمُها.. فاحترموها أنتم.
عاشرًا: إنّنا عاجزون إلّا من هذا الكلام، وإلّا من الجنونِ الذي يغلي داخِلنا. وأكرّر أنّني كلّما تهتُ أنظرُ إلى يقينِ الناس في غزّة، إنّه يهدُّ الجبال ويُهدْهِدها.. فانظُروا إليه. وإنّ لديّ قناعة تامّة ومطلقة أنّ مقاومة هذا المحتلّ بكلّ الطرق هي السّبيل الوحيد للتّحرير، وإنْ كانَ الشّعراء حالمينَ أكثر من غيرهم وإن كانوا يصابون بانتكاساتٍ حادّة ويبدو أثر الخذلانِ في وجوهِهم لا يُطاق، إلّا أنّ لديهم يقينٌ بسيط يستمدونه من التاريخ والمنطق وصبر النّاس هناك.. أنّ الاحتلال زائِل.. ولا يوجد احتلال بقيَ أبدًا. إنْ وصلتم إلى هنا فأعتذر عن الإطالة.. مع أنّ هول الأمر يسلب منّا القدرة على القراءة وحتّى الكتابة... ومَن وجدَ في نفسه شكًا مما يجري وجرى.. ومَن وجد أنّ لديه أسئلة مربكة.. فربما في هذه الحالة فقط.. يعتبرُ صمته أفضل من كلامِه.. كي لا يزيدَ على هوّة الحزنِ هوّةً أخرى.....

 

* كاتب فلسطينيّ

 

المزيد:



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد