ماذا عن حيادية القضاء في الغرب

mainThumb

16-11-2025 10:18 AM

«ما طارَ طيرٌ وارتفَع، إلا كما طارَ وقَع»؛ هذا المَثل العربي يختلف المفسرون حوله، في تفسير معنى الوقوع. البعض يفسِّره بأن الطيور مهما قضت من وقت محلِّقة في الفضاء، فإنها لا بد من أن تعود إلى الأرض. وآخرون يفسِّرون الوقوع بالسقوط. ولذلك السبب، يلجأ عديدون إلى استخدام المَثل في قضايا تتعلق بشخصيات سياسية، برزت سريعاً على المسرح ثم تهاوت ساقطة: إما بفضيحة سياسية أو أخلاقية، وإما بتهم فساد. وفي العادة، يكون القضاء حَكَماً في تلك القضايا، على اعتبار أنَّه جهة مستقلة تلتزم تطبيق القانون على الجميع، وبحياد.

لعل المتابعين لقضية إدانة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي قضائياً، وحبسه مؤخراً، لاحظوا عودة المَثل المذكور أعلاه إلى الظهور، والاستخدام بكثرة من قبل عديد من المعلقين الإعلاميين؛ خصوصاً منهم مَن يقفون على الضفة السياسية المقابلة للسيد ساركوزي، من باب الشماتة لا غير.

يختلف المعلقون والمحللون السياسيون في تحليل وتفسير واقعة إدانة القضاء الفرنسي للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي، والحكم بسجنه مدة خمس سنوات، بتهمة سعيه للحصول على أموال من ليبيا في فترة حكم العقيد معمر القذافي، لتمويل حملته الانتخابية الرئاسية في عام 2007. ورغم أن الرئيس الأسبق ساركوزي نفى التهمة، ناسباً دوافعها لأسباب سياسية، فإن الحكم القضائي دخل حيز التنفيذ، وأُودع ساركوزي السجن يوم 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبقي هناك مدة أقل من ثلاثة أسابيع، وأفرج عنه يوم 10 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. اللافت للاهتمام أن السيد ساركوزي أُودعَ السجن بعد صدور الحكم مباشرة، وليس بعد النظر في الطعن والاستئناف في الحكم؛ الأمر الذي يثير علامات استفهام حول حيادية القضاء. كما تجدر الإشارة إلى أن القضاء أصدر في أوقات سابقة أحكاماً بالإدانة ضده في قضايا فساد أخرى، وقضى فترة عقوبة قصيرة في الإقامة الجبرية ببيته.

لا أحد يعرف على وجه التحديد المدة الزمنية التي تستغرقها العملية القضائية لإصدار حكم نهائي في القضية، ولكنها بالتأكيد سوف تستنفد وقت الرئيس الأسبق ساركوزي وجهده وماله.

ثمة سؤال يتطرق إلى استقلالية وحيادية القضاء في دول الغرب، يستلزم التوقف عنده. الرئيس الأسبق ساركوزي صرَّح بأن جهاز النيابة الفرنسية يقوده يساريون مناوئون، وهم من كانوا وراء الدفع بالقضية وفبركتها. وللقضية جانب آخر، وهو ادعاء شخصيات ليبية من نظام العقيد القذافي تسليم مبلغ مالي يقدر بقيمة 60 مليون يورو إلى المشرفين على الحملة الانتخابية للرئيس الأسبق ساركوزي. الادعاء الأخير لا يخلو هو أيضاً من عنصرَي الكيدية والشك، كونه ظهر في فترة كان نظام العقيد القذافي فيها مهدداً بالسقوط، وكان الرئيس الأسبق ساركوزي على رأس الساعين لإسقاطه؛ آخذين في الاعتبار كذلك أن الشخصيات الليبية التي صرَّحت بذلك مطلوبة محلياً ودولياً لجهات قضائية باتهامات عدة. وكل ذلك -على وجاهته- لا ينفي صحة ادعاءاتهم.

التورط من دون أدلة وبراهين في إصدار أحكام -سواء بالإدانة أو بالبراءة- مخاطرة يحسُن بالمرء الابتعاد عنها، لتعقُّد القضية وتشابكها، وعدم خلوها من الدوافع السياسية على المستويين الفرنسي والليبي. هذا أولاً.

وثانياً، فإن القول باستقلالية أجهزة القضاء في الدول الغربية لا يخلو من مخاطرة كذلك، مما يحتم التعامل معه بحذر؛ لأن الأجهزة القضائية في تلك البلدان مهما بدت على السطح حيادية، فإنها -كما ثبت- ليست حيادية تماماً. وعلى سبيل المثال، تمكن الرئيس ترمب من تشكيل أعلى هيئة قضائية أميركية على هواه السياسي، بشكل زرع الشك في استقلاليتها وحياديتها. أضف إلى ذلك أن إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لجأت إلى استخدام القضاء في تشويه سمعة الرئيس ترمب بعد خروجه من السلطة عام 2020، بهدف حرقه سياسياً، وإغلاق الطرق أمامه للعودة إلى الترشح للرئاسة. ولاحظنا مؤخراً كيف لجأ الرئيس ترمب بعد عودته إلى البيت الأبيض إلى تحويل وزارة العدل والأجهزة الأمنية السرية إلى سلاح ضد خصومه السياسيين، من خلال إعداد صحائف اتهام، ورفع دعاوى ضدهم، وتقديمهم للقضاء. آخرهم كان مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون.

وفي قضايا كهذه، يتطلب من المعلقين والمحللين السياسيين والإعلاميين توخِّي الحذر، وعدم التعجل في إصدار أحكام من دون توفر أدلة وبراهين.

لكن الحذر -في الوقت ذاته- يجب ألا يحُول بين المراقبين وبين تأسيس أحكامهم الخاصة على ما يجري على المسرح السياسي؛ إذ عليهم تقع مسؤولية المساهمة بتحليلاتهم في القضايا السياسية. وهم بذلك كمن يسير على حافة جرف ومهدد بالسقوط من الجانبين في هاوية. التأكيد على استقلالية القضاء في دول الغرب وحياديته لا يحول بيننا وبين القول بأن تلك الاستقلالية ليست ناصعة البياض كما يُزعَم، وهذا ليس دفاعاً عن الرئيس الأسبق ساركوزي، ولا اتهاماً لمن حققوا في القضية أو لمن شهدوا ضده، أو لمن أصدروا الحكم. والسبب أن طبيعة القضايا السياسية المرفوعة أمام القضاء تتَّسم بتعقيد وتشابك؛ كونها ذات صلة وثيقة بالصراع على السلطة، وكذلك لشدَّة ارتباطها بمصالح فئات اجتماعية متنافسة في المجتمع.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد