«أحَدَ عشرَ كوكبًا على أول المشهد الغزّي»

mainThumb
REUTERS/Mohammed Salem

17-10-2023 06:56 PM


تستمرُّ، لليوم الحادي عشر على التّوالي، "مُرافعة" الفلسطينيّ العزلاء أمامَ آلة الموتِ والدّمارِ والاحتلالِ، وأيضًا أمامَ وقاحة المجتمعِ الدّوليّ برمّته، الواقفِ ليسَ شاهدًا على دمنا، بل شريكًا أساسيًا في إراقته، إذْ فقدَ قادته عقلهم.. واستنفذوا "حصافتهم" الكاذبة أمام وسائِل الإعلام، حينَ الصّدمة بالفعل الفلسطينيَّ الخالِقِ والخارِق أسقطَت "ورقة التّوت" السّاقطة أصلًا، وعرَّتْ ما كانَ واضحًا لنا منذُ زمن، وأفقدتهم صوابَهم أمامَ مشهدٍ لم يتخيّلوا رؤيته. فصائل مقاومة فلسطينيّة بإمكاناتٍ بدائيّة أذَلَّت الدّولة/ الكيانَ الذي أنفقوا عمرًا وأموالًا لا يمكنُ حصرها على تقويته وإقامته. ما يمكنُ التّسليمُ به أنّ الهزيمة فعلٌ يأتي من الدّاخل، والاحتلالُ مهزومٌ أبدًا، وفي وضعٍ مضحك، مع أنّه ليسَ وقت الضّحك، وهو يطلبُ ملياراتِ الدّولارات، وتتحرّك لأجله البارجات الحربيّة والطائرات من كلّ دول العالم، لينتصِر على العُزّل والأطفال. التّاريخ يعطينا درسًا الآن كيفَ أنّ تثبيتَ (الباطِل) في غيرِ أرضِه ومحلّه أمرٌ صعبُ التّحقيق، وكيفَ أنّ الحقَّ والشّعورَ به هو شيءٌ أصيلٌ غيرُ مكتَسب، وأنّ الاحتلالَ مهما طالَ فإنّه في وعيه ولا وعيِهِ يدرِكُ أنّه احتلال، وأنّه (فاشِل) بكلّ ما تحمله الكلمة، فاشلٌ بإقناعِ "سُكّانه" أنّ أرضنا أرضهم، وفاشِل في فهمنا واستيعابِ الممكنِ والمستحيل، بعدَ أن حوّلنا لحقلِ تجارب لنظرياته كلّها. وهذا السّعارُ.. منه ومِن المناصِرينَ له، هوَ سُعارُ ما بعدَ الصّدمة.
"أحدَ عشرَ كوكبًا.. على أوّل المشهدِ الغَزّي"، وأستعيرُ من محمود درويش نبوءته العبقريّة، حينَ كانَ استدعى انهيارَ الأندلسُ، ليحذّر من الانهيارِ والانزِلاقِ الأخيرِ إلى مائِدة التّفاوض، بعدَ أنْ كانَ قالَ، مباشرةً بعدَ الخروجِ من لبنانَ في (سِفْر) مديح الظِلّ العاليّ: "تقتلني وتدخل جُثَّتي وتبيعها! (...) اخرجْ لكيْ نمشي لمائدة التفاوضِ واضحينَ كما الحقيقةُ: قاتلًا يُدلي بسكَّينٍ.. وقتلى يدلونَ بالأسماء: صبرا.. كفر قاسم.. دير ياسين.. شاتيلا"، ولم نستمع.. وأعادَ في أحدَ عشرَ كوكبًا..: "إنّ هذا السّلام سيتركُنا حفنةً من غبارْ". الآن.. من حفنةِ الغبارِ هذه، والتي دخلت عامها الثّلاثين، يبدو المشهد الفلسطينيّ مقسّمًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فثمّة (فلسطينانَ) على الأقلّ كما قلتُ سابقًا.. تعلّمانِنا كُلّ يوم معانٍ جديدة للامتدادِ أو النّكوص، ودروسًا واقعيّة كيفَ نعيدُ رؤية البِلاد، وكيفَ الأحياءُ القِلّة عَرفوا الطّريقَ ولم يضلّوا. ثمّة فلسطين التي يتخلّقُ في رحمِها، مازالَ، الصّوتُ الواضِحُ والاتّجاهُ الواضِحُ، تشتري ولا تبيع، وثمّة ادّعاءات وأوهام أخرى لا نَعرفُها، لا زالت تتناسَل مُتشوِّهَةً ومُشوِّهَة، وإنّ الأولى، بكلِّ ما أوتيت من قوّةٍ ووحدانيّة، تنفي الثّانية وتُبدِّدها، وتكشِفُ الوهمَ المفضوحَ.
يبدو من المنطقيِّ أنّ الشّعراء أقلَّ قدرةً، بلغتهم ومجازِهم الحالِم، على كتابةِ نصٍ سياسيّ مباشر وعقلانيّ، رغمَ أنّهم الأقدر، كما عند درويش على الرؤية والاستشراف، لكنّ تحوُّل السياسيينَ في (بلادِنا) إمّا إلى مُحلّلينَ سياسيين، وإمّا لمراسِلي أخبار، وإمّا لـ"صليبٍ أحمر"، يستدعي أن يقومَ كلّ قادرٍ بالكتابة والتّعبير عمّا جرى ويجري. لذا؛ أجدُني مضطرًا للتّعليقِ على عدّة نقاط أساسيّة ضمنَ نطاقها السّياسيّ، أمّا في نطاقها الشّعري والثقافيّ والإنسانيّ والفلسطينيّ فإنّنا لن نتنازل عن شبر واحدٍ من أرض فلسطين التاريخيّة. وهذه أسئلة للتفكير لا تحتاجُ إلى إجابات أبدًا. منها، أنّه في الوقت الذي يقفُ فيه العالم كلّه متفرجًا، ولم تستطع الدّول كلّها كبيرها وصَغيرها إدخالَ حبّة دواء أو لتر ماء لغزّة، فيما تأكد أنّ جهودها مستمرة وهي جهود حقيقيّة تحاولُ فقط فتحَ ممرّ إنسانيّ لدخول المساعدات.. يقوم الاحتلال بقصف معبر رفح البريّ مرّة أخرى عصرَ أمس الإثنين، في رسالة واضحة للجميع لا تحتاجُ شرحًا، حتّى لـ"حلفائِه"، وأيضًا فشِل (وهو كذلك لا يفعلُ شيئًا سوى الفشل) في وقتٍ مبكّر من الثلاثاء، مجلس (الأمن) في تمرير مشروع قرار وقف إطلاق النّار الإنسانيّ الذي تقدّمت به روسيا، وله تاريخ طويل جدًا عنوانُه الفشل، أو "قرارات على بند غير ملزِمة التّطبيق"، بعد هذين المثالين فقط، وهما عدم قدرة العالم أجمع بـ(إقناع/ إجبار) الاحتلال بدخول المساعدات الإنسانيّة، أو استصدار قرار فوريّ لوقف إطلاق نار إنسانيّ، كيفَ يمكن الثقة بهذا المجتمع الدّوليّ لإعطاء الفلسطينيّ دولةً؟. والجميع يعلم أنّ الواقع على الأرض يستدعي، لو تقرّر تطبيق حل الدّولتين، تفكيك مستوطنات، وتسليمَ معابر، وعشراتِ القضايا التي يبدو من البديهيّ أنّ أحدًا لن يستطيع (إقناع/ إجبار) الاحتلال على إنجازها. لذا؛ فإنّه، وبعدَ كلّ هذا، وبعدَ كلّ إجراءات الاحتلال التي "قوّضت حلَّ الدولتين" بشكلٍ كامل، فإنّ حلَّ الدّولتينِ قامَ بحلِّ نفسِهِ أصلًا، ومِن المهمّ إدراك هذا بوضوح، والتّفكير في نقطة أخرى للانطلاق لمرحلة أخرى.
أضف لكلّ ما سبَقَ، أنّ استمرار اعتبار الولايات المتّحدة "وسيطًا للسّلام"، أمرٌ مخالف للمنطق والعقل، "فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ" تصلُحُ في الشّعر لا في السّياسة. لذا؛ فإنّ استمرار النّفخ في جثّة الحل السّلمي بذاتِ المرجعيات، وبذاتِ الطّريقة، هو "عبَث".. لن يجرُّ إلّا لمزيدٍ من الخراب والقتل والدّمار والتّهجير، وإنهاء الوجود الفلسطينيّ، وهذه الإبادة التي يقوم بها الاحتلال حاليًا تستدعي تعاملًا من نوعٍ آخَر.
بلا فائدة، وبقناعة مطلقة أنّ "إنهاء الانقسام" لن يحدثُ في المرحلة الحاليّة.. لكنّنا نخجل حينَ نرى الاحتلال تتوحّد "قواه" لقتل الفلسطينيّ في حكومة طوارئ، دونَ يفكّر هذا الفلسطينيّ المقتول أن يتجاوز مصالحه الضّيقة وانقساماتِه.. ويدخل مباشرة لمشروع مصالحة كامل على اُسس واضحة، وليفعل المجتمع الدّوليّ ما يشاء.. ليسَ لديه أكثر مما يفعله اليوم أبدًا.. وليسَ لديه ما يعطي الفلسطينيّ أبدًا. وكانت هذه فرصة تاريخيّة لـ"السلطة الفلسطينيّة".. كي تخرُجَ من التصنّم ومن القيود والضّغوط التي يفرضها المجتمع الدّولي منذُ عشرات السّنين دونَ أن تحقّق أيّ شيء.
في هذه المرحلة، ليست كلُّ الأمور تحتاجُ تعليقًا. أدرك هذا جيدًا، ولكن.. من المهمّ التّحذير من الشائعاتِ التي تطلقها "رؤوس فارغة تمامًا"، والتي لا تنطلق من نظرية مؤامرة مشوّهة فحسب، بل تنطلق من محاولة تبرير الخذلان وتقديمه على أنّه ذكاء سياسيّ، ومن هذه الشائعات القول إنّ "المقاومة افتعلت الحرب"، وإنّ "هناك اتفاقًا أو تواطؤًا"، وإنّ "هناك أموال.."، وتصبحُ البلادُ مرتعًا للشائعاتِ كما هي مرتعٌ للموت. علينا أن نحذَر جدًا من هذا، وألّا تهبطُ روحنا المعنويّة، وأنْ نستمرَّ بالقناعة المطلقة أنّ هذا الاحتلال إلى زوال، وأنّه مهزومٌ.. وأنّ فجرًا جديدًا يطلُّ من دمنا، نحلمُ فيه بفلسطين كاملة، وبتحرير كلِّ أسرانا.



"لِلْحَقيقَةِ وَجْهانِ وَالثَّلْجُ أَسْوَدُ فَوْقَ مَدينَتِنا
لَمْ نَعُدْ قادِرينَ على الْيَأْسِ أَكْثَرَ مِمّا يَئِسْنا... وَالنِّهايَةُ تَمْشي إلى
السّورِ واثِقَةً مِنْ خُطاها...
إِنَّ هذا السَّلام سَيَتْرُكُنا حُفْنَةً مِنْ غُبار...
مَنْ سَيَدْفِنُ أَيّامَنا بَعْدَنا: أَنْتَ...أَمْ هُمْ؟ وَمَنْ
سَوْفَ يَرْفَعُ راياتِهِمْ فَوْقَ أَسْوارِنا"

درويش

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد