مرافعة الفلسطينيّ الأخيرة: الإرهاب والإبادة والواقعية السياسية

mainThumb

24-10-2023 09:18 PM

 

لا أحَدَ في هذه الأثناء، يمكن أن تستعيده الأذهان بهذه الحِدّة مثلَ مظفّر النّواب، وإنتَ ترى المشاهدَ كلّها.. (العزيز منها والذّليل).. ولا تستطيعُ إيجادَ كلماتٍ كافية ومناسبة للتّعبير. اللّيلة تذكرتُهُ وهو يقول: "إيّاكَ وإنْ عُرّيتَ أمامَ العالمِ أن تيأس".. ومع أنّني لستُ مع الاستدراكاتِ على الشّعراء، إلّا أنّ هذه المرحلة فرضت تحولًا عميقًا على هذه الجملة، فلا أحدَ في هذه الأثناء غيرُ عارٍ مجازًا إلّا الفلسطينيّ في غزّة.. ورأيتُ أنّها أصبحت: "إياكَ وإنْ عُرّيَ العالمُ أمامك أنْ تيأس"؛ لأنّ ما جرى في السّابع من أكتوبر الجاري عمِل على تعرية فوريّة، في لحظة خوفٍ على المشروعِ الاستعماريّ، للعالَمِ بأسرِه، هوَ مَن تعرّى من كلِّ القيم والمبادئ والحرية والسّلام وكلّ هذه الكلمات (الرّنانة) التي كانَ وما زالَ يُفصِّلها "على مقاسِه"، وبما يتناسبُ مع مصالحه ورؤيته، وتنصّل من كلّ ما سماهُ المواثيق والقوانين الدّولية لحقوق الطفل والإنسان والصحفيين والنزاعات... وكانَ من قبل أكثرَ حذرًا في الانحيازِ العلنيّ، وكانَ من قبلُ أكثرَ حرصًا على إيجادِ ذرائع مناسبة (لاحتلال العراق وأفغانستان وقصف ليبيا و...)، وكانَ من قبلُ أكثر حرصًا على الكذب بشكلٍ متقن قليلًا، وكانَ أكثرَ كذبًا في الفصل بين مؤسساته المدنيّة وبينَ مواقفه، أمّا حاليًا فانهارَ هو ومؤسّساتُهُ العاملة في الشرق الأوسط لتعميق الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان والحيوان والبيئة والطبيعة وتعليم البشر كيفَ يصبحوا بشرًا، وكشَّفَتْ عن الطرح الأوروبي والأمريكيّ الحقيقيّ للحريّة: (ما يتناسَبُ مع آرائنا وأفكارِنا هي الحريّة)، ولا وجه آخرَ للحقيقة ولا يوجَد شيء اسمه "الرأي الآخر"، ولا حريّة التعبير، ولا أيّ شيء، وعلى الفلسطينيّ أن يدفع الضّريبة التاريخيّة للمحارق التي قامت بها أوروبا، وعليه أن يدفع من دمه ثمَنَ حماية مصالح أمريكا في المنطقة، وفي لحظة أصبحَ الخطاب الدينيّ اليهوديّ هو خطاب طبيعيّ، في حين أنّ أيّ خطاب دينيّ إسلاميّ هو "داعِش"، وعليه أن يدفع ثمن إرهاب الدّولة المنظّم، في لحظة انهالَ الدعم الهائِل لتثبّت الكذبة فوقَ الأرض "ويبنى للكذبة أسوار".. لتواجِهَ كلُّ دول العالم مرتعدةً شعبًا أعزل ومقاومة بأدواتٍ بدائيّة جدًا.. جدًا.. جاءت من لحظة انفجار، ومن إيمانٍ مطلق بأنّ "مرحلة التّحرر الوطنيّ" مستمرّة.

تستمرُّ الإبادة إلى الآن ببساطة وهدوء و"حقّ" الدّولة اللقيطة بالدفاع عن نفسها ضدَّ السكان الأصليين، السّخيف أنّ هذا (العالم) أيضًا لا يريدُ أن يكذب ويقتل ويدعم الكذب والقتل فقط، بل إنّ حربًا أخرى تدار على كلِّ الأصعدة لمنع أيِّ صوتٍ معارِض أو ناطق بحقيقة أخرى غير التي يريدونها، هذه الديمقراطيّة بأبهى صورها، مقابل الذُّل بأبهى صوره،.. وأمام كلُّ هذا العبث المركّب.. الذي يعجزُ أيُّ إنسانٍ سويّ عن استيعابه، وبعدَ الصّمت المطبق على مجزرة المعمدانيّ، يبدو أنّ الاحتلال قرّر أنّه لا داعي للتّهجير أصلًا، بالإمكان إبادتهم (إبادتنا) كلّهم/ كلُّنا.. والدّنيا تتفرج عبر المباشر على الذّبح. الاحتلال يقوم بإبادة جماعيّة في غزّة، وهدد كلّ المستشفيات، ويبدو أنّه يعد لأشياء أخرى على جهاتٍ أخرى، الاحتلال سلّح مئات الفرق التّطوعيّة من المستوطنين (مليشيات)، للتعامل مع فلسطينيي الداخل المحتل (21٪ من السّكان). الاحتلال.. يخطط لحرب شاملة وإبادة كاملة، ويبدو أنّه أخذَ كلّ الأضواء الخضراء، ويريد أن يُكمِل تمامًا ما لم يكمله في النّكبة والنكسة وطوال السّنوات. هذه ليست تصفية للقضية الفلسطينيّة، هذه تصفية للوجود الفلسطينيّ ككُلْ....

ذلا؛ فإنّ مواجهة لحظة مجنونة متوحِّشة مثل هذه، إنهارت فيها كلُّ ادعاءات المنطِق والحياد والشّعارات ولم يرفَّ جفن للعالم الذي يحذر من حرب إقليمية فيما يدخل بكلِّ قوته وأسلحته إلى الإقليم المتهاوي ليأخذ حصّته من دم الأطفال، بما يسمى الـ"واقعيّة السياسيّة"، هو أمرٌ غير منطقيّ ولا واقعيّ ولا يمكن استيعابه، وما هو إلّا استسلام مريح.
نسيَ العالم، ونحنُ نسينا، أنّ الفلسطينيين في غزّة جرّبوا "المقاومة السّلميّة" حتّى انفجرَ بهم الحال، سنواتٌ و"مسيرات كسرِ الحصارِ" تنطلق في غزّة باتّجاه "السّياج الزائِل".. سنواتٌ من المطالبات والمناشدات، و"الاستعراض" الدوليّ بسفن كسر الحصار، سنواتٌ خلفت آلاف الشّبان ما بينَ شهيد وجريح ومصاب، سنواتٌ من أفق منغلق تمامًا، وتضييق.. وموت متكرّر. ما حدثَ في السابع من أكتوبر هو انفجار لا أكثر لكلِّ هذه التراكمات، وأعيدُ وأكرّر أنّ الذي دفَنَ أبناءه متفحّمين لن يسامح، ولن يخرجُ بمسيرات حاملًا أغصان الزيتون، هذه لحظات ولَّدت "الغضب الفلسطينيّ"، والآن.. "يستمرّ الاحتلال" بتأجيج هذا الغضب، في غزّة وفي الضّفة وفي السّجون وفي كلِّ مكان.
إنّ التّبرير الدّولي السّخيف أنّ "فصائِل المقاومة" لا تمثِّل الشعب الفلسطينيّ، هي سخافة مطلقة، وللمنخَدع بوصفِ المُقاومة الفِلسطينيّة وفصائلها بالإرهاب، وأنّها "فصائِل مُسلّحة إرهابيّة"، هل يعلَم أنّ "الولايات المتحدة" مازالت تصنّف منظمة التّحرير الفلسطينيّة، التي استُقبل قادتها في "البيت الأبيض"، كمنظمة إرهابيّة، وكانت آخر مطالبة "فلسطينيّة" (لشطب) المنظمة من قوائم الإرهاب في مايو 2022.
يقصِد (العالم) بالإرهاب كلّ ما هو فِلسطينيّ، حتّى الطفل في بطن أمّه. وهذا طبيعيّ في عالم مقلوب ومختَل تمامًا.. أصبحَت فيه القوة القائمة بالاحتِلال ضحيةً تدافع عن نفسِها ضدّ العُزّل المنكوبينَ تحتَ الاحتلال، (العالم) الذي وقف متفرجًا على مدار كلِّ السنوات لانهيارِ كلّ المحاولات الفلسطينيّة لإنشاء ما يُشبه دولةً.. "ما أكبرَ الفكرة.. ما أصغرَ الدّولة". هذه لحظة غير منطقيّة تستدعي ردودًا غير منطقيّة؛ لأنّها مرافعة الفلسطينيّ الأخيرة... وبعدها لن يكون إلّا الخراب والذّل.. هذه مرافعة الفلسطينيّ الأخيرة أمام الدّنيا حرفيًا، أمامَ مَن قالوا إنّه باع أرضه، أمامَ مَن يطلبونَ منه مواقف دوليّة في نزاعاتِ الدّنيا ولا يستطيعونَ أن يعطوه فتحًا لمَعبر، هذه مرافعته الأخيرة.. قبلَ الإبادة الشّاملة.. يكتبها بدم أطفاله.. ونصرخُ بها نحنُ.. ونحنُ (آمِنون).. لا أستثني منّا أحدًا.. وأبدأ بنفسي.. كلّنا ملامون.. ولن نجدَ وقتًا نرفعُ فيه اللوم عن أنفسنا.
* كاتب فلسطيني
(مقال رأي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد